وقالت سميرة هانم وقد اختلج وجهها، وطفرت إلى عينيها دموع حبستها أن تسيل خشية من إغضاب زوجها الذي يريد رضاءها: ومن قال لك إني أريد أرضا أو فدادين؟ - وماذا يغضبك في هذا؟ - يغضبني أنني لا أريد منك إلا أنت، أنت وحدك، وتفكيرك في كتابة أرض لي تفكير لا أحب أن يجول في ذهنك؛ لأني لا أحب أن يجول في ذهني، أنت غناي كله، وما كنت أحب أن تظهر رضاءك عني في أرض. تكفيني منك ابتسامة رضا، ويغنيني في حياتي أن أراك مرتاحا في بيتك وبين أولادك. - الله يبقيك يا سميرة.
وكادت الدموع تطفر إلى عيني الرجل، ولكن رجولته ما لبثت أن تغلبت، وما لبث هو أن غير موضوع الحديث: أين الأولاد؟ - خيري ويسري ما زالا في المدرسة. - تقولين خيري ويسري في المدرسة وكأن يسري أصبح تلميذا كبيرا مثل خيري.
وعادت الابتسامة هونا إلى وجه سميرة هانم وهي تقول: لو رأيته وهو يغالب النوم مصمما أن يسهر مثلما يسهر أخوه عاجزا في الوقت نفسه أن يغالب رأسه المائل وجفونه المقفلة، وكلما صحت به أن يقوم للنوم انتفض لحظات معارضا، ثم ما يلبث رأسه أن يعود إلى الميل وجفونه إلى الانطباق. - أرجو أن يصبح مثل أخيه في المذاكرة. - خيري، الله يحميه. - الحمد لله، فيه البركة، لا أذكر أنني طلبت منه أن يذاكر أبدا. - الحمد لله، ناجح دائما، ولكني يا همام بك غير مرتاحة لاستذكاره خارج البيت في هذه الأيام. - لماذا؟ إنه يذاكر عند محسن ابن عمه، والبكالوريا محتاجة لتعاون الطلبة. - نعم أعرف، ولكن هل يا ترى يقدمون إليه حاجته من طعام وشاي وقهوة كما نفعل هنا؟ - بيت عزت مفتوح.
وابتسم همام ابتسامة تخفي معنى ما، أو لعلها تبين عن ذلك المعنى وهو يقول: ولعل هناك يا ست سميرة من يهتم بشأنه أكثر مما تفعلين، أين نادية؟ - في حجرتها. - ناديها تجلس معنا.
وقبيل أن تقوم سميرة هانم تأتي الخادمة لتنبئ البك أن صديقه فواز بك في الطابق الأسفل ويريد أن يلقاه، ويقوم همام بك إلى صديقه، وتعود سميرة إلى الورقة تقرؤها، ثم ما تلبث دمعات لها أن تسيل؛ فقد كانت هذه الورقة تجسم لها الخوف من يوم تحتاج فيه إلى ريع أرض، ويومذاك ما الأرض وما المال، بل وما الدنيا جميعا إذا فارقها زوجها؟ هذا العطوف الطيب السمح الذي يحول بينها وبين هموم الحياة، لا كان ذلك اليوم، لا كان.
الفصل الثاني
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة الخديوي إسماعيل، وخرج التلاميذ. وكان خيري مع جماعة من إخوانه يعرفون أن عليه أن يذهب إلى مدرسة المنيرة لينتظر أخاه يسري ويصحبه إلى البيت، فرافقوه الطريق، ولكن محسن عزت لم يشأ أن يصحبهم وقال لخيري: لا بد لي أن أذهب إلى البيت، فقد تركت أختي الصغيرة مريضة، وأريد أن أطمئن عليها.
وقال خيري في لهفة شفوق: من؟ فايزة؟ - نعم. - مسكينة! وهل تتحمل المرض؟ طيب اذهب أنت وسألحق بك.
وانفصل محسن عن الجماعة، فساروا إلى مدرسة المنيرة، ولما بلغوا بابها كان لا يزال أمام انصراف تلاميذها بضع دقائق، وظل خيري ورفاقه أمام الباب يتحدثون ، ولكن نجيب كامل صديق خيري المقرب أحس الجزع الذي يعانيه خيري، فقال له في صفاء: إن شئت فاذهب أنت إلى محسن، وسأصحب أنا يسري إلى البيت. - أترى ذلك؟ - وما البأس؟ - أخشى أن يجزع يسري لغيابي، سأنتظره حتى يخرج ثم أذهب أنا إلى محسن. ولكن وحياة والدك يا نجيب احرص على يسري في الطريق؛ فهو كثير الحركة لا يهدأ. - ألا أعرف يسري؟ لا تخف يا أخي. - واحذر أن تدخل به في مظاهرة. - مظاهرة؟ آه، أظنها الآن بلغت عابدين.
وقال صلاح الفولي: بهذه المناسبة ألا تعرف ماهية هذه المظاهرة يا خيري؟ - هل يمر يوم من غير مظاهرة؟ حزب الوفد وحده كان يقيم المظاهرات كل يوم في وزارة محمد محمود، فما بالك والوفد اليوم مع الأحرار الدستوريين، المظاهرات كل ساعة، هل مر علينا يوم في وزارة صدقي من غير مظاهرات؟ - يا أخي، وكأن الرجل معجون من حديد، صلب، كأن المظاهرات تخرج لتحيته. - المهم أن تحافظ على يسري يا نجيب، احذر منه. - لا تخف.
ناپیژندل شوی مخ