The Sunnah and Its Status - Noor Qarout
السنة النبوية ومكانتها - نور قاروت
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
المقدمة:
الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته إلى يوم الدين وبعد:
فهذا البحث في بيان أهم ما يلزم تأمله ومعرفته من كون السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي شرعت في الكتابة فيه خدمة للسنة، راغبة في حصول الثواب من الكريم ذي الفضل العظيم، ثم استجابة للأمانة العامة لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف التي شرفتني بدعوتها للكتابة في هذا الموضوع.
وهذا البحث محاولة لتعميق الفهم الذي قصده علماء السلف من كون السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بوسطية لا مغالاة فيها ولا جفاء.
وبنيت خطة البحث على هذه المقدمة، وثلاثة فصول وخاتمة:
أما الفصل الأول فعنوانه: التعريف بكون السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي:
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالسنة، وأدوار العناية بها.
فيه ثلاثة مطالب:
الأول: تعريف السنة لغة وشرعًا.
الثاني: الفرق بين السنة والحديث.
الثالث: أدوار العناية بالسنة.
1 / 1
المبحث الثاني: التعريف بالشريعة ومصادرها ومقاصدها.
وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: تعريف الشريعة لغة وشرعًا.
الثاني: مصادر التشريع.
الثالث: مقاصد الشريعة.
المبحث الثالث: الأدلة على حجية السنة.
المبحث الرابع: عناية المحدِّثين بالفقه، وعناية الفقهاء بالحديث.
وفيه مطلبان:
الأول: عناية المحدثين بالفقه.
الثاني: عناية الفقهاء بالحديث.
المبحث الخامس: أقسام السنة من حيث ثبوتها ومن حيث دلالاتها.
وفيه مطلبان:
الأول: أقسام السنة من حيث ثبوتها.
الثاني: أقسام السنة من حيث دلالاتها.
المبحث السادس: أنواع القرائن الصارفة العمل بظواهر السنة.
المبحث السابع: أسباب عدم الاحتجاج بالسنة.
المبحث الثامن: موقف العلماء من السنن التي ظاهرها التعارض.
الفصل الثاني: تبيين السنة لأحكام القرآن الكريم.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تفصيل السنة لأحكام مجملة في القرآن الكريم.
وفيه مطلبان:
1 / 2
الأول: تعريف المجمل والمفصل.
الثاني: أمثلة لأحكام مجملة في القرآن الكريم ورد تفصيلها في السنة.
المبحث الثاني: تفصيل السنة لأحكام عامة في القرآن الكريم.
وفيه مطلبان
الأول: تعريف العام والخاص.
الثاني: أمثلة لأحكام عامة في القرآن خصصتها السنة.
المبحث الثالث: تقييد السنة لأحكام مطلقة في القرآن الكريم.
وفيه مطلبان:
الأول: تعريف المطلق والمقيد.
الثاني: أمثلة لأحكام مطلقة في القرآن الكريم قيدتها السنة.
الفصل الثالث: أحكام وردت في السنة ولم تذكر في القرآن.
وفيه سبعة مباحث:
الأول: الفرق بين وحي القرآن ووحي السنة.
الثاني: مقاييس وضوابط لقبول ما صح من أخبار الآحاد.
الثالث: هل جاءت السنة بأحكام لم تثبت في القرآن؟
الرابع: أمثلة مما استقلت به السنة في العبادات.
الخامس: أمثلة مما استقلت به السنة في المعاملات.
السادس: أمثلة مما استقلت به السنة في النكاح.
السابع: أمثلة مما استقلت به السنة في الجنايات.
ثم الخاتمة في أهم النتائج التي توصل إليها البحث.
وكان المنهج المتبع في كتابة أغلب مواضيع البحث ما يلي:
1 / 3
- عرض أهم عناصر الموضوع باختصار دون ذكر الخلافات إلاّ في أضيق حدود.
- ذكر ما بدا لي راجحًا فيما لا بد من ذكر الخلاف فيه، دون الإسهاب في ذكر الأدلة والردود عليها ومناقشتها.
- الحرص ما أمكن على تسهيل أسلوب الكتابة وتبسيطه.
- تشكيل وعزو الآيات إلى سورها.
- تخريج الأحاديث والحكم عليها من غير الصحيحين، فإن خرجتها منهما اكتفيت بهما أو بأحدهما، وقد أكتفي بالرجوع إلى كتاب اللؤلؤ المرجان.
- التوضيح للكلمات الغريبة.
والله الرحمن الرحيم البر الكريم الجواد الحكيم أسأل أن يجعل هذا البحث عملًا صالحًا ولوجهه خالصًا وأن يكتب له القبول والبركة، ويغفر لي ما كان به من زلل أو تقصير، ويجزي كل من صوّبه أو نصحني فيه خير الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله على نعمه التي لا تعدُّ ولا تحصى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى وعلى آله وصحبه ومن اصطفى.
1 / 4
الفصل الأول: التعريف بكون السنة المصدر الثاني للتشريع الإسلامي
المبحث الأول: التعريف بالشريعة ومصادرها ومقاصدها
أولًا: تعريف الشريعة لغةً وشرعًا
...
المبحث الأول: التعريف بالشريعة ومصادرها ومقاصدها
أولًا: تعريف الشريعة لغةً وشرعًا
الشريعة في اللغة:
موْرِدُ الشاربة التي يردها الناس فيشربون منها ويستقون، والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينا لا يُسقى بالدلو، وشرعت في هذا الأمر شُرُعا: أي خضت (١) .
الشريعة شرعًا:
استعمل العلماء لفظ الشريعة باستعمالات متعددة وذلك حسب المقام فمنهم من أطلقها على التوحيد وما سواه من الفروع ومنهم من أطلقها وأراد بها التوحيد فقط ومنهم من أطلقها وأراد بها الفروع فقط (٢) .
والرأي الراجح في معنى الشريعة عند الباحثين: هي الفرائض والحدود والأمر والنهي (٣) .
فيدخل في تعريفها التوحيد وسائر الأحكام، وهي بذلك أعم من الحكم الشرعي الذي عرفه العلماء بأنه: الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالطلب، أو التخيير أو الوضع (٤) .
_________
(١) ابن منظور/ لسان العرب (مادة شرع) ٨/١٧٥.
(٢) عابد السفياني/ الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية: ٢٤-٢٦.
(٣) عبد الله الكمالي/ الشريعة الإسلامية وفقه الموازنات: ص ٣٠.
(٤) شرح البدخشي على المنهاج: ١/٣٠، شرح الأسنوي على المنهاج: ١/٤٦.
1 / 6
فيمثل الحكم الشرعي الوجه العملي للدين فقط، والشريعة تمثل الوجهين العقدي والعملي معًا.
ثانيًا: مصادر الشريعة
ذكر العلماء أن مصادر الشريعة الأساسية أربعة مصادر: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع، والقياس (١) .
ولا يخفى على المتأمل أن أدلة حجية الإجماع والقياس الكتاب والسنة.
أتى رجل إلى الإمام الشافعي فسأله عن الدليل في أن اتفاق الأمة حجة في الدين؟ فذهب الإمام الشافعي ولم يخرج ثلاثة أيام، ثم خرج وجاءه الشيخ فسلم ثم جلس، فقال حاجتي؟ فقال الشافعي ﵀: نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:١١٥] . لا يصليه – تعالى- جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلاّ وهو فرض. قال: فقال: صدقت. وقام وذهب. قال الشافعي: قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه (٢) .أي الدليل على أن حجية الإجماع ثابتة في الكتاب.
_________
(١) ذكر العلماء للاستدلال مصادر غير أساسية وتسمى الأدلة الفرعية، ولم تسلم من الاختلاف بين الأصوليين وهي: الاستصحاب، شرع من قبلنا، مذهب الصحابي، الاستحسان، المصالح المرسلة. انظر: الآمدي/ الإحكام في أصول الأحكام: ٤/١٧٢-٢٠٩.
(٢) انظر الشافعي/ أحكام القرآن: ١/٣٩-٤٠.
1 / 7
وكذلك رُوِيَ في السنة قوله ﷺ: (ما رآه المسلون حسنًا فهو عند الله حسن) (١) .
وذكر أهل القياس ونفاته أدلتهم من الكتاب والسنة (٢) .
وتعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، فهو محتاج إلى كثير من البيان، والسنة إنما هي بيان للقرآن (٣) .فمصادر الشريعة: الكتاب والسنة وغيرهما تبع لهما.
ثالثًا: مقاصد الشريعة
القرآن الكريم والسنة الشريفة أتيا للتعريف بمصالح الدارين جلبا لها، والتعريف بمفاسدهما دفعًا لها.
وهذه المصالح لها ثلاثة أقسام: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيّات.
والضروريات خمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ العقل.
والحاجيات تدور على التوسعة، والتيسير، ورفع الحرج، والرفق في هذه المقاصد.
والتحسينيّات ترجع إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات في هذه المقاصد الخمس.
ولكل مما تقدم أمثلة عديدة وردت في الكتاب والسنة (٤) .
_________
(١) قال الألباني: لا أصل له مرفوعًا، وإنما ورد موقوفًا على ابن مسعود. انظر السلسلة الضعيفة ٢/١٧
رقم ٥٣٣.
(٢) ابن القيم/ أعلام الموقعين: ١/١٩٥-١٩٨-٢٢٧.
(٣) الشاطبي/ الموافقات: ٤/١٨٠.
(٤) المرجع السابق: ٤/٣٤٦-٣٥٢.
1 / 8
والفقهاء وهم ينظرون في السنن يجدون بالاستقراء أنه لا يمكن أن تشذ سنة فتدفع مصلحة أو تجلب مفسدة راجحة، فإن وجدت مفسدة، فهو دليل ضعفها أو كذب ناقلها.
1 / 9
المبحث الثاني: التعريف بالسنة، وأدوار العناية بها
أولًا: السنة لغة وشرعًا
السنة في اللغة:
تأتي في اللغة بمعاني منها الصورة وما أقبل من الوجه، والطريقة: سنّ الله سنّة أبي بيّن طريقا قويما، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ﴾ [الأحزاب:٣٨] .
والسنّة السيرة، حسنة كانت أو قبيحة:
يقول الشاعر:
فلا تجْزعن من سيرة أنت سِرْتها ... فأول راضٍ عن سنّةً يَسيرُها (١)
السنة شرعًا: ما جاء منقولًا عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير بالوحي أو الاجتهاد (٢) .
وتطلق السنة في الشرع أيضًا فيما يقابل البدعة، يقال: فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي ﷺ.
ويطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم (٣) .يدل عليه قوله ﵊: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (٤) " (٥)
_________
(١) لسان العرب، مادة "سنن" ١٣/٢٢٥.
(٢) الشاطبي/ الموافقات: ٤/٢٩٣.
(٣) المرجع السابق: ٤/٢٩٠.
(٤) النواجذ: الناجذ آخر الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان، ويسمى ضرس الحلم لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل، يقال ضحك حتى بدت نواجذه. انظر: الرازي/ مختار الصحاح: باب النون، فصل الجيم. ص: ٦٤٦.
(٥) أخرجه الترمذي وصححه الشيخ الألباني. انظر: الألباني: إرواء الغليل: (٢٤٥٥) ٨/١٠٧.
1 / 10
ثانيًا: الفرق بين السنة والحديث
للحديث قسمان عند علماء الحديث:
علم الحديث رواية وهو العلم الذي يشتمل على أقوال الرسول ﷺ وأفعاله وتقريراته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. وهذا القسم ينطبق تعريفه على تعريف السنة.
والقسم الثاني علم الحديث دراية ويقصد به العلم الذي يعرف به حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها وحال الرواة وشروطهم وأصناف مروياتهم (١) .
يقول الدكتور رفعت فوزي:" قد يبدو في أقوال بعض العلماء في القرن الثاني الهجري التفرقة بينهما ذلك في قول الأعمش رحمه الله تعالى:" لا أعلم لله قومًا يطلبون هذا الحديث، ويحبون هذه السنة"وأوضح من هذا قول عبد الرحمن بن مهدي: (الناس على وجوه، فمنهم من هو إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، ومنهم من هو إمام في الحديث وليس بإمام في السنة) وربما كان أساس هذا التفريق هو أنهم كانوا ينظرون إلى أن الحديث أمر علمي نظري، وأن السنة أمر عملي، إذ إنها كانت تعتبر المثل الأعلى للسلوك في كل أمور الدين والدنيا، وكان هذا سبب الاجتهاد في البحث عنها والاعتناء بحفظها والاقتداء بها. وربما كان الأساس هو أن بعضهم كان ينظر إلى السنة على أنها أعم من فعل الرسول وقوله وتقريره وتشمل أفعال الصحابة والتابعين" (٢) .
وسأسير في البحث على طريق من اختار أن السنة والحديث معناهما واحد.
_________
(١) السيوطي/ تدريب الراوي: ١/٤٠.
(٢) توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته: ص: ١٩-٢٠.
1 / 11
ثالثًا: الأدوار التي مرّت بها السنة وتدوينها
الدور الأول: القرن الأول الهجري
السنة في عصر النبي ﷺ وعصر الصحابة:
كان المعول في حفظ السنة وضبطها صدور الصحابة رضوان الله عليهم، وذلك لشيوع الأمية فيهم فكان اعتمادهم على السماع والحفظ لا على القراءة والكتابة، لم يكن للتدوين ضرورة، ولاسيما وأن حرصهم على تدوين القرآن الكريم وخشيتهم من أن يكون في تدوين الحديث ما يؤدي إلى اتخاذ الناس صحف الحديث مصاحف يضاهون بها صحف القرآن العزيز، فيشتبه على بعضهم القرآن بالأحاديث وربما اشتغلوا به عن التلاوة (١) .
لكن وجد من الصحابة من كان يكتب ويكثر من الكتابة لنفسه كعبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ فكانت عنده صحيفة يسميها الصادقة (٢) .
وأمر رسول الله ﷺ بالكتابة لرجل من أهل اليمن عام الفتح سمع النبي ﷺ يخطب فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال: اكتبوا لأبي فلان (٣) .
وذكر أن عليًا ﷺ كان لديه كتاب فيه حكم النبي ﷺ في الزكاة (٤) .
وثبت أن لديه صحيفة فيها فكاك الأسير والدية ولا يقتل مسلم بكافر (٥)
_________
(١) العسقلاني/هدي الساري مقدمة فتح الباري: ص٦، السيوطي/تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك: ١/٥.
(٢) يقول (:" هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله (ليس بيني وبينه أحد"انظر: طبقات ابن سعد: ٤/٢٦٢.
(٣) الخطبة عن مكة وحرمتها هي مشهورة. انظر صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم: (١١٠) ١/١١٩.
(٤) ابن حزم/ الإحكام في أصول الأحكام: ٢/٢٦٢.
(٥) أخرجه البخاري، انظر: صحيح البخاري، باب كتابة العلم، باب كتابة العلم: (١٠٩) ١/١١٩.
1 / 12
الدور الثاني: القرن الثاني الهجري
بدأ تدوين السنة في هذا القرن بطريقة أوسع وبشكل أمر رسمي من ولي أمر المسلمين حيث كتب عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين الخليفة الراشد رحمه الله تعالى إلى الآفاق: (انظروا حديث رسول الله ﷺ فاجمعوه) (١) .
والأرجح أن أول من جمع الحديث من العلماء الإمام محمد بن شهاب الزهري. ومن وقته شاع جمع الحديث وتدوينه فكتب بعده: ابن إسحاق ومالك بالمدينة، وحماد بن سلمة بالبصرة، ومعمر باليمن.
ثم تلا هؤلاء: عبد الرزاق باليمن وأبو قُرة موسى بن طارق، وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب، وجودة الترتيب وحسن التأليف (٢) .
الدور الثالث: القرن الثالث الهجري
في هذا الدور بلغ الحديث غايته ومنتهاه، فلم يزل يروى ويجمع ويدوَّن ويُسطّر في الأجزاء، والكتب إلى زمن الإمامين البخاري ومسلم، ورزقهما الله حسن القبول شرقًا وغربًا، ثم ازداد الجمع والتدوين وظهر جهابذة المحدّثين كالترمذي وأبي داود والنسائي وكان هذا العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم وإليه المنتهى (٣) .
_________
(١) العسقلاني/ فتح الباري: ١/١٩٥، الكتاني/ الرسالة المستطرفة: ص: ٤.
(٢) انظر: الرامهرمزي/ المحدث الفاصل: ٦١٣-٦١٤.
(٣) القنوجي/ الحطة في ذكر الصحاح الستة: ص ٦١.
1 / 13
الدور الرابع: القرن الرابع الهجري
طغى التدوين في هذا القرن على الرواية الشفهية عن الشيوخ كما كان الحال فيمن سبق من علماء الحديث (١) .
وكثرت المستخرجات (٢)، وظهرت كتب جمعت أدلة المذاهب الفقهية من الأحاديث (٣) .
الدور الخامس: من القرن الخامس الهجري وحتى سقوط بغداد على أيدي التتار عام ٦٥٦هجري
ما كاد القرن الرابع أن ينتهي، حتى أصبح عمل العلماء قاصرًا على الجمع، والانتقاء، والترتيب، أو التهذيب لكتب السابقين (٤) .
الدور السادس: بعد سقوط بغداد وحتى نهاية القرن العاشر
بعد سقوط بغداد تقاعست الهمم وفترت العزائم عن الرحلة إلى الأقطار، وخدمة الحديث فانقرضت الرواية الشفهية إلاّ في أفراد يجددون ما خلق ويحيون ما اندثر من وقت لآخر، (٥) .ويشتكي الإمام الذهبي من قتلهم فيقول:"فأين علم الحديث وأين أهله؟ كدت لا أراهم إلاّ في كتاب أو تحت تراب" (٦) .
_________
(١) محمد أبو زهو/ الحديث والمحدثون: ص ٤٢٣.
(٢) من المستخرجات المشهورة: مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم، ومستخرج ابن أبي دُهل الهروي على صحيح البخاري.
(٣) من ذلك كتاب معاني الآثار للطحاوي في المذهب الحنفي، والسُّنن الكبرى على المذهب الشافعي.
(٤) انظر: محمد أبو زهو/ الحديث والمحدثون: ص ٤٣.
(٥) مثل الحافظ زين الدين العراقي وتلميذه الحافظ ابن حجر العسقلاني.
(٦) تذكرة الحفّاظ: ١/٤.
1 / 14
وأصبح للسنة شأن في مصر على مدار ثلاثة قرون حيث اهتم المماليك بالعلوم وأنشأوا فيها مدارس الحديث، حبسوا الأموال على المؤسسات الدينية والعلمية واستمرت هذه النهضة بمصر إلى أوائل القرن العاشر ثم أخذ النشاط العلمي يتضاءل ويضمحل، وطفق يرحل شيئًا فشيئًا إلى الهند (١) .
الدور السابع: من بداية القرن الحادي عشر وحتى اليوم
سخر الله ﷿ بفضله ومنه في الهند من حمل لواء السنة يدعو إليها وينافح عنها. وكانت لهم آثار ملموسة وأحيا الله بهم الحديث والسنة (٢) .
وممّا هو جدير بالذكر الإشادة بالجهود الطيبة المباركة التي قام بها جلالة الملك الراحل (عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود) عليه رحمة الله وعدد من أبنائه وعدد من علماء الجزيرة الذين عُنوا بكتب السنة والفقه وبذلوا الأموال في تحقيقها وطبعها ونشرها بين أيدي الناس دون مقابل (٣) .
_________
(١) أبو زهو/ الحديث والمحدثون: ص ٤٤٠، الكشميري/ فيض الباري: ١/١٥.
(٢) انظر الزركلي/ الأعلام: ١/١٤٩.
(٣) من الكتب التي حصلت عليها مجانًا جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير، والفتاوى لابن تيمية، المغني لابن قدامة.
1 / 15
المبحث الثالث: الأدلة على حجية السنة
أولًا من القرآن:
- قوله جلّ شأنه: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء:٨٠] .
- قوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِيالأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء:٥٩] .
- قوله عزّ من قائل: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْفِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥] .
- قوله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر:٧] .
ثانيا: من السنة الشريفة: حذر الرسول ﷺ من ترك سنته ففي الحديث الذي يرويه المقدام بن معد يكرب ﷺ: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو النهي مما نهيت عنه، فيقول: ما أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وفي لفظ (يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته يُحدَّث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ مثل ما حرّم الله) (١) .والشاهد من الحديث (ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) . _________ (١) أخرجه أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي. انظر: المسند: ٤/١٣٢. والمستدرك على الصحيحين: ١/١٠٨
ثانيا: من السنة الشريفة: حذر الرسول ﷺ من ترك سنته ففي الحديث الذي يرويه المقدام بن معد يكرب ﷺ: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو النهي مما نهيت عنه، فيقول: ما أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وفي لفظ (يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته يُحدَّث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ مثل ما حرّم الله) (١) .والشاهد من الحديث (ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) . _________ (١) أخرجه أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي. انظر: المسند: ٤/١٣٢. والمستدرك على الصحيحين: ١/١٠٨
1 / 16
ثالثًا: الإجماع:
المتتبع لتصرفات الصحابة ﵃ في وقائع كثيرة لا تنحصر يجد أنهم حيث وجدوا السنة عملوا بها، وجعلوها حجة في الدين ولم يستجيزوا مخالفتها أو إغفالها أو طرحها، مما لا يدع مجالًا للشك أنه كان مقررً لديهم أن سنة رسول الله ﷺ حجة على عباده، وأن العمل بها عمل بالدين، فانعقد على ذلك إجماعهم (١) .
_________
(١) انظر: ابن القيم/ أعلام الموقعين: ١/٤٩، محمد الأشقر/ أفعال الرسول (ودلالتها على الأحكام الشرعية: ص ١٥.
رابعًا: المعقول: كيف لا تكون السنة حجة وهي التي جاءت ببيان كيفية العمل ففيها ذكر الأسباب والشروط والموانع واللواحق وما أشبه ذلك كبيانها مواقيت الصلوات والركوع والسجود، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها وتعيين ما يزكى، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة من الحدث والخبث، والحج، والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن (٢) . وكيف لا تكون حجة وقد استقلت بأحكام كثيرة في الحلال والحرام عمل بها سلف الأمة وخلفها؟ فمن قال: إن السنّة ليست حجة في التشريع الإسلامي معطل بالعقل لأحكام الشرع حيث إن معظمها لا يعرف إلاّ عن طريق السنة (٣) . _________ (٢) الشاطبي/ الموافقات: ص ٥٠٥. (٣) الباحثة: مدخل لدراسة أحاديث الأحكام، مجلة جامعة أم القرى، عدد ١٨، ١٤١٩، ص: ١٤٥.
رابعًا: المعقول: كيف لا تكون السنة حجة وهي التي جاءت ببيان كيفية العمل ففيها ذكر الأسباب والشروط والموانع واللواحق وما أشبه ذلك كبيانها مواقيت الصلوات والركوع والسجود، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها وتعيين ما يزكى، وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة من الحدث والخبث، والحج، والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملًا في القرآن (٢) . وكيف لا تكون حجة وقد استقلت بأحكام كثيرة في الحلال والحرام عمل بها سلف الأمة وخلفها؟ فمن قال: إن السنّة ليست حجة في التشريع الإسلامي معطل بالعقل لأحكام الشرع حيث إن معظمها لا يعرف إلاّ عن طريق السنة (٣) . _________ (٢) الشاطبي/ الموافقات: ص ٥٠٥. (٣) الباحثة: مدخل لدراسة أحاديث الأحكام، مجلة جامعة أم القرى، عدد ١٨، ١٤١٩، ص: ١٤٥.
1 / 17
المبحث الرابع: عناية الفقهاء بالحديث وعناية المحدثين بأحكام الشريعة
لا يخفى على أحد اهتمام الفقهاء بالحديث وأنهم لا يستغنون عنه لاستنباط الحكم الشرعي، يقول الإمام النووي مبينًا أهمية ذلك: " على السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء على أن من شروط القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات" (١) .وكان تأثر الأئمة المحدثين أمثال البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي بمذاهب أئمة الفقه كبيرًا.
والمتأمل في كتبهم يظهر له حرصهم على وزن المذاهب الفقهية ومقارنتها بما صح من حديث رسول الله ﷺ ومناقشتها أحيانًا.
ولقد تفاوت حظ الفقهاء من الحديث كما تفاوت حظ المحدثين من الفقه. فالإمامان مالك وأحمد بن حنبل محدثان ولكن شهرتهما في الفقه غلبت شهرتهما في الحديث (٢) .
واختلف تأثر المحدثين بالفقهاء، يقول في ذلك الإمام ابن تيمية:" أما البخاري وأبو داود فإمامان في الفقه والاجتهاد، وأما مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة ونحوهم فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء، وهم إلى مذاهب أهل الحجاز كمالك وأمثاله أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق كأبي حنيفة والثوري ووكيع. ويحي بن سعيد وابن المبارك يميلان إلى مذهب العراقيين
_________
(١) النووي/ شرح صحيح مسلم: ١/٤.
(٢) اشتهر كتاب الموطأ للإمام مالك، كما اشتهر مسند الإمام أحمد ولم يثبت للإمامين أبي حنيفة، والشافعي مثلهما.
1 / 18
كأبي حنيفة والثوري، والبيهقي على مذهب الإمام الشافعي، والدارقطني يميل إلى مذهب الشافعي ولكن اجتهاده أقوى من البيهقي وكان أعلم منه وأفقه" (١) .
فالسنن والأحكام الشرعية علمان يكمل أحدهما الآخر كعلم الصيدلة والطب لا يستغني أحدهما عن الآخر (٢) .
وقد يكون الفقيه محدثًا فقيهًا. مع التسليم جميعًا من الجميع أن الحكم الشرعي ينبغي أن لا يخالف الحديث القطعي الدلالة والقطعي الثبوت بحال من الأحوال.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى:" لم يزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث، فإن طلبوا العلم بلا حديث فسدوا" (٣) .
يقول أبو يوسف ﵀:" لا يحل لأحد أن يقول قولنا حتى يعلم من أين قلناه" (٤) .
وقول الإمام مالك بن أنس ﵀ المشهور:" ما كان من كلامي موافقًا للكتاب والسنة فخذوه وما لم يوافق فاتركوه" (٥) .
وقول الإمام الشافعي ﵀:" الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط" (٦) .
_________
(١) الفتاوى: ٢٠/٣٩-٤٢.
(٢) يوسف القاسم/ مبادئ الفقه الإسلامي: ص ١١٥، الحجوي/ الفكر السامي: ٢/١٦٢.
(٣) محمد عوامة/ أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة ص ١٩.
(٤) ابن القيم/ أعلام الموقعين: ٢/١٨٢.
(٥) الشاطبي/ الاعتصام بالكتاب والسنة: ص ٥٠٥.
(٦) الذهبي/ سير أعلام النبلاء: ١٠/٧٨.
1 / 19
ويقول الإمام أحمد ﵀:" عليكم بأصحاب الآثار والسنن" (١) .
والمتأمل بعمق في كتابي الإمامين البخاري والترمذي يلحظ الترابط القوي بين الأحكام الشرعية التي ناقشها الأئمة الفقهاء وإثباتها بما صح من الأحاديث والآثار (٢) .
وهذه الأقوال توضح أن مذهب أعلام وعلماء الأمة محدثين وفقهاء: اعتماد السنة مصدرًا أساسيًا للتشريع الإسلامي، فمن شذّ عنهم بإنكار حجيتها، فقد جاء ببهتان وإثم عظيم، ومن شذّ فقد شذّ في النار.
_________
(١) المرجع السابق: ١١/٢٣١.
(٢) ظهرت دراسات في الحديث اهتمت بإظهار الجوانب الفقهية عند المحدثين، ومن أوائل من كتب في ذلك الأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود في كتابه الاتجاهات الفقهية عند المحدثين في القرن الثالث الهجري، الباحثة/ مدخل لدراسة أحاديث الأحكام، مجلة جامعة أم القرى العدد،١٨، ١٤١٩؟، ص ١٥٤.
1 / 20
المبحث الخامس: أقسام السنة من حيث ثبوتها ومن حيث دلالاتها
أولًا: أقسام السنة من حيث ثبوتها
...
المبحث الخامس: أقسام السنة من حيث ثبوتها ومن حيث دلالاتها
ينبغي لطلبة العلم بعد معرفتهم أن جميع الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًّا لا يتعمدون مخالفة السنة في دقيق ولا جليل، وأنهم متفقون يقينًا على وجوب إتباع الرسول ﷺ: معرفة أن تلك السنن منها المعتبر في التشريع من حيث الثبوت والدلالة ومنها غير المعتبر. وفصّل العلماء في ذلك حيث ذكروا أن بعض الأحاديث لا تصلح مصدرًا للتشريع، وأن بعض أفعاله ﷺ الخاصة به ليست حجة لعمل سائر الأمة ويوضح ذلك أكثر المبحث التالي:
أولًا: أقسام السنة من حيث ثبوتها
تنقسم من حيث ثبوتها إلى قسمين: ثابتة وغير ثابتة. والثابتة إما قطعية الثبوت أو ظنية الثبوت.
والقطعية هي الأحاديث المتواترة التي تفيد العلم اليقيني: أي الضروري الذي يضطر الإنسان إليه فلا يستطيع دفعه، والفرق بينه وبين العلم النظري: أن العلم الضروري يفيد العلم بلا استدلال والنظري يفيد العلم لكن مع الاستدلال، والضروري يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلاّ لمن فيه أهلية النظر (١) .
أما الظنية الثبوت فهي الأحاديث المقبولة التي رواها آحاد يغلب على الظن فيها صدق الخبر لصدق ناقله. فيؤخذ بها، ويجب العمل بها عند الجمهور، وتفيد غلبة الظن ما لم تعارض بمثلها.
_________
(١) العسقلاني: نزهة النظر: ص ٣٨.
1 / 21