وقال الأمير: «أفما فتئت ذاهلا؟ عجبا! كيف سرت في هذه الدنيا ولم تلحظ أن الرجال ليسوا دائما كما يدل عليهم ظاهرهم! انظر إلى نفسك؛ هل أنت كما ينم عنك ظاهرك؟»
فصاح الفارس قائلا: «كلا، وحق القديس أندراوس. إن ظاهري في معسكر المسيحيين بأسره ظاهر الجندي الخائن، وأنا أعرف أني رجل مخلص رغم ذنوبي.»
فأجابه «الضريم» وقال: «والله لقد عرفتك كذلك، ولما كنا قد تناولنا من ملح الطعام معا فقد رأيت أن في ذمتي أن أنقذك من الموت والعار، ولكن هلا خبرتني لماذا أنت ما تزال على فراشك، أفما تعلم أن الشمس قد ضربت في كبد السماء؟ أم هل الثياب التي بعثت إليك على ظهر ناقتي لا تليق بملبسك؟»
فأجابه الفارس وقال: «كلا إنها تليق بي، ولكني لست به خليقا. أعطني ثياب الرق أيها «الضريم» النبيل أرتدها جذلا مسرورا، ولكني لا أطيق ارتداء زي المقاتل الشرقي الحر، ولبس عمامة المسلمين.»
فأجاب الأمير قائلا: «أيها النصراني؛ إنكم أمة اتخذتم الريبة ديدنكم حتى حق لنا أن نرتاب فيكم؛ ألم أقل لك إن صلاح الدين لا يحب أن يدخل في حظيرة الإسلام سوى أولئك الذين يهديهم النبي الكريم لأن يدينوا بشريعته؟ إنما الشدة واللين كلاهما ليسا من سياسته في نشر الدين الحنيف. استمع إلي يا صاح! لما ارتد للأعمى بصره بمعجزة من ربه سقطت عن عينيه الغشاوة بإرادة الله؛ أفتظن أن طبيبا من هذه الدار كان قادرا على أن يزيل الحجاب عن عيني الرجل؟ كلا. ما كان لمثل هذا الطبيب إلا أن يعذب المريض بعدته وآلاته، أو أن يخفف عنه ببلسمه ومنبهاته، ولكن الضرير سوف يبقى ضريرا، وما أعمى البصيرة إلا كذلك، إن كان بين الفرنجة من لبس العمامة واتبع شريعة الإسلام، كي يجني المال الحرام فهو آثم لا ضمير له، وهو الذي سلك طريق الغواية، وما شقها له السلطان. وإذا ما لاقى في الدار الآخرة جزاء نفاقه وزج به في أسفل سافلين، في جحيم تحت جحيم النصارى واليهود والسحرة وعبدة الأوثان، وقضى عليه أن يأكل من شجرة الزقوم، وهي شجرة طلعها رءوس الشياطين، فإثمه وجزاؤه في عنقه لا في عنق السلطان . وإذن فلترتد ما أعد لك من لباس، ولا تداخلك ريبة أو شك، لأنك إن سرت إلى معسكر صلاح الدين فإن زيك الوطني يعرضك للمشقة والرقابة، بل وللمذلة والمهانة.»
فقال السير كنث مرددا ألفاظ الأمير: «إن سرت إلى معسكر صلاح الدين؟ واحسرتاه! خبرني هل أنا رجل طليق، وهل لي ألا أذهب حيثما شئت؟»
فقال الأمير: «سر أنى شئت، وانطلق حرا كالريح التي تلعب بالرمال في الصحراء وتثيرها حيثما أرادت؛ ما كان للعدو النبيل الذي تلقى مهندي، وكاد أن ينزعه من كفي، أن يكون لي عبدا كمن خر تحت ظباته. والله لو كان المال والسلطان يحضانك على أن تنضم إلى أمتنا لكفلتهما لك، ولكني أخشى أن الرجل الذي أبى على نفسه هبات السلطان، والسيف مشهور على رأسه، أن لن يقبلها الآن، وأنا أقول له إنه حر فيما يريد.»
فقال السير كنث: «أتمم علي نعمتك أيها الأمير النبيل، واجتنب أن تريني طريقا للمثوبة يأبى علي ضميري أن أسلكها، واسمح لي أن أعبر لك - وقد طوقتني برفقك - عن عرفاني لهذا السخاء الكريم، وهذا الجد الذي لست به قمينا.»
فأجابه الأمير «الضريم» قائلا: «لا تقل إنك لست به قمينا، ألم يكن حديثك معي، وما رويت لي عن الحسان اللائي يجملن بلاط الملك رتشارد هو ما دفع بي أن أسير متخفيا إلى هناك، وأظفر بمنظر هو أروع ما رأيت، وما سوف أرى، إلى أن تكتحل عيناي بجلال الجنان؟»
فتناوبت وجه السير كنث الحمرة مرة والشحوب أخرى، وكأنه أحس بأن الحديث قد أخذ يضرب على وتر حساس أليم، ثم قال: «إني لا أفهمك.»
ناپیژندل شوی مخ