هكذا تكلم الحكيم، ولكن السير كنث لم يحر لهذا الخاطر جوابا مما قد يؤدي إلى مواصلة الحديث بينهما. ولعل الطبيب قد كل من التعزية يتقدم بها إلى رجل لا يقبل التعزية، فأشار إلى واحد من حاشيته.
وقال: «أليس لديك، يا حسن، شيء نقتل به ملل الطريق؟»
وحسن هذا قصاص شاعر ومحترف، دفعه هذا السؤال إلى أن يجيب إلى ما سئل، فقال محدثا الطبيب: «أي مولاي، يا سيد دار الفناء، أنت ذلك الذي إن رآه الملك عزرائيل نشر جناحيه وطار، أنت أحكم من سليمان بن داود الذي انطبع على خاتمه «اسم الجلالة»، هذا الاسم الذي يسيطر على الأرواح في هذه الدنيا؛ أنت تسير على جادة الخير تحمل حيث تحل الشفاء والأمل، فحاشا لله أن تكتئب حياتك من قلة القصص أو الغناء. استمع إلي! ما دام خادمك إلى جوارك، فسوف تتدفق كنوز ذاكرته كما يتدفق من النبع في الدرب تيار الماء ينتعش به كل من سار على الطريق.»
وبعد هذه الديباجة، رفع حسن صوته، وشرع يقص قصة حب وسحر، تتخللها مآثر الظفر والقتال ، وتحليها المقتبسات من شعر الفرس، والمحدث بأقوالهم عليم، وإذ ذاك احتشدت حول القصاص حاشية الطبيب كلها، ما خلا أولئك الذين كان لا بد لهم من التخلف لرعاية البعير، وتزاحموا - على قدر ما يسمح لهم احترامهم لسيدهم - كي ينعموا بتلك اللذة التي يجدها أبدا أهل الشرق في هذا الضرب من الرواية.
ولربما لذ للسير كنث في ظرف غير هذا أن يستمع إلى هذه الرواية، التي كانت شديدة الشبه بقصص الفروسية الخيالية الذائعة في أوروبا في ذلك الحين، وذلك رغم عجزه عن فهم اللسان العربي فهما صحيحا، ورغم أن هذه القصص كانت من إملاء خيال أشد إسرافا، ومسوقة في لغة أكثر مبالغة، ومليئة بالاستعارة والكناية، لكنه - في هذا الظرف - لم يكد يحس حتى بأن رجلا قد توسط القافة وأخذ ينشد ويغني في نغم خافت نحوا من ساعتين، مترنما بصوته ترنما يقابل به شتيت العواطف وألوانها المختلفة التي ساقها في قصته. وهو يستمع لقاء ذلك مرة إلى الإعجاب به في دمدمة خافتة، ومرة إلى استحسانه في تمتمة خافضة، وحينا إلى النحيب والبكاء، وحينا إلى إثابته بالبسمات، بل وبعالي الضحكات - والضحك على قلوب سامعيه ثقيل.
ومهما بلغ بالرجل الطريد من شرود الذهن والاسترسال في الأحزان، فقد كان يوقظ انتباهه الفينة بعد الفينة خلال هذا القصص نباح خافت يصدر عن كلب وضع في صندوق من الصفصاف يتدلى من إحدى النوق. وفارسنا - كالحاطب المحنك - لم يتردد في معرفة الكلب، فلقد كان كلبه الأمين بعينه، ولم يشك من نباح الكلب وأنينه أن الكلب كان يدرك قرب سيده ويناشده - بطريقته - العون على إنقاذه وتحريره.
فقال: «وا أسفاه يا «رزوال» المسكين، أنت تطلب النجدة والعطف من رجل مكبل في أصفاد أضيق مما أنت فيه. سوف أتظاهر بعدم الاكتراث لك، ولن أجاوبك المحبة، ما دام ذلك لن يؤدي إلا إلى اشتداد المرارة عند الفراق.»
وهكذا انقضت ساعات الليل، وانقشع الفجر المعتم القاتل الذي يسبق تباشير الصباح في سوريا، ولكن ما إن أشرق الخيط الأول من قرص الشمس وعلا فوق الأفق ، وما إن اندلع الشعاع الأول وتألق في قطرات الندى - التي كانت تنتثر فوق القفر الذي بلغه الركب إذ ذاك - حتى علا صوت الحكيم الجهوري على صوت القصاص، وقطع عليه روايته، وأخذ يردد فوق الرمال ذلك النداء المهيب الذي يدوي به المؤذنون في المساجد فوق المنائر كل صباح، ويقول: «حي على الصلاة، حي على الصلاة، لا إله إلا الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، محمد رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، هذه الدار إلى الفناء. حي على الصلاة، حي على الصلاة، إن يوم الحساب قريب.»
1
وفي أسرع من لمح البصر، نزل المسلمون جميعا من فوق الجياد، وولوا وجوههم شطر مكة، وتيمموا بالرمال عوضا عن الوضوء بالماء، ودعا كل منهم ربه ونبيه - في عبارة موجزة حارة - أن يشملاه بالرعاية ويغفرا له ذنوبه وآثامه.
ناپیژندل شوی مخ