لم يتوان توماس جيفرسون في آخر خطاب كتبه في حياته (في 4 يونيو من عام 1826) - الذي كان يتحدث فيه عن إعلان الاستقلال الذي صاغه - عن توجيه انتقاد عنيف إلى «جهل الرهبان وأباطيلهم»، معتبرا إياهم أعداء للتنوير. بالنسبة إلى توكفيل، الاستبداد يمكن أن يحدث دون وجود معتقد ديني، لكن الحرية لا يمكنها هذا. وقال إنه على الرغم من الأمريكيين لم يسمحوا للدين بالتدخل على نحو مباشر في الحكم، فإنه يجب اعتبار الدين «أولى مؤسساتهم السياسية»، فهو لم يجعلهم يذوقون طعم الحرية بقدر ما سهل عليهم التمتع به؛ ففي عقولهم، كان لديهم «خلط كامل بين المسيحية والحرية»، وهو استنتاج أتاح له تجنب الحكم على مدى إخلاص الأمريكيين المسيحيين في إيمانهم؛ فالأمريكيون يؤمنون بأن الدين مفيد، لكنه سيبدو مفيدا فقط إذا آمنوا به باعتباره الدين الحق، وليس باعتباره مؤسسة سياسية؛ فالدين لا يمكن «فهمه على نحو جيد» بنفس طريقة فهم المصلحة الشخصية، كما لو كان الأمريكيون ينظرون لدينهم دون ورع من الخارج، حتى يخلصوا إلى أن إيمانهم شيء جيد.
في هذا الإطار، وجه توكفيل انتقادا عنيفا، دون أن يشير إلى انتقاد جيفرسون، لمن يدينون في فرنسا الأمريكيين لأنهم لا يؤمنون مع الفيلسوف الملحد سبينوزا بأزلية العالم. وفي مقدمة كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، وضع ضمن «المآسي الفكرية» في أوروبا الفرق التي ترى أن هناك تعارضا شديدا بين الدين والحرية، وأشار بوضوح أن وجود انسجام بينهما هو المبدأ الأول لعلم السياسة الجديد خاصته ومن السمات المميزة لليبراليته الجديدة.
على الرغم من أن الدين الذي جلبه معهم البيوريتانيون من إنجلترا كان ديمقراطيا وجمهوريا، فهو بوجه عام «الإرث الأغلى للعهود الأرستقراطية.» وهناك عدد من السمات الأرستقراطية للديمقراطية في أمريكا، التي لفت توكفيل وحده انتباهنا إليها. وعلى الرغم من أنه ذكر كلا منها، فهو لم يحسب عددها الإجمالي قط؛ ربما لأن هذا سيجعل الأرستقراطية تبدو مهمة جدا؛ فبالنسبة إليه، الأرستقراطية والديمقراطية حقبتان متتاليتان في التاريخ، والأرستقراطية ككل وكمفهوم، قد تركت الساحة وغادرت للأبد. لكن إذا كانت الأرستقراطية قد غادرت للأبد، فهي من ثم لم تعد خطرا على الديمقراطية. ويمكن أن يساعدنا توكفيل في تقدير فضائل ومحاسن الأرستقراطية دون أن يبدو أنه يسعى للدفاع عنها، وهو لم يحاول المزج بينها وبين الديمقراطية، وأعلن على نحو واضح أن النظام الذي يخلط بينهما «وهم»؛ لأنه في كل مجتمع دائما ما يجد المرء أن هناك «منهجا واحدا يهيمن على كل المناهج الأخرى.» وبرفضه لهذا النظام المختلط، يتخلى عن الاستراتيجية الأساسية لعلم السياسة الكلاسيكي، ويلقي بظلال الشك على فكرة التعددية الليبرالية. لكنه احتفظ بفكرة استمرار بعض سمات الأرستقراطية في الديمقراطية، ما دامت المبادئ التي تقوم عليها الأخيرة لم تمس.
إن الديمقراطية والأرستقراطية كيانان كليان، كل منهما أسلوب حياة يسعى لجعل نفسه مطلقا؛ مما ينشئ، «إن جاز التعبير، إنسانيتين متمايزتين.» هكذا أعلن توكفيل في نهاية كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، غير أنه أراد أن يخفف من الطابع المطلق والمتحزب للإنسانية الديمقراطية دون الإخلال بالمبدأ الديمقراطي الخاص بسيادة الشعب، وترك لقرائه مسألة تحديد الأعراف والمؤسسات الديمقراطية التي من المفترض أنها أرستقراطية الأصل أو الطابع. وإلى جانب الدين، ذكر نظام المحلفين، الذي كان قبل ذلك أرستقراطيا يضم النبلاء فقط، وأصبح الآن ديمقراطيا. كذلك، فإن نظام الحكم الذاتي المحلي وحرية التعبير وحرية الصحافة في أمريكا كلها أمور تعود جذورها لإنجلترا الأرستقراطية. إن الجمعيات الديمقراطية تعد بدائل اصطناعية لتأثير «الأشخاص الأرستقراطيين»، كما أن المحامين بحبهم للقانون والنظم القانونية يمثلون طبقة أرستقراطية محافظة داخل أمريكا الديمقراطية. كما أن «السلطات الثانوية» التي كثيرا ما أوصى بها باعتبارها علاجا للمركزية الديمقراطية أمر معتاد في الأرستقراطية، وهكذا الحال بالنسبة إلى النظم الديمقراطية التي أثنى عليها؛ ففي واقع الأمر، وضع الدستور الأمريكي من قبل الحزب الفيدرالي، وألهم من قبل «نزعاته الأرستقراطية».
الأكثر إدهاشا في هذه القائمة هو إرجاع توكفيل الفضل فيما يتعلق بالحقوق للأرستقراطية الإنجليزية المالكة للأراضي؛ فقد ذكر أن فكرة الحقوق لم تنتقل من إنجلترا من خلال الفلسفة السياسية لجون لوك (فاسمه لم يرد ذكره في كتابه)، وإنما أخذت من ممارسة النبلاء الإنجليز الذين وقفوا في وجه الملك وحافظوا على الحقوق الفردية والحريات المحلية؛ ففي أمريكا، «الحرية قديمة والمساواة جديدة نسبيا.» لذا، عند حديثه عن الممارسة والأعراف والمؤسسات الخاصة بالحرية، لم يقدم الحقوق باعتبارها «أساس» الممارسة، كما في إعلان الاستقلال حيث الناس قد «حباهم خالقهم» بحقوق قبل وجود الحكومات، وإنما باعتبارها ممارسة للحكم الذاتي نفسه.
يجب أن تمارس الحقوق ب «روح سياسية توحي لكل مواطن ببعض المصالح التي تدفع النبلاء في النظم الأرستقراطية للعمل.» يمكن أن تذكرنا تلك الروح بروح الحياة التي وصفها أفلاطون وأرسطو بأنها متأهبة كحيوان دفاعا عن مصالح الفرد الشخصية، لكنها مختلفة تماما عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنها الحكومة وتصونها، والمعروفة اليوم ب «الحقوق المكفولة» التي من المفترض أن توفر الأمن للأفراد. بالنسبة إلى توكفيل، الحقوق مشتقة من الفضيلة؛ «الفضيلة الموجودة في العالم السياسي.» ستشجع تلك الفضيلة الفرد على المخاطرة بأمنه للدفاع عن الحرية - مثل الموقعين على إعلان الاستقلال، الذين تعهدوا بأن يبذل كل منهم في سبيلها «شرفه المقدس» - أو في الممارسة اليومية؛ ستشجعه على أن يتخلى عن مشاعر الراحة والرضا المرتبطة باللامبالاة السياسية، وأن ينضم لجمعية ما أو يترشح لمنصب معين.
في استخدام توكفيل لكلمة «أرستقراطية»، كان يشير إلى شكل مميز من الإنسانية بديل للديمقراطية، لكن ليس إلى المعنى الحرفي للكلمة وهو: «حكم الأفضل». لقد كان يعني الأرستقراطية المالكة للأراضي الخاصة بأسر النبلاء، لكن السمات الأرستقراطية لأمريكا مصدرها إنجلترا، وهو من ثم لا يتحدث عن الأمريكيين فقط، وإنما يتحدث كثيرا عن «الأنجلو أمريكيين» عندما يريد لفت الانتباه للاستمرارية - في بعض الجوانب - بين الأرستقراطية الإنجليزية والديمقراطية الأمريكية. يمكن القول أيضا إن ليبراليته اعتمدت على الأمة والحالة الاجتماعية، وليس على العقد الاجتماعي، لوصف المجتمع الليبرالي. وعند تحدثه باستفاضة عن الأنجلو أمريكيين، قال بوضوح شديد إنه لن يقر أبدا بأن البشر يكونون مجتمعا فقط عن طريق طاعة نفس الحاكم والخضوع لنفس القوانين؛ أي فكرة العقد الاجتماعي. بدلا من تلك الفكرة، عرض العهد الفعلي الذي تبناه البيوريتانيون باسم الرب وليس من أجل حفظ الذات، كما هو الحال بالنسبة إلى النظرية الليبرالية. إن اكتساب أمريكا لهويتها جزئيا من إنجلترا جعل طابعها مختلفا إلى حد كبير عما لو كانت قد أخذت سماتها من أمة مختلفة، وليس فقط فيما نطلق عليه اليوم العرقية؛ فالسياسة والدين وحتى الفلسفة والأخلاق - على سبيل المثال، مفهوم المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد - كلها جاءت لأمريكا من إنجلترا، وأضحت سمة من سمات أمة الأنجلو أمريكيين المزدوجة.
ما ميز الأنجلو أمريكيين على وجه الخصوص من بين كل الشعوب الأخرى هو شعورهم بالفخر، وهذا على وجه الخصوص ينطبق على الأمريكيين الذين لديهم «اعتزاز كبير» بذاتهم. وحتى حماستهم الدينية «تغذيها الوطنية باستمرار»، كما أنهم يرسلون وعاظا إلى الحدود لهداية الناس وتطوير بلدهم في ذات الوقت. تختلف الوطنية الأمريكية عن الوطنية الإنجليزية؛ لأن مصدرها هو الديمقراطية وليس الوطن، ولأنها ناتجة عن ممارسة الحكم الذاتي. إنها مصنوعة وليست موروثة، وعقلانية وتأملية ومستنيرة وليست فطرية؛ فعندما يقوم المواطنون بدور فعال في الحكم كما في أمريكا، ينسب لهم الفضل عند تحقيق نتائج جيدة؛ إذ يرون أن هناك ارتباطا بين مصلحتهم الشخصية والرخاء العام، وعندما يعملون من أجل الاثنين معا، يصبح الشعور بالفخر لديهم ممزوجا بالرغبة في الثراء؛ لذا فإن توكفيل أقر بما نطلق عليه اليوم «الحلم الأمريكي» الذي يشير لإمكانية تحقيق النجاح والازدهار من خلال العمل الجاد، لكن مع تركيز على أساسه في السياسة. إن الوطنية الأمريكية مصدر «تضجر» وإزعاج للأجانب الزائرين لأمريكا مثل توكفيل؛ لأن الفخر الوطني يزيد من اعتزاز كل أمريكي بنفسه وببلده، ويعطي تبريرا لهذا الاعتزاز بحيث لا يكون مسموحا بالانتقاد وإنما فقط بالثناء. إن هذا نتاج تطبيق الحرية الديمقراطية، ولكن مع اقتباس جوانب كثيرة من الأرستقراطية الإنجليزية.
إن الإحساس بالفخر هو سمة مهمة من الليبرالية الجديدة لتوكفيل؛ إذ قال في هذا الشأن: «سأستعيض طوعا بهذه الرذيلة عن العديد من فضائلنا الصغيرة.» لقد قال هذا في مواجهة «الأخلاقيين» الذين كانوا يهاجمون الإحساس بالفخر، وهو موجه أيضا للمذهب الليبرالي التقليدي لهوبز، الذي يدعو الحكومة لإخماد الإحساس بالفخر أو الزهو لدى الناس، ولمذهب لوك الذي قلل من أهميته بأن جعله شعورا بعدم الأمان أو عدم الارتياح. كلا المفكرين وضع حق حفظ الذات في المقدمة، معلنين أن خوف الفرد على حياته، وليس إحساسه بالفخر للفضائل التي يمتلكها، هو أقوى شعور فطري في البشر. بالنسبة إليهما، وفي الليبرالية بوجه عام، الإحساس بالفخر هو عدو الحرية؛ لأنه يثير الرغبة في الهيمنة على الآخرين، وهو يتعارض مع المصلحة الشخصية؛ لأن الشخص الفخور بنفسه يمكن أن ينفعل ويفقد أعصابه بسهولة، ويتخلى عن مراعاته لمصلحته الشخصية ويتصرف بتهور. اختلف توكفيل مع هذا لكنه - من قبيل المفارقة - قال إن الإحساس بالفخر رذيلة، وأضافه لقائمة الأشياء التي يبدو في الظاهر أنها متعارضة مع مصلحة الفرد الشخصية، لكن يمكن فهمها في إطار المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد.
اعتقد توكفيل أن الرغبة في الهيمنة على الآخرين ليست هي أهم الرغبات التي ينبغي الخوف منها في الديمقراطية، وأن عادة اهتمام الفرد بمصلحته الشخصية متعارضة مع الحرية أكثر من كونها داعمة لها. وفيما يتعلق بالإحساس بالفخر، أوضح الجوانب التي يخشاها، وتلك التي يراها إيجابية في الديمقراطية الأمريكية؛ فأثنى على نظام الحكم الذاتي وإحساس المواطنين الأحرار بالفخر، مقدما أدلة على رقيهم لمستوى يعلو عن باقي كائنات الطبيعة التي تطيع فقط ولا يمكنها حكم نفسها، لكنه أشار أيضا إلى أن الديمقراطية تتعارض مع الإحساس بالفخر وتميل لكبته، كما هو الحال عندما يترشح رجل ثري في الانتخابات. لقد تحقق هدف الأخلاقيين الديمقراطيين والنظرية الليبرالية في هذا الاتجاه إلى حد كبير، من قبل مجتمع ديمقراطي يتصرف من تلقاء نفسه ودون توجيه منهم، غير أن الديمقراطية بكبتها هذا الإحساس بالفخر تخلق إحساسا آخر بالفخر خاصا بها يكون على نفس القدر من الضرورة، كفخر الأرستقراطيين في النظام الأرستقراطي.
ناپیژندل شوی مخ