كانت فايزة طفلة في سنتها السادسة، ضحكة البيت المرحة الطروب. إليها يلجأ الأب إن ضاق بالسياسة التي يعمل في ميدانها، وإليها تلجأ الأم كلما وجدت من بيتها فراغا، وحولها يجلس محسن وخيري كلما ضاقا بالمذاكرة. كانت فايزة عند محسن أخته الحبيبة الضاحكة، وكانت عند خيري كل هذا وشيئا آخر أكثر من هذا وأعز، كانت وسيلته إلى وفية؛ فحولها كانوا يجلسون كلما عن لهم أن يتركوا المذاكرة حينا، وحولها كانت تصاحبهم وفية تلهو معهم وتفتح لأختها الصغيرة موضوعات الأحاديث التي تظهر لثغتها، وبين الضحكات الصاخبة تلتقي عيون صافية، وقلوب شغفها الحب الطاهر، ومنعها الحياء أن تبين عن حب بها زاخر موار.
هي وفية أمل الصبا والشباب، كانت الطفولة تجمعهما في الملعب، ثم استقبلا الشباب معا فنزل بينهما ستارا رقيقا دقيقا عنيفا لا يلين؛ فالخلوة بينهما لا تتاح، واللقاء بينهما بمقدار، والعيون حولهما رواصد، والرقيب عليهما عتيد، يحسانه في دعوة الأم لوفية إن طال بقاؤها في الغرفة، ويحسانه في نظرة محسن العاتية إذا علت ضحكة لها، ويحسانه أول ما يحسانه في نفسيهما التي تحول بينهما وبين الانطلاق الذي كانا يمرحان فيه حين كانت الطفولة تظلهما. وهما مع ذلك يحمدان الشباب، ذلك الوافد الجديد؛ ففي بريقه عرفا معنى هذا الخفق العنيف الذي كان يزحم صدريهما ولا يدريان له سببا، وفي هذا الخفق عرفا الحياة، وفي هذا الستار الذي أسدله الشباب عرفا الحب، وفي هذا الرقيب الذي حل بهما عرفا لذة ناره. إنهما يحمدان الشباب ويحمدان ما فرضه عليهما من قيود، فهي قيود لم تستطع على شدتها أن تمنع العين أن تلتقي بالعين، والابتسامة أن تلاقيها ابتسامة، والإشراقة أن تستقبلها إشراقة. وحول فايزة كانت تلتقي العيون والابتسامات والإشراقات.
وهكذا جزع خيري لمرض فايزة جزعا شديدا، فذهب إلى منزلها يريد أن يطمئن عليها، ويرجو من صميم قلبه ألا يطول هذا المرض. واستقبله البيت في وجوم صاخب؛ فالخدم مشغولون بتنفيذ الأوامر التي لا ينقطع لها سيل، والجميع حول سرير فايزة يحيطون بها في إشفاق وخوف، ينتظرون الطبيب أن يفرغ من فحصه. وصعد خيري إلى الطابق العلوي، وحين عرف بوجود الطبيب مكث خارج الغرفة ينتظر. ولم يطل به الانتظار وإن أحسه هو طويلا، وخرج الطبيب ومعه وفية، وسارع خيري إلى وفية يسألها عما قال، فطمأنته في ابتسامة تكاد تشرق. وهدأت نفسه بعض الشيء، ودخل الغرفة وراح يضحك فايزة مقلدا طريقة نطقها للحديث، وهي تضحك في ابتسامة واهنة، وعمه عزت بك يحاول أن يضحك ليهون على زوجته إجلال ما كانت تنوء به من خوف شديد من هذه الحرارة المرتفعة التي تعانيها ابنتها.
ولم يطل خيري مقامه، بل سرعان ما طلب إلى محسن أن يؤجلا المذاكرة إلى الغد. وما أسرع ما ارتاح محسن لهذا الطلب! وخرج خيري من الغرفة، وقبل أن يصل إلى السلم التقى بوفية مرة أخرى، فطالعته منها ابتسامة عذبة. وسؤال هامس ناغم لم يزد على كلمة واحدة حملت معها معاني نعم بها قلبه أي نعيم. - خارج؟
وفي هناءة غامرة أجاب: أجلنا المذاكرة إلى الغد. - وماله. ولماذا لا تبقى معنا قليلا؟ - أنتم مشغولون بفايزة، وأنا أريد أن أذهب إلى البيت لأطمئن على يسري؛ لأني لم أوصله اليوم. - لماذا؟ - كنت مشغولا على فايزة فأرسلته مع أحد أصحابي، وطلبت إليه أن يكلمني هنا بالتليفون، ولكنه لم يتكلم، وأخاف أنا أن أتكلم ويكون حضرته في الشارع يلعب دون أن يري وجهه لنينا فتشغل لغيابه. - طيب يا سيدي، نشكرك. - علام الشكر؟ - على اهتمامك بفايزة. - أنت لا تعرفين كم هي عزيزة علي يا وفية، فايزة عندي مثل نادية تماما.
وأوشك أن يستطرد في حديث عن المكانة التي تشغلها فايزة في قلبه، بل أوشك أن يبين لها مكانة هذا البيت جميعا في نفسه، ولعل أملا متهافتا داعبه أن يحدثها عما لها هي في نفسه، واهما أن عينيه ووجهه هذا المشرق وذلك الضياء الذي يشع من خلجاته جميعا لم ترو لها حديث نفسه كاملا، لم تخف منه خافية، أوشك خيري ثم وقف به إيشاكه عندما ارتفع صوت إجلال هانم من حجرة فايزة: يا وفية! - نعم يا نينا.
وقبل أن يرتفع صوت إجلال هانم مرة أخرى ليدعو وفية، كان خيري قد استأذن وكانت هي قد همست في إعزاز: مع السلامة.
نزل خيري يثب السلم وثبا عنيفا، سريعا متلاحقا، ولكنه مع ذلك أهون من ذلك الوثب الذي أخذ قلبه يخفق به داخل ضلوعه فرحا بهذا الحديث الصغير الكبير الذي مهدت له الصدفة. لقد كاشفته بحبها في طلبها إليه أن يبقى، وكاشفته بحبها في نظراتها الحالمة الوادعة الرضية، وكاشفته بحبها في نغمات صوتها الهامسة الحالمة، وكاشفها هو بحبه فيما رواه عن مكانة فايزة من قلبه، وفي إشفاقه عليها وفي مسارعته إلى بيتهم مرسلا أخاه مع صديق. لقد تكاشفا بالعيون والوميض، والكلام يدور من بعيد كما يدور العابد حول معبوده المقدس ويكبره أن يلمسه. لم يقل أحبك وإن قالها ألف مرة، ولم تقل أحبك وإن كان قد سمعها منها ألف ألف مرة، لكم يحبها، ولكم يطيب له أن يقول في نفسه، ولكم تحبني.
الفصل الثالث
بلغ خيري البيت وقصد من فوره إلى حجرة يسري وفتحها، فوجده يلهو ويلعب على الأرض، فقال له في شيء من عنف شفوق: لماذا لم تكلمني يا أخي؟ - والله نسيت يا آبيه. - نسيت؟ ألا تقدر خوفي عليك؟ - ومم تخاف؟ هل أنا صغير؟ - طيب يا سيدي، أنا غلطان!
ناپیژندل شوی مخ