208

فقال ملك إنجلترا: «وهل أقر لك بشيء ما؟»

فأجاب السلطان: «لم يقر بشيء صراحا، ولكن من كثير مما دار بيننا، أدركت أن حبه معقود بفتاة من بيت كريم أرفع من أن ينتهي وإياها إلى السعادة والرفاهية.»

فقال رتشارد: «وهل تعلم أن حبه هذا الوقح الجريء يتعارض ورغبتك؟»

فقال صلاح الدين: «قد يبلغ بي الظن إلى هذا الحد، ولكن حبه قد ظهر إلى حيز الوجود قبل أن تنشأ في الرغبة، وينبغي أن أقول إن حبه أبقى على الزمن من حبي، وإن شرفي لا يسمح لي بأن أنتقم لخيبتي ممن لم تكن له يد فيها، ولئن كانت هذه الكريمة النسب تحبه أكثر مما تحبني فمن ذا الذي يقول إنها لم تنصف فارسا من دينها كله شرف ونبل؟»

فقال رتشارد شامخا بأنفه : «ولكنه من ذرية أوضع من أن تختلط بدم بلانتاجنت.»

فأجابه السلطان: «ربما كانت هذه مبادئكم في بلاد الفرنجة، أما نحن فشعراؤنا من أهل الشرق يقولون بأن الحادي المقدام جدير بتقبيل ثغر الملكة الحسناء، أما الأمير النذل فليس قمينا بأن يحيي أهداب ثيابها. ولكني أستأذنك أخي النبيل في أن أفارقك الآن، كي أستقبل دوق النمسا وذلك الفارس النصراني، وهما أقل منك حقا بالإكرام، ولكنا ينبغي لنا أن نحسن لقاءهم، لا إجلالا لهم، ولكن احتفاظا بشرفي. ولقد قال في ذلك الحكيم لقمان: «إن الطعام الذي تقدمه للغريب لا يضيع، فإن اشتد به جسمه وقوي، ارتفع اسمك عزة وشهرة.»

ثم فصل الملك العربي عن سرادق الملك رتشارد، وبعد أن أومأ إليه بالإشارة لا بالكلام عن المكان الذي ضرب به سرادق الملكة ووصيفاتها، ذهب للقاء مركيز منتسرا وحاشيته الذين أعد لهم السلطان كذلك أماكن يستقرون فيها، توازي ما أعد لغيرهما أبهة وعظمة، ولكن بقلب أقل ترحيبا. وقدم الطعام الوفير على الطريقة الشرقية وعلى النمط الغربي لضيوف صلاح الدين من الملوك والأمراء، كل في سرادقه الخاص. وكان السلطان شديد التنبه لعادات زائريه وأذواقهم، فأوقف رقيقا من اليونان يقدمون لهم كئوس الخمر، وهي حرام على المسلمين، وقبل أن يفرغ رتشارد من طعامه دخل «عبد الله» الذي كان قد حمل رسالة صلاح الدين إلى معسكر المسيحيين، ومعه خطة الطقوس والرسوم التي سوف تتبع في اليوم الذي يلي يوم النزال؛ وكان رتشارد يعرف هوى صاحبه القديم، فدعاه لأن يشاركه في قدح من نبيذ «شيراز»، ولكن «عبد الله» أومأ إليه - وعلى وجهه سيماء الحزن والأسى - بأن إنكار الذات في الظرف الراهن أمر يتعلق بحياته، لأن صلاح الدين - رغم تسامحه في كثير من الشئون - كان يرعى شريعة النبي وينفذها بالعقوبة القاسية.

فقال رتشارد: «إذن إن كان لا يحب الخمر - وهي ذلك الشراب الذي يخفف عن قلب الإنسان - فإن اعتناق المسيحية لا أمل فيه، ولسوف تذهبن نبوءة كاهن عين جدة المجنون أدراج الرياح.»

ثم شرع الملك يعد أدوات المبارزة، واستغرق في ذلك وقتا طويلا؛ إذ كان لزاما عليه أن يتشاور في بعض الأمور مع الفريق المنازل ومع السلطان.

وأخيرا تم بينهم الاتفاق في كل شيء، وسووا ما بينهم في ميثاق بالفرنسية والعربية، وقع عليه صلاح الدين كحكم في ميدان القتال، ورتشارد وليوبولد كضامنين للمتبارزين؛ ودخل دي فو و«عبد الله» يستأذن من الملك رتشارد بالانصراف نهائيا ذلك المساء.

ناپیژندل شوی مخ