The Precious Collection on the Ruling of Supplicating to Other than the Lord of the Worlds
المجموع الثمين في حكم دعاء غير رب العالمين
ژانرونه
المجموع الثمين
في حكم دعاء غير رب العالمين
جمع وإعداد
الدكتور/ محمد بن عبد الله المقشي
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يَقبل توحيدَ ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كلَّ الإفراد، فلا يتَّخذون له ندًّا، ولا يَدْعون معه أحدًا، ولا يتَّكلون إلَاّ عليه، ولا يَفزعون في كلِّ حال إلَاّ إليه، ولا يَدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفعاء: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ﴾.
وأشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له ربًّا ومعبودًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، وكفى بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له في السلامة من العيوب وتطهير القلوب عن اعتقاد كلِّ شين يشوب" (^١).
وبعد: فهذه نقولٌ كثيرة أبرزناها من محالها من كلام أئمة وعلماء أجلاء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرها في حكم دعاء غير الله تعالى، والاستغاثة عند الشدائد بالأموات من الأنبياء والأولياء والصالحين، والتوجّه إليهم، وطلب الحاجات منهم من دون الله تعالى.
علمًا بأنّ من هؤلاء الأئمة والعلماء من أجاز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ولكنهم فرّقوا بين التوسل بهم وبين الاستغاثة بهم. وهؤلاء العلماء فيما يتعلق بصفات الله تعالى منهم من كان على عقيدة السلف وأهل الحديث والأثر، ومنهم من كان أشعريًا، ومنهم من كان ماتريديًا.
ولم أذكر ضمن هذه النقول ما كان من نقول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من أئمة الدعوة النجدية؛ لكثرة كلامهم في ذلك جدًا حتى ظنَّ بعضُ الناس أنّ الكلام في هذه المسألة هو من ابتداعهم وأنهم لم يُسبقوا إليه.
وقد اقتصرتُ على مجرد الجمع - وما عليّ إلا عهدة العزو- ليحكم القارئُ نفسُه بعد الاطلاع على هذه النقول على حكم ما يحصل من كثير من الناس مِن دعاء غير الله تعالى لقضاء الحاجات وانكشاف المهمات، والاستغاثة بغيره تعالى عند الشدائد والبليات.
واللهَ أسألُ أن يبارك هذا العمل، وأن يتقبله مني، وأن يجعله عملًا صالحًا، ولوجهه خالصًا، وألا يجعل لأحد فيه شيئًا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، ويرزقنا العمل به، إنه نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(^١) هذه المقدمة مقتبسة من مقدمة كتاب تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد للسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (المتوفى: ١١٨٢ هـ).
1 / 2
• قال الإمام نعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري (المتوفى: ٢٢٨ هـ): "لا يستعاذ (^١) بالمخلوق ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة" (^٢).
وفي فتح الباري: "قال نعيم بن حماد في الرد على الجهمية: دلّت هذه الأحاديث. يعني الواردة في الاستعاذة بأسماء الله وكلماته والسؤال بها ... على أن القرآن غير مخلوق؛ إذ لو كان مخلوقا لم يستعذ بها، إذ لا يستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ وقال النبي ﷺ: «وإذا استعذت فاستعذ بالله» " (^٣).
• وقال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري (المتوفى:٣١٠ هـ) عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾: "يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها" (^٤).
وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾: "يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها لا تنفع ولا تضر.
﴿فَإِن فَعَلْتَ﴾ ذلك، فدعوتها من دون الله ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾، يقول: من المشركين بالله، الظالمي أنفُسِهم" (^٥).
_________
(^١) الاستعاذة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب.
(^٢) خلق أفعال العباد للبخاري (ص: ٩٦) دار المعارف - الرياض.
(^٣) فتح الباري للحافظ ابن حجر (١٣/ ٣٨١).
(^٤) جامع البيان (١٥/ ٥١) مؤسسة الرسالة.
(^٥) المصدر السابق (١٥/ ٢١٨ - ٢١٩).
1 / 3
• وقال إمام الأئمة ابن خزيمة (المتوفى:٣١١ هـ): "أفليس العلم محيطا يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي ﷺ بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟
هل سمعتم عالمًا يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله، هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه" (^١).
• وقال الإمام أبو بكر الخلال (المتوفى:٣١١) تعليقا على أحاديث الاستعاذة: "ولا يجوز أن يقال: أعيذك بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة أو بالعرش أو بالأرض مما خلق الله، لا يتعوذ إلا بالله أو بكلماته" (^٢).
• وقال الإمام أبو عبد الله ابن بطة العُكْبَري (المتوفى: ٣٨٧ هـ) بعد ذكره لأحاديث الاستعاذة: "فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي ﷺ بمخلوق، ويتعوذ هو ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟!
وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله؟! فيقول: أعيذ نفسي بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسي أو بالأرض؟.
وإذا جاز أن يتعوذ بمخلوق مثله، فليعوذ نفسه وغيره بنفسه، فيقول: أعيذك بنفسي" (^٣).
• وقال الإمام أبو سليمان الخطابي (المتوفى:٣٨٨): "وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله «بكلمات الله التامة» على أن القرآن غير مخلوق، وهو أن رسول الله ﷺ لا يستعيذ بمخلوق" (^٤).
وقال أيضًا: "لا يستعاذ بغير الله أو صفاته، إذ كل ما سواه تعالى وصفاته مخلوق، ... والاستعاذة بالمخلوق شرك مناف لتوحيد الخالق لما فيه من تعطيل معاملته تعالى الواجبة له على عبيده" (^٥).
_________
(^١) كتاب التوحيد (١/ ٤٠١ - ٤٠٢) مكتبة الرشد - الرياض.
(^٢) الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (١/ ٣٠٣) رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية.
(^٣) الإبانة الكبرى (٥/ ٢٦٢) دار الراية للنشر والتوزيع.
(^٤) معالم السنن (٤/ ٣٣٢) المطبعة العلمية - حلب.
(^٥) العقد الثمين في بيان مسائل الدين للسويدي الشافعي (ص: ٢٢٥) المطبعة الميمنية بمصر.
1 / 4
وقال أيضًا: "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه ﷿ العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله ﷿، وإضافة الجود والكرم إليه" (^١).
• وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي (المتوفى:٤٠٣ هـ): "والدعاء من جملة التخشع والتذلل؛ لأن كل من سأل ودعا فقد أظهر الحاجة وباح بها، واعترف بالذلة والفقر والفاقة لمن يدعوه لمن يدعوه ويسأله، فكان ذلك في العبد نظير العبادات التي يتقرب بها إلى الله عزّ اسمه" (^٢).
وذكر أنه لما كان الدعاء سؤالا وطلبا وجب تجريد الطلب؛ لأنه أخشع من خلافه، فإن الطلب إذا كان تذللًا فكل ما كان منه أخلص وأبين كان التذلل فيه أشد" (^٣).
وقال أيضًا: الغياث: هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومريحهم ومخلصهم" (^٤).
• وقال الحافظ البيهقي (المتوفى: ٤٥٨): "فاستعاذ رسول الله ﷺ، وأمر أن يستعاذ في هذه الأخبار بكلمات الله تعالى، كما أمره الله تعالى جل ثناؤه أن يستعيذ به، ... ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق من مخلوق، فدل أنه استعاذ بصفة من صفات ذاته، وأمر أن يستعاذ بصفة من صفات ذاته، وهي غير مخلوقة كما أمره الله تعالى أن يستعيذ بذاته، وذاته غير مخلوق" (^٥).
• وسئل القاضي أبو يعلى ابن الفراء الحنبلي (المتوفى: ٤٥٨) عن مسائل عديدة وردت عليه من مكة وكان منها: ما تقول في قول الإنسان إذا عثر: (محمد أو علي)؟
فقال: إن قصد الاستعانة فهو مخطئ؛ لأن الغوث من الله تعالى فقال: وهما ميتان فلا يصح الغوث منهما، ولأنه يجب تقديم الله على غيره" (^٦).
_________
(^١) شأن الدعاء (ص: ٤).
(^٢) المنهاج في شعب الإيمان (١/ ١٧١) دار الفكر.
(^٣) المصدر السابق (١/ ٥٣٢).
(^٤) الأسماء والصفات للبيهقي (١/ ١٧٢) مكتبة السوادي، جدة - المملكة العربية السعودية.
(^٥) المصدر السابق (١/ ٤٧٦ - ٤٧٧).
(^٦) بدائع الفوائد للحافظ ابن القيم (٤/ ٤٠) دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
1 / 5
• وقال الحافظ ابن عبد البر (المتوفى: ٤٦٣): "وفي الاستعاذة بكلمات الله أبين دليل على أنّ كلام الله منه تبارك اسمه، وصفة من صفاته، ليس بمخلوق؛ لأنه محال أن يستعاذ بمخلوق. وعلى هذا جماعة أهل السنة. والحمد لله" (^١).
• وقال أبو القاسم القشيري (المتوفى: ٤٦٥) عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا﴾ قال: " «إِلهًا آخَرَ» في الظاهر عبادة الأصنام المعمولة من الأحجار، المنحوتة من الأشجار. وكما تتصف بهذا النفوس والأبشار فكذلك توهّم المبارّ والمضارّ من الأغيار شرك" (^٢).
• وقال أبو المظفر السمعاني (المتوفى: ٤٨٩) عند تفسيره قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾: "أَي: قَالُوا مَا نعبدهم، أَو يَقُولُونَ: مَا نعبدهم أَي: مَا نعْبد الْمَلَائِكَة ﴿إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أَي: الْقرْبَة. وَمعنى الْآيَة: أنهم يشفعون لنا عِنْد الله" (^٣).
وقال أيضًا عند تفسير قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾: "لأنهم زعموا أن الملائكة والأصنام يشفعون لهم" (^٤).
• وقال الراغب الأصفهاني (المتوفى: ٥٠٢): "العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: ﴿أ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ﴾ " (^٥).
وقال أيضًا: "ودَعَوتُه: إذا سألته، وإذا استغثته، قال تعالى: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾، أي: سله، وقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾، تنبيها أنكم إذا أصابتكم شدة لم تفزعوا إلا إليه، ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾، ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾، ﴿وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ﴾ " (^٦).
• وقال الإمام أبو حامد الغزالي (المتوفى:٥٠٥): "المؤمن لا يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط في الطلب، قال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ " (^٧).
_________
(^١) التمهيد (٢٤/ ١٨٦) وزارة الأوقاف - المغرب.
(^٢) لطائف الإشارات (٢/ ٦٥٠) الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(^٣) تفسير السمعاني (٤/ ٤٥٨) دار الوطن - الرياض.
(^٤) المصدر السابق (١/ ٢٥٨).
(^٥) مفردات ألفاظ القرآن (٢/ ٥٧) دار القلم - دمشق.
(^٦) المصدر السابق (١/ ٣٤٧).
(^٧) غاية الأماني في الرد على النبهاني لشكري الألوسي (٢/ ٣٧٨) مكتبة الرشد، الرياض - السعودية.
1 / 6
• وقال الإمام البغوي (المتوفى: ٥١٠، أو ٥١٦ هـ) عند تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى): "قال قتادة: وذلك إنهم كانوا إذا قيل لهم: من ربكم؟ ومن خلقكم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، أي قربى، وهو اسم أقيم في مقام المصدر، كأنّه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريبا ويشفعوا لنا عند الله" (^١).
وقال أيضًا عند شرحه لحديث «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»: "وفي هذا الحديث وفي أمثاله مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله دليل على أن كلام الله غير مخلوق، لأن النبي ﷺ استعاذ به كما استعاذ بالله، ... ولم يكن النبي ﷺ يستعيذ بمخلوق من مخلوق" (^٢).
وقال أيضًا عند تفسير قوله تعالى ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾: "فكان من إيمانهم إذا سئلوا: من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، وإذا قيل لهم: من ينزل القطر؟ قالوا: الله، ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون ...
وقال عطاء: هذا في الدعاء، وذلك أنّ الكفار نسوا ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء" (^٣).
• وقال ابن عقيل إمام الحنابلة ببغداد في زمنه (المتوفى:٥١٣): "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركا وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال اليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، ولا تجد في هؤلاء من يحقق مسألة في زكاة فيسأل عن حكم يلزمه، والويل عندهم لمن لم يقبِّل مشهد الكهف ولم يتمسح بآجرة مسجد المأمونية يوم الأربعاء ... " (^٤).
وقال أيضًا: "قد سمعنا منهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخدّة مجاب، وذلك أنهم يعتقدون أنه قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، قال: وهذا كفر؛ لأن من اعتقد الحرام أو المكروه قربة كان بهذا الاعتقاد كافرًا، قال: والناس بين تحريمه وكراهيته" (^٥).
_________
(^١) معالم التنزيل (٤/ ٧٩) دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(^٢) شرح السنة (١/ ١٨٥) المكتب الإسلامي - دمشق - بيروت.
(^٣) معالم التنزيل (٢/ ٥١٧).
(^٤) تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: ٣٥٤) دار الفكر - بيروت، إغاثة اللهفان (١/ ١٩٥) دار المعرفة - بيروت.
(^٥) تلبيس إبليس (ص: ٣٠٦).
1 / 7
• وقال ابن مفلح: "وفي الفنون: لا يخلّق القبور بالخلوق والتزويق والتقبيل لها والطواف بها والتوسل بهم إلى الله قال: ولا يكفيهم ذلك حتى يقولوا بالسر الذي بينك وبين الله. وأي شيء من الله يسمى سرا بينه وبين خلقه. قال: ويكره استعمال النيران والتبخير بالعود والأبنية الشاهقة الباب سموا ذلك مشهدا. واستشفوا بالتربة من الأسقام وكتبوا إلى التربة الرقاع ودسوها في الأثقاب، فهذا يقول جمالي قد جَربِت، وهذا يقول: أرضي قد أجدبت، كأنهم يخاطبون حيا ويدعون إلها" (^١).
• وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي (المتوفى: ٥٢٠): "فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها" (^٢).
• وقال قوام السنة الأصبهاني الشافعي (المتوفى: ٥٣٥): "ومن أسمائه: الوهاب: يهب العافية، ولا يقدر المخلوق أن يهبها. ويهب القوة ولا يقدر المخلوق أن يهبها، تقول: يا رب هب لي العافية ولا تسأل مخلوقا ذلك، وإن سألته لم يقدر عليه، وتقول عند ضعفك: يا رب هب لي قوة، والمخلوق لا يقدر على ذلك" (^٣).
• وقال الإمام أبو عبد الله المازري المالكي (المتوفى:٥٣٦): "من علامات الموحدين التوجه إلى السماء عند الدعاء وطلب الحوائج؛ لأنّ العرب التي تعبد الأصنام تطلب حوائجها من الأصنام، والعجم من النيران" (^٤).
• وقال أبو الفتح الشهرستاني الشافعي (المتوفى: ٥٤٨): "وبالجملة وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبا منابه وقائما مقامه، وإلا فنعلم قطعا أنّ عاقلًا مّا لا يَنحت جسمًا بيده ويصوره صورة، ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه، وإله الكل وخالق الكل؛ إذ كان وجوده مسبوقا بوجود صانعه، وشكله يحدث بصنعة ناحته.
_________
(^١) الفروع (٢/ ٢١٤) دار الكتب العلمية.
(^٢) الحوادث والبدع (ص: ٣٨ - ٣٩) دار ابن الجوزي.
(^٣) الحجة في بيان المحجة (١/ ١٥٦) دار الراية - الرياض.
(^٤) المعلم بفوائد صحيح مسلم (١/ ٤١٢) دار النشر التونسية.
1 / 8
لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها، كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها. وعن هذا كانوا يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب" (^١).
• وقال الشيخ العارف عبد القادر الجيلاني (المتوفى:٥٦١) لولده عند مرض موته: "لا تخف أحدًا ولا ترجه، وأوكل الحوائج كلها إلى الله، واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى الله ﷿، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه. التوحيد التوحيد التوحيد. وجماع الكل التوحيد" (^٢).
وقال أيضًا: "يا من يشكو إلى الخلق مصائبه، إيش ينفعك شكواك إلى الخلق، لا ينفعونك ولا يضرونك، وإذا اعتمدت عليهم وأشركت في باب الحق ﷿ يبعدونك، وفي سخطه يوقعونك، وعنه يحجبونك" (^٣).
وقال أيضًا: "لا تدعو مع الله أحد كما قال: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ ".
وقال أيضًا: "ينبغي لكل مسلم موحّد أن لا يتكل إلا على الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يعتقد التصرف إلا لله" (^٤).
• وقال الفخر الرازي (المتوفى: ٦٠٦) أثناء كلامه عن كيف قال المشركون في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله: "أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل، فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى.
ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظّموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله" (^٥).
_________
(^١) الملل والنحل (٣/ ١٠٤ - ١٠٥) مؤسسة الحلبي.
(^٢) الفتح الرباني والفيض الرحماني (ص: ٣٧٣) دار الريان للتراث.
(^٣) المصدر السابق (١١٧ - ١١٨).
(^٤) غاية الأماني في الرد على النبهاني (٢/ ٣٧٦).
(^٥) مفاتيح الغيب (١٧/ ٢٢٧) دار إحياء التراث العربي - بيروت.
1 / 9
وقال أيضًا: "واعلم أنّ الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالًا فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع، وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله.
فأجاب الله تعالى بأن قال: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾. وتقرير الجواب أنّ هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جُعلت هذه الأصنام تماثيل لها، والأول باطل؛ لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئًا ولا تعقل شيئًا فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها.
والثاني باطل؛ لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئًا ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره، وهذا هو المراد من قوله تعالى ﴿قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة جَمِيعًا﴾ " (^١).
وقال أيضًا عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾: "فإن فعلتَ فإنك إذًا من الظالمين، يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين، لأنّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما سوى الحق معزولا عن التصرف، كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعا للشيء في غير موضعه فيكون ظلما" (^٢).
وذَكَرَ أيضًا أن المقصود من الدعاء "إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية" (^٣).
وقال أيضًا: "وقال الجمهور الأعظم من العقلاء: إن الدعاء أهم مقامات العبودية" (^٤).
وقال أيضًا: "وعن النعمان بن بشير أنه ﵇ قال: «الدعاء هو العبادة» وقرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، فقوله: «الدعاء هو العبادة» معناه أنه معظم العبادة، وأفضل العبادة، كقوله ﵇ «الحج عرفة» أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم" (^٥).
_________
(^١) المصدر السابق (٢٦/ ٤٥٦).
(^٢) المصدر السابق (١٧/ ٣٠٩).
(^٣) المصدر السابق (٥/ ٢٦٥).
(^٤) المصدر السابق (٥/ ٢٦٣).
(^٥) المصدر السابق (٥/ ٢٦٤).
1 / 10
وقال أيضًا: "في هذه الآية قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ولم يقل: فقل إني قريب، فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول: كأنه ﷾ يقول: عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك ...
والرابع: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله فإنه لا يكون داعيا له، فإذا فني عن الكل صار مستغرقا في معرفة الأحد الحق، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظا لحقه وطالبا لنصيبه، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتا إلى غرض نفسه لم يكن قريبا من الله تعالى، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله، فكان الدعاء أفضل العبادات" (^١).
وقال أيضًا: "اعلم أنه تعالى لما بين أن القول بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ " (^٢).
وقال أيضًا عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِه إِلا إِنَاثًا﴾: "معنى يعبدون؛ لأنّ من عبد شيئًا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه" (^٣).
• وقال أبو السعادات ابن الأثير (المتوفى: ٦٠٦): "وإنما كان [أي: الدعاء] مخها [أي: العبادة] لأمرين: أحدهما: أنه امتثال أمر الله تعالى حيث قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فهو محض العبادة وخالصها.
الثاني: أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده. وهذا هو أصل العبادة" (^٤).
• وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام (المتوفى: ٦٦٠) في جوابه عن حكم الإقسام على الله تعالى بمعظَّم في الدعاء: "قد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله ﷺ عَلّم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: «قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد ﷺ نبي الرحمة»، وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورًا على رسول الله؛ لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيهًا على علو درجته ومرتبته" (^٥).
_________
(^١) المصدر السابق (٥/ ٢٦٤).
(^٢) المصدر السابق (٢٧/ ٥٢٧).
(^٣) المصدر السابق (ص: ١١/ ٢٢١).
(^٤) النهاية في غريب الحديث والأثر (٤/ ٦٤١) المكتبة العلمية- بيروت.
(^٥) فتاوى العز بن عبد السلام (ص:١٢٦ - ١٢٧) دار المعرفة - بيروت - لبنان.
1 / 11
• وقال الحافظ أبو شامة المقدسي الشافعي (المتوفى:٦٦٥): "ثم هذه البدع المستقبحة والمحدثات تنقسم قسمين: قسم تعرف العامة والخاصة أنه بدعة إما محرمة وإما مكروهة.
وقسم يظنه معظمهم إلا من عصم عبادات وقربا وطاعات وسننا.
فأما فالقسم الأول فلا نطيل بذكره؛ إذ قد كفينا مؤنة الكلام فيه لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين ...
وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها.
ومن هذا القسم أيضًا ما قد عمّ الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرح مواضع مخصومة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن اشتهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك.
ثم يتجاوزون هذا الى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق صانها الله تعالى من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشببها بذات أنواط الواردة في الحديث" (^١).
• وقال أبو عبد الله القرطبي (المتوفى: ٦٧١): "ولا خفاء أنّ الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك" (^٢).
وقال أيضًا عند تفسيره قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾: "فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة. وكذا قال أكثر المفسرين" (^٣).
وقال أيضًا عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾: "قوله تعالى: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ﴾ أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. ﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم.
_________
(^١) الباعث على إنكار البدع (ص: ٢٥ - ٢٦) دار الهدى- القاهرة.
(^٢) الجامع لأحكام القرآن (١٩/ ١٠) دار الكتب المصرية - القاهرة.
(^٣) المصدر السابق (١٥/ ٣٢٦).
1 / 12
ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل، كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين، أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى بقوله: ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ ويجوز أن يندرج فيه الاصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة" (^١).
• وقال العلامة أبو عبد الله الرازي الحنفي (المتوفى: ٦٦٦): "ويحرم قوله في الدعاء: أسألك بمقعد العز من عرشك، وبحق العز من عرشك، وبحق فلان وبحق النبي ﷺ" (^٢).
• وقال الإمام النووي (المتوفى: ٦٧٦): "وقوله ﷺ «إذا سألت فاسأل الله» إشارة إلى أنّ العبد لا ينبغي أن يعلق سرّه بغير الله، بل يتوكل عليه في سائر أموره، ثم إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه كطلب الهداية والعلم والفهم في القرآن والسنة وشفاء المرض وحصول العافية من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة، سأل ربه ذلك.
وإن كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أن الله ﷾ يجريها على أيدي خلقة، كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع وولاة الأمور، سأل الله تعالى أن يعطف عليه قلوبهم فيقول: اللهم أحنن علينا قلوب عبادك وإمائك وما أشبه ذلك" (^٣).
• وقال الإمام القرافي المالكي (المتوفى:٦٨٤) بعد أن ذكر بعض الأدعية التي هي كفر: "فينبغي للسائل أن يحذر هذه الأدعية وما يجري مجراها حذرا شديدا لما تؤدي إليه من سخط الديان والخلود في النيران وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة واستباحة الأرواح والأموال، وهذا فساد كله يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية، ولا يرجع إلى الإسلام ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلا بتجديد الإسلام والنطق بالشهادتين، فإن مات على ذلك كان أمره كما ذكرناه، نسأل الله تعالى العافية من موجبات عقابه، وأصل كل فساد في الدنيا والآخرة إنما هو الجهل فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت، كما أنّ أصل كل خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم فاجتهد في تحصيله ما استطعت، والله تعالى هو المعين على الخير كله" (^٤).
• وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي (المتوفى: ٦٨٥): "إنما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمَّى عبادة من حيث إنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله، معرض عما سواه لا يرجو ولا يخاف إلا منه" (^٥).
_________
(^١) المصدر السابق (١٤/ ٣٣٦).
(^٢) تحفة الملوك (ص: ٢٣٦ - ٢٣٧) دار البشائر الإسلامية - بيروت.
(^٣) شرح الأربعين النووية (ص: ٦٣) مكتبة دار الفتح بدمشق.
(^٤) الفروق (٤/ ٢٦٥) عالم الكتب.
(^٥) فيض القدير للمناوي (٣/ ٥٤٠) المكتبة التجارية الكبرى - مصر.
1 / 13
• وقال العلامة علي بن داود ابن العطار تلميذ الإمام النووي (المتوفى: ٧٢٤): "قوله «إذا سألت فاسأل الله» معناه الأمر بالإخلاص وترك الاعتماد على الوسائط" (^١).
• وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى: ٧٢٨): "فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين" (^٢).
ونَقَلَ هذا الإجماع عن الإمام ابن تيمية غيرُ واحد مقررين له، منهم ابن مفلح (المتوفى: ٧٦٣) في كتابه الفروع (١٠/ ١٨٨)، والمرداوي (المتوفى: ٨٨٥) في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (١٠/ ٣٢٧)، والحجاوي (المتوفى: ٩٦٨) في الإقناع (٤/ ٢٩٧)، والبهوتي (المتوفى: ١٠٥١) في كشاف القناع (٦/ ١٦٨)، والرحيباني (المتوفى: ١٢٤٣) في مطالب أولي النهى (٦/ ٢٧٩)، وابن ضويان (المتوفى: ١٣٥٣) في منار السبيل (٢/ ٤٠٥)، وابن قاسم (المتوفى: ١٣٩٢) في حاشية الروض المربع (٧/ ٤٠٠).
ونقل هذا الإجماع أيضًا وأقرّه الفقيه ابنُ حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام (ص: ٢٩٢) ولكن نقله عن ابن مفلح لا عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال أيضا: "فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي ﵁ أو عدي أو نحوه أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني، أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلها آخر" (^٣).
وقال أيضا: "والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى - مثل: الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسر أو غير ذلك- لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم ويقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾. ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله، فأرسل الله رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة" (^٤).
_________
(^١) شرح الأربعين النووية (ص: ١٧٣) دار البشائر الإسلامية، ط/ الأولى، ١٤٢٩ هـ.
(^٢) مجموع الفتاوى (١/ ١٢٤).
(^٣) المصدر السابق (٣/ ٣٩٥).
(^٤) المصدر السابق (٣/ ٣٩٦).
1 / 14
وقال أيضًا: "فإنّ المسلمين متفقون على ما علموه بالاضطرار من دين الإسلام أن العبد لا يجوز له أن يعبد ولا يدعو ولا يستغيث ولا يتوكل إلا على الله، وأنّ مَن عبد ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، أو دعاه أو استغاث به فهو مشرك.
فلا يجوز عند أحد من المسلمين أن يقول القائل: يا جبرائيل أو يا ميكائيل أو يا إبراهيم أو يا موسى أو يا رسول الله اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو انصرني أو أغثني أو أجرني من عدوي أو نحو ذلك، بل هذا كله من خصائص الإلهية" (^١).
وقال أيضا: "وأما حقوق رسول الله - بأبي هو وأمي - مثل تقديم محبته على النفس والأهل والمال، وتعزيره وتوقيره وإجلاله وطاعته واتباع سنته وغير ذلك فعظيمة جدا، وكذلك مما يشرع التوسل به في الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي ﷺ علّم شخصا أن يقول: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه فيّ»، فهذا التوسل به حسن.
وأما دعاؤه والاستغاثة به فحرام.
والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين.
المتوسِّل إنما يدعو الله ويخاطبه ويطلب منه لا يدعو غيره إلا على سبيل استحضاره لا على سبيل الطلب منه، وأما الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعو ويطلب منه ويستغيثه ويتوكل عليه" (^٢).
وقال أيضًا: "والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبيًا أو وليًا ليس مشروعًا ولا هو من صالح الأعمال؛ إذ لو كان مشروعا أو حسنا من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك، فكلام هؤلاء يقتضي جواز سؤال الميت والغائب، وقد وقع دعاء الأموات والغائبين لكثير من جهال الفقهاء والمفتين حتى لأقوام فيهم زهد وعبادة ودين، ترى أحدهم يستغيث بمن يحسن به الظن حيًا كان أو ميتًا، وكثير منهم تتمثل له صورة المستغاث به وتخاطبه وتقضي بعض حوائجه وتخبره ببعض الأمور الغائبة، ويظن الغرّ أنه المستغاث به، أو أن ملكًا جاء على صورته، وإنما هي شياطين تمثلت له به وخيالات باطلة، فتراه يأتي قبر من يحسن به الظن إن كان ميتًا فيقول: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أنا في جوارك، أنا في جاهك قد أصابني كذا وجرى عليّ كذا، ومقصوده قضاء حاجته إما من الميت أو به.
ومنهم من يقول للميت: اقض ديني واغفر ذنبي وتب علي. ومنهم من يقول: سل لي ربك. ومنهم من يذكر ذلك في نظمه ونثره.
ومنهم من يقول: يا سيدي الشيخ فلان، أو يا سيدي رسول الله نشكو إليك ما أصابنا من العدو وما نزل بنا من المرض وما حل بنا من البلاء، ومنهم من يظن أن الرسول أو الشيخ يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه، ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله.
_________
(^١) المصدر السابق (٣/ ٢٧٢).
(^٢) المصدر السابق (٣/ ٢٧٦).
1 / 15
وهؤلاء قد رأيتهم وسمعت هذا منهم ومن شيوخ يُقتدى بهم ومفتين وقضاة ومدرسين.
ومعلوم أن هذا لم يفعله أحد من السلف ولا شرع الله ذلك ولا رسوله ولا أحد من الأئمة، ولا مع من يفعل ذلك حجة شرعية أصلا، بل من فعل ذلك كان شارعا من الدين ما لم يأذن به الله؛ فإن هذا الفعل منه ما هو كفر صريح، ومنه ما هو منكر ظاهر، سواء قدّر أن الميت يسمع الخطاب كما إذا خوطب من قريب، أو قدر أنه لا يسمعه كما إذا خوطب من بعيد، فإن مجرد سماع الميت للخطاب لا يستلزم أنه قادر على ما يطلب الحي منه، وكونه قادرا عليه لا يستلزم أنه شُرع لنا أن نسأله ونطلب منه كل ما يقدر عليه، فليس لنا في حياة الرسل أن نسألهم كل ما يمكنهم فعله، بل ولا نسأل الله تعالى كل ما يمكنه فعله، بل الدعاء عبادة شرعية فكيف يجوز أن نسألهم ذلك بعد مماتهم، وليس لنا أن نسألهم كل ما يقدر الله عليه من المفعولات ليسألوا ربهم إياه كما سأل قومُ موسى موسى أن يريهم الله جهرة وسألوا المسيح إنزال المائدة وسألوا صالحا الناقة وسألوا الأنبياء الآيات.
فلو قال قائل: سؤال الغائب حيًا وميتًا كسؤال الشاهد؛ فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد، ويسمع أحدهم خطاب الناس البعيدين له.
قلنا: هذا محال في العادة المعروفة، وإذا وقع ذلك في بعض الصور كان من باب خرق العادة، والعادة قد تخرق بأن يسمع الأدنى خطاب الأعلى كما سمع ساريةُ خطاب عمر: يا سارية الجبل يا سارية الجبل.
ويجوز خرق العادة بالعكس، لكن إثبات هذا في حق معين لا يكون إلا بحجة تدل على وقوع ذلك في حقه" (^١).
وقال أيضًا: "ومن الذي قال: إن السائل بمخلوق والداعي له والمستغيث به نبيًا كان المدعو أو غير نبي يكون المخلوق المستغاث به وسيلة إلى الله تعالى في ما طُلب منه، وهذا أمر مخالف للعقل واللغة والشرع. فمن الذي جعل الطلب من هذا وسيلة في الطلب من هذا في كل شيء وعلى كل حال؟! " (^٢).
_________
(^١) الرد على البكري (١/ ٩٣ - ٩٦) مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة المنورة.
(^٢) المصدر السابق (٢/ ٦٢٤ - ٦٢٦).
1 / 16
وقال أيضًا: "الوجه الخامس: أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى؟.
ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيًا كان أو غير نبي كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؟
فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين:
إحداهما: أنّ هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
والثانية أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيًا يجوز تعاطيه، فإن قتل المسافر قد يكون سببًا لأخذ ماله، وكلاهما محرم.
والدخول في دين النصارى قد يكون سببًا لمال يعطونه له وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببا لمال يؤخذ من المشهود له وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببا لنيل مطالب وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم.
وكذلك الشرك في مثل دعوة الكواكب والشياطين وعبادة البشر قد يكون سببًا لبعض المطالب، وهو محرم، فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانًا.
وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرًا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله ﷿ شرع لخلقه أن يسألوا ميتًا أو غائبًا، وأن يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره، والله تعالى حي عالم قادر لا يغيب، كفى به شهيدًا، وكفى به عليمًا، وهم لا يقدرون على ذلك.
بل نقول في الوجه السادس: سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين.
وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أنّ أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.
ولا أحد من الصحابة ﵃ استغاث بالنبي ﷺ بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين، ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلا" (^١).
_________
(^١) المصدر السابق (١/ ٤٤٥ - ٤٤٩).
1 / 17
وقال أيضًا: "والمقصود هنا أن المعترض المحتج لم يحرر أدلته تحريرا ينفي عنها الإجمال والالتباس حتى يتبين ما فيها من الضلال والإضلال لجميع الناس، بل قال: لم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص قديما وحديثا، وأنه يصح إسنادها إلى المخلوقين.
وهذا كلام صحيح، لكن يقال له: لم يزل الناس يفهمون أنها طلب من المستغاث به أو طلب من غيره به؟
والثاني لا سبيل إليه، والأول لم ينازع فيه أحد إذا طلب من المستغاث ما شُرع طلبه منه مما يقدر عليه؛ إذ لا يقدر أحد على الأشياء كلها إلا الله وحده، والمخلوق له حال يخصه ويليق به.
فإن هنا أربعة معاني:
أحدها: أن يسأل الله تفريج الكربة بالمتوسَّل به، ولا يسأل المتوسّل به شيئا كما يفعله كثير ممن يتوسل بالأموات.
أو أن يسأل الله ويسأل المتوسل به أن يدعو كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي ﷺ في الاستسقاء، ثم من بعده بعمه العباس وبيزيد بن الأسود الجرشي وغيرهما.
والثالث: أن يسأل المتوسَّل به أن يسأل الله له تفريج الكربة، ولا يسأل الله.
والرابع: أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة، ولا يسأل الله.
فأما الأول: فهو سائل لله وحده ومستغيث به، وليس مستغيثا بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به.
وأما الثاني: فهو استغاثة بالله في تفريج الكربة، واستغاثة بالشفيع أن يسأل الله، هو توسل به أي بدعائه وشفاعته، وهذا هو المشروع في الدنيا والآخرة في حياة الشفيع وسؤاله، أو في حال مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال.
وكذلك الثالث إذا سأل المتوسل به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة، فهذا لا ريب في جوازه وإن سمي استغاثة به.
وأما الرابع: وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة، فهذا استغاثة به ليس توسلا به، بل المستغاث به مطلوب منه الفعل، فإن لم يكن قادرا عليه لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه.
فالأول سؤال به، وليس استغاثة أصلا، وبعض الناس يسميه توسلا به.
والثاني: فيه استغاثة به وتوسل به.
والثالث: فيه استغاثة في سؤال الله، وليس فيه سؤال به.
والرابع: استغاثة في تفريج الكربة، لكن لا يجوز ذلك من ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة، وليس هذا هو التوسل به والتوجه المشروع الذي كانت الصحابة تفعله، إنما كان بدعائه وشفاعته، ولا ريب أن من سأل الله تفريج الكربة بواسطة سؤال النبي ﷺ وشفاعته فقد استغاث به، وهذا جائز كما كان الناس يفعلونه في حياته، وكما يفعلونه في الآخرة في حياته أيضا، ولكن هذا ليس مشروعا بعد موته ولم يفعله أحد من الصحابة بعد موته.
1 / 18
ومن ذهب إلى الاستغاثة بالموتى فقد شرع له دينًا لم يؤذن له به، وليس معه في الاستغاثة بهم سوى فعل بعض المتأخرين وكلامهم ممن ليس هو معدود من أهل الإجماع والاختلاف، فليس معه تقليد المقلدين ولا اجتهاد المجتهدين، ومن ابتدع بدعة في الدين بدون اجتهاد أهل الاجتهاد أو التقليد لأهل الاجتهاد كان من أهل الضلال والغي لا من أهل الهدى والرشاد.
وأما السؤال بهم فغاية ما معه فيه قول بعض العلماء مع منازعة غيره له فيه وقد قال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾، وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يجوز السؤال لله بالأنبياء والصالحين فكيف بالاستغاثة بهم، مع أن الاستغاثة بالميت والغائب مما لا نعلم بين أئمة المسلمين نزاع في أن ذلك من أعظم المنكرات، ومن كان عالما بآثار السلف علم أن أحدا منهم لم يفعل هذا، وإنما كانوا يستشفعون ويتوسلون بهم بمعنى أنهم يسألون الله لهم مع سؤالهم هم لله، فيدعو الشافع والمشفوع له كما قال
عمر بن الخطاب: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» " (^١).
وقال أيضًا: "فإن المستغيث بالنبي ﷺ طالب منه وسائل له، والمتوسَّل به لا يُدعى ولا يُطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرِّق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها ...
وقول القائل: إنّ من توسل إلى الله بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول [به] مدعو، ويفرّقون بين المسؤول والمسؤول به" (^٢).
وقال أيضًا: "وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
إحداها: أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ﷿، فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ وقال ﷾: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ " (^٣).
وقال أيضًا: "والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين:
أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون الشرك وهو شرك قوم نوح ...
والسبب الثاني: عبادة الكواكب ... " (^٤).
_________
(^١) المصدر السابق (١/ ١٠٨ - ١١٢).
(^٢) مجموع الفتاوى (١/ ١٠٣ - ١٠٤).
(^٣) المصدر السابق (٢٧/ ٧٢).
(^٤) الرد على المنطقيين (ص: ٢٨٥ - ٢٨٦) دار المعرفة - بيروت.
1 / 19
وقال أيضًا: "فليس في علماء المسلمين من يقول إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه، ولا من يقول إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه.
بل قول القائل: إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا تُطلب إلا منه، متفق عليه بين علماء المسلمين، وما علمت إلى ساعتي هذه أحدا من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا، بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من علماء المسلمين الموافقة على هذا، وإنما عُرف نزاع بعضهم في السؤال به.
وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه، وإنما فعلوا نظيره، والفقيه قد يفعل شيئا على العادة وإذا قيل له: هذا من الدين؟ لم يمكنه أن يقول ذلك، ولهذا قال بعض السلف: لا ينظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك" (^١).
وقال أيضًا: "فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة انه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول
ﷺ مما يخالفه، ولهذا ما بيَّنت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطّن، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بيّنته لنا لعلمه بأنّ هذا أصل الدين" (^٢).
وقال أيضًا: "فأمَّا [ما] يُسمِّيه كثيرٌ من الناس زيارةً هي من جنس الإشراكِ بالله وعبادة غيرهِ، مثل السجود لبعض المقابر التي يُقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين وأهل البيت أو غيرهم ويسمُّونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائِه ومسألتِه قريبًا من قبره أو بعيدًا منه مثل ما يفعل كثير من الناس، فهذا كلُّه من أعظم المحرَّمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن المسلمين متفقون على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا ويتوكَلَ عليه ويرغبَ إليه في المغفرة والرحمةِ وتفريج الكُرباتِ وإعطاءِ الطلباتِ إلا الله وحده لا شريك له" (^٣).
_________
(^١) الرد على البكري (٢/ ٥٩٥ - ٥٩٦).
(^٢) المصدر السابق (٢/ ٧٣١).
(^٣) جامع المسائل (٣/ ٣٧ - ٣٨) تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد.
1 / 20