The Prophetic Sunnah as Revelation - Khalil Khater
السنة النبوية وحي - خليل خاطر
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
ژانرونه
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لا علمَ لنا إلا ما علَّمتَنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتَنا، وزدنا علمًا.
اللهم لا سهل إلا ما جعلتَه سهلًا، وأنت تجعلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سهلًا، فيسِّر لنا أمورَنا، واختم لنا بالسعادة، إنك على كل شيء قدير.
أما بعد:
فقد جعل الله تعالى معجزةَ النبي المصطفى الكريم ﷺ الوحيَ، ذلك أن الله تعالى أعطى كلَّ نبيٍّ من أنبيائه ﵈ آيةً يُعرف بها، وتدل على نبوته، وصدقه، ولكن كل تلك الآيات أو المعجزات كانت وقتيَّةً، زال أثرها بزوال وقتها، وبموت من حضرها، وقد أَعطى الله تعالى نبيَّه المصطفى الكريم ﷺ من تلكم المعجزات والخوارق ... الشيءَ الكثير، فهو أكثر واحد فيهم أُعطي، ولكن معجزتَه ﷺ التي بقيت بعده، واستمر عطاؤها إلى زماننا، وستبقى إلى قيام الساعة: هي الوحي.
ولهذا طلب الله تعالى منه ﷺ أن ينذر به.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ [سورة الأنبياء: ٤٥]
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: " ما مِن
1 / 1
الأنبياء نبي إلا أُعطي مِن الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعًا يوم القيامة " متفق عليه (١) .
وقال ﷺ كما في حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله تعالى عنه-: "ألا إني أُعطيتُ القرآنَ ومثلَه معه، ... " رواه أحمد وأبو داود والطحاوي والآجري والدارقطني والبغوي وابن حبان في آخرين (٢) . ورواه آخرون بلفظ قريب.
ومن خلال الآية الكريمة والحديثين الشريفين يتضح أن رسول الله ﷺ (قد أعطاه الله جل شأنه وحيين، هما: وحي القرآن الكريم، ووحي السنة النبوية الشريفة. لكن القرآن الكريم: وحيٌّ متلُوٌّ معجِزٌ متعبَّدٌ بتلاوته، ... وأما السنة النبوية: فهي وحيٌ غيرُ متلُوٍّ ولا معجز ولا متعبَّد بتلاوته، ... إلخ الفوارق (٣) .
والقرآنُ الكريمُ خاتمةُ الكتب، وهو وحي من الله تعالى، لأنه كلامه جل شأنه؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد تكفَّل الله سبحانه
_________
(١) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن: باب كيف نزل الوحي، وفي غيرهما. وصحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد (إلى جميع الناس، رقم (٢٣٩)
(٢) مسند أحمد (٤: ١٣٠- ١٣١) وسنن أبي داود: كتاب السنة: باب في لزوم السنة، رقم (٤٦٠٤) وسنن الدارقطني (٤: ٢٨٧) وصحيح ابن حبان (١: ١٨٩ رقم ١٢) وشرح معاني الآثار (٤: ٢٠٩) والشريعة (١: ٤١٥-٤١٦) وشرح السنة (١: ٢٠١) والمعجم الكبير (٢٠: ٢٨٣) ومسند الشاميين (٢: ١٣٧) (٣: ١٠٣) والتمهيد (١: ١٤٩- ١٥٠) وذم الكلام (٢: ١٣٤ - ١٣٥) والسنن الكبرى للبيهقي (٩: ٣٣٢) ودلائل النبوة (٦: ٥٤٩) والفقيه والمتفقه (١: ٨٩) .
(٣) انظر: (السنة النبوية وحي) و(نشأة علوم الحديث) حيث ذكرت أنواع الوحي وأقسامه ومظاهره، والفرق بين نوعَي الوحي؛ وحي القرآن، ووحي السنة.
1 / 2
وتعالى بذلك. والنبيُّ المصطفى الكريمُ ﷺ هو رسول الله ﷺ (- والرسولُ من مرسِله، لأنه يبلِّغ عنه ما يريد - والرسالةُ قد تكون مختومةً ليس له إلا تبليغها بعبارتها ولفظها، وقد تكون شفاهًا يبلغها بعبارته، لأنه مؤتمن. لذا فما كان من القسم الأول فهو: وحيُ القرآن، وما كان من القسم الثاني فهو: وحيُ السنة. والله تعالى أعلم.
وهذا ما دلت عليه الآياتُ القرآنيةُ الكريمةُ، والأحاديثُ النبويةُ الشريفةُ، ودلائلُ النبوة، واتفقت كلمةُ العلماء رحمهم الله تعالى عليه. وهو أن ما نطق به رسول الله ﷺ: هو وحيٌ - لكنه غيرُ مَتْلُوٍّ ولا مُعجِز - أوحاه الله ﷾ إليه.
قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى (١) - وقد سئل عن الوحي -: «الوحيُ ما يُوحي الله إلى نبي من الأنبياء، فيثبتُه في قلبه، فيتكلم به، ويكتبه، وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به، ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، لكنه يحدِّث به الناسَ حديثًا، ويبين لهم أن الله أمره أن يبيِّنه للناس، ويبلغهم إياه» .اهـ.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (٢): ما فرض رسول الله ﷺ (شيئًا قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يُتلى، ومنه ما يكون وحيًا إلى رسول الله ﷺ؛ فيستن به - ثم ذكر حديثَ المطلب بن حنطب ﵁، عن النبي ﷺ قال: "ما تركتُ شيئًا مما أمركم الله به: إلا وقد أمرتُكم به، ولا شيئًا مما نهاكم عنه: إلا وقد نهيتُكم عنه، وإن الروحَ الأمينَ قد أَلقى في رُوعي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستوفي رزقَها، فأجملوا في الطلب".
قال الإمام الشافعي: وقد قيل: ما لم يُتْلَ قرآنًا، إنما ألقاه جبريل في رُوعه
_________
(١) انظر: الإتقان (١: ٤٤) .
(٢) الأم (٧:٢٧١) وجماع العلم بحاشية الأم (٧:٢٥١) وانظر الرسالة (٨٨ - ١٠٥) .
1 / 3
ﷺ بأمر الله، فكان وحيًا إليه.
وقيل: جعل الله إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم، أن يسن.
وأيهما كان؛ فقد ألزمهما الله تعالى خلقَه، ولم يجعل لهم الخِيَرَةَ من أمرهم، فيما سَنَّ لهم، وفرض عليهم اتباع سنته. اهـ.
وقال رحمه الله تعالى - في موطن آخر (١) في تعليقه على حديث اللعان، فيما نَقل عمَّن سبقه -: فأَمْرُ الله تعالى إياه وجهان:
أحدهما: وحيٌ ينزل، فيُتلى على الناس.
الثاني: رسالةٌ تأتيه عن الله تعالى، بأن افعل كذا فيفعله، ... اهـ
وقال الإمامُ ابنُ حزم الظاهريُّ رحمه الله تعالى (٢): لما بيَّنّا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع؛ نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجابَ طاعة ما أمرنا به رسول الله ﷺ (ووجدناه ﷿ يقول فيه واصفًا لرسوله ﷺ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣– ٤] فصح لنا أن الوحيَ ينقسم من الله ﷿ إلى رسوله ﷺ إلى قسمين:
أحدهما: وحيٌ متلُوٌّ، مؤَلَّفٌ تأليفًا، معجزُ النظام، وهو القرآن.
والثاني: وحيٌ مرويٌّ، منقولٌ غيرُ مؤلَّفٍ، ولا معجز النظام، ولا متلُوٍّ، لكنه مقروء، وهو الخبرُ عن رسول الله ﷺ، وهو المبيِّنُ عن الله ﷿ مرادَه منا، قال الله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] .
_________
(١) انظر الأم (٥: ١١٣ - ١١٤) وانظر: مناهل العرفان (١: ٥٠) .
(٢) الإحكام في أصول الأحكام (١: ٩٦ - ٩٨) .
1 / 4
ثم قال: والقرآن والخبرُ الصحيح بعضُهما مضافٌ إلى بعض، وهما شيءٌ واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهما حكمٌ واحد، ... ثم قال: أخبر تعالى - كما قدمنا - أن كلامَ نبيِّه ﷺ كلَّه وحيٌ، والوحيُ بلا خلاف ذِكْرٌ، والذكرُ محفوظٌ بنص القرآن، ... إلخ
ونقل الإمام السيوطي رحمه الله تعالى عن الإمام الجويني رحمه الله تعالى قال: كلام الله المنزل قسمان:
قسم: قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسَلٌ إليه: إن الله تعالى يقول: (افعل كذا وكذا، وأمر بكذا) ففهم جبريل ما قاله ربُّه، ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما قاله ربُّه، ولم تكن تلك العبارةُ تلكَ العبارة.
كما يقول الملِكُ لمن يثق به: قل لفلانٍ يقول الملِك: اجتهد في الخدمة، واجمع جندَك للقتال، فإن قال الرسول: يقول الملِك: لا تتهاون في خدمتي، ولاتترك الجند تتفرق، وحُثَّهم على المقاتَلة؛ لا يُنسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة.
وقسم آخر: قال الله تعالى لجبريل ﵇: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريلُ بكلمةٍ من الله تعالى، من غير تغيير، كما يكتب الملِك كتابًا، يسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يُغَيِّرُ منه كلمةً ولا حرفًا. اهـ
قال الإمامُ السيوطي رحمه الله تعالى (١) - في تعليقه على هذا القول -: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة. كما ورد أن جبريل ﵇ كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز روايةُ الحديث
_________
(١) الإتقان (١: ٤٤) .
1 / 5
بالمعنى، لأن جبريل أدّاه بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى، لأن جبريل أدّاه باللفظ، ولم يُبح له إيحاءَه بالمعنى.
والسر في ذلك: أن المقصودَ منه التعبدُ بلفظه، والإعجازُ به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، ... والتخفيفُ على الأمة، إذ جعل المنزَّلَ إليهم على قسمين؛ قسم: يروُونه بلفظه الموحَى به، وقسم: يروونه بالمعنى، ولو جعل كلُّه مما يُروى باللفظ لَشَقَّ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف، فتأمل. اهـ
قلت: لكن لم أر من ذكر أن جبريل ﵇ كان ينقل نصَّ الحديث إلى رسول الله ﷺ بالمعنى، ويتصرف في العبارة، إلا أن يقال: فُهم أنه أُبيح له، مقارنةً بلفظ القرآن، وعدم تغيير حرف منه، والله تعالى أعلم.
وقد بدأت عنايتي بهذا الموضوع (السنة النبوية وحي) عندما كتبتُ (الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأثره في الحديث وعلومه) إذ بينت فيه أن السنة النبوية وحي. كما يراها الإمامُ الشافعي رحمه الله تعالى.
والأدلة على أن السنة وحي هي أربعة مصادر:
أولًا: من القرآن الكريم، ثانيًا من السنة النبوية الشريفة، ثالثًا من دلائل النبوة، رابعًا: الإعجاز العلمي.
وقد جعلت هذا المختصر على شاكلة الأصل، من خمسة فصول:
أما الفصل الأول فيحوي: بين النبوة والوحي، وفيه تعريف الوحي، وأنواعه، والنبوة تثبت بالوحي لا بنزول الكتاب، وليس كل الوحي مكتوبًا.
ويحوي الفصل الثاني: الأدلة من القرآن الكريم.
1 / 6
ويحوي الفصل الثالث: الأدلة من السنة النبوية.
ويحوي الفصل الرابع: الأدلة من دلائل النبوة.
ويحوي الفصل الخامس: الأدلة من الإعجاز العلمي.
وفي الخاتمة: نتائج البحث والتوصيات.
أسأله تعالى أن يجعل هذا البحث وغيره خالصًا لوجهه الكريم، ويجعله ذخيرة مدخرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ويرزقني فيه الصدقَ في القول، والإخلاصَ في العمل، ويسدد قلمي، ويحفظني فيما بقي من عمري في ديني وصحتي وعقلي وذريتي، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله وسلَّم على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
1 / 7
الفصل الأول: بين النبوة والوحي
مدخل
...
الفصل الأول: بين النبوة والوحي
إن الحديث عن الاستدلال على أن السنة النبوية وحي لا بد أن يسبقه أمور: تعريف الوحي، وبيان أنواعه، وهل يشترط نزولُ كتاب على من اختاره الله تعالى للنبوة، أو يُكتفى بوجود الوحي؟ لأنه لو كان يُشترط وجودُ كتابٍ حتى تثبت نبوة من اختاره الله تعالى؛ لَما بقي إلا القليل من العدد الكبير من الأنبياء والرسل ﵈، لأنه من الثابت عدم وجود الكتب عند الكثيرين منهم، كما لا بد من معرفة أن ليس كل ما ينزل على الأنبياء ﵈ من وحيٍ هو مكتوب، بل قد يكون غير مكتوب، وهذا ما سنراه إن شاء الله تعالى في هذا الفصل.
والخلاصة أن الكلام في هذا الفصل سيكون في أربعة أمور:
أولًا: في تعريف الوحي.
ثانيًا: في أنواع الوحي.
ثالثًا: النبوة تثبت بالوحي لا بنزول الكتاب.
رابعًا: ليس كل الوحي مكتوبًا. والله تعالى هو الموفق والمعين.
أولًا - تعريف الوحي: الوحي لغةً: يطلق على: الإشارة، ِ والكتابةِ، والرسالةِ، والإلهامِ، والكلامِ الخفيِّ، والسرعة، وكل ما ألقيتَهُ إلى غيرك. ومن هذا يقال للوحي: هو الإعلامُ الخفيُّ السريعُ (١) . وقد ورد الوحيُ بالمعنى اللغوي في عدد من الآيات القرآنية. _________ (١) انظر: الزاهر (٢: ٣٥٣) والصحاح (٢٥١٩ وما بعد) ومعجم مقاييس اللغة (٦: ٩٣) والقاموس المحيط (٤: ٣٩٩) والمغرب (٢: ٣٤٤-٣٤٥) ولسان العرب (١٥: ٣٧٩وما بعد) .
أولًا - تعريف الوحي: الوحي لغةً: يطلق على: الإشارة، ِ والكتابةِ، والرسالةِ، والإلهامِ، والكلامِ الخفيِّ، والسرعة، وكل ما ألقيتَهُ إلى غيرك. ومن هذا يقال للوحي: هو الإعلامُ الخفيُّ السريعُ (١) . وقد ورد الوحيُ بالمعنى اللغوي في عدد من الآيات القرآنية. _________ (١) انظر: الزاهر (٢: ٣٥٣) والصحاح (٢٥١٩ وما بعد) ومعجم مقاييس اللغة (٦: ٩٣) والقاموس المحيط (٤: ٣٩٩) والمغرب (٢: ٣٤٤-٣٤٥) ولسان العرب (١٥: ٣٧٩وما بعد) .
1 / 9
كقولِه تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ [سورة القصص: ٧]
وقولِه تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [سورة النحل: ٦٨]
وقولِه جل شأنه: ﴿شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [سورة الأنعام: ١١٢]
وقولِه تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [سورة مريم: ١١]
وقولِه تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ [سورة المائدة:١١١]
وقولِه ﷿: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ ِ [سورة فصلت:١٢]
وقولِه تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [سورة الزلزلة: ١– ٥]
وأما تعريفُه في الشرع: فهو الإعلامُ بالشرع. وذلك بأن يُعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كلَّ ما أراد اطلاعَه عليه؛ من حُكمٍ شرعي وغيرِه، ويكونُ في خفاءٍ، غيرِ معتادٍ للبشر، وهذا باعتبار مصدرِه.
وقد يُطلق ويرادُ به اسمُ المفعول منه، وهو المُوحى به؛ وهو كلامُ الله ﷿ المنزَّلُ على نبيه الكريم سيدنا محمدٍ ﷺ.
ثانيًا - أنواع الوحي: قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١]
ثانيًا - أنواع الوحي: قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: ٥١]
1 / 10
لقد حصرها الله تعالى في ثلاثِ حالات، وهي ترجع إلى حالتين:
الأولى: بغير واسطة، وتشمل الحالتين الأولى والثانية.
والثانية: بواسطة، وتشمل الحالة الثالثة.
والحالات الثلاث هي:
١- قوله تعالى: ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾ فيكون بغير واسطةٍ، وله حالتان:
- يكون في اليقظةِ؛ كالإلهامِ، والتكلمِ ليلةَ المعراج مع النبي المصطفى الكريم ﷺ بدون واسطة، ...
- يكون في المنام؛ كما في قصة إبراهيم ﵇، وكما في قصة دخول النبي ﷺ مكة، ... إلخ.
٢- قوله تعالى: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ وذلك بأن يكلمَ الله تعالى نبيَّه من وراء حجاب، كما حصل لموسى ﵇.
٣ - قوله تعالى: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ فيوحي ذلك الرسولُ الملَكُ إلى المرسَلِ إليه من البشر، بإذن الله تعالى ما يشاءُ الله تعالى، وله صور متعددة:
أ - أن يظهر بصورته الحقيقية الملكية، كما حصل لرسول الله ﷺ، إذ رأى جبريلَ ﵇ مرتين، كما حكى القرآن الكريم في سورة النجم. (١)
ب - أن يظهرَ جبريلُ ﵇ بصورةِ إنسانٍ، ويراه الناسُ، وقد ظهر في صورة دِحية الكلبي رضي الله تعالى عنه مرارًا، كما ظهر في صورة أعرابي، كما في حديث سؤاله عن «الإيمان، والإسلام، والإحسان» وهو المعروف بحديث جبريل ﵇.
_________
(١) انظر الآيات البينات لما في الإسراء والمعراج من الخوارق والمكرمات، فقد أوضحت ذلك، وذكرت النصوص فيه.
1 / 11
ج- أن ينفث في الرُّوع، وذلك بأن ينفث روحُ القدس في رُوع النبيِّ المصطفى الكريم ﷺ.
د- أن يهبط على النبي المصطفى الكريم ﷺ خفية - وهذا هو الغالب -، بحيث لا يراه الناسُ الحاضرون، ولكن يظهر أثرُه من التغيير والانفعال الذي يصيب النبيَّ المصطفى الكريمَ ﷺ، والاستغراق التام، ... وتصببِ العرق في اليوم الشديد البرد. وله مقدمةٌ تُنبِّه النبيَّ الكريمَ ﷺ بقدومه، شبَّهها ﷺ بصلصلة الجرس، ويسمعها الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم كدوي النحل.
والقرآن الكريم نزل كلُّه بواسطةِ جبريل ﵇، إلا ما ورد في أواخر سورة البقرة (١) .
_________
(١) انظر: الإتقان (١: ٤٤ - ٤٥) ومناهل العرفان (١: ٤٨ - ٥١) .
ثالثًا - ثبوت النبوة بالوحي: إن نزول الوحي على من اصطفاه الله تعالى من البشر؛ بما يريدُه تعالى، وبما يدلُّه عليه، وينزله عليه من أحكام تشريعية، وأخبارٍ بمغيبات، ودلائل، وحججٍ، ... كلُّ ذلك يدل على أن هذا المصطفى من الخلق إنما هو نبي، أُعلم بذلك من قِبَل الله تعالى، وهو كافٍ في الدلالة على نبوته واصطفائه من قِبَلِ ربه ﷿. فإذا نزل عليه أمرٌ من الله جل شأنه بتبليغ ما أنزل عليه، فهو رسولٌ، فحصل من هذا: أن كلَّ رسولٍ نبيٌّ، ولا عكس. وقد يكون النبيُّ المختارُ متعبَّدًا على شريعةِ من سبقه من الأنبياء والرسل
ثالثًا - ثبوت النبوة بالوحي: إن نزول الوحي على من اصطفاه الله تعالى من البشر؛ بما يريدُه تعالى، وبما يدلُّه عليه، وينزله عليه من أحكام تشريعية، وأخبارٍ بمغيبات، ودلائل، وحججٍ، ... كلُّ ذلك يدل على أن هذا المصطفى من الخلق إنما هو نبي، أُعلم بذلك من قِبَل الله تعالى، وهو كافٍ في الدلالة على نبوته واصطفائه من قِبَلِ ربه ﷿. فإذا نزل عليه أمرٌ من الله جل شأنه بتبليغ ما أنزل عليه، فهو رسولٌ، فحصل من هذا: أن كلَّ رسولٍ نبيٌّ، ولا عكس. وقد يكون النبيُّ المختارُ متعبَّدًا على شريعةِ من سبقه من الأنبياء والرسل
1 / 12
على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. كما قد يكون في الوقت الواحد أكثرُ من نبيٍّ، ولو في القرية الواحدة، ... كما قد يكون أكثر من رسول أيضًا.
ولا يشترطُ وجودُ كتابٍ منزل من قبل الله تعالى حتى يعتبر ذلك المصطفى بالوحي رسولًا أو نبيًا، إنما العبرةُ بوجود الوحي، لأنه من المجمع عليه أن الكتب والصحف إنما نزلت على بعض الأنبياء والرسل ﵈، أما أغلب الأنبياء والرسل ﵈ فليس عندهم كتب ولا صحف، إنما ينزل عليهم الوحي بما يريده الله ﷿. ولو كان يُشترط وجودُ الكتاب لصحة النبوة أو الرسالةِ لأُلغِيت نبوةُ كثيرين ورسالتهُم من الرسل والأنبياء ﵈، لعدم وجود ذلك عندهم.
كما لو كان وجودُ الكتاب شرطًا لصحة نبوة كل نبي، لوجب وجودُ الكتب عندهم جميعًا، وهذا خلاف الواقع المجمع عليه، وهو وجودُ بعض الكتب عند بعض الأنبياء والرسل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
لكن المجمع عليه: هو وجودُ الوحي عند جميعهم ﵈.
كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ [النساء:١٦٣]
فيلاحظ قوله تعالى: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ إذ ذكر نوحًا ﵇ لأنه أولُ رسولٍ أُرسل إلى البشرية، ثم ذكر ﴿وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ليكون شاملًا مستغرِقًا جميعَ الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة السلام من بعد نوح ﵇.
1 / 13
وقال الله جل شأنه عن سيد البشر عليه وآله الصلاة والسلام: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: ١١٠]
فالعبرة إذًا: بوجود الوحي، وبه قامت الحجةُ على الناس كلهم، والله تعالى أعلم.
رابعًا - ليس كل الوحي مكتوبًا: والأمر الآخر المقرر، بالنسبة للأنبياء والرسل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام الذين ينزل عليهم الوحي، فإنه لا يُشترط أن يكون ذلك الوحيُ مكتوبًا، سواء ممن لم يسبق لهم كتابٌ منزل، كما هو الحال في أغلب الأنبياء والرسل ﵈، أو حتى الذين نزلت عليهم كتبٌ وصحفٌ؛ كموسى وعيسى وداود ... على نبينا وعليهم الصلاة السلام، فإنه لا يشترط أن يكون جميعُ الوَحْي المنزَّل إليهم مكتوبًا في الكتب أو الصحف المنزلةِ عليهم. وقد عرفنا هذا مما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم. ولما كانت الشواهدُ في القرآن الكريم كثيرةً جدًا فإني أقتصر على ذكر شاهدين فقط: ليكونا مثالًا لما قررتُه هنا، ومن أراد الزيادة، فليرجع إلى ما كتبته في غير هذا المكان (١) . المثال الأول: قال الله ﵎ بعد ما ذكر ما كان بين نوح ﵇ وبين قومه -: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا _________ (١) انظر: شبهات حول السنة ودحضها، والسنة النبوية وحي - الفصل الرابع من الباب الأول.
رابعًا - ليس كل الوحي مكتوبًا: والأمر الآخر المقرر، بالنسبة للأنبياء والرسل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام الذين ينزل عليهم الوحي، فإنه لا يُشترط أن يكون ذلك الوحيُ مكتوبًا، سواء ممن لم يسبق لهم كتابٌ منزل، كما هو الحال في أغلب الأنبياء والرسل ﵈، أو حتى الذين نزلت عليهم كتبٌ وصحفٌ؛ كموسى وعيسى وداود ... على نبينا وعليهم الصلاة السلام، فإنه لا يشترط أن يكون جميعُ الوَحْي المنزَّل إليهم مكتوبًا في الكتب أو الصحف المنزلةِ عليهم. وقد عرفنا هذا مما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم. ولما كانت الشواهدُ في القرآن الكريم كثيرةً جدًا فإني أقتصر على ذكر شاهدين فقط: ليكونا مثالًا لما قررتُه هنا، ومن أراد الزيادة، فليرجع إلى ما كتبته في غير هذا المكان (١) . المثال الأول: قال الله ﵎ بعد ما ذكر ما كان بين نوح ﵇ وبين قومه -: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا _________ (١) انظر: شبهات حول السنة ودحضها، والسنة النبوية وحي - الفصل الرابع من الباب الأول.
1 / 14
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ثم يقول الله ﵎ في خاتمة الآيات لنبيه المصطفى الكريم سيدنا محمد ﷺ: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾ [هود: ٣٦ – ٤٩]
هذا الخطاب من الله تعالى لنوح ﵇ بعدم إيمان قومه، وأمره ﷿ له ﵇ بصناعة السفينة، وعدم مخاطبته جل وعز في الكفار بعد عقوبتهم، ثم هذه المحاورة بين الله تعالى ونوح ﵇ بشأن ولد نوح، وما كان منه، ثم الأمر منه تعالى لنوح بالهبوط من السفينة إلى اليابسة: هل هذا موجودٌ في كتابٍ مكتوبٍ عند نوح ﵇ يقرؤه ويتلوه، أو هو خطاب مباشِرٌ، كلّمه الله جلت قدرته به مباشرةً، وليس ثمة كتاب يقرؤه؟
والجواب: لا يمكن أن يكون هذا مكتوبًا في كتاب، إذ لو كان مكتوبًا عنده في كتاب لأُمر بالرجوع إليه مباشرة، ولما احتيج إلى هذه المحاورة والمخاطبة، ثم إن سياق القصة يتضح منه عدم وجوده عنده من قبل، كما هو واضح، والله تعالى أعلم.
1 / 15
المثال الثاني:
ما كان بين موسى ﵇ وبني إسرائيل، في قصة البقرة.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٦٧- ٧٣] .
ففي هذه الآيات: أمرانِ وأربعةُ أقوالٍ لله تعالى، فلو كانت هذه الأقوال في التوراة، لما اضطر موسى ﵇ إلى الأسئلة عن البقرة وأجوبتها، بل لأمرهم بالرجوع إلى التوراة، أو لقرأها عليهم، وأمرهم بالعمل بها، وكل ذلك غير موجود، إنما هو سؤالٌ وجوابٌ عن حادثةٍ وقعت.
1 / 16
يضاف إلى هذا: أن التوراة نزلت جملةً واحدةً، وليس فيها إلا ما هو مسطور، وأما ما يقع بعدها من حوادث فتحتاج إلى جوابٍ جديدٍ. وهذا الخطاب هو وحيٌ غير مسطور ولا متلوٍّ.
فإذا جاز هذا لموسى وغيره من الأنبياء السابقين على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فنبينا المصطفى الكريم ﷺ من باب أولى وأولى، والله تعالى أعلم.
1 / 17
الفصل الثاني: الأدلة من القرآن الكريم
الأول: أدلة عامة
...
الفصل الثاني
الأدلة من القرآن الكريم
إن الأدلة من القرآن الكريم على أن السنة النبوية وحي نوعان:
الأول: أدلة عامة.
والثاني: أدلة جزئية، وسأذكر من كل نوع بعضَ الأدلة على قدر هذا المختصر، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى كتاب (السنة النبوية وحي) فقد ذكرت سبعين دليلًا على التفصيل.
أما النوع الأول: وهو الأدلة العامة، ففيها نصوص كثيرة، أقتصر على بعضها للتدليل، ومن أراد الزيادة فلينظر في الأصل.
١- قال الله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:١- ٥]
فقوله جل وعز: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ لفظة عامة؛ تشمل جميع ما يلفظه ﷺ، لأنها سياق النفي، وقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ حصر ذلك بالوحي، لأن معناه - والعلم عند الله تعالى - ما هو إلا وحي يوحى إليه.
وإذا كان كلُّ ما يقولُه ﷺ: إنما هو وحيٌ يُوحى إليه به، دل على أن السنة النبوية هي وحي. والله تعالى أعلم.
ولا يصح حمل هذا اللفظ الكريم على غير رسول الله ﷺ، بدلالة سياق الآية الكريمة ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ وهو ما عبَّر عنه تعالى بذلك في عدَّة آيات، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَاصَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] والآيات التي تليها. والله تعالى أعلم.
1 / 19
٢- قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩] في أربع آيات كريمات، تكرَّرَ فيها عطفُ الحكمة على الكتاب (١) .
فالحكمة المعطوفة على الكتاب - هي السنة النبوية - وهي وحي منزل من عند الله تعالى بدلالة الآيات التاليات.
قال الله جل شأنه: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه﴾ [البقرة: ٢٣١]
وقال الله ﷿: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]
فقول الله ﷾: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ و﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ يدل على أن «الحكمة» منزَّلةٌ من عند الله ﷿، كما هو الحال في الكتاب الكريم، لأنها معطوفةٌ عليه، ومقرونةٌ به، وكلاهما منزَّل.
ولا يصح أن يقال: إن «الحكمة» هنا هي «الكتاب» بدلالة قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٤]
فالكتابُ هو آيات الله ﷿ في هذه الآية الكريمة - عُطفت عليها الحكمةُ، فدل اللفظ على التغاير، لكن كلاهما - أي الكتاب والحكمة-
_________
(١) انظر: سورة البقرة (١٥١) وسورة آل عمران (١٦٤) وسورة الجمعة (٢) .
1 / 20
منزَّلان متلوان، ولا يكون ذلك إلا للوحي. وإن كان تلاوةُ الكتاب الكريم غيرَ تلاوة الحكمة. والله تعالى أعلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (١): ذَكَر الله الكتابَ - وهو القرآن - وذكر الحكمةَ، فسمعتُ مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنةُ رسول الله ﷺ.
وهذا يشبه ما قال، والله تعالى أعلم.
لأن القرآن ذُكِر، وأُتبعته الحكمةُ، وذَكَر الله مَنَّه على خَلْقه: بتعليمهم الكتابَ والحكمةَ، فلم يَجُز - والله أعلم - أن يُقال الحكمة ههنا: إلا سنة رسول الله ﷺ.اهـ
وما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى - ونقله عمن رضي من أهل العلم بالقرآن - ليس مذهبَه فحسب، بل هو مذهبُ عامة السلف والمفسرين (٢)، كما بينت هذا في غير هذا الموضع. والله تعالى أعلم.
٣- لقد تكفل الله تعالى بجمع القرآن الكريم في صدر رسول الله ﷺ، كما تكفل جل شأنه ببيانه، فقال ﷿ ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [سورة القيامة: ١٦ – ١٩]
كان رسول الله ﷺ يُحرِّك لسانه أثناء قراءة جبريل ﵇ في نزوله بالوحي عليه ﷺ، مخافةَ أن ينفلت منه، ولا يحفظه، فنُهي ﷺ عن ذلك، وأُخبر أن الله ﷿ هو المتكفل بحفظه في صدره ﷺ، وجريانه على لسانه بعد
_________
(١) الرسالة (٧٨ - ٧٩) وانظر جماع العلم - بحاشية الأم - (٧: ٢٥١) .
(٢) انظر: الإمام الشافعي وأثره في الحديث وعلومه، حيث بينت هناك أنه مذهب السلف وعامة المفسرين.
1 / 21
ذلك، كما أنه تعالى هو المتكفِّل بتفهيم تلك الآيات ومناسباتها له ﷺ، ويوضِّح ذلك:
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "كان رسول الله ﷺ يُعالج من التنزيل شدَّة، وكان مما يُحرِّك شفتيه".
وفي رواية:"كان رسولُ الله ﷺ إذا نزل جبريلُ ﵇ عليه بالوحي، وكان مما يُحرك به لسانه وشفتيه، فيشتدّ عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله الآية التي في ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ قال: علينا أن نجمعه في صدرك، وقرآنه (فتقرأه) ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ قال: فإذا أنزلناه فاستمع ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ علينا أن نبيِّنه بلسانك (وفي رواية أخرى: أن نبيِّنه على لسانك) قال: فكان (رسول الله ﷺ بعد ذلك) إذا أتاه جبريل أطرق. فإذا ذهب جبريل قرأه النبي ﷺ كما وعده الله". متفق عليه (١) .
فقولُه في الحديث (علينا أن نبيِّنه على لسانك - أو بلسانك -) هو بيان مجملات الوحي، وتوضيح مشكلاته، وبيان معانيه وأحكامه، ... والله تعالى أعلم، بحيث يُجري الله تعالى ذلك على لسان نبيه ومصطفاه ﷺ بعد قذف ذلك في قلبه. والله تعالى أعلم.
وقولُه ﷾: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ تَكَفُّلٌ من الله ﷿ ببيان القرآن الكريم؛ الذي يُشكل على الناس في معانيه، ومجمله، وأحكامه، ...
وهذا البيان الذي تكفَّل الله تعالى به: إما أن يكون قرآنًا لاحقًا؛ ينزله في كتابه مثل القرآن النازل، أو لا.
_________
(١) صحيح البخاري: كتاب الوحي: باب (٤) حدثنا موسى بن إسماعيل، وكتاب التفسير: سورة القيامة: باب؟ ««؟ وباب؟ ««؟ وفي غيرها. وصحيح مسلم: كتاب الصلاة: باب الاستماع للقراءة، رقم (١٤٧- ١٤٨)
1 / 22