الحمد لله الذي أعطى كل نفس هداها، وعلمها منافعها ومضارها، وابتلاها وعافاها، وأماتها وأحياها والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين نشراها وبشراها.
وبعد، فهذا تعليق سميته ((المنهل الروي في الطب النبوي)) وقد ألف في هذا النوع جمع من المحدثين بعضهم بأسانيد من المتقدمين كالحافظ أبي نعيم الأصباني، ومن المتأخرين كشيخنا المحدث أبي المحاسن بن عبد الهادي، وبعضهم ليس بأسانيد، من المتقدمين كالحافظ شمس الدين الذهبي، ومن المتأخرين كشيخنا المحدث الجلال السيوطي، وقد كنت سودت في المسلك الأول مؤلفا حافلا، ثم رأيت الطبع إلى المسلك الثاني مائلا فقفصت فيه هذه الأوراق وجمعت فيها ما طاب وراق من صحيح وحسن وضيف لينتفع به أولو الألباب، وتركت كثيرا مما أورده المصنفون في هذا الفن لاشتهاره بتفرد وضاع وكذاب، وضممت إليه من الآثار الموقوفة والمقاطيع ما يستجاد ويستطاب، وعقبت كل حديث بكلمة شارحه لمقصده لتتم فائدته للطلاب، ورتبته ترتيب كتابي الموجز في الطب في المقاصد والأبواب، مستعينا بالله تعالى لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه متاب.
مخ ۱۳
ذكر الحث على تعليم الطب
أخرج البخاري والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء.
وأخرج مسلم وابن السني وأبو نعيم عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى.
وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم -وصححه- والنسائي وابن ماجه وابن السني وأبو النعيم عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله! هل علينا من جناح أن لا نتداوى؟ قال: تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحدة الهرم.
وأخرج عبد بن حميد في مسنده وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له شفاء إلا السام وهو الموت.
مخ ۱۴
وأخرج الحاكم -وصححه- وابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أجيف برجل من الأنصار يوم أحد فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيبين كانا بالمدينة فقال: عالجاه؟ فقالا: يا رسول الله! إنا كنا نعالج ونجتاذه في الجاهلية فلما جاء الإسلام فما هو إلا التوكل؛ فقال: عالجاه، فإن الذي أنزل له الدواء ثم جعل فيه شفاء؛ فعالجاه فبرأ.
وأخرج أحمد والترمذي - وحسنه - والحاكم -وصححه- عن أبي خزامة قال قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله.
وأخرج الحاكم - وصححه - عن صفوان بن عسال قال قالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال تعلمن أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء غير داء واحد قالوا: وما هو؟ قال: الهرم.
وأخرج مالك في الموطأ وأبو نعيم عن زيد بن أسلم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح فحقن الدم فدعى له رجلان من بني أغار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم أطب؟ فقال أحدهما: يا رسول الله: وفي الطب خير؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء - مرسل.
وأخرج أحمد عن ذكوان عن رجل من الأنصار قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا به جرح فقال: ادعوا لي طبيب بني فلان: فدعوه فجاء فقالوا يا رسول الله: ويغني الدواء شيئا؟ فقال: سبحان الله وهل أنزل الله من داء في الأرض إلا جعل له شفاء.
مخ ۱۵
وأخرج ابن السني وأبو نعيم عن هلال بن يساف قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال: أرسلوا إلي طبيب، فقال له قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله: قال: نعم، إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء.
وأخرج ابن السني وأبو نعيم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا.
وأخرج ابن السني وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي أنزل الداء أنزل معه الدواء.
وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعت الأدواء ونعت الدواء وإن الله شفا من شاء بما شاء.
وأخرج ابن السني وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله: هل ينفع الدواء من القدر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدواء من القدر وهو تعالى ينفع من يشاء بما شاء، ولفظ أبي نعيم ((وقد ينفع بإذن الله)).
وأخرج البزار وابن السني والحاكم وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، وأعلم ذلك من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت.
وأخرج ابن ماجه والحاكم وابن السني وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه شفاء علمه من علمه وجهله من جهله.
مخ ۱۶
قال الذهبي: قلنا إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث العزائم على تعلم الطب. وهو لغة الحذق، ((وعلمه من علمه)) إشارة إلى الأطباء ((وجهله من جهله)) أي من باقي الناس.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب.
وقال الحافظ أبو طاهر السلفي: أخبرني الثقفي سمعت أبا عمر بن بالويه سمعت محمد بن يعقوب سمعت الربيع سمعت الشافعي يقول: العلم علمان: علم الأديان الفقه، وعلم الأبدان الطب.
وقال الحسن ابن سفيان حدثنا حرملة قال: كان الشافعي يتلهف على ما ضيعه المسلمون من الطب ويقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوا إلى اليهود والنصارى.
قال ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي: حدثنا أبي ثنا يونس ابن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: إن أهل الكتاب قد غلبونا على الطب، احذر أن تتناول لهؤلاء الأطباء دواء تعرفه.
وأخرج أبو نعيم في مناقب من طريق أبي حسين البصري قال: سمعت طبيبا بمصر يقول: ورد الشافعي مصر فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره فقلت له: أقرأ عليك شيئا من كتاب أبقراط فأشار إلى الجامع وقال: إن هؤلاء لا يتركوني.
وقال الذهبي: وقال هشام بن عروة، ما رأيت أحدا أعلم بالطب من عائشة، فقلت: يا خالة، ممن تعلمت الطب؟ قالت: أسمع الناس تبعث بعضهم فأحفظ، وفي لفظ عنه قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين: أعجب من بصرك بالطب، قالت: يا ابن أخي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طعن في السن سقم فوفدت الوفود فنعتت فمن ثم، وفي آخر عنها قالت: يا ابن أخي: كان يمرض الإنسان من أهلي فينعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعيه فأنعته للناس -رواه أبو نعيم- انتهى.
مخ ۱۷
ذكر ابتداء الطب
وأخرج البزار في مسنده والطبراني في الكبير، وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان بن داود عليهما السلام إذا قام يصلي رأى شجرة ثابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول لكذا، فإن كانت لدواء كتب، وإن كانت لغرس غرست.
وأخرج الحاكم في المستدرك -وصححه- وابن مردويه من طريق سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله سليمان عليه السلام كان إذا صلى الغداة طلعت بن عينيه شجرة فيقول: ما أنت؟ فتقول شجرة كذا وكذا فيقول لأي شيء طلعت؟ فتقول: طلعت لذا كذا وكذا فيأمر بها فتزرع.
مخ ۱۸
وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن بذيمة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان ينبت في مصلى سليمان كل غداة شجرة فيقول: لها سليمان عليه السلام، ما أنت؟ فتقول: أنا كذا وكذا فيقول لها: لأي شيء تصلحين فتقول لكذا، فيعطيها طباخه.
وأخرج أبو نعيم في الطب من طريق قتادة عن الحسن قال: إن سليمان بن داود عليهما السلام لما فرغ من بيت المقدس وأراد الله قبضه دخل المسجد فإذا أمامه في القبلة شجرة خضراء بين عينيه، فلما فرغ من صلاته تكلمت الشجرة فقال: ألا تسألني ما أنا؟ فقال سليمان: ما أنت؟ فقالت: أنا شجرة كذا وكذا، دواء كذا وكذا من داء كذا وكذا فأمر سليمان بقطعها، فلما كان من الغد فإذا مثلها قد نبتت فسألها سليمان: ما أنت؟ فقالت: أنا شجرة كذا وكذا دواء من كذا وكذا، فأمر بقطعها، وكان كل يوم إذا دخل المسجد يرى شجرة قد نبتت فتخبره فوضع عند ذلك كتاب الطب الفيلسوفيون حتى وضعوا الطب ووضعوا الأدوية وأسماء الشجر الذي نبت في المسجد.
وقال الذهبي: قال أبقراط وغيره: الطب إلهام من الله تعالى، وأبقراط رئيس هذه الصناعة، ومذهبه فيها هو المذهب الصحيح، وتبعه عليه جالينوس إمام هذه الصناعة، وهما معظمان عند الأطباء تعظيما كثيرا ويقال إن قبر أبقراط إلى الآن يزار ويعظم عند اليونان.
مخ ۱۹
ويقال: إن شيث أظهر الطب وأنه ورثه من أبيه آدم عليهما السلام، وقيل: استخرجه قوم بمصر، وقيل: إن الهند استخرجوه، وقيل: السحرة، وقيل: إدريس وهو هرمس استخرجه كما استخرج الصنائع، وقيل: إنه حصل بالتجارب، وقيل: بالقياس، والأغلب أنه من تعليم الله تعالى وإلهامه وهو الحق، ثم أضيف إليه التجارب والقياس، وقد رأينا الناس وبعض الحيوان يستعملون الطب طبعا وإلهاما فإن كل من أحس بالجوع طلب الغذاء، وكذا إذا عطش طلب الماء، وإذا كرب تبرد وبالضد وإذا تخم أعرض عن الأكل، وهذا من الطب، والحية إذا خرجت بعد الشتاء وقد كل بصرها تأتي إلى الرازيانج وهو الشونيز فتأكل منه وتقلب عينها عليه فتبصر، وقد نبه الأطباء على استعماله عند ظلمة البصر، وكذا الطائر الغواص على السمك إذا احبس طبعه حقن نفسه بماء البحر، وفرخ الخطاف إذا عمى حلمت إليه أمه الماميران من الصين فيبصر، والنسر إذا عسر عن الأنثى بيضها أتى الذكر إلى الهند وأخذ الحجر المسمى باكتمكت وهو كالبندقة -إذا حركته سمعت من جوفه حركة فيضعه تحتها فيسهل بيضها، والثعلب إذا مرض في الربيع يأكل حشيشا يسهله فيصح وكذلك الهر تأكله فيعينها على القي، ومعلوم أن الحشيش ليس من أغذيتها فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدي.
قال الخطابي: اعلم أن الطب على نوعين: الطب القياسي وهو طب يونان الذي يستعملونه في أكثر البلاد وطب العرب والهند وهو طب التجارب وأكثر ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على ما وضعه العرب إلا ما خص به من العلم النبوي من طريق الوحي فإن ذلك يخرق كل ما تدركه الأطباء وتعرفه الحكماء، وكل ما فعله أو قاله في أعلى درجات الصواب، عصمه الله تعالى أن يقول إلا صدقا وأن يفعل إلا حقا.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في مختصر المستدرك: تشريع النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يدخل فيه كل الأمة إلا أن يخصه دليل وتطبيبه لأصحابه وأهل أرضه خاص بطباعهم وأرضهم إلا أن يدل دليل على التعميم.
وقال ابن القيم: كان علاجه صلى الله عليه وسلم للمريض ثلاثة أنواع أحدها بالأدوية الطبيعية والثاني بالأدوية الإلهية، والثالث بالمركب من الأمرين.
مخ ۲۰
ذكر الأركان الأربعة والأخلاط الأربعة والمزاج
قال الدينوري في المجالسة: حدثنا عبد الله بن قتيبة الدينوري ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب بن أخي الأصمعي عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبه قال: وجدت في النورية قال: حين خلقت آدم ركبت جسده من أربعة أشياء، ثم جعلتها وارثه في ولده تنمى في أجسادهم إلى يوم القيامة: رطب ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من تراب وماء: ثم جعلت فيه نفسا وروحا: فيبوسة كل جسد من قبل التراب ورطوبته من قبل النفس وبرودته من قبل الماء وسخونته من الروح، ثم خلقت للجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق أخرى، وعن ملاك الجسد، لا يقوم الجسد إلا بها، ولا يقوم واحد إلا بالأخرى: المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم: ثم أسكنت هذا الخلق في بعض، فجعلت سكن اليبوسة في المرة السوداء وسكن الحرارة في المرة الصفراء وسكن الرطوبة الدم وسكن البرودة في البلغم فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الفطر الأربع وكانت كل واحدة منهن فيه ربعا لا يزيد ولا ينقص كميات بهجته واعتدلت بنيانه فإن زادت واحدة منهن عليهم وقهرتهن ومالت بهن دخل على أخواتها السقم من نواحيهن لقلتها منهن حتى تضعف عن طاقتهن وتعجز.
قال: ومن قدرته عز وجل ولطفه جعل عقله في دماغه وسره في كليتيه وغضبه في كبده، وصرامته في قلبه، ورغبته في ريته، وضحكه في طحاله، حزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا.
مخ ۲۱
وقال ابن سينا في القانون: الأركان أجسام بسيطة من أجزاء أولية لبدن الإنسان وغيره لا يمكن أن تنقسم إلى أجسام مختلفة الصور وتحدث بامتزاجها واختلاط الأنواع المختلفة من الكائنات، وهي أربعة اثنان خفيفان وهما النار والهواء، واثنان ثقيلان وهما الأرض والماء, فالنار حارة يابسة والهواء حار رطب والأرض باردة يابسة والماء بارد رطب, أي طبع كل طبع إذا خلى وما يوجبه وما يعارضه سبب من خارج ظهر عن الأول حر محسوس وحالة هي يبس, وعن الثاني حر محسوس وحالة هي رطوبة وعن الثالث والرابع برد محسوس ويبس أو رطوبة والرطب سهل القبول للهيئة التشكلية سهل الترك لها, واليابس عسر القبول عسر الترك, ومهما تخمر اليابس بالرطب استفاد اليابس من الرطب قبولا لتشكيل والتمديد سهلا واستفاد الرطب من اليابس حفظا لما حلت فيه من التقويم والتعديل قويا واجتمع اليابس بالرطب عن يبسه واستمسك الرطب باليابس عن سيلانه والثقيلان أعون في كون الأعضاء وفي سكونها, والخفيفان أعون في كون الأرواح وفي تحريكها وتحريك الأعضاء, وإذا تصغرت أجزاء هذه الأركان الأربعة وتماست فعل بعضها في بعض بقواها المتضادة وكسر كل واحد سورة كيفية الآخر, فإذا انتهى الفعل فيها إلى حد مما حدث لذلك المركب كيفية متشابهة في أجزائه هي المزاج فتارة يغلب عليه الحر واليبس وتارة الحر والرطوبة, وتارة البرد واليبس وتارة البرد والرطوبة وتارة أحد الوصفين وتارة يكون وسطا مطلقا, وتحت ذلك أقسام بحسب العقل والواقع.
وأما الأخلاط فالخلط جسم رطب سيال ليتحيل إليه الغذاء أولا وأنواعه أربعة: الدم وهو حار رطب, والصفراء وهي حارة يابسة. والبلغم وهو بارد رطب.
مخ ۲۲
والسوداء, هي باردة يابسة, وأفضل هذه الأنواع الدم الطبيعي وهو غذاء الأعضاء والبلغم الطبيعي قريب الشبه منه وتحتاج إليه الأعضاء كلها لأنها إذا عقدت الغذاء الوارد المهيا دما صالحا تحليه القوة دما وتغتذى وفائدته أيضا تنديه المفاصل والأعضاء الكثيرة الحركة فلا يعرض لها جفاف بسبب حرارة الحركة وحاصل الأمر أن البغلم الطبيعي دم غير تام النضج والصفراء الطبيعية وهي رغوة الدم وإذا تولدت في البدن انقسمت قسمين فيذهب قسم منها مع الدم وذلك لنخالطه في تغذية الأعضاء التي تستحق أن يكون في غذائها جزء صالح من الصفراء بحسب ما يستحقه من القسمة مثل الرية ويلطف الدم وينفذه في المسالك الضيقة وقسم يصفو إلى المرارة وله فوائد تخليص البدن من الفضل وتغذية المرارة وغسل المغافر من الثفل والبلغم واللزج ولذع المعا, ولذع العضل القعدة لتحس بالحاجة ويحوج إلى النهوض للتبرز والسوداء الطبيعة هي دردى كثيف الدم المجمودة وثقله وعكره وإذا تولد في البدن تغذ قسم منها مع الدم ليخالطه في تغيذة الأعضاء التي يجب أن يقع في غذائها جزء صالح من السوداء مثل العظام وليشتد الدم ويقويه ويكثفه, وقسم يتوجه نحو الطحال فائدته تنقية البدن عن الفضل تغذية الطحال وتقوية فم المعدة ولدغة بالحموضة ليلينه على الجوع وتحريك الشهوة. وغير الطبيعي من أنواع الأربعة دم المزاج وما حصل فيه خلط ردي فاسد وبلغم خالط غيره فأفسده وصفراء خالطها غيرها وسوداء احترقت عن أي خلط كان. قال جالينوس: ولم يصب من زعم أن الخلط الطبيعي هو الدم لا غير وسائر الأخلاط فضول لا يحتاج إليها لأن الدم لو كان وحده هو الخلط الذي يغذوا الأعضاء لتشابهت في الأمزجة والقوام وما كان العظم أصلب من اللحم إلا ودمه دم مازجه جزء هو صلب سوداوي ولا كان الدماغ ألين منه إلا ودمه دم مازجه جزء هو لين بلغمي، ثم قال ابن سينا: ومن الناس من يظن أن قوة البدن منه، ومن الناس من يظن أن الأخلاط إذا زادت أو نقصت بعد أن تكون على النسبة التي يقتضيها بدن الإنسان في مقادير بعضها عضد بعض فإن الصحة محفوظة وليس كذلك بل يجب أن يكون لكل واحد من الأخلاط مع ذلك تقدير من الكم محفوظ ليس بالقياس إلى خلط آخر بل في نفسه مع حفظ التقدير الذي بالقياس إلى غيره. وأما كيفية تولد الأخلاط فالغذاء إذا ورد على المعدة استحال فيها إلى جوهر شبه بمر الكشك الثخين ويسمى كيموسا وينحدر الصافي منه إلى الكبد فيندفه من طريق العروق المسماة مارساريقا وينطبخ في الكبد فيحصل منه شيء كالرغوة وهي الصفراء الطبيعية والرسوب وهي السوداء الطبيعية والمحترق أن يكون معهما شيء منه إن إفراط الطبخ وشيء فج أن تضر الطبخ وهذا المحترق لطيفة صفراء غير طبيعية وكثيفة سوداء غير طبيعية والفج هو البلغم والمتصفى من هذه الجملة نضجا هو الدم فإذا انفصل هذا الدم عن الكبد تصفى أيضا عن مائية فضيلة فينجذب إلى عروق نازل إلى الكليتين ومعهما جزء من الدم يقدر غذاء الكليتين فيغذوهما ويندفع باقيهما إلى المثانة والاحليل وأما الدم الحسن القوام فيندفع في عرق الأعظم الطالع من حدبة الكبد فيسلك في الأوردة المتشعبة منها في جداول الأوردة ثم في سواقي الجداول ثم في رواضع السواقي ثم في العروق اللينة الشعرية ثم يرشح فوهاتها في الأعضاء بتقدير العزيز العليم الحكيم -انتهى.
وقال الذهبي: الأخلاط أربعة: الدم -وهو أفضلها وهو رطب حار, وفائدته تغذية البدن والطبيعي منه حلو لا نتن له ثم البلغم وهو رطب بارد وفائدته أن يستحيل دما إذا فقد البدن الغذاء وأن يرطب الأعضاء فلا يجففها الحركة والطبيعي منه ما قارب الاستحالة إلى الدموية وغير الطبيعي منه المالح, يميل إلى الحرارة والحامض ويميل إلى البرد والمخ وهو خالص البرد ثم الصفراء وهي حارة يابسة وعلوها المرارة وهي تلطف الدم وتنفذه في المجاري الضيقة وينصب جزء منها إلى الأمعاء فينبه على خروج النجو وللطبيعي منها أحمر خفيف وغير الطبيعي فالمخي والكراثي والزنجاري والاحتراقي وهو في الزنجاري أقوى من الكراثي فلذلك ينحدر بالموت ثم السوداء وهي يابسة باردة وهي تغلظ الدم وهي تغذي الطحال والعظام وينصب جزء منها إلى فم المعدة فينبه على الجوع بحموضتها والطبيعي منها ردي الدم وغير الطبيعي يحدث عن احتراق أي خلط كان وهي المرة السوداء.
مخ ۲۴
وقال: المزاج أقسامه تسعة واحد معتدل وغير معتدل, أما مفرد وهو أربعة: حار وبارد ورطب ويابس, وأما المركب وهو أربعة حار يابس, وحار رطب, وبارد يابس, وبارد رطب, وأعدل أمزجة الحيوان مزاجا مزاج الإنسان وأعدل مزاج الإنسان مزاج المؤمنين وأعدل لمزاج المؤمنين مزاجا مزاج الأنبياء, وأعدل مزاج الأنبياء مزاج الرسل وأعدل الرسل مزاجا مزاج أولوا العزم وأعدل أولي العزم مزاجا مزاج محمد صلى الله عليه وسلم فهو النبي الطيب الطاهر, أحسن الناس خلقا وخلقا صلى الله عليه وعلى آله صلاة لا منتهى لها ولا آخر, فله مقام لم ينله مرسل: وله عليهم رتبة علياء, وقال الآخر:
لا يخلق الرحمن مثل محمد ... أبدا وعلمي أنه لم يخلق
قلت: والسبب الذي صار به رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل الناس مزاجا أن من قواعد الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن أعدل كانت أخلاق النفيس أحسن, إذا علم ذلك فالحق سبحانه وتعالى قد شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعلى خلق عظيم, قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فلزم من ذلك أن مزاجه صلى الله عليه وسلم أعدل الأمزجة وإذا كان مزاجه أعدل الأمزجة كانت أخلاقه أحسن الأخلاق، روى البخاري في صحيحه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا وقال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ولا لشيء صنعته، لم صنعت هذا، ولا لشيء تركته لم تركت هذا، ورواه الترمذي وقال: صحيح، وقال ابن عمر: لم يكن رسوله الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقا، ورواه أحمد في مسنده، وروى البخاري ومسلم أن أعرابيا جبذ برداء عن عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم جبذة شديدة حتى أثر ذلك في عاتقه، ثم قال: يا محمد: مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ثم أمر له بعطاء - انتهي.
مخ ۲۵
قال شيخنا أبو الفضل ابن الأمام في شرح الموجز قلت: لكن قوله: ((إن أعدل مزاج الإنسان مزاج المؤمنين، ليت شعري من بات كافرا، وأصبح مؤمنا، أو من أصبح كافرا ثم أضحى مؤمنا هل يقال: انتقل مزاجه في هذه الساعة من عدم الاعتدال إلى الاعتدال؟ وكذلك من حكم عليه في حال كفره بأن مزاجه غير معتدل)) هل إذا تلفظ عقب ذلك بكلمة الإسلام انتقل مزاجه في هذه اللحظة إلى الاعتدال؟ ويمكن أن يقال هذا كما في الأمثال السائرة نظرة من نظرات الغني تغني ونظرة من نظرات الولي ترقي إلى أعلى مقام فكذلك هذا الكافر لما نظر الله إليه بعين الهداية ونقله إلى نور الإسلام من ظلمات الغواية، كذلك نقله من عدم الاعتدل إلى الاعتدال ومن النقص إلى الكمال -فليتأمل- انتهي، ثم قال الذهبي: والشباب أعدل والصبيان أرطب والكهل والشيخ أبرد - انتهي.
ذكر الأعضاء
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به.
مخ ۲۶
قال في القانون: الأعضاء أجسام متولدة من أول مزاج الأخلاط كما أن الأخلاط متولدة من مزاج الأركان والأعضاء قسمان مفردة ومركبة، فالمفردة هي التي يستوي فيها اسم الكل والجزء كاللحم والعظم والعصب، تسمى متشابهة الأجزاء والمركبة بخلافها كالوجه واليد. فإن جزء الوجه ليس بوجه وجزء اليد ليس بيد، وتسمى أعضاء آلية لأنها آلات النفس في تمام الحركات والأفعال وأول الأعضاء المتشابهة الأجزاء العظم وقد خلق صلبا لأنه أساس البدن ودعامة الحركات، ثم الغضروف وهو ألين من العظم وينعطف وأصلب من سائر الأعضاء والمنفعة فيه أن يحسن به اتصال الأعظام الأعضاء اللينة فلا يكون الصلب واللين قد تركبا بلا متواسط فيتأدى للين بالصلب، وخصوصا عند الضربة والضغطة بل يكون التركيب مدرجا في مثل ما في عظم الكتف والشراسيف في أضلاع الخلف ومثل الغضروف الحجري تحت القس وأيضا ليحسن تجاوز المفاصل المتحاكة فلا ترتض لصلابتها.
ثم العصب وهي أجسام دماغية المنبت أو نخاعية المنبت بيض لزجة لينة في الانعطاف صلبة في الانفصال خلقت ليتم بها للأعضاء الإحساس والحركة ثم الأوتار وهي أجسام تنبت من أطراف العضل شبيهة بالعصب فتلاقي الأعضاء المتحركة فتارة تجذبها بانجذابتها لتشنج العضلة وباجتماعها ورجوعها إلى ورائها وتارة ترخيها باسترخائها لانبساط العضلة عائدة إلى وضعها وزائدة على مقدارها في طولها.
ثم الرباطات وهي أجسام شبيهة بالعصب فما امتد منها إلى العضلة سمي رباطا مطلقا وما لم يمتد إليها ولكن وصل بين طرفي المفصل أو بين أعضاء أخرى وأحكم سد شيء إلى شيء خص باسم العصب مع تسميته رباطا وليس لشيء من الروابط حس لئلا يتأتى لكثرة ما يلزمه من الحركة والحك.
ثم الشريانات وهي أجسام نابتة من القلب ممتدة مجوفة طولا عصبانية رباطية الجواهر لها حركات منقبضة تنفصل بسكونات خلقت لترويج القلب وينفش البخار الدخاني عنه ولتوزيع الروح على أعضاء البدن ثم الأوردة وشبيهة ولكنها نابتة من الكبد وساكنة لتوزع الدم على أعضاء البدن.
ثم الأغشية وهي أجسام منتسجة من ليف عصباني غير محسوس رقيقة مستعرضة تغشى سطوح أجسام أخرى وتجرى لتحفظ جملتها على شكلها وهيئتها ولتعلقها بأعضاء أخرى وتربطها بها بواسطة العصب والرباط الذي يسطى إلى لبنها فانتسجت منه بالكلية من الصلب ولتكون الأعضاء القديمة الحس في جواهرها سطح حساس بالذات لما تلاقيه وحساس لما يحدث في الجسم الملفوف فيه بالمعرض ولهذه الأعضاء مثل الرية والكبد والطحال والكليتين فإنها لا تحسن بجواهرها البتة إنما تحسن بالأمور الصادمة لها ما عليها من الأغشية.
مخ ۲۷
ثم اللحم وهو حسو جلد وعليه وضع هذه الأعضاء في الطب وقوتها التي تندعم به وكل عضو فله في نفسه قوة غريزية بها يتم له أمر التغذي وذلك هو جذب الغذاء وإمساكه وتشبيهه والصاقة ودفع العضل ثم بعد ذلك تختلف الأعضاء فبعضها له مضافا إلى هذه القوة قوة تصير منه إلى غيره وبعضها له ذلك فإذا تركبت حدث عضو قابل معط وعضو قابل غير معط وعضو معط غير قابل وعضو لا قابل ولا معط, فالأول الدماغ والكبد بالإجماع يقبلان قوة الحياة والحرارة الغريزية والروح من القلب وكل واحد منها مبدأ قوة يعطيها غيره, فالدماغ مبدأ الحس والكبد مبدأ التغذية, والثاني اللحم قابل قوة الحس والحياة وليس هو مبدأ القوة يعطيها غيره بوجه, والثالث القلب عند كثير من الفلاسفة يعطي سائر الأعضاء القوى التي تغذو والتي تحسن والتي تحرك وتدرك.
وقالت الأطباء لا وجود لهذا القسم, قال ابن سينا: والقول الأول عند التحقيق والتدقيق أصح, والثاني في بادي الرأي أظهر, والرابع اختلف فيه الأطباء فقال قوم: لا وجود له أيضا, وقال قوم وهو العظام واللحم غير الحاس تقي قوة فيها غريزية تحضها لم يأبها من بناء آخر لكنها تدري لقوى إذا وصل إليها غذاؤها كتفت أنفسها فلا هي تفيد شيئا آخر قوة فيها ولا يفيدها عضو قوة أخرى, ثم من الأعضاء ما هو قريب المزاج من الدم فلا يحتاج الدم في تغذيته إلى أن ينصرف في استحلالات كثيرة مثل فلذلك لم يجعل فيه تجاويف وبطون يقيم فيها الغذاء الواصل مدة ثم يتغذى عنه اللحم ولكن الغذاء كما يلاقيه يستحيل إليه ومنها ما هو بعيد المزاج عنه فيحتاج الدم في أن يستحيل إليه إلى أن يستحيل أولا استحالات مندرجة إلى مشاكلة جوهرة كالعظم فلذلك جعل له تجويف يهوي غذاء مدة يستحيل في مثلها إلى مجانسته وبهذا عرفت النكتة في الاقتصاد في الحديث إلى ذكر اللحم لكونه أقرب إلى الاستحالة.
مخ ۲۸
ذكر تكوين الأعضاء من المني
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثني الصادق المصدوق:إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح.
قال أبو الحسن علي بن عبد الكريم بن طرخان الحموي: اتفق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين وفيها يتميز الأعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه واعتدال قوام المنى الذي تتكون أعضاءه منه ونضجه فكون أقبل للتشكيل والتصوير ثم علقة مثل ذلك والعلقة قطعة دم جامد، قالوا: ويكون حركة جنين في ضعف المدة التي يخلق فيها ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي لأربعون الثلثة فيتحرك كما قال عليه السلام فينفخ فيه الروح فإن تتفق على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وأخرج الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الطب عن مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد الله أن يخلق نسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عضو وعرق منها وإذا كان اليوم السابع جمعه الله أحضر كل عرق له دون آدم، ثم قرأ: { في أي صورة ما شاء ركبك }.
مخ ۲۹
وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن أم سليم حدثت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأت المرأة فلتغتسل، فقالت أم سليم -واستحيت من ذلك- وهل يكون هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فمن أين يكون الشبه، إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه.
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تغتسل مرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: نعم فقالت لها عائشة: تربت يداك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك، إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه.
وأخرج مسلم عن ثوبان أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أسألك عن الولد قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله تعالى، قال اليهودي: صدقت.
وأخرج أحمد عن أم سليم رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: أرأيت إذا رأت المرأة أن زوجها جامعها أتغتسل؟ فقال: عليها الغسل إذا وجدت الماء، فقالت أم سليم: يا رسول الله: للمرأة ماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنها يشبهها ولدها، هن شقائق الرجال.
مخ ۳۰
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: للمائين أربعة أحوال: الأول أن يخرج ماء الرجل أولا، والثاني أن يخرج ماء المرأة ثانيا أو لا، الثالث أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر، الرابع أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر، ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده فيكون أكثر أو بالعكس فإذا خرج ماء الرجل أولا، وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أعمامه بحكم الغلبة، وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الكثرة. وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلا من ماء المرأة كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ما الرجل، قال: وبانتظام هذه الأقسام ينتسب الكلام ويرتفع التعارض بين الأحاديث.
وقال القرطبي: لا بد من تأويل حديث ثوبان لأن العلو فيه يقتضي الذكورة والأنوثة وفي حديث عائشة يقتضي شبه الولد أخواله أو أعمامه فعلى مقتضى الحديثين يلتزم اقتران الشبه للأخوال للأنوثة لأنهما يعلوان عليه واحدة وليس الأمر كذلك بل الوجود بخلافه لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة والشبه للأعمام والأنوثة فتعين تأويل أحد الحديثين والذي يتعين تأويله العلو الذي في حديث ثوبان فيقال: إن حديث ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم. وقال: وهذه الأحاديث تدل على أن الولد يكون من مجموع ماء الرجل والمرأة معا خلافا لمن ذهب إلى أن الولد إنما هو من ماء المرأة وإن ماء الرجل عاقد له كالأنفحة للبن.
وأخرج البخاري عن أنس أن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه وإذا سبق ماء المرأة نزعت، أخبرني بذلك جبريل آنفا.
مخ ۳۱
وأخرج أحمد في مسنده والطبراني في الكبير والبيهقي وأبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس أن عصابة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون منه الذكر وكيف يكون منه الأنثى فقال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر. فأيهما علا كان الولد، والشبه بإذن الله؟ قالوا: نعم.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي ظبيان قال: حدثنا أصحابنا أنهم بينما هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فاعترضهم يهودي فقال: يا أبا القاسم إني أسالك عن مسألة لا يعلمها إلا نبي من أي المائين يكون الولد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وددنا أنه لم نسأله ثم عرفنا أنه تبين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما نطفة الرجل فبيضاء غليظة فمنها العظام والعصب، وأما نطفة المرأة فحمراء رقيقة فمنها الدم واللحم، فقال: أشهد أنك رسول الله.
وأخرج أحمد والبزار في مسنديهما والطبراني في الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه يهوديا قال: يا محمد: مم يخلق الإنسان؟ قال: يا يهودي: من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم، فقال اليهودي: هكذا كان يقول من قبلك.
مخ ۳۲
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق ابن جريج عن الزهري والطبراني في الأوسط من طريق ابن جريج عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن خزيمة. ابن حكيم السلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرار ماء الرجل وماء المرأة للرجل وعن ماء للرجل من الولد وماء للمرأة وعن موضع النفس من الولد المجسد- وفي رواية من الجسد وعن شراب الولد في بطن أمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ماء للرجل من الولد فإن للرجل العظام والعروق والعصب وللمرأة للحم والدم والشعر: وأما قرار ماء الرجل فإنه يخرج ماؤه من الاحليل وهو عرق يجري من ظهره حتى يستقر قراره في البيضة اليسري، وأما ماء المرأة فإن ماؤها في التربية يتغلغل حتى تذوق عسيلتها، وأما موضع النفس ففي القلب والقلب معلق بالنياط والنياط يسقي العروق فإذا هلك القلب انقطع العرق، وأما شراب المولود في بطن أمه فإنه يكون نطفة أربعين ليلة [ثم علقة أربعين ليلة ومشيجا أربعين ليلة وعميسا أربعين ليلة] ثم مضغة أربعين ليلة ثم العظم حنيكا أربعين ليلة ثم جنينا، فعند ذلك يستحل وينفخ فيه الروح، تحتلب عليه عروق الرحم. قال في القانون في الأعضاء: ما يتكون عن المني وهي المتشابهة الأجزاء سوى اللحم والشحم فإنهما يتكونان عن الدم وما عداهما يتكون من المنيين مني الذكر ومني الأنثى إلا أنها على قول من تحقق من الحكماء يتكون عن مني الذكر كما يتكون الجبن عن الأنفخة ويتكون عن مني الأنثى كما يتكون الجبن عن اللبن، وكما أن مبدأ العقد في الأنفخة كذلك مبدأ عقد الصورة في مني الذكر وكما أن مبدأ الانعقاد في اللبن كذلك مبدأ الانعقاد في الصورة أعني القوة المنفعلة هو في مني المرأة وكما أن كل واحد من الأنفخة واللبن جزء من جوهر الجنين الحادث عنها.
مخ ۳۳