لم تكن أم حامد بالبيت، فقد خرجت تشتري لابنها بعض الملابس التي رأت أنه سيحتاج إليها في سفره. وخلا البيت بخيري ودولت، قادته إلى حجرة الجلوس فاستقر بها مقامه ولم تستقر عيناه المترددتان بين الإنعام والإطراق، ولم يستقر قلبه من الخفق. وجيبا شديدا، وجيب الشاب الجديد، وجيب الدم يدور في الجسم فوارا عنيفا جائحا، تذكر وفية ولكنه قال في نفسه: وهل خنتها؟ الأمر مختلف، واطمأن إلى أن الأمر مختلف، وراح يلتذ هذا الوجيب وهذا التحديق وهذا الشباب. وأخرجته دولت من حيرته: قهوة؟ - لا شكرا.
وظلت واقفة تريد أن تعرض شيئا آخر مما يقدمه المضيف لضيفه، ولكنها انشغلت عن هذا بإنعام النظر فيه، نظرة جائحة قوية، رجل، وأي رجل؟
قال خيري: حضرتك الآنسة دولت؟ - وحضرتك الأستاذ خيري؟
وضحك ضحكة ساذجة وازداد وجهه احمرارا إن عرفته ثم قال: كيف عرفتني؟
وقالت في دلال وأنوثة: عرفتك.
وضحك مرة أخرى في بهجة استخفت له: كيف؟ - عرفت والسلام. - هل أنا مشهور إلى هذا الحد؟!
وتأودت دولت في غنج وهي تقول: جايز.
ورنا خيري إليها نشوان الفؤاد ذاهل النظرة. جف ريقه وشرد ذهنه إلى عوالم يا طالما طاف بها وكانت رفقته فيها امرأة وجهها أخلاط وجسمها أمشاج من الأجسام غير محددة المعالم أو واضحة المعارف. امرأة متقلبة الوجوه لا تثبت محاسنها على حال، فقد تكون في يوم جميلة غاية الجمال وتكون في آخر قبيحة غاية القبح، ولكنها قط لم تكن معروفة عنده. لم تكن وفية مطلقا كما أنها لم تكن بهذا الجمال الذي يتمايل أمامه مشرفا عليه من عل، باسما دائما، فرحا دائما بهذه الدماء الموارة في عروقه، وبهذا اللسان الجاف، يلتذ جفافه، ويلتذ كل إحساس آخر يخالجه. رنا إليها وأطال، وهي رانية إليه لا تميل عيناها عنه، فقد طالما رافق أحلامها، ويا طالما شاركها في وحدتها عند المساء، منذ رأته من الشباك في أول يوم جاء فيه بأخيها إلى البيت رأته ولم يرها، ثم ظلت تراه كل ليلة وتستجلب صورته إلى عينيها قبل أن تغمضهما، ثم تترك للأحلام أن تكمل آمالها العربيدة.
طال بينهما الصمت فلا يجد قولا إلا: اقعدي، لماذا أنت واقفة؟
وفي نظرة إليه ناعمة عميقة حالمة معربدة، قالت وفي صوتها تلك الغنة التي تصطنعها: مبسوطة هكذا؟
ناپیژندل شوی مخ