حتى دولت لم أعد أجد بين أحضانها ما كنت أجد، حتى الويسكي لم يعد يمدني بهذه النشوة التي كنت أحسها منه حين كنت أشربه مع عبد الوهاب وصبحي، ترى أيحس عبد الوهاب ما أحسه أنا؟ لا أظن، ولماذا لا أظن؟ ما لي أظن الناس جميعهم سعداء إلا أنا؟ فيم يختلف عني عبد الوهاب؟ حاله كحالي ولعله يظهر الرضى ويخفى الضيق الذي أخفيه، ألا يحس عبد الوهاب حاجة إلى السعي؟ ألا يحس بشوق عارم للعمل؟ ألا ينظر لما يدخل في جيبه من مال نظرة باردة لا حرارة فيها؟ ألم يفقد سروره بهذا المال؟ ألا تهدر في نفسه عواصف من رغبة العمل؟ ألا يريد أن يمسك مالا كسبه عن عمل لا عن وساطة؟ وبعد، ماذا لي من أمل في الحياة بعد هذا؟ إلى أي مدى أتشوف للمستقبل؟ ماذا أريد من هذا المستقبل؟ وما لذة اليوم الجديد؟ ماذا لي في طوايا الغيب؟ سكون راكد كالمستنقع. إن لي مالا، وإنني آمن من الفقر. ولكن ماذا بعد أن يزيد مالي؟ وماذا أفعل به؟ وما لذته وأنا لم أجهد للحصول عليه؟ ماذا أفعل بشبابي جميعه؟ طلبت الغنى فها أنا ذا أناله في أول خطواتي من الحياة، ثم ها هي ذي الحياة بكاملها تمتد أمام ناظري بيضاء باهتة بلا حياة فيها ولا أمل ولا عمل، ألمثل هذا كانت ثورتي؟ وا خيبتاه! لا حياة لي، لا حياة.
الفصل الثالث والثلاثون
كان الدكتور حامد عبد الكريم جالسا بين رهط من إخوانه الأساتذة في جروبي، وكان الحديث يدور بينهم هينا لا يمس إلا أمورا تكرر تناولهم لها مرات ومرات، ولكنهم لا يجدون غيرها ليديروها بينهم، وأقبل عليهم في جلستهم زميل لهم هو الدكتور أنيس عوض، وما إن حياهم وجلس حتى سأله صديقه الدكتور فهمي صدقي: خير يا أنيس؟ - خير إن شاء الله. - هل تمت المسألة؟ - أعتقد أنها ستتم قريبا.
وسأل حامد: ماذا يا أنيس؟
وقال الدكتور أنيس محاولا أن يغير موضوع الحديث: لا، لا شيء، مسألة بسيطة.
وقال حامد في ثقة مدركا ما هدف إليه صديقه من محاولة البعد عن هذه المسألة: هي سر إذن.
وقال الدكتور فهمي محاولا أن ينقذ صديقه مما أوقعه فيه: يا أخي ألا تترك شيئا إلا وتحاول معرفته؟ هل انتهيت من طبع كتابك؟
ولم يجب حامد، بل فكر قليلا محاولا أن يعرف ما يخفيه صديقه، ولكن فهمي لم يتركه يفرغ لتفكيره، بل أعاد سؤاله مرة أخرى في صوت أقوى، فانتبه حامد من سرحته ليقول: آه، ماذا؟ آه، نعم، كدت أنتهي من طبعه.
وضحك الزملاء من إجابة صديقهم المترددة، وعادوا إلى حديثهم الذي قطعه عليهم مجيء الدكتور أنيس. ولم تطل بهم الجلسة وبدءوا ينصرفون الواحد بعد الآخر، وكان حامد يعرف أن زميلهم الدكتور محمد وحيد صديق للدكتور فهمي صداقة وطيدة، فحرص أن يكون انصرافه في رفقة الدكتور محمد، فما كاد هذا يستأذن في الانصراف حتى استأذن حامد معه وخرجا إلى شارع المناخ معا. وسأله حامد: أذاهب إلى البيت؟ - نعم. - خذني معك، إني أريد أن أزور صديقا في جهتكم. - أهلا.
وهكذا أتاح حامد لنفسه فترة طويلة يحاول فيها أن يستخلص هذا السر الذي أخفاه عنه أنيس وفهمي. ولم يكن الوصول إلى هذا السر يحتاج إلى كثير مداورة ولا كبير عناء، فما أسرع ما عرفه، وما أعظم الفائدة التي توقعها لنفسه من معرفته.
ناپیژندل شوی مخ