فقد حق علينا أن نستفز الليث من مربضه.
من رواية تمثيلية قديمة
وهنا ننتقل بالقارئ من مكان إلى آخر كما أشرنا في عنوان هذا الفصل، ننتقل به من جبال الأردن المقفرة إلى خيام رتشارد ملك إنجلترا، التي كانت مضروبة إذ ذاك بين جون ميناء عكا وعسقلان، والتي كانت تضم تحت لوائها جيشا، أخذ قلب الأسد على نفسه من قبل أن يسير به ظافرا إلى بيت المقدس، وكان من المحتمل أن ينجح فيما شرع، لولا أن وقفت في سبيله الغيرة المتبادلة بين الأمراء المسيحيين الذين اشتركوا في هذا المشروع عينه، ولولا أن عرقل مسعاه ما كان يحس به هؤلاء الأمراء من ألم النفس من تعالى الملك الإنجليزي عليهم تعاليا لا يكبح له جماح، ومن تحقير رتشارد - في غير مواربة - من شأن إخوانه الملوك، الذين كانوا يعادلونه مرتبة، ولكنهم لا يبلغون شأوه في الشجاعة والإقدام والمواهب الحربية. وأمثال هذه المشاحنات وما إليها - وبخاصة ما كان منها بين رتشارد وفيليب ملك فرنسا - خلقت من الخصومات والعقبات ما كان حجر عثرة لكل خطوة عملية يتقدم بها رتشارد، الذي عرف بالبطولة وعدم التريث معا، بينما كانت صفوف المسيحيين تتخلخل يوما بعد يوم، ويهجرها المجاهدون زرافات ووحدانا، وفي طليعة كل فرقة قائد من قواد الإقطاع، هو زعيمها، وقد انسحبوا بعد نضال أطفأ فيهم كل بارقة من الأمل في النجاح.
وبات أثر المناخ - كما كان دائما - مهلكا للمقاتلين الآتين من الشمال، وزاد من وطأة الجو أن الصليبيين أطلقوا لشهواتهم العنان وانحلت أخلاقهم، وإن يكن هذا ينافي كل المنافاة المبادئ والأغراض التي شهروا من أجلها السلاح، فباتوا فرائس سائغة لحمارة القيظ المحرقة، وقطرات الندى الباردة، وما لها من أثر وبيل؛ وأضف إلى هذه البواعث التي كانت تفت في الأعضاد، وتؤدي إلى الخسران والدمار، سيف العدو الباتر، وذلك أن صلاح الدين، الذي ليس في سجل تاريخ الشرق اسم يعلو على اسمه، كان قد عرف - ويا لها من معرفة قاضية - أن أتباعه (بسلاحهم الخفيف) أضعف من أن يلاقوا الفرنجة المدججين بالحديد، وجها لوجه في ملحمة أو معركة، كما عرف كذلك كيف يخشى شخص خصمه رتشارد الجسور ويحسب له حسابه؛ ولكن إن كانت الفرنجة قد انقضت على جيوشه أكثر من مرة ذبحا وتقتيلا، فلقد انتصر لكثرة عديده في تلك المناوشات الخفيفة التي كان الكثير منها حتما لا محيص عنه.
ولما نقص جيش العدو المهاجم، زاد السلطان من مدى خططه في هذه الحرب الخفيفة، وجعلها أشد جرأة، فأحاطت بمعسكر الصليبيين - وكادت تحاصره - جموع من الفرسان أقبلت كأسراب الزنانير، يسير سحقها إذا وقعت في قبضة اليد، ولكن لها أجنحة تمكنها من الإفلات من أشد القوى بأسا، كما أن لها أشواكا تنفث منها السوء والأذى. ولم تنقطع الحروب بين طلائع المسيحيين ورعاة حروب الخيل. هلكت فيها أرواح كثيرة قيمة دون طائل أو جدوى؛ وكثيرا ما حيل بين الرسل ومواصلة المسير، وتقطعت سبل المواصلات، وكان على الصليبيين أن يشتروا أود الحياة ببذل الحياة، وإن أرادوا ماء من عين كعين بيت لحم، التي كان يتشوق إليها داود الملك أحد حكامها الأقدمين، أراقوا لذلك الدماء.
وكان يعادل هذه الشرور - إلى حد كبير - عزم كالحديد ونشاط لا يستقر من جانب الملك رتشارد، الذي كان دائما على صهوة جواده بصحبة جماعة من خيار فرسانه، على أهبة لأن يكر إلى أي مكان تحل به الأخطار، وغالبا ما يعود للمسيحيين بمعونة لم تقع لهم في الحسبان، بل ويهزم المنافقين، وهم من النصر قاب قوسين أو أدنى. ولكن حتى قلب الأسد، ذو الجسم الحديدي، لم يستطع أن يحتمل بغير أذى تقلبات المناخ الوبيلة، فضلا عن إجهاد جثماني وعقلي متواصل، فلقد أصابته إحدى تلك الحميات المنتشرة في آسيا، والتي تفتك بالجسم شيئا فشيئا؛ ورغم قوة شديدة وشجاعة أشد منها، بات أول الأمر ضعيفا لا يستطيع أن يعتلي ظهر الجواد، ثم انقطع عن حضور مجالس الشورى في شئون الحرب، التي كان يعقدها الصليبيون بين الحين والحين، ولم يكن من اليسير أن تعرف إن كان ما استقر عليه المجلس - وهو أن يعقدوا مع السلطان صلاح الدين هدنة مداها ثلاثون يوما - قد جعل هذا الفتور، الذي اعتور ملك الإنجليز، أشد فتكا أو أخف وقعا؛ فلئن كانت هذه الهدنة تثيره لأنها تعترض سير الخطة الواسعة المدى التي رسمها لنفسه، وتؤجلها إلى حين، فهو من ناحية أخرى يجد فيها بعض العزاء، لأنه عرف أنه إن لبث عاطلا لا يتحرك في سرير المرض، فلن يظفر غيره بإكليل النصر.
وأما ما لم يرض عنه قلب الأسد فهو هذا التبلد الشامل، الذي ضرب بجرانه في معسكر الصليبيين، حينما أقبل على دور خطير من أدوار المرض؛ وقد علم من البيان الذي استخلصه من أتباعه - وهم كارهون - أنه كلما اشتد به المرض، هبطت آمال الجيش المحارب، وأنهم لم يشتغلوا أيام الهدنة بتقوية صفوفهم، أو بإحياء ما خمد من روح البسالة والإقدام، أو بتغذية روح الظفر في النفوس، أو بالتأهب للزحف على المدينة المقدسة زحفا حازما لا ونية فيه - والمدينة المقدسة هي مقصد حملتهم - لم يشتغلوا بهذا أو بذاك، وإنما اشتغلوا بتأمين المعسكر، الذي باتت تشغله جماعة هزيلة من الأتباع، بحفر الخنادق وإقامة الحسائك وغيره من وسائل التحصين، كأنهم يتأهبون - إذا ما عاد القتال - لرد عدو قوي معتد، ولا يعدون العدة لأن يقفوا موقف الغزاة المغيرين المفاخرين.
هاج الملك الإنجليزي وماج من هذا البيان، وكان كالأسد الحبيس في القفص ينظر إلى الفريسة من وراء قضبان من الحديد. ولما كان بطبيعته مندفعا متهورا، فقد انعكس هياج طبعه على نفسه، وكان أتباعه يخشونه، وحتى أطباؤه الذين كانوا يباشرونه، كانوا يخافون أن يتخذوا لأنفسهم ذلك النفوذ الذي لا بد منه لكل طبيب على مريضه إن أراد به خيرا؛ ولم يستطع أن يقف بين الأفعوان وثائرته إلا رجل واحد من الأشراف المخلصين، وربما كان ذلك لمواءمة بين ميوله وميول رتشارد، مما قربه إلى الذات الملكية ووصل بين قلبيهما، فكان له - في سكون وثبات - سلطان على الملك المريض الغاضب، لم يجرؤ عليه غيره؛ هذا النفوذ لم يباشره غير توماس دي ملتن، لأنه كان يقدر حياة الملك وشرفه أكثر مما كان يقدر ما قد يفقد من جراء ذلك من رضاه، وما قد يجر على نفسه من أخطار، وهو يمرض عليلا كهذا، شديد المراس، جسيم الأخطار إذا غضب.
كان السير توماس لورد جلزلاند، في كمبرلاند، في عصر لم تكن فيه الأنساب والألقاب شديدة الالتصاق بأربابها كما هي اليوم، وكان النورمان يسمونه لورد دي فو ويلقبه بالإنجليزية السكسون - الذين كانوا يتعلقون بلغتهم الوطنية ويفخرون ببعض الدم السكسوني الذي يجري في عروق هذا المحارب الذائع الصيت - توماس ، وأحيانا يرفعون الكلفة ويسمونه «توم» رجل «الجلز» أو «الأودية الضيقة» التي اشتقت منها أملاكه الواسعة اسمها المعروف.
وقد تدرب هذا الزعيم في أكثر الحروب، ما نشب منها بين إنجلترا واسكتلندا أو بين الأحزاب الداخلية العديدة، التي كانت إذ ذاك تمزق البلاد تمزيقا؛ وفي هذه الحروب جميعا برز وتفوق، سواء في مسلكه الحربي أو نفوذه الشخصي، وكان من ناحية أخرى جنديا خشنا فظا، لا يأبه بهندامه، كتوما مكتئبا في معاشرته، وينكر - في ظاهر حديثه على الأقل - كل علم بالسياسة أو بدسائس البلاط؛ وكانت هناك من الرجال جماعة تزعم أنها تستطيع أن تنفذ إلى دخائل الطباع، وتؤكد أن لورد دي فو لم يكن في مكره وطموحه أقل منه في خشونة طبعه وجسارته، وتظن أنه - وهو يتشبه بخلق الملك في البسالة وعدم المبالاة - إنما يرمي إلى الفوز برضا الملك، وإلى إشباع آماله، وتحقيق مطامعه الواسعة؛ ولكن أحدا لم يجرؤ على معارضته في أغراضه أيا كانت، أو ينافسه في ذلك العمل الخطر، وهو مباشرة سرير المريض كل يوم، وعلة المريض معدية كما ذاع بينهم، والمريض هو قلب الأسد، يئن من جزع غاضب يتملك الجندي إذا حيل بينه وبين القتال، والملك إذا تجرد من كل سلطان؛ وعامة الجند في جيش الإنجليز على الأقل كانوا يعتقدون إجمالا أن دي فو يباشر الملك مباشرة الند للند، وليس بينهما إلا مودة حربية خالصة، نزيهة غير مغرضة، تنعقد بين اثنين يقتسمان المخاطر كل يوم.
ناپیژندل شوی مخ