204

فسارت الكتيبة الصغيرة قدما، يصحبها الأعراب من كل جانب، وهم يصيحون صياحا نافذا أجش، وحملة القسي يعرضون حذقهم وخفتهم فيرمون بسهامهم على قيد شعرة من رءوس المسيحيين دون أن يصيبوهم بأذى، والرماحون يتقارعون بغلظة بأسلحتهم الكليلة، حتى كثر منهم من فقد سرجه وكاد يفقد حياته في هذا اللعب الهمجي. وقد أرادوا بهذا كله إلى التعبير عن ترحابهم، ولكن ظاهر الأمر كان مريبا في أعين أبناء أوروبا.

وما إن بلغوا منتصف الطريق نحو المعسكر، والملك رتشارد وأتباعه يؤلفون النواة التي تجمع حولها هذا العدد الصخاب من الخيالة، مهللين هاتفين، ومناوشين ومهطعين، وهم على صورة من الاضطراب لا يحيط بها وصف، حتى انبعثت صيحة عالية أخرى، كر لمسمعها الجنود المختلون، الذين كانوا بالمقدمة وعند الجناحين من الكتيبة الأوروبية الصغيرة، وألفوا من أنفسهم صفا طويلا عريضا، وساروا في مؤخرة عسكر رتشارد، وهم أكثر نظاما وألزم صمتا، وبدأ التراب الآن ينقشع أمامهم حينما تقدم للقائهم خلال ذلك الحجاب القاتم جماعة من الفرسان يختلفون عنهم هيئة ويفوقونهم نظاما، مسلحين إلى الأطراف بأسلحة الدفاع والهجوم، يليق بهم أن يكونوا حراسا لأكثر ملوك الشرق صلفا وكبرا. وهذه الفرقة الفاخرة كانت تتألف من خمسمائة رجل، وكل جواد من جيادهم يليق فداء لرجل شريف، والركبان رقيق من أهل جورجيا أو جراكسة في ريعان الشباب، وخوذاتهم وقمصانهم المصنوعة من الزرد كلها من حلق الحديد، شديدة البريق، تتألق كالفضة، ونطقهم مجدولة بالحرير والذهب، وعمائمهم الغالية مرصعة بالريش والجواهر، وسيوفهم وخناجرهم من الصلب المحلى بالفضة، مزينة بالذهب واللآلئ على مقابضها وأغمدتها.

تقدم هؤلاء الجند ذوو الأزياء الفاخرة على أنغام الموسيقى العسكرية، ولما التقوا بفرقة المسيحيين فتحوا صفوفهم يمينا ويسارا، وأدخلوهم بينهم، واتخذ رتشارد الآن مكانة في طليعة جنده، وهو يعلم أن صلاح الدين نفسه يدنو. ولم يمض زمن طويل حتى أقبل السلطان وسط حرسه، وكأنه بملامحه وهيئته رجل كتبت الطبيعة على جبينه «هذا ملك»، وأحاط به خدمه من الضباط وأولئك الزنوج الدميمين الذين يخفرون الحريم في الشرق، والذين زاد قبح أشكالهم رعبا نفاسة ملبسهم. وصلاح الدين بعمامته الناصعة البياض، وصداره وسراويله الشرقية الفضفاضة، ونطاقه الحريري القرمزي، دون أية زينة أخرى، ربما كان أكثر من حرسه سذاجة في لباسه؛ ولكنك إن دنوت منه وأمعنت فيه، رأيت في عمامته تلك الجوهرة التي لا تقدر، والتي سماها الشعراء «بحر النور»، واللؤلؤة المنقوشة باسمه، والتي كان يلبسها في خاتمه، ربما كانت تساوي في قيمتها كل ما بالتاج الإنجليزي من جواهر، والياقوت الذي ينتهي به مقبض سيفه لا يقل عنها في قيمتها كثيرا؛ وفوق ذلك كان السلطان يلبس نوعا من القناع يتصل بعمامته، ويحجب عن الأنظار جانبا من ملامحه النبيلة، وذلك إما وقاية له من التراب الذي يشبه في جوار البحر الميت أدق الرمال، أو ربما كان ضربا من الكبرياء الشرقي. وكان يمتطي حصانا عربيا ناصع البياض، يحمله وكأنه يحس ويفخر براكبه النبيل.

ولم تكن هناك حاجة إلى تقدمة جديدة، فلقد نزل الملكان الشهمان - وحقا لقد كانا كذلك - عن ظهري جواديهما توا، ووقف الجند، وسكتت الموسيقى بغتة، وتقدما للقاء في صمت رهيب، وبعدما انحنى كل منهما مجاملة تعانقا كأخوين وندين، ولم تعد الأبهة والمظهر لدى أيهما لتجتذب النظر، إذ لم ير أحد شيئا غير رتشارد وصلاح الدين، ولم ير أحدهما غير الآخر، ولكن النظرة التي كان يرمق بها رتشارد صلاح الدين كانت أكثر إمعانا وتطلعا من نظرات السلطان التي صوبها نحوه. وكان السلطان كذلك أول من شق ما كان يسود من سكون.

وقال: «إن صلاح الدين يرحب بالملك رتشارد كما يرحب بالماء لهذه الصحراء! وإني على يقين من أنه لا يرتاب في هذا العدد العديد من الجنود، فإذا استثنيت العبيد المسلحين من حاشيتي، فإن أولئك الذين يحيطونك بنظرات من العجب والترحاب هم جميعا - حتى أكثرهم خضوعا - من النبلاء ذوي المكانة في القبائل الألف التي تتبعني؛ إذ من ذا الذي يكون له حق المثول ويلبث في بيته، والأمير القادم رتشارد، وهو الذي بمخاوف اسمه - حتى فوق رمال اليمن - تدلل المرضعة الوليد ويخضع العربي جواده الجموح!»

فأجاب رتشارد وقال: «وكل هؤلاء نبلاء من الأعراب؟» وتلفت حواليه، ووقع بصره على جسوم خشنة، ورجال متلفعين بالثياب، اسودت من حرارة الشمس ملامحهم، وأسنانهم بيضاء كالعاج، وعيونهم السود يتألق فيها بريق نافذ غير طبيعي تحت ظلال عمائمهم، ولباسهم على الجملة ساذج بل وضيع.

فقال السلطان: «أجل إن لهم لهذه المرتبة، وهم وإن يكونوا عديدين إلا أنهم يخضعون لشروط المعاهدة، ولا يحملون سلاحا غير السيوف، وحتى حديد رماحهم قد خلفوه وراءهم.»

فتمتم دي فو بالإنجليزية قائلا: «إني أخشى أن يكونوا قد خلفوه حيث يتيسر لهم إن أرادوه سريعا. إني أقر بأنهم مجلس من الشيوخ جليل، وربما ضاقت بهم قاعة وستمنستر.»

وقال رتشارد: «صه يا دي فو؛ إني آمرك بالصمت.» ثم قال: «أيها السلطان، إنك والشك لا توجدان على أرض واحدة.» وأشار إلى المحفات وقال: «ألا ترى أني كذلك قد أتيت معي ببعض الأبطال، ولكنهم مسلحين. ولربما كان في ذلك إخلال بالاتفاق؛ ولكن العيون النجل، والملامح الفاتنة، أسلحة لا نستطيع أن نخلفها وراءنا.»

فالتفت السلطان نحو المحفات، وطأطأ رأسه إجلالا كأنه يولي وجهه شطر مكة، ولثم الرمال إشارة على الاحترام والتبجيل.

ناپیژندل شوی مخ