وهنا غاص صوت العربي في صوت الراهب إذ أخذ هذا يهلل بصوت عال ويترنم بنغم خشن ويقول: «أنا تيودوريك، رجل عين جدة، أنا جذوة الصحراء، أنا سوط المنافقين، الأسد والنمر - رفيقاي - يدنوان من غارتي يحتميان، ولن تخشى مخالبهما بعد اليوم عنز؛ أنا المشعل والمصباح، رحماك اللهم!»
ولما فرغ من غنائه هرول قليلا، ثم قفز إلى الأمام ثلاث قفزات، لو أنه أداها في حفل رياضي لحاز عليها كثير الثناء، ولكنها لم تلق به كراهب، حتى إن الفارس الاسكتلندي تحير وارتبك.
وكأن العربي قد كان لحركاته هذه أدق فهما فقال: «ألا ترى أنه يريدنا على أن نتبعه إلى غاره فنحتمي هناك ليلتنا؛ أنت النمر، ويشهد بذلك هذا الرسم فوق درعك؛ وأنا الأسد، ويدل على هذا اسمي؛ وبالعنز يشير إلى ردائه - وهو من جلدها - ويعني نفسه؛ لنجعله أبدا تحت أبصارنا فهو سريع العدو كالهجين.»
وكان ذلك عليهما شاقا، إذ إن قائدهما الوقور كان حقا يقف الفينة بعد الفينة، ويلوح بيده يحثهما على المسير، ولكنه كان جد خبير بالأودية الملتوية وطرق الصحراء، وقد وهبه الله خفة غير مألوفة، ربما ساعده على الإبقاء عليها دائبة النشاط عقل غير متزن؛ ولكنه كان يسير بهما في خلوات وطرقات، أحس فيها العربي - على خفة سلاحه ودربة جواده - بالخطر الشديد، فما بالك بالأوروبي، وهو مدرع بالحديد، وجواده مثقل بالأحمال؛ لقد ألفى نفسه والخطر يحدق به فود لو استعاض بهذه المخاطر معركة حامية الوطيس؛ ولشد ما كان سروره حينما رأى - بعد هذا العدو الوحشي - ذلك الرجل المقدس، الذي هداهما الطريق، وقد وقف لدى كهف، وبيده مشعل يتألف من عصا خشبية منغمسة في القار، يشع منها ضياء يتذبذب في شدة، وتفوح منه رائحة الكبريت في قوة.
لم يرتد الفارس من هذا البخار الخانق، وإنما رمى بنفسه من فوق جواده وولج الكهف الذي كان ظاهره لا يدل على توفر الراحة فيه؛ وكان الغار مقسما قسمين: خارجيا به مذبح من الحجر وصليب من القصب، وكان الناسك يتخذ من هذا المكان كنيسة له؛ وإلى جانب هذا الكهف الخارجي وثق الفارس المسيحي جواده، وأعده للمبيت، محتذيا في ذلك حذو العربي الذي أفهمه أن هذا من تقاليد ذلك المكان، ولكن المسيحي لم يخل من وسواس الشك، دب فيه مما كان يحيطه من مظاهر كان لها في نفسه احترام ديني؛ وفي غضون ذلك كان الناسك يشتغل بتنسيق الغرفة الداخلية كي يستقبل ضيفيه، وسرعان ما لحقا به هناك؛ وكان في داخل الكهف الخارجي فرجة صغيرة تغلق بباب من الخشب الخشن، وتؤدي إلى غرفة فسيحة كان يتخذها الناسك للنوم؛ وكان سطح الأرض بالكهف خشنا رغم جهد ساكنه في تسويته، مفروشا برمل أبيض اعتاد أن ينثر الناسك الماء فوقه كل يوم، يأتي به من عين صغيرة تنفجر في الصخر في إحدى زوايا المكان، وتمد الإنسان في ذلك الجو الخانق بماء عذب المذاق، خريره لذيذ المسمع؛ وفي جانب من جوانب الغار وضعت بعض الحشايا المصنوعة من الأعلام الملتفة؛ وجدر الكهف - كأديمه - خشنة الملمس، رغم جهد باد في تسويتها، وقد علقت عليها الأعشاب والزهور، وأشعل الناسك مشعلين من الشمع نشرا جوا طيبا في المكان، الذي بات بشذاه وبرودته حبيبا إلى النفس.
وكانت في إحدى زوايا الغرفة أدوات من آلات العمل، وفي زوايا أخرى فجوة ينتصب فيها تمثال العذراء خشن غليظ؛ وبالغرفة كذلك مائدة ومقعدان، يدل ظاهرها على أنها من صنع الناسك، فهي تختلف في هيئتها عن الأثاث الشرقي. أما المائدة فكان ينتثر عليها القصب والبقل، وعليها لحم مجفف، أحكم تيودوريك وضعه بحيث يسيل لعاب زائريه؛ ولم يستطع السير كنث البتة أن يوفق بين مظاهر الجود هذه - على أن الناسك كان يقوم بها في صمت، ولا يعبر عنها إلا بالإشارة - وبين مسلكه المتوحش العنيف من قبل؛ وقد أضحى الراهب بعد ذلك متزن الحركات؛ ولئن كان هزيل الملامح من أثر العيش الشظيف، لا تبدو عليه أمارات النبل والجلال، فما ذلك إلا لإحساسه بضرورة التواضع الذي يمليه عليه الدين؛ وكان ينتقل في كهفه، وكأنه رجل ولد ليحكم بين الناس، ولكنه تخلى عن دولته كي يخلص لعبادة الله؛ ولكنه كان رغم ذلك رجلا كبير الحجم، له خصل من الشعر مرسلة طويلة، ولحية لم يمد إليها يده بالتشذيب، وعينان وحشيتان غائرتان يتطاير منهما الشرر، وهذه من صفات الجندية لا من صفات الرهبنة.
حتى إن العربي نفسه لم يسعه إلا أن ينظر إلى هذا الناسك - وهو مشتغل بعمله - بعين التبجيل، فأسر إلى السير كنث في صوت خافت، وقال: «ألا ترى أن هاماكو الآن هادئ البال، إنه لن يتحدث إلينا حتى نفرغ من الطعام، وهذا عهد أخذه على نفسه.»
وبعدئذ أشار تيودوريك في صمت إلى الرجل الاسكتلندي كي يستوي على مقعد من المقاعد المنخفضة، بينما جلس شيركوه - كما يجلس بنو قومه - على حشية من الحصير، وعندئذ رفع الراهب بكلتا يديه كأنه يبارك الطعام الذي قدمه إلى ضيفيه، وشرعا يأكلان في صمت عميق كصمت المضيف، وكان هذا الجد المخيم فوق المكان أمرا طبيعيا للرجل العربي، فلبث صامتا، وحذا المسيحي حذوه، ولكنه أخذ يفكر في هذا الموقف الشاذ الذي انتهى إليه، وفي التباين الشاسع بين تيودوريك، لما التقيا به أول الأمر، وهو كالوحش يلوح بالإشارة من شدة الغضب، عالي الصرخات، عنيف الحركات، وبينه الآن، وهو يقوم بواجب الجود والضيافة في ثبات وحزم، وقورا كريم الوفادة.
وفرغا من تناول الطعام، ولم يتبلغ الناسك بلقمة، وأخذ يزيل الفتات من المائدة، ثم وضع أمام العربي إبريقا من شراب سائغ، وخص الاسكتلندي بزجاجة من النبيذ.
وشق صمته بهذا الخطاب: «اشربا، ابني، فإن لنا أن نستمتع بنعم الله ما دمنا له ذاكرين.»
ناپیژندل شوی مخ