ثانيا: نرى أن هذه عملية ديناميكية تتطلب فيها المواقف الجديدة وأطراف الحوار الجدد والوظائف اللغوية الجديدة احتياجات لغوية جديدة (تذكر مبدأ التكامل). فالاحتياجات الجديدة ستغير التكوين اللغوي للشخص الثنائي اللغة. عادة توجد فترات من الاستقرار، تتفاوت مدتها، ثم تأتي فترات من إعادة الترتيب اللغوي قد تقوى خلالها إحدى اللغات الموجودة، وربما تفقد لغة أخرى أهميتها، بينما قد تكتسب لغة جديدة، وهكذا. ويجب أن ينتبه المرء إلى عدم الحكم على الثنائية اللغوية للفرد في أثناء هذه الفترات الانتقالية؛ إذ قد لا تكون المهارات اللازمة للبيئة الجديدة قد تطورت بعد بالكامل. وفي خلال هذه الفترات أيضا يحتاج الأشخاص الثنائيو اللغة إلى التأكد مما يحدث لهم؛ فحتى إن تأثر مستوى التواصل العام لديهم لبعض الوقت، فإنه سيتعافى بمجرد إعادة ترتيب لغاتهم.
ثالثا: تظهر الشبكات الموجودة في الشكل بوضوح كيف يمكن أن تتغير السيادة العامة لإحدى اللغات، وأن اللغة الأولى للأشخاص الثنائيي اللغة لا تكون تلقائيا اللغة الأقوى في نقطة زمنية معينة. في حالتي تغيرت اللغة السائدة أربع مرات وكانت توجد فترتان، تبلغ كل منهما نحو عشر سنوات، أصبحت فيهما لغتي الثانية هي اللغة السائدة. وأنا أعرف كثيرا من الأشخاص الثنائيي اللغة الذين بدءوا حياتهم بلغة واحدة هي اللغة السائدة لديهم، ثم في نقطة معينة، بعد إحدى المراحل الانتقالية، وجدوا أن لغتهم الثانية قد حلت محلها. ومن ثم، يجب أن ينتبه المرء إلى عدم اعتبار اللغة الأولى للأشخاص الثنائيي اللغة، أو لغتهم الأم، هي اللغة الأقوى والأساسية؛ فالأمر يعتمد في الحقيقة على التاريخ اللغوي للفرد، وعلى مبدأ التكامل، كما رأينا. وأخيرا، تساعد دراسة التاريخ اللغوي للأشخاص الثنائيي اللغة على التصدي لفكرة خاطئة أخرى، وهي:
خرافة: يكتسب الأشخاص الثنائيو اللغة الحقيقيون ما لديهم من لغتين أو أكثر في مرحلة الطفولة
يمكن أن يصبح المرء ثنائي اللغة في مرحلة الطفولة، لكن يمكنه أيضا أن يصبح كذلك في مرحلة المراهقة وعندما يصير بالغا. في الواقع يصبح كثير من الناس ثنائيي اللغة عندما يصبحون بالغين، بعد هجرتهم إلى منطقة أخرى أو دولة أخرى، أو بسبب زواجهم من شخص يتحدث لغة أخرى تصبح هي المستخدمة في المنزل . بمرور الوقت، يمكن أن يصبح البالغون ثنائيي اللغة تماما مثل الذين يكتسبون لغاتهم في سنوات عمرهم الأولى، على الرغم من أن بعضهم قد يفتقر إلى لكنة المتحدثين الأصليين لهذه اللغات. (2) نسيان اللغة
قد تمثل التغيرات التي تحدث في حياة ثنائيي اللغة، مثل الهجرة أو فقدان أحد أفراد الأسرة، بداية لما يشار إليه أحيانا باسم «فقدان اللغة» أو «تآكل اللغة». سأستخدم التعبير الأكثر شهرة «نسيان اللغة»، حتى إذا كان من غير الواضح معرفة ما إذا كانت اللغة تنسى بالفعل أم أنها ببساطة تعطل بحيث لا يستطيع المرء استخدامها على نحو صحيح. قدمت الباحثة اللغوية ليندا جالوواي في إحدى دراساتها مثالا جيدا للغاية عن شخص يتحدث سبع لغات؛ خمسا منها كانت في طريقها إلى أن تنسى في وقت إجراء الدارسة. تعلم هذا الشخص أولا اللغة المجرية، ثم البولندية في سن الرابعة عندما انتقل إلى بولندا؛ ويبدو أنه «فقد» لغته المجرية في هذا الوقت، حتى عاد إلى المجر مرة أخرى في سن السادسة. انتقل في سن العاشرة إلى رومانيا حيث تعلم اللغة الرومانية، في المدرسة ومع أصدقائه، واللغة اليديشية، التي كانت تستخدم في المجتمع. عاد إلى المجر مرة أخرى في سن الثانية عشرة، حيث تعلم في المدرسة الألمانية والإنجليزية والعبرية. قضى بعد ذلك ست سنوات في ألمانيا، حيث التحق بالجامعة وأصبحت الألمانية هي لغته الأساسية. وفي سن الخامسة والعشرين تركها وذهب إلى الولايات المتحدة، حيث أصبحت الإنجليزية هي لغته الأساسية. تزوج هذا الشخص من سيدة مجرية لكنهما يستخدمان الإنجليزية على نحو أساسي في المنزل. عندما التقت جالوواي بهذا الشخص، كان يستخدم فعليا لغتين فقط، هما الإنجليزية والمجرية، وكانت لديه ثلاث لغات خاملة، كانت في سبيلها للنسيان، وهي الألمانية والعبرية واليديشية، ولغتان نسيهما بالفعل، وهما الرومانية والبولندية.
1
إن نسيان اللغة ظاهرة شائعة للغاية مثل تعلم اللغة، ومع ذلك لم تحظ في الماضي إلا باهتمام قليل. إلا أن هذا الوضع يتغير حاليا بفضل أبحاث باحثين مثل مونيكا شميد وباربرا كوبكه وكيس دي بوت، وغيرهم. فعندما تقل مجالات استخدام إحدى اللغات على نحو كبير، إن لم تختف ببساطة، فإن عملية نسيان اللغة ستبدأ، وستستمر على مدى عدة سنوات. يمكن ملاحظة هذه العملية بطرق شتى؛ في الاستخدام المتردد للغة عندما يبحث ثنائي اللغة عن الكلمات أو التعبيرات المناسبة، وفي تكرار حالات التبديل اللغوي والاقتباس والتداخل واستدعائه للغة السائدة لمساعدته، وفي النطق (الأصوات والنبر) الذي يميز بشدة اللغة أو اللغات الأخرى، وفي التعبيرات والتراكيب النحوية «الغريبة» المقتبسة من اللغة الأقوى، بالإضافة إلى كثير من الصعوبات في الكتابة، ليس فقط في التهجئة، ولكن أيضا على المستويات اللغوية الأخرى. لا يتأثر فهم اللغة كثيرا، على الرغم من أن الفرد قد لا يكون على دراية بالكلمات الجديدة والتعبيرات الدارجة في اللغة المنسية. يطلق على الأشخاص الذين يخوضون عملية نسيان اللغة الممتدة هذه، والذين يستخدمون لغة واحدة فقط؛ اسم «الثنائيي اللغة الخاملين». فهم عادة ما يتجنبون استخدام اللغة التي هي في طريقها للنسيان؛ لأنهم لم يعودوا يثقون في معرفتهم بها، ولا يريدون ارتكاب الكثير من الأخطاء. وإذا تحتم عليهم استخدامها، فإنهم قد يختصرون الحوار حتى لا يضطروا إلى إظهار مقدار التآكل الذي وصلت إليه تلك اللغة لديهم صراحة. أنا شخصيا أحاول ألا أستخدم اللغة الإيطالية أو لغة الإشارة الأمريكية، وإذا وجدت نفسي في موقف لا يوجد فيه أي خيار آخر أمامي، فإني أجد نفسي أعاني من أجل التعبير حتى عن أبسط الأشياء؛ فأعتذر طوال الوقت، وأعلق على مدى سوء معرفتي بإحدى اللغات، وأرتكز متى استطعت على لغتي الأخرى، أو أطلب من الناس مساعدتي.
على الرغم من أن الناس تشغلهم أمورهم الحياتية، ولا يسعهم التوقف والقلق بشأن اللغة التي ينسونها؛ فإنهم في سياقات معينة، مثلا عند التحدث مع أناس يتكلمون هذه اللغة، يدركون هذه اللغة «المفقودة»، ويشعر البعض بالذنب تجاه نسيانها؛ ومن ثم نجد تعليقات مثل: «كان يجب علي بالفعل الحفاظ على هذه اللغة»، أو «أتمنى لو كنت أتحدث هذه اللغة كما كنت من قبل.» مع هذا، يجب أن نضع في أذهاننا أن نسيان اللغة هو ببساطة الوجه الآخر لاكتسابها (فكلاهما تحكمه شدة الحاجة إلى إحدى اللغات)، وهما من الأمور اللغوية المثيرة للاهتمام. إلا أن المواقف من كل منهما مختلفة للغاية؛ فبينما ينظر الناس إلى اكتساب اللغة نظرة إيجابية («أوه، إنك تتعلم الإسبانية، هذا رائع»)، فإن نسيان اللغة لا يتحدث عنه الناس بالطريقة نفسها، وعادة ما يتعرض الذين يفقدون إحدى اللغات إلى الشعور بالذنب، إن لم يكن الندم. وربما تزيد حدة هذه المشاعر إذا كان اسم الشخص مرتبطا باللغة التي ينساها؛ ومن ثم، فإن الشخص الأمريكي من أصل إيطالي ذا الاسم الإيطالي، قد يجد نفسه مطالبا بشرح أسباب ضياع لغته الإيطالية التي لم يعد يستخدمها على الإطلاق، والتحسر على ذلك.
عادة ما تكون عملية فقدان اللغة بطيئة إلى حد ما، لكن قد يبالغ ثنائيو اللغة أحيانا في تقدير «الضرر» الملاحظ من جراء ذلك؛ لأن الانطباع الذي يتركه يكون مزعجا للغاية. ففي أحد كتبها، حللت المؤلفة نانسي هيوستن وضع لغتها الإنجليزية عقب انتقالها من كندا إلى فرنسا بعشر سنوات، حيث أصبحت اللغة الفرنسية لغتها السائدة؛ فكتبت تقول إنها كانت تشعر بالخوف من اضمحلال لغتها الأم؛ إذ قلت مفرداتها فيها إلى حد كبير، على حد قولها، وعند قراءتها فقط لأعمال شكسبير أو جويس أو جونا بارنز كانت تكتشف من جديد مئات الكلمات التي لم تعد تستخدمها ضمن مفرداتها؛ فاستنتجت من ذلك أنها، بعيدا عن كونها أصبحت «ثنائية اللغة تماما»، كانت تشعر شعورا مضاعفا بأنها «نصف لغوية».
2
ناپیژندل شوی مخ