لم يقل توكفيل شيئا عن الأفضلية الفطرية أو الطبيعية لجنس معين، بدلا من ذلك، فرق بين الأجناس الثلاثة فيما يتعلق بإبدائهم الإحساس بالفخر من عدمه. وصف توكفيل الرجل الأبيض أو الأنجلو أمريكي في العالم الجديد بأنه «السيد»؛ لأنه يعامل الجنسين الآخرين كما يعامل الإنسان الحيوان، تماما كما يسود الطبيعة. فهو يمارس الاستبداد على الجنسين الآخرين اللذين يحكمهما، واللذين يمثلان طرفي النقيض؛ فالرجل الهندي في استقلاليته البربرية يمثل الطرف المتطرف في الفخر والحرية، في حين يمثل الرجل الأسود الطرف الآخر في العبودية وتقليد سادته. إن سلوك هذين الجنسين مختلف تماما؛ فالسود يقبلون حضارة البيض ويحاولون الانضمام لمجتمع البيض الذي يرفضهم ويلفظهم، في حين أن الهنود الفخورين بأجدادهم والواثقين بكرم الطبيعة، يرفضون حضارة البيض ويسعون للانعزال عنهم. يعرف الهنود معنى الحرية، لكنهم نظرا لأنهم يعيشون في وهم نبل أصلهم، فهم لا يستطيعون التحكم في أنفسهم، ولا يستطيعون الحفاظ على حياتهم. يعرف السود كيف يحافظون على حياتهم، لكنهم يشعرون بأن كرامتهم منقوصة لأنهم مملوكون لأشخاص آخرين؛ ولذلك لا يحاولون تطوير أنفسهم حتى يصبحوا أحرارا. إن كلا الموقفين المتطرفين يظهران النتيجة المترتبة على استبداد الأغلبية في صورة إحساس متطرف بالفخر؛ فالفخر الشديد يؤدي إلى عدم مرونة مواقف الهنود، والفخر شبه المنعدم يؤدي إلى خضوع السود، ودون وضع الفخر في إطاره الصحيح، يمكن أن تعاني الأغلبية البيضاء من نفس حالة البؤس الشديدة التي تفرضها على ضحاياها. يجب أن يصاحب الفخر التعقل حتى تتحقق الحرية؛ حيث إنه في الديمقراطية يمكن أن يبدو دائما أنه من المعقول التضحية بالحرية من أجل الكفاءة الإدارية، لكن الفخر يحتاج إلى التعقل للتحكم في أوهامه، ولجعله خاضعا للحضارة؛ للحضارة، هكذا أوضح توكفيل، وليس فقط للخبرة.
في تأييد توكفيل للإحساس بالفخر، اختلف ثانية عن الليبرالية الكلاسيكية كما وضعها توماس هوبز، التي تدعي أن الإنسان يجب ألا يكتفي فقط بكبح جماح فخره، وإنما عليه أن يتخلى عنه حتى تتحقق الحضارة؛ ففي الحالة الطبيعية، يعيش الإنسان في حالة حرب - حرب الكل مع الكل - وفي تلك الحالة يجب أن يمحو خوفه ، من أجل الحفاظ على نفسه، أوهام غروره . وبعد تلك التجربة، سواء في الواقع أم الخيال، يكون الإنسان مستعدا لأن يكون معاونا ومراعيا، وربما خاضعا، لأقرانه في المجتمع المتحضر. بالنسبة إلى هوبز وعدد كبير من أتباعه، الحرية والإحساس بالفخر يكونان في صراع كل منهما مع الآخر، والخلاصة أنه على الأفراد المتحضرين أن يتعلموا كيفية مراعاة شعور الآخرين والانسجام معهم.
شكل 3-1: لوحة رسمها جوستاف دي بومون - صديق توكفيل ورفيقه في رحلته لأمريكا - لنفسه ولتوكفيل (الذي يستند في الصورة إلى شجرة ساقطة)، وللمرشد الهندي الذي كان يقودهما عبر البرية في ميشيجان.
أخذ توكفيل مسارا مختلفا عن المسار السابق الذي أوضحه في نفس هذا الفصل؛ فبدلا من وجود عقد اجتماعي يفرض المقايضة بين الإحساس بالفخر والحضارة، لم يرد أن يفصل إحساس المرء بالفخر عن إحساسه بالحرية؛ فيجب دمج الحرية البدائية التي لدى الهنود، في الرغبة في التحضر التي لدى السود، لتكون النتيجة شخصا أبيض يحافظ على حريته لأنه يحافظ على كبريائه وحياته؛ لأن كرامته ليست قائمة على الوهم. بالطبع، إن مثل هذا الشخص لا يجب أن يكون أبيض بالمعنى العنصري، وإنما بمعنى أنه يجب أن يتخلى عن تحيزه ضد الجنسين الآخرين الخاضعين له؛ وهو أمر يظنه توكفيل مستبعدا.
عندما تجتمع العبودية مع العرق، كما في أمريكا وفي نظام العبودية الحديث بوجه عام، يوسم العبد للأبد بلونه؛ فالرجل الأبيض بتحيزه ضده يقلل من مكانته في الإنسانية، واضعا إياه في مرتبة بين الإنسان والحيوان. ربما يدعي الليبراليون - وربما يؤكد إعلان الاستقلال - أن كل البشر خلقوا متساوين، لكن هذا الادعاء جعل إلغاء العبودية أكثر صعوبة؛ لأن البيض لا يرون أن السود بشر كاملون. يمكن لمستبد أن يلغي العبودية في أمريكا، كما ألغتها السلطات الأوروبية في مستعمراتها.
لكن الأمريكيين الديمقراطيين يفخرون بالمساواة بين البيض فقط، بينما في الوقت نفسه (وحتى في الشمال) يخافون من تمرد العبيد عليهم. إن الفخر العنصري الذي يبدونه غير مفهوم من قبل النظرية الليبرالية التي تتجنب الحديث عن مسألة العرق، والخوف الذي يبدونه يتناقض مع المساواة العنصرية بدلا من أن يعمل لصالحها، وذلك كما تفترض النظرية الليبرالية. يوضح سلوك الفخر لدى الهنود، والذي يرفض أسلوب حياة البيض وحكمهم، أن النظرية الليبرالية تعتبر انجذاب المرء للحضارة أمرا مسلما به، ولا تفهم أن عليه أن يخضع للحضارة. إن تحيز البيض ضد السود برفضهم إياهم يوضح أن الإحساس بالفخر لا يختفي على الرغم من تعارض الديمقراطية معه، وأنه يجب التعامل معه ومع كل الأشياء المفيدة المرتبطة به. إن الإحساس بالفخر الذي يبديه الكثير من الأمريكيين في تحيزهم يجب أن يتحول لصالح الإحساس بالفخر بحرية الحكم الذاتي؛ فلا يمكن للمرء أن يساوي بين كل أشكال الإحساس بالفخر لديه في الحالة الطبيعية، ويتجه نحو عقد اجتماعي، كما يفترض الليبراليون عادة في نظرياتهم.
اتفق توكفيل مع النظرية الليبرالية في زعمها الذي يقول إن العبودية أمر غير طبيعي، لكن ليس بسبب أننا نولد جميعا أحرارا ومتساوين في حالتنا الطبيعية. وتعجب على نحو ساخط قائلا إننا نرى في العبودية «النظام الطبيعي وقد أصبح معكوسا.» غير أنه في إطار معنى آخر للمقصود بما هو طبيعي، كان من الطبيعي جدا بالنسبة إلى الأوروبيين أن يستعبدوا جنسا آخر اعتبروه أقل منهم منزلة؛ الأمر كان مفهوما. إن النظام الطبيعي يسعى من أجل الأفضل، لكن الأفضل لا يتحقق على نحو تلقائي؛ في واقع الأمر، هو يواجه عقبات بسبب الإحساس بالفخر الذي هو إحساس طبيعي لدى البشر. تعتقد النظرية الليبرالية أنها قهرت الإحساس بالفخر في الحالة الطبيعية، وأنها ربطت النظام الطبيعي (القانون الطبيعي) بأقوى شعور إنساني؛ ألا وهو الخوف من أجل حفظ الذات. بالنسبة إلى توكفيل، هذا حل ذكي لكنه مبسط للغاية؛ فرؤيته للديمقراطية لا تحاول استبعاد الفخر، وهو لا يركز فقط على مقاومة التحيز وضرورة التخلي عن الإحساس الزائف بالفخر، كما نفعل اليوم بسهولة، وإنما على المهمة الأكثر صعوبة المتمثلة في إيجاد حل ل «نقص» الإحساس بالفخر؛ فالديمقراطية ليست على وفاق مع ادعاءات الفخر التي دائما ما تنطوي على نوع من عدم المساواة، لكنها بحاجة إلى أن يكون هناك فخر يستند إلى الشعور بالأهمية والإنجاز كما يتجلى في السياسة على وجه الخصوص.
مباشرة بعد أن عرض توكفيل لمفهوم استبداد الأغلبية، تحدث عن «السلطة التي تمارسها الأغلبية على الفكر»، وقال على نحو مباشر وحاسم: «لا أعرف أي دولة تسود فيها بوجه عام استقلالية فكر وحرية تعبير أصيلة أقل من أمريكا.» ليست القضية أن المعارض يخشى التعرض للاضطهاد أو الإعدام حرقا على خازوق، وإنما القضية أنه «لن يستمع أحد لما يقوله» وسيصبح منبوذا، وفي النهاية سيتوقف عن المعارضة. إن هذا عنف «فكري» يؤدي إلى توقف العقول عن التفكير، بل حتى إلى توقف الكتاب عن التفكير في نشر آراء معارضة لرأي الأغلبية، وهو أمر أكثر سوءا مما كان يجري في محاكم التفتيش التي كانت مهمتها قمع المهرطقين. ذكر توكفيل دليلا على تلك الحقيقة مفاده أن «أمريكا حتى الآن ليس لديها كتاب عظام.»
بالطبع، ترجم كتاب توكفيل ونشر في أمريكا بعد فترة قصيرة جدا من ظهوره في فرنسا، ويبدو أن هذا تم بغض النظر عن رأي الأغلبية، لكنه في مواضع كثيرة من الكتاب أظهر نفسه وكأنه يخشى أن ينظر إليه باعتباره معاديا لأمريكا أو للديمقراطية، وخاصة في بداية الجزء الثاني؛ حيث أعلن عن عدم استعداده لمداهنة الأحزاب الكبيرة أو الفصائل الصغيرة التي كانت موجودة في عصره. بالإضافة إلى ذلك، قد يرد أي قارئ معاصر قائلا إن كتاب أمريكا الكبار، بالرغم من عدم عظم مكانتهم، سرعان ما ظهروا، ومن بينهم ناثانيال هوثورن بعمله المعروف «الحرف القرمزي» الذي ظهر في عام 1850، وهرمان ملفيل بعمله المعروف «موبي ديك» الذي ظهر في عام 1851، كما أن عمل جيمس فينيمور كوبر «آخر الموهيكان» (1826) ظهر في وقت مناسب بحيث يستطيع توكفيل أخذه في الاعتبار وهو يصدر حكمه؛ ومع ذلك، لن يرغب أحد في معارضة نقده الشديد للأمريكيين الذين - بحسب قوله - لا يمكنهم تحمل أقل نقد يوجه لبلدهم.
في الفصل الذي تناول فيه توكفيل حرية الصحافة، أشار إلى أن هناك ثلاثة أنواع من الرأي؛ وهي: الإيمان، والشك، والاعتقاد العقلاني . إن النوع الأخير لا يصل إليه سوى عدد قليل جدا من الناس؛ فمعظم الناس يعيشون في حالة إيمان وذلك في العصور التي يسود فيها الدين، أو في شك وذلك في عصر الديمقراطية. هنا تكمن إحدى مفارقاته البارعة؛ قال إنه في أوقات الإيمان، يغير الناس آراءهم عندما يتدينون، لكنهم في أوقات الشك يتمسكون بآرائهم. لماذا هذا الموقف الأخير؟ عندما يشك الناس، يرون أنه لا يوجد رأي أفضل من رأيهم، ويشعرون بأنه لا توجد مصلحة غير مصلحة واحدة، من المرجح أن تكون مصلحة مادية، تتوافق بسهولة مع العناد والتحيز والثبات على الرأي.
ناپیژندل شوی مخ