The Sunna in Confrontation with Falsehoods
السنة في مواجهة الأباطيل
خپرندوی
دعوة الحق سلسلة شهرية تصدر مع مطلع كل شهر عربي
د خپرونکي ځای
السَنَة الثانية
ژانرونه
ـ[السنة في مواجهة الأباطيل]ـ
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾
[مطبوعات رابطة العالم الإسلامي]
دعوة الحق: سلسلة شهرية تصدر مع مطلع كل شهر عربي
السَنَة الثانية: ١٤٠٢ هـ ربيع الأول العدد (١٢)
السُنَّة في مواجهة الأباطيل
تأليف الأستاذ محمد طاهر حكيم
عدد الأجزاء: ١.
أَعَدَّهُ للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي].
ناپیژندل شوی مخ
المقدمة:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل عليه كتابه تبيانًا لكل شيء وهدى إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المنزل عليه الكتاب، فبيَّن أحكامه، ورفع إبهامه، وخصص إطلاقه وشرح أهدافه، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وذريته وعلينا معهم أجمعين، آمين.
وبعد:
فلا يخفى على من له أدنى إلمام بشرائع الإسلام أنَّ السُنَّة هي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، بل هي قُطْبُ رحاها، ومصدر إشعاعها، وشمس الحقيقة ومنبع الهداية، وهي السراج الوهاج في ليل داج، فقد كانت البشرية في الجاهلية تتخبط خبط عشواء، وكانت منغمسة في شهواتها، ومنتهية في جهالاتها، ومرتطمة في نزواتها، في خبط وحيرة، وظلمات مدلهمَّة لا تهتدي سبيلًا، ولا تجد طريقًا. حتى منّ الله عليها ببعث نبيه الكريم ﷺ وأنزل كتابه العظيم.
ولما كان القرآن الكريم محتويًا للأصول، غير مستقص لجميع التفاصيل، فيه من الإجمال شيء غير قليل، فوض الله بيانه إلى الرسول الكريم ﷺ بقوله:
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (١).
_________
(١) [النحل: ٤٤].
1 / 3
فكان رسول الله ﷺ هو المُبَيِّنُ عن الله والكتاب الناطق، والرحمة المهداة والنعمة المسداة.
ومن هنا يظهر جليًا، أنه لا يمكن فهم كتاب الله تعالى على وجهه، والعمل به على مراد الله تعالى، إلاَّ ببيان رسوله النيّر وأسوته الحسنة، وبيانه النيّر وأسوته الحسنة هما السُنَّة. فمن رام الهداية من غيرهما، أو من كتاب الله وحده، فقد رام المُحال.
ولما كانت للسُنَّة هذه المنزلة، وكان كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا مطمع في تغييره بالتصحيف والتحريف، أو الزيادة والنقص، قام أعداء الإسلام بالتشكيك في السُنَّة وحُجِيَّتها وزعزعة الثقة بها، وأثاروا الشُبُهَات المختلفة حولها، حتى - لا قَدَّرَ اللهُ - إذا تم لهم ذلك، إنهار صرح الإسلام من أساسه، وبعد تقويض بنيانه، ما أسهل نقل المسلمين إلى أي نحلة من النحل الباطلة.
وإذا كان مُنكرو السُنَّة قديمًا قد انقرضوا وصاروا في ذمة التاريخ، فإنَّ المستشرقين وتلامذتهم من المستسلمين قد حَلُّوا محلهم وقاموا بالهجوم على الإسلام، أنهم كشفوا عن سرائرهم، فليس يرضيهم شيء إلاَّ أن يفضوا أهله من حوله، وأنْ يملأوا الدنيا أراجيف بأن الإسلام دعوة باطلة، ورسالة زائفة، وأنه لا يجوز لها البقاء أكثر مِمَّا بقيت .. ألا ساء ما يصفون.
وقد تتابعت جهود المستشرقين وتلامذتهم لإشاعة هذا الإفك، وكثرت مؤلفاتهم التي تغمز الإسلام، وتنال من نبيه ورسالته، وتشريعاته، وبعض هذه المؤلفات قد تبدو عليها - في الظاهر - مسحة البحث العلمي المزعوم، وقد يكون صاحبه قد طالع -بالفعل - عددًا ضخمًا من المؤلفات الإسلامية القديمة والحديثة، ومن ثم يعرض أفكاره السامة في ألبسة من الاستنتاج الهادئ، وبين يدي نقول محرفة عن مواضعها.
1 / 4
ومن المؤسف حقًا أنَّ المستشرقين ليسوا وحدهم الخائضين في تاريخ الإسلام وتشريعه ورسالته، كذبًا وزورًا، عن سوء قصد أو سوء فهم، بل يشترك معهم فريق كبير من المستغربين - من العرب والمسلمين - في هذا الحوض الظالم الأليم.
والأغلب من هؤلاء الذين ينخدعون من المسلمين بالمستشرقين يكونون قد تأثروا بأفكار المستشرقين، إما بدراستهم في جامعات الغرب، أو جهلهم بحقائق التراث الإسلامي، وانخداعهم بالأسلوب العلمي المزعوم الذي يدَّعيه أولئك الخصوم.
ونظرًا لما أثير حول السُنَّة من اعتراضات وشُبُهات في ثبوتها وحجيتها ورُواتها، ولما فشا الجهل وضعف الوازع الديني في النفوس غالبًا، كان لا بد من دحض مفترياتهم وكشف شُبُهاتهم حتى لا يتأثر بها ضعفاء المؤمنين من العامة الذين ليس لهم كبير إلمام بالعلم ولاسيما بالسُنَّة وعلومها.
وهذا ما حفزني على الإدلاء بدلوي بين الدلاء والكتابة فيه، إسهامًا متواضعًا في الذود عن رياض السُنَّة وعلومها، وقد جعلت الموضوع في ستة أبواب كالآتي:
الباب الأول: (السُنَّة وما إليها).
وفيه أربعة فصول:
١ـ تعريف السُنَّة.
٢ـ مكانة السُنَّة التشريعية.
٣ـ حُجِيَّة السُنَّة.
٤ـ جهود العلماء لحفظ السُنَّة.
الباب الثاني: (نظرة سريعة عن مُنْكِرِي السُنَّة قديمًا).
وفيه ثلاثة فصول:
1 / 5
١ - السُنَّة والخوارج.
٢ - السُنَّة والشيعة.
٣ - السُنَّة والمعتزلة.
الباب الثالث: (السُنَّة ومُنْكروها حديثًا) عرض - وتحليل.
وفيه ستة فصول:
١ - السُنَّة والمستشرقون.
٢ - السُنَّة والدكتور توفيق صدقي.
٣ - السُنَّة والأستاذ أحمد أمين.
٤ - السُنَّة ومحمود أبي رية.
٥ - السُنَّة والدكتور أحمد زكي أبو شادي.
٦ - السُنَّة ومنكروها في القارة الهندية.
الباب الرابع: (شُبُهات مُنكري السُنَّة).
وفيه فصلان:
١ - شُبُهَات مُنْكِرِي السُنَّة عمومًا.
٢ - شُبُهَات أهل القرآن في القارة الهندية.
الباب الخامس: اعتراضات من مُنْكِرِي السُنَّة.
الباب السادس: أمثلة من الأحاديث الصحيحة تعرضت لنقد مُنْكِرِي السُنَّة.
هذا وقد راعيت الجانب العلمي في البحث، فخرَّجت الأحاديث، وشرحت معاني الجمل - إذ رأيت المقام يقتضي ذلك - وناقشت الشُبُهَات بأسلوب علمي هادئ رصين، ومقارعة الحُجَّة بالحُجَّةِ، من غير إسفاف بحث فيه مقتنع لكل ذي لب وإنصاف.
والله المسؤول أنْ يوفِّقني لخدمة السُنَّة المطهرة والعمل بها، وهو المرجو أنْ يتقبل عملي ويجزل أجري ويعفو عن سيئاتي، ويستر عوراتي وعيوبي، فإنه هو الغفور الرحيم.
1 / 6
وأختم كلمتي بدعوة الإمام ابن الجوزي ﵀ إذ يقول: اللهم لا تعذب لسانًا يخبر عنك، ولا عينًا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدمًا تمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك، اللهم آمين.
وصل الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا ..
طيبة الطيبة في ٢٩/ ٩ / ١٤٠١ هـ
خادم الكتاب والسُنَّة
محمد طاهر حكيم
وفَّقه الله
1 / 7
الباب الأول: (السُنَّة وما إليها):
وفيه أربعة فصول
١ - تعريف السُنَّة.
٢ - مكانة السُنَّة التشريعية.
٣ - حُجيَّة السُنَّة.
٤ - جهود العلماء لحفظ السُنَّة.
يشتمل هذا الباب على بيان حقيقة السُنَّة ومعناها ومنزلتها في التشريع الإسلامي وحُجيَّتها في كافة الشؤون الدينية والاجتماعية والأخلاقية .. ونبذة من جهود العلماء التي بذلوها لحفظ السُنَّة في كلمات مختصرة. وكان لا بد منه إذ كيف يمكن الدفاع عن شيء قبل بيان حقيقته ومكانته والجهود التي بذلت في سبيل الحفاظ عليه.
1 / 9
الفصل الأول: تعريف السُنَّة:
السُنَّة لغة: الطريقة، كذا في " القاموس " (١) و" اللسان " (٢).
ومنه قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (٣).
وقوله: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ (٤).
قال ابن كثير: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا﴾: أي هكذا عادتنا في الدين كفروا برسلنا (٥).
ومنه قوله ﷺ: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (٦)
ومنه قوله ﷺ: «أَتَرْغَبُونَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟» (٧). أي عن طريقة رسول الله ﷺ.
_________
(١) " القاموس المحيط ": مادة (سنن).
(٢) " لسان العرب ": مادة (سنن).
(٣) [الفتح: ٢٣].
(٤) [الإسراء: ٧٧].
(٥) " تفسير ابن كثير ": (٤/ ٣٣٢).
(٦) رواه ابن ماجه: (٢/ ١٣٢٢) قال في " الزوائد ": إسناده صحيح ورجاله ثقات والإمام أحمد في " المسند ": (١/ ٤٠٠، ٤٠٩).
(٧) أخرجه " البخاري " في كتاب النكاح - انظر " فتح الباري ": (٩/ ١٠٤) و" مسلم ": (٢/ ١٠٢٠) و" الدرامي ": (١/ ٣٤٣) بلفظ (أرغبت) والإمام أحمد: (٢/ ١٥٨، ١٦٥، ١٨٨، ٢١٠) و(٣/ ٣٤١، ٢٥٩، ٢٨٥) و(٦/ ٧، ٢٦٨، ٣٣٢، ٣٩٨).
1 / 10
وقوله: «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ» (١) أي من طريقتهم.
ويستخلص من النصوص السابقة أنَّ الكلمة استعملت بمعنى الطريقة والمادة.
والسُنَّة في اصطلاح المحدثين: «ما أثر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة سواء كان قبل البعثة أو بعدها» (٢).
وأما الأصوليون فالسنة عندهم: «ما صدر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير (٣) من غير القرآن الكريم».
وثمة إطلاق آخر في الفقه وهو ما يقابل الفرض فيقال: هذه سُنَّة وليس بواجب وليس بفرض.
السُنَّة عند المستشرقين:
قال شاخت: «إنَّ النظرة الكلاسيكية للفقه الإسلامي تُعَرِّف السُنَّةَ بأفعال النبي ﷺ المثالية، وفي هذا المفهوم يستعمل الشافعي كلمة السُنَّة وعنده أنَّ " السُنَّة " أو " سُنَّة الرسول " ﷺ كلمتان مترادفتان لكن معنى السُنَّة - على وجه الدقة - إنما هو النظائر السابقة (Precedent) ومنهج للحياة».
ويقول: «إنَّ مفهوم السُنَّة في المجتمع الإسلامي في العصر الأول كان: الأمر العرفي أو الأمر المجتمع عليه».
ولقد وضَّح جولدتسيهر «إنها مصطلح وثني في أصله وإنما تبنَّاهُ واقتبسه الإسلام».
_________
(١) رواه الترمذي: (٤/ ١٩٦) والإمام أحمد: (٥/ ٤٢١).
(٢) " توجيه النظر " للشيخ طاهر الجزائري: ص ٢ و" السُنَّة ومكانتها " للسباعي: ص ٤٧.
(٣) " إرشاد الفحول " للشوكاني: ص ٣١.
1 / 11
وقال مارغوليوث: «إنَّ معنى السُنَّة في صدر الإسلام: ما كان عُرفًا مألوفًا» (١).
إنَّ قوله هذا لا يستند إلى دليل وهو واهي في غاية الوهاء لأنَّ النبي ﷺ كان مُشَرِّعًا بالوحي الإلهي لا مُقلدًا للأعراف الجاهلية لأنه لم يكن ثم أي عرف قبل تشريع النبي ﷺ الأحكام بالوحي الإلهي إلاَّ الأعراف الجاهلية، ومحال أنْ يتَّبع النبي ﷺ الأعراف الجاهلية بَدَلَ الوحي الإلهي، وفساد كلامه ظاهر مستغن من الإطالة في ردِّه.
وأما قول شاخت أنَّ السُنَّة: «إنما هي النظائر السابقة» فلم تكن ثم قبل زمان النبي ﷺ إلاَّ الجاهلية البحتة لأنَّ شريعة - موسى وعيسى - عَلَيْهِمَا الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - كانتا حُرِّفَتَا ومُسِخَتَا ولم يبق أي عمل من شرائع الأنبياء السابقة إلاَّ بعض أفعال الحج وتوحيد الله ﷾.
وخلاصة القول: إنَّ السُنَّة معناها في اللغة - الطريقة والعادة حسنة كانت أم سيئة، وقد استعملها الإسلام في معناها اللغوي ثم خصَّصها بطريق النبي ﷺ.
ومن ناحية أخرى فإنَّ هذه الكلمة لم تكن مصطلحًا وثنيًا قط ولم يكن يقصد بها عند المسلمين عُرف المجتمع. اهـ.
_________
(١) انظر " دراسات في الحديث النبوي " للأعظمي: ص ٥ - ٦.
1 / 12
الفصل الثاني: مكانة السُنَّة التشريعية:
القرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام، والسُنَّة هي المصدر الثاني لأنها مُبيِّنة لأحكامه موضحة لإبهامه ومُخصِّصة لإطلاقه ومشرحة لأحكامه وأهدافه. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (١).
وقال: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (٢).
والرسول ﷺ كما خُصَّ بالوحي المتلو وهو القرآن الكريم كذلك خُصَّ بالوحي غير المتلو وهو السُنَّة، لا مندوحة عن اتباعها، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (٣).
وقال ﷺ: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» (٤). وهو السُنَّة.
قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٥).
_________
(١) [النحل: ٤٤].
(٢) [النحل: ٦٤].
(٣) [النجم: ٣، ٤].
(٤) رواه أبو داود عن المقداد: (٥/ ١٠).
(٥) [الحشر: ٧].
1 / 13
وقد قرن الله طاعة الرسول ﷺ بطاعته في آيات كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (١).
وألزم اتباعه عن طيب القلب تسليمًا وانقيادًا - فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (٢).
واعتبر طاعته طاعة لله واتباعه حُبًا لله ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (٣)
وقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٤).
وحذَّرَ من مخالفة أمره: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٥).
ولم يسوِّغ للمؤمنين مطلقًا أنْ يخالفوه في شيء كائنًا ما كان فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (٦).
وقد بيَّنتْ السُنَّة القرآن من وجوه فبيَّنت ما أجمل من عبادات وأحكام فقد فرض الله الصلاة على المؤمنين من غير أنْ يُبيِّنَ أوقاتها وأركانها وعدد ركعاتها فبَيَّنَ الرسول الكريم هذا بصلاته وتعليم المسلمين كيفية الصلاة فقال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (٧).
_________
(١) [آل عمران: ١٣٢].
(٢) [الأنفال: ٢٤].
(٣) [النساء: ٨٠].
(٤) [آل عمران: ٣١].
(٥) [النور: ٦٣].
(٦) [الأحزاب: ٣٦].
(٧) رواه الإمام البخاري: (١/ ١٢٥ - ١٢٦) بحاشية السندي.
1 / 14
وفرض الله الحج من غير أنْ يُبيِّن جميع مناسكه وجملة أحكامه، وقد بيَّنَ الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - تلك المناسك المُجملة وكيفيتها وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (١).
وفرض الزكاة من غير أنْ يُبيِّنَ ما تجب فيها من أموال وعروض وزُرُوع كما لم يُبَيِّنْ النصاب الذي تجب فيه، فبَيَّنَتْ ذلك كله.
«وفي السُنَّةِ أحكام لم يَنُصَّ عليها الكتاب وليست بيانًا له ولا تطبيقًا مؤكدًا لما نَصَّ عليه كتحريم الحُمُرِ الأهلية وكل ذي ناب من السباع وتحريم نكاح المرأة على عمَّتِها أو خالتها» (٢).
فخلاصة القول - أنَّ السُنَّة مصدر تشريعي مُهِمٌّ لا بد منه وأنها صِنْوُ الكتاب تسايره في الأحكام والتشريع على السواء وإنها لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن فصل السُنَّة عن الكتاب بحال من الأحوال ولذلك قال الشافعي: «فكل من قبل عن الله فرائضه، قبل عن رسول الله سُنَّته، بفرض الله طاعة رسوله ﷺ على خلقه، وأنْ ينتهُوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله ﷺ فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته» (٣).
_________
(١) رواه مسلم: (٢/ ٩٤٣) و" جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: (٢/ ١٩٠).
(٢) " السُنَّة قبل التدوين " لمحمد عجاج الخطيب: ص ٢٧.
(٣) " الرسالة " للشافعي: ص ٣٣.
1 / 15
الفصل الثالث: حُجِيَّةُ السُنَّة:
اتفق العلماء الذين يُعْتَدُّ بهم قاطبة على حُجِيَّةِ السُنَّةِ. قال الشوكاني: «إنَّ ثُبُوتَ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَاسْتِقْلاَلَهَا بِتَشْرِيعِ الأَحْكَامِ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَلاَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ لاَ حَظَّ لَهُ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ» (١).
والقرآن والسُنَّة وإجماع الأمَّة مطبقة على لزوم أتباع السُنَّة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (٢).
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (٣).
قال ميمون بن مهران: «الردُّ إلى الله هو الرجوع إلى كتابه وَالرَدُّ إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سُنَّتِهِ بعد وفاته» وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٤).
_________
(١) " إرشاد الفحول ": ص ٢٩.
(٢) [آل عمران: ٣١].
(٣) [النساء: ٥٩].
(٤) [الحشر: ٧].
1 / 16
فقد جعل سبحانه أمر رسوله واجب الاتِّباع ونهيُهُ واجب الانتهاء عنه، وهذه الآية تعتبر أصلًا لكل ما جاءت السُنَّة به مِمَّا لم يَرِدْ له ذكر في القرآن وعلى هذا الدرب صار من جاء بعد الصحابة من أئمة العلم والدين. فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب " العلم " له عن عبد الرحمن بن يزيد: «أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَنَهَى الْمُحْرِمَ، قَالَ: ائْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ بِهَا ثِيَابِي، فَقَرَأَ عَلَيْهِ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]».
وقال - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (١).
وقال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّتِي» (٢).
وقال البيهقي: «لولا ثبوت الحُجَّة بالسُنَّة لما قال ﷺ في خطبته بعد تعليم من شهدها أمر دينهم: " فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ "» (٣).
_________
(١) رواه الحاكم في " المستدرك ": (١/ ٩٦) وقال الذهبي: صحيح. وأبو داود في " سننه ": (٥/ ١٤) وأخرج الترمذي بعضه: (٧/ ٤١٧) في باب العلم، والإمام أحمد في " المسند ": (٤/ ١٢٦، ١٢٧).
(٢) رواه الترمذي في المناقب: (٧/ ٤١٧) والإمام أحمد في " المسند ": (١/ ٥١) و(٣/ ٥٩) والحاكم في " المستدرك " وذكره ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله ": (٢/ ١٨٠).
(٣) رواه البخاري - " فتح الباري ": (١/ ١٨٥، ١٩٧) و(٣/ ٥٧٤) والإمام مسلم في الحج: (١/ ٨٥ - ٨٦) والترمذي: (٣/ ٥٣٧) والدارمي: (١/ ٣٩٤) والإمام أحمد في " المسند ": (٤/ ٢١، ٣٢) و(٥/ ٤، ٣٧، ٣٩، ٤٠، ٤٥، ٤٩، ٧٢، ٣٤٢، ٣٦٦، ٤١١) و(٦/ ٣٨٥، ٤٥٦).
1 / 17
ثم أورد حديث: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (١).
قال الشافعي: «فلما ندب رسول الله ﷺ إلى استماع مقالته وحفظها، وأدائها، دَلَّ على أنه لا يأمر أنْ يُؤَدَّى عنه إلاَّ ما تقوم به الحُجَّةُ على من أدَّى إليه لأنه إنما يُؤَدَّى عنه حلال يُؤْتَى وحرام يُجْتَنَبُ وَحَدٌّ يُقَامُ ومالٌ يُؤْخَذُ ويُعْطَى في دين ودنيا.
ثم أورد البيهقي حديث أبي رافع قال: قال رسول الله ﷺ «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةٍ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» (٢).
وفي حديث المقداد أنَّ النبي ﷺ حَرَّمَ أشياء يوم خيبر: الحمار الأهلي وغيره ثم قال: «يُوشِكُ الرَجُلُ مُتَّكِئًا عَلى أرِيكَتِهِ، يُحَدِّثُ بَحَدِيث مِنْ حَدِيثي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَل اسْتَحْلَلْنَاهُ، ومَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وَإنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّم اللهُ» (٣).
_________
(١) رواه الحاكم: (١/ ٨٧، ٨٨٨) بلفظ «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا» وقال: على شرطهما، ووافقه الذهبي، وبلفظ آخر «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي» وابن ماجه: (١/ ٨٦) والترمذي: (٧/ ٤١٧) وله شاهد عند ابن ماجه: (١/ ٨٦) وعن زيد بن ثابت (١/ ٨٤) ومحمد بن جُبير (١/ ٨٥).
(٢) رواه أبو داود في " سُننه ": (٥/ ١٢) والترمذي في كتاب العلم: (٧/ ٤٢٤) وقال: حسن، وابن ماجه: (١/ ١٦) والدارمي: (١/ ١١٧) بلفظ: «لَيُوشِكَنَّ الرَّجُلُ» والإمام أحمد في " مسنده ": (٢/ ٣٦٨) و(٤/ ١٣١، ١٣٢).
(٣) رواه ابن ماجه عن معد يكرب: (١/ ٦) وأبو داود بإسناد حسن.
1 / 18
ثم قال البيهقي: «وهذا خبر من رسول الله ﷺ عما يكون من بعده من رَدِّ المبتدعة فوجد تصديقه فيما بعده» (١).
ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَنْ شَبِيبٍ بْنِ أَبِي فُضَالَةَ الْمَكِّيّ: «أَنَّ عِمْرَاَنَ بْنَ حُصَيْن - رَضِيَ اللهُ - عَنهُ ذكر الشَّفَاعَة فَقَالَ رجل من الْقَوْم: يَا أَبَا نَجِيدٍ إِنَّكُم تُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ لَمْ نَجِدْ لَهَا أَصْلًا فِي القُرْآنِ، فَغَضِبَ عِمْرَان وَقَالَ لِلْرَّجُلِ: قَرَأْتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَْل وَجَدْتَ فِيهِ صَلاَةَ العِشَاءِ أَرْبَعًا وَوَجَدْتَ المَغْرِبَ ثَلاَثًا وَالغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَالظّهْرَ أَرْبَعًا وَالعَصْرَ أَرْبَعًا؟ قَالَ: لاَ: قَالَ. فَعَنْ مَنْ أَخَذْتُمْ ذَلِك، أَلَسْتُمْ عَنَّا أَخَذْتُمُوهُ وَأَخَذْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ أَوَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَفِي كل كَذَا بَعِيرًا كَذَا وفى كُلِّ كَذَا دِرْهَمًا كَذَا. قَالَ: لاَ. قَالَ فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك؟ أَلَسْتُمْ عَنَّا أَخَذْتُمُوهُ وَأَخَذْنَاهُ عَن النَّبِيِّ ﷺ؟ وَقَالَ: أَوَجَدْتُمْ فِي الْقُرْآن: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (٢) أَوَجَدْتُمْ فِيهِ فَطُوفُوا سَبْعًا وَارْكَعُوا رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ المَقَامِ، أَوَجَدْتُمْ فِي الْقُرْآن: لاَ جلب وَلَا جنب وَلاَ شِغَارَ فِي الإِسْلاَم؟ أَمَا سَمِعْتُمْ اللهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٣) قَالَ عِمْرَاَنُ: فَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَشْيَاءَ لَيْسَ لَكُمْ بِهَا عِلْمٌ (٤).
_________
(١) " مفتاح الجنة ": ص ٥، ٦.
(٢) [الحج: ٢٩].
(٣) [الحشر: ٧].
(٤) " مفتاح الجنة ": ص ٦.
1 / 19
حسب أهوائهم ونزعاتهم، وقد بحث في هذا الحديث بعض الأئمة فقال: عرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فوجدناه مُخالفًا له لأنَّا وجدنا في كتاب الله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (١).
ووجدنا فيه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (٢).
ووجدنا فيه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (٣).
وهكذا نرى أنَّ القرآن الكريم يُفَنِّدُ هذا الحديث ويَرُدُّهُ.
قال السيوطي: «فاعلموا رحمكم الله أَن من أنكر كَون حَدِيث النَّبِي ﷺ قولًا كَانَ أَو فعلا بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوف فِي الأُصُول حجَّة، كفر وَخرج عَن دَائِرَة الإِسْلاَم وَحشر مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى، أَو مَعَ من شَاءَ الله من فرق الْكَفَرَة».
وروى الإمام الشافعي ﵁ يومًا حديثًا وقال: إنه صحيح فقال له قائل: أَتَقُولُ بِهِ يَا أَبَا عَبْدَ اللهِ، فَاضْطَرَبَ وَقَالَ: يَا هَذَا أَرَأَيْتَنِي نَصْرَانِيًا، أَرَأَيْتَنِي خَارِجًا من كَنِيسَةٍ، أَرَأَيْتَ فِي وَسَطِي زُنَّارًا؟ أَرْوِي حَدِيثَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَلاَ أَقُولُ بِهِ؟ (٤) اهـ.
_________
(١) [الحشر: ٧].
(٢) [آل عمران: ٣١].
(٣) [النساء: ٨٠]. " إرشاد الفحول ": ص ١٣، ١٤.
(٤) " مفتاح الجنة ": ص ٣.
1 / 20
الفصل الرابع: جهود العلماء لحفظ السُنَّة:
أسلفنا في الفصلين السابقين - مكانة السُنَّة التشريعية وحُجية السُنَّة ونذكر في هذا الفصل بيذة من جهود العلماء من لدن الصحابة والتابعين لحفظ السُنَّة وصيانتها لِنُدَلِّلَ على أنَّ السُنَّة حظيت من أول يومها بسياج وحماية منقطعة النظير، وما ذلك إلاَّ لأنهم عرفوا منزلة السُنَّة وإنها المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على السُنَّة نورها وبالغوا في التحري والتثبت في روايتها خشية الوقوع في الخطأ وخوفًا من أنْ يتسرَّب إليها التصحيف أو التحريف، بل إنَّ بعضهم فَضَّلَ الإقلال من الرواية، قال ابن قتيبة: «وَكَانَ عُمَرُ أَيْضًا شَدِيدًا عَلَى مَنْ أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ، أَوْ أَتَى بِخَبَرٍ فِي الْحُكْمِ لاَ شَاهِدَ لَهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقِلُّوا الرِّوَايَةَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَنْ لاَ يَتَّسِع النَّاس فِيهَا، وَيَدْخُلُهَا الشَّوْبُ؛ وَيَقَعُ التَّدْلِيسُ وَالكَذِبُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْفَاجِرِ وَالأَعْرَابِيِّ. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، وَأَهْلِ الخَاصَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَأَبِي بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يُقِلُّون الرِّوَايَةَ عَنْهُ. بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ لاَ يَكَادُ يَرْوِي شَيْئًا كَسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالجَنَّةِ» (١).
وكما احتاط السلف في التحديث احتاطوا وتثبَّتُوا في قبول الأخبار عن رسول الله ﷺ، قال الذهبي: «كَانَ أَبُو بَكْرٌ ﵁، أَوَّلَ مَنْ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الأَخْبَارِ، فَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ
_________
(١) " تأويل مختلف الحديث ": ص ٤٨، ٤٩.
1 / 21
أَنَّ الجَدَّةَ جَاءَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَلْتَمِسُ أَنْ تُوَرَّثَ، فَقَالَ: " مَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ ﷺ ذَكَرَ لَكِ شَيْئًا "، ثُمَّ سَأَلَ النَّاسَ فَقَامَ المُغيرَةُ فَقَالَ: " سَمِعُتُ رَسُولَ الْلَّهِ ﷺ يُعْطِيهَا الْسُّدُسَ ". فَقَالَ لَهُ: " هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ " فَشَهِدَ مُحَمَّدٌ بْن مَسْلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُوْ بَكْرٍ ﵁» (١).
وفي " صحيح مسلم " (٢): اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ النَّاسَ فِي إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ (٣)، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ.
وحدث لعمر مثل هذه الحادثة مع كثير من الصحابة منهم أُبَيْ بن كعب وأبي موسى وفي رواية قال عمر لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ» (٤).
وعن عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - قال: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِي وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٌ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ﷿، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ» (٥).
_________
(١) رواه الترمذي (٦/ ٢٧٨، ٢٧٩) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الفرائض (٣/ ٣١٦)، وابن ماجه (٢/ ٩٠٩)، ومالك (٢/ ٥١٣)، و" الكفاية " للخطيب البغدادي: ص ٢٦.
(٢) " صحيح مسلم ": (٣/ ١٣١١).
(٣) هو جنين المرأة.
(٤) " موطأ الإمام مالك ": (٢/ ٩٦٤).
(٥) رواه أحمد: (١/ ١٥٤، ١٧٤، ٣٨٧)، وابن ماجه: (١/ ٤٤٦) ورقم الحديث (١٣٩٥) و" الكفاية " للخطيب البغدادي: ص ٢٨.
1 / 22