التبيان في أقسام القرآن
ابن القيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه
فصل في أقسام القرآن
وهو سبحانه يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته وآياته
المستلزمة لذاته وصفاته وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته فالقسم إما على جملة خبرية وهو الغالب كقوله تعالى ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ وإما على جملة طلبية كقوله تعالى ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
1 / 1
مع أن هذا قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر وقد يراد به تحقيق القسم
والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور الظاهرة المشهورة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها V
وما أقسم عليه الرب فهو من آياته فيجوز أن يكون مقسمًا به ولا ينعكس
وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب وتارة يحذفه كما يحذف جواب لو كثيرًا كقوله تعالى ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ وقوله ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ﴾ ﴿ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة﴾ ﴿ولو ترى إذا فزعوا فلا فوت﴾ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام لأن المراد أنك لو رأيت ذلك لرأيت هولًا عظيمًا فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل عليه الشرط وهذه عادة الناس في كلامهم إذا رأوا أمورا عجيبة وأرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها يقول أحدهم لو رأيت ما جرى يوم كذا
1 / 2
بموضع كذا ومنه قوله تعالى ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ فالمعنى في أظهر الوجهين لو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة والجواب محذوف ثم قال ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ كما قال تعالى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ﴾ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ﴾ أي لو ترى ذلك الوقت وما فيه
وأما القسم فإن الحالف قد يحلف على الشيء ثم يكرر القسم فلا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف ما يحلف عليه فيقول والله إن لي عليه ألف درهم ثم يقول ورب السموات والأرض والذي نفسي بيده وحق القرآن العظيم ولا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف المراد
والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء ثم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة والتاء في أسماء الله كقوله ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ وقد نقل ترب الكعبة وأما الواو فكثيرة
فصل
إذا عرف هذا فهو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب
1 / 3
على الخلق معرفها تارة يقسم على التوحيد وتارة يقسم على أن القرآن حق وتارة على أن الرسول حق وتارة على الجزاء والوعد والوعيد وتارة على حال الإنسان فالأول كقوله ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ والثاني كقوله ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ وقوله ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ إذا جعل ذلك جواب القسم كما هو الظاهر وإن قيل بل الجواب محذوف كان كقوله ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ فإنه هنا حذف الجواب ومن قال إن الجواب هو قوله ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ فقد أبعد النجعة
والقسم على الرسول كقوله ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إذا قيل هو الجواب وإن قيل الجواب محذوف كان كما ذكر ومنه ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا
1 / 4
غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ ومنه ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ إلى آخر القصة ومنه قوله ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ وقوله ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾
وأما القسم على الجزاء والوعد والوعيد ففي مثل قوله ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ ثم ذكر تفصيل الجزاء وذكر الجنة والنار وذكر أن في السماء رزقهم وما يوعدون ثم قال ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ ومثل قوله ﴿وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا إنما إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ ومثل ﴿وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُور إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾
1 / 5
وقد أمر نبيه أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاث آيات فقال تعالى ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنّ﴾ وقال تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ وقال تعالى ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ وهذا لأن المعاد إنما يعلمه عامة الناس بأخبار الأنبياء وإن كان من الناس من قد يعلمه بالنظر وقد تنازع النظار في ذلك فقالت طائفة أنه لا يمكن علمه إلا بالسمع وهو الخبر وهو قول من لا يرى تعليل الأفعال ويقولون لا ندري ما يفعل الله إلا بعادة أو خبر كما يقوله جهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وأتباعه وكثير من أهل الكلام في الفقه والحديث من أتباع الأئمة الأربعة بخلاف العلم بالصانع فإن الناس متفقون على أنه لا يعلم إلا بالعقل وإن كان ذلك مما نبهت الرسل عليه وصفاته قد تعلم بالعقل وتعلم بالسمع أيضا كما قد بسط في موضع آخر
وأما القسم على أحوال الإنسان فكقوله ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ الآية ولفظ السعي هو العمل لكن يراد به العمل الذي يهتم به
1 / 6
صاحبه ويجتهد فيه بحسب الإمكان فإن كان يفتقر إلى عدو بدنه عدا وإن كان يفتقر إلى جمع أعوانه جمع وإن كان يفتقر إلى تفرغ له وترك غيره فعل ذلك فلفظ السعي في القرآن جاء بهذا الإعتبار ليس هو مرادفًا للفظ العمل كما ظنه طائفة بل هو عمل مخصوص يهتم به صاحبه ويجتهد فيه ولهذا قال في الجمعة ﴿فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ وهذه أحسن من قراءة من قرأ "فامضوا إلى ذكر الله" وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فلم ينه عن السعي إلى الصلاة فإن الله أمر بالسعي إليها بل نهاهم أن يأتوا إليها يسعون فنهاهم عن الإتيان المتصف بسعي صاحبه والإتيان فعل البدن وسعيه عدو البدن وهو
منهي عنه وأما السعي المأمور به في الآية فهو الذهاب إليها على وجه الإهتمام بها والتفرغ لها عن الأعمال الشاغلة من بيع وغيره والإقبال بالقلب على السعي إليها وكذلك قوله في قصة فرعون لما قال له موسى ﴿ْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ فهذا اهتمام واجتهاد في حشر رعيته ومناداته فيهم وكذلك قوله
1 / 7
﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا﴾ هو عمل بهمة واجتهاد ومنه سمى الساعى على الصدقة والساعي على الأرملة واليتيم ومنه قوله ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ وهو العمل الذي يقصده صاحبه ويعتني به ليترتب عليه ثواب أو عقاب بخلاف المباحات المعتادة فإنها لم تدخل في هذا السعي قال تعالى ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ ومنه قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ وقوله ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ .
فصل
وأقسم على صفة الإنسان بقوله ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ وأقسم على عاقبته وهو قسم على الجزاء في قوله ﴿وَالْعَصْر إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ وفي قوله ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ
1 / 8
وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾
وحذف جواب القسم لأنه قد علم بأنه يقسم على هذه الأمور وهي متلازمة فمتى ثبت أن الرسول حق ثبت القرآن والمعاد ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدقه وصدق الكتاب الذي جاء به
والجواب يحذف تارة ولا يراد ذكره بل يراد تعظيم المقسم به وأنه مما يحلف به كقول النبي من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت ولكن هذا يذكر معه الفعل دون مجرد حرف القسم كقولك فلان يحلف بالله وحده وأنا أحلف بالخالق لا بالمخلوق ونحو ذلك والنصراني يحلف بالصليب والمسيح وفلان أكذب ما يكون إذا حلف بالله
وقد يكون هذا النوع بحرف القسم مجردا كما في الحديث كانت أكثر يمين رسول الله:" لا ومقلب القلوب"
1 / 9
وكان بعض السلف إذا اجتهد في يمينه قال والله الذي لا إله إلا هو وتارة يحذف الجواب وهو مراد إما لكونه قد ظهر وعرف إما بدلاله الحال كمن قيل له كل فقال لا والله الذي لا إله إلا هو أو بدلالة السياق وأكثر ما يكون هذا إذا كان في نفس المقسم به ما يدل على المقسم عليه وهي طريقة القرآن فإن المقصود يحصل بذكر المقسم به فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز كمن أراد أن يقسم على أن الرسول حق فقال والذي أرسل محمدًا بالهدى ودين الحق وأيده بالآيات البينات وأظهر دعوته وأعلى كلمته ونحو ذلك فلا يحتاج إلى ذكر الجواب استغناء عنه بما في القسم من الدلالة عليه كمن أراد أن يقسم على التوحيد وصفات الرب ونعوت جلاله فقال والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الأول الآخر الظاهر الباطن وكمن أراد أن يقسم على علوه فوق عرشه فقال والذي استوى على عرشه فوق سمواته يصعد إليه الكلم الطيب وترفع إليه الأيدي وتعرج الملائكة والروح إليه ونحو ذلك وكذلك من حلف لشخص أنه يحبه ويعظمه فقال والذي ملأ قلبي من محبتك وإجلالك ومهابتك ونظائر ذلك لم يحتج إلى جواب القسم وكان في المقسم به ما يدل على المقسم عليه فمن هذا قوله تعالى ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذي الذكر المتضمن
1 / 10
لتذكير العباد ما يحتاجون إليه وللشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه وكونه حقًا من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون وهذا معنى قول كثير من المفسرين متقدميهم ومتأخريهم إن الجواب محذوف تقديره إن القرآن لحق وهذا مطرد في كل ما شأنه ذلك وأما قول بعضهم إن الجواب قوله تعالى ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ فاعترض بين القسم وجوابه بقوله ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ فبعيد لأن كم لا يتلقى بها القسم فلا تقول والله كم أنفقت مالًا وبالله كم أعتقت عبدًا وهؤلاء لما لم يخف عليهم ذلك احتاجوا أن يقدروا ما يتلقى بها الجواب أي لكم أهلكنا وأبعد من هذا قول من قال الجواب في قوله ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُل﴾ وأبعد منه قول من قال الجواب ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ وأبعد منه قول من قال الجواب قوله ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ وأقرب ما قيل في الجواب لفظًا وإن كان بعيدًا معنى عن قتاده وغيره إنه في قوله ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كما قال ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ وشرح صاحب النظم هذا القول فقال معنى بل توكيد الخبر الذي بعده فصار كإن الشديدة في تثبيت ما بعدها وقيل ههنا بمنزلة إن لأنه
1 / 11
يؤكد ما بعده من الخبر وإن كان له معنى سواه في نفي خبر متقدم فكأنه ﷿ قال ﴿ص والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا في عزة وشقاق﴾ كما تقول والله إن زيدًا لقائم قال واحتج صاحب هذا القول بأن هذا النظم وإن لم يكن للعربية فيه أصل ولا لها رسم فيحتمل أن يكون نظما أحدثه الله ﷿ لما بينا من احتمال أن تكون بل بمعنى أن اهـ
وقال أبو القاسم الزجاج قال النحويون إن بل تقع في جواب القسم كما تقع إن لأن المراد بها توكيد الخبر وهذا القول اختيار أبي حاتم وحكاه الأخفش عن الكوفيين وقرره بعضهم بأن قال أصل الكلام ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ فلما قدم القسم ترك على حاله قال الأخفش وهذا يقوله الكوفيون وليس يجيد في العربية لو قلت والله قام وأنت تريد قام والله لم يحسن وقال النحاس هذا خطأ على مذهب النحويين لأنه إذا ابتدأ بالقسم وكان الكلام معتمدًا عليه لم يكن بد من الجواب وأجمعوا أنه لا يجوز والله قام عمرو بمعنى قام عمرو والله لأن الكلام يعتمد على القسم وذكر الأخفش وجهًا آخر في جواب القسم فقال يجوز ن يكون لصاد معنى يقع عليه القسم لا ندري نحن ما هو كأنه يقول الحق والله
1 / 12
قال أبو الحسن الواحدي وهذا الذي قاله الأخفش صحيح المعنى على قول من يقول ص الصادق الله أو صدق محمد وذكر الفراء هذا الوجه أيضًا فقال ص جواب القسم وقال هو كقولك وجب والله وترك والله فهي جواب لقوله والقرآن وذكر النحاس وغيره وجهًا آخر في الجواب وهو أنه محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر فالأمر كما يقوله هؤلاء الكفار ودل على المحذوف قوله تعالى ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذا اختيار ابن جرير وهو مخرج من قول قتادة وشرحه الجرجاني فقال بل رافع لخبر قبله ومثبت لخبر بعده فقد ظهر ما قبله وما بعده دليل على ما قبله فالظاهر يدل على الباطن فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ مخالفًا لهذا المضمر فكأنه قيل والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا يزعمون أنهم على الحق أو كل ما في هذا المعنى فهذه ستة أوجه سوى ما بدأنا به في جواب القسم والله أعلم
ونظير هذا قوله تعالى ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا﴾ قيل جواب القسم قد علمنا وقال الفراء محذوف دل عليه قوله أإذا متنا أي لتبعثن وقيل قوله بل عجبوا كما تقدم بيانه
1 / 13
فصل
ومن ذلك قوله ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ فقد تضمن الأقسام ثبوت الجزاء ومستحق الجزاء وذلك يتضمن إثبات الرسالة والقرآن والمعاد وهو سبحانه يقسم على هذه الأمور الثلاثة ويقررها أبلغ التقرير لحاجة النفوس إلى معرفتهما والإيمان بها وأمر رسوله أن يقسم عليها كما قال تعالى ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقّ﴾ وقال تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ وقال تعالى ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فهذه ثلاثة مواضع لا رابع لها يأمر نبيه أن يقسم على ما أقسم عليه هو سبحانه من النبوة والقرآن والمعاد
فأقسم سبحانه لعباده وأمر أصدق خلقه أن يقسم لهم وأقام البراهين القطعية على ثبوت ما أقسم عليه فأبى الظالمون إلا جحودا وتكذيبا
واختلف في النفس المقسم بها ههنا هل هي خاصة أو عامة على
1 / 14
قولين بناء على الأقوال الثلاثة في اللوامة فقال ابن عباس كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة يلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانا ويلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته واختاره الفراء قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرًا قالت هلا ازددت خيرًا وإن كانت عملت سوءا قالت يا ليتني لم أفعل
والقول الثاني أنها خاصة قال الحسن هي النفس المؤمنة وأن المؤمن والله لا تراه إلا يلوم نفسه على كل حالة لأنه يستقصرها في كل ما تفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه
والقول الثالث أنها النفس الكافرة وحدها قاله قتاده ومقاتل وهي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله
قال شيخا والأظهر أن المراد نفس الإنسان مطلقًا فإن نفس كل إنسان لوامة كما أقسم بجنس النفس في قوله ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ فإنه لا بد لكل إنسان أن يلوم نفسه أو
1 / 15
غيره على أمره ثم هذا اللوم قد يكون محمودا وقد يكون مذموما كما قال تعالى ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾ وقال تعالى ﴿َ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ فهذا اللوم غير محمود وفي الصحيحين في قصة احتجاج آدم وموسى أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق فحج آدم موسى فهو سبحانه
1 / 16
يقسم على صفة النفس اللوامة كقوله ﴿إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ وعلى جزائها كقوله ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وعلى تباين عملها كقوله ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ وكل نفس لوامة فالنفس السعيدة تلوم على فعل الشر وترك الخير فتبادر إلى التوبة والنفس الشقية بالضد من ذلك وجمع سبحانه في القسم بين محل الجزاء وهو يوم القيامة ومحل الكسب وهو النفس اللوامة ونبه سبحانه بكونها لوامة على شدة حاجتها وفاقتها وضرورتها إلى من يعرفها الخير والشر ويدلها عليه ورشدها إليه ويلهمها إياه فيجعلها مريدة للخير مرشدة له كارهة للشر مجانبة له لتخلص من اللوم ومن شر ما تلوم عليه ولأنها متلومة مترددة لا تثبت على حال واحدة فهي محتاجة إلى من يعرفها ما هو أنفع لها في معاشها ومعادها فتؤثرة وتلوم نفسها عليه إذا
1 / 17
فاتها فتتوب منه إن كانت سعيدة ولتقوم عليها حجة عدله فيكون لومها في القيامة لنفسها عليه لومًا بحق قد أعذر الله خالقها وفاطرها إليها فيه ففي صفة اللوم تنبيه على ضرورتها إلى التصديق بالرسالة والقرآن وأنها لا غنى لها عن ذلك ولا صلاح ولا فلاح بدونه البتة ولما كان يوم معادها هو محل ظهور هذا اللوم وترتب أثره عليه قرن بينهما في الذكر.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ قال الزجاج وغيره جواب القسم ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ ولما طال الكلام حسن حذف اللام من الجواب
وقد تضمن هذا القسم الأقسام بالخالق والمخلوق فأقسم بالسماء وبانيها والأرض وطاحيها والنفس ومسويها
وقد قيل إن مصدرية فيكون الأقسام بنفس فعله تعالى فيكون قد أقسم بالمصنوع الدال عليه وبصنعته الدالة على كمال علمه وقدرته وحكمته وتوحيده ولما كانت حركة الشمس والقمر والليل
1 / 18
والنهار أمرًا يشهد الناس حدوثه شيئًا فشيئًا ويعلمون أن الحادث لا بد له من محدث كان العلم بذلك منزلًا منزلة ذكر المحدث له لفظًا فلم يذكر الفاعل في الأقسام الأربعة
ولهذا سلك طائفة من النظار طريق الإستدلال بالزمان على الصانع وهو استدلال صحيح قد نبه عليه القرآن في غير موضع كقوله ﴿إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولي الألباب﴾
ولما كانت السماء والأرض ثابتتين حتى ظن من ظن أنهما قديمتان ذكر مع الأقسام بهما بانيهما ومبدعهما وكذلك النفس فإن حدوثها غير مشهود حتى ظن بعضهم قدمها فذكر مع الأقسام بها مسويها وفاطرها مع ما في ذكر بناء السماء وطحو الأرض وتسوية النفس من الدلالة على الرحمة والحكمة والعناية بالخلق فإن بناء السماء يدل على أنها كالقبة العالية على الأرض وجعلها سقفًا لهذا العالم والطحو هو مد الأرض وبسطها وتوسيعها ليستقر عليها الأنام والحيوان ويمكن فيها البناء والغراس والزرع وهو متضمن لنضوب الماء عنها وهو مما حير عقول الطبائعيين حيث كان مقتضى الطبيعة أن يغمرها كثرة الماء فيروز جانب منها على الماء على خلاف مقتضى الطبيعة وكونه هذا الجانب المعين دون غيره مع استواء الجوانب في الشكل الكري يقتضي تخصيصا فلم يجدوا بدًا أن يقولوا عناية الصانع اقتضت ذلك قلنا فنعم إذا ولكن عناية من لا مشيئة له ولا إرادة ولا اختيار ولا علم بمعين أصلًا كما تقولونه فيه
1 / 19
محال فعنايته تقتضي ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله وأنه الفاعل يفعل باختياره ما يريد.
وكذلك النفس أقسم بها وبمن سواها وألهمها فجورها وتقواها فإن من الناس من يقول قديمة لا مبدع لها ومنهم من يقول بل هي التي تبدع فجورها وتقواها فذكر سبحانه أنه هو الذي سواها وأبدعها وأنه هو الذي ألهمها الفجور والتقوى فأعلمنا أنه خالق نفوسًا وأعمالها وذكر لفظ التسوية كما ذكره في قوله ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ وفي قوله ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ إيذانًا بدخول البدن في لفظ النفس كقوله ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وقوله ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم﴾ ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ ونظائره وباجتماع الروح مع البدن تصير النفس فاجرة أو تقية وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها
وقوله ﴿قد أفلح من زكاها﴾ الضمير مرفوع في زكاها عائد على من وكذلك هو في دساها المعنى قد أفلح من زكى نفسه وقد خاب من دساها هذا القول هو الصحيح وهو نظير قوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ وهو سبحانه إذا ذكر الفلاح علقه
1 / 20