The Noble Prophetic Migration: Lessons, Benefits, and Delights
الهجرة النبوية الشريفة دروس وفوائد ولطائف
ژانرونه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا ...
وأشهد أن لا إله إلا الله: يُعطي الحقُّ -سبحانه- الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ، يقول صلوات الله عليه: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَاّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ (^١) " أخا الإسلام:
تَاللَّهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ ... أَلْفًا مِنَ الْأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِه
مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ ... مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِه
لَا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ ... كَلَّا وَلَا تَجْرِي الْهُمُومُ بِباله
مَا كَانَ هذا كُلُّهُ في أن يَفِي ... بِمبيت أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِه
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا رسول الله: لما دخل المدينة المنورة -التي نورها الله بوجوده- ألقى بيانًا جامعًا مانعًا شافيًا حازمًا حاسمًا يُسطَّر كميثاق لسَّلام بين الأمم، تفوح منه رائحة الحبِّ والود، قال فيه: "أَيُّها الناسُ، أَفْشُوا السلامَ، وأَطْعِمُوا الطعامَ، وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجنةَ بسَلَامٍ (^٢) ". سيدي أبا القاسم يا رسول الله: ...
لو أنَّ إنسانًا تخير ملةً ... ما اختار إلا دينكَ الفقراءُ
الْمُصلِحونَ أَصابِعٌ جُمِعَت يَدًا ... هِيَ أَنتَ بَل أَنتَ اليَدُ البَيضاءُ
أنصفتَ أهلَ الفقر من أهل الغنى ... فالكلُّ في حقِّ الحياة سواءُ
_________
(^١) قال الحافظ المنذري: رواه ابن ماجة، ورواته ثقات، والطبراني، بلفظ قريب
(الترغيب والترهيب ٤/ ١٢١)
(^٢) أخرجه الترمذي برقم (٢٤٨٧) في صفة القيامة، باب رقم (٤٣)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1 / 1
أما بعد إخوة الإيمان ...
فإنه لم تحفل سيرة بشر، منذ عهد أبينا آدم ﵇ بالعناية والاهتمام وشديد المتابعة والتحري والتدقيق والتدوين، كما لقيته سيرة سيدنا محمد- ﷺ ولا غرو في ذلك فهو سيد البشر أجمعين، وحبيب رب العالمين،
وخير الخلق أجمعين، ومما اعتنى به المسلمون غاية العناية حدث هجرته ﷺ من مكة البلد الحرام إلى طيبة إلى مدينة الأنصار (^١)، ولا شك أن حدث هجرته ﷺ-حافل بالعبر والدروس، مليءٌ بالأحداث الكبار والأخبار العظام، التي غيرت مجرى التاريخ البشري وحولت وجهه، وأشرقت الأرض بنورها ضياء وابتهاجًا ..
ولا شك أن من الواجب علينا-والأمة الإسلامية تمر في محنٍ عصيبة ودماؤها ودماء أبناءها تسيل مخزارًا ومكثارًا-أن نقف مع سيرة رسول الله ومع ذكرى الهجرة النبوية لعنا نستقي منها الدروس والعبر، ولست هنا بصدد الحديث عن أحداث ومجريات الهجرة المباركة؛ فالوقت لا يسعفنا لكل ذلك، ولكنني بمشيئة الله سأقف عند بعض العبر والدروس التي تؤخذ من أحداث الهجرة، ثم نجعل من دروسها واقعًا نستفيد
منه لحياتنا التطبيقية، نجعل منها درسًا نستفيد منه لحل مشاكلنا
ومعضلاتنا التي تتراكم في حياتنا اليوم.
واسمحوا لي أن أعيش معكم اليوم مع عبرتين اثنتين -من عبر الهجرة النبوية-لا أزيد عليهما (^٢):
_________
(^١) بدأ الهجرة كان على الراجح في اليوم (الثاني من ربيع الأول) الموافق ٢٠ أيلول سنة (٦٢٢ م) بعد أن مضى ثلاث عشرة سنة من البعثة، ويوم الوصول إلى المدينة كان (لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول) على ما ذكره المسعودي.
وقد تم اتخاذ الهجرة النبوية بداية للتقويم الهجري، بأمر من سيدنا عمر بن الخطاب بعد استشارته بقية الصحابة في زمن خلافته.
(انظر فقه السيرة النبوية د. البوطي ص ١٣٣ - ١٣٥ - بتصرف)
(^٢) (فقه السيرة النبوية د. البوطي ص ١٣٦ وما بعدها بتصرف) (تفسير د راتب النابلسي ٥/ ٢٥٩ - ٢٦٠ بتصرف) (السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: ٢٤٠)
1 / 2
العبرة الأولى: هي أن كل مَنْ عَبَد المال والمنصب فلا بدَّ أن يكون شقاؤه وذله وهلاكه على يد هذا المال، وكل من استخدام المال خادمًا ذليلًا مَهِينًا لمرضاة الله ﷿؛ لابدَّ أن يتحوّل المال في حياته إلى سُلَّمٍ؛ يرقى به إلى أعلى درجات العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والقوة بعد الضعف. هذه هي العبرة الأولى، وإنكم لتلاحظون ذلك في معنى ترك أصحاب رسول الله-بل رسول الله ذاته-: (الوطن والأرض والمال وربما الأهل)؛ لحاقًا بما فيه مرضاة الله ﷾، لحاقًا بتنفيذ أمر الله وكأن أحدهم يتجه إلى شطر المدينة المنورة وهو يقول لربه: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: ٨٤] فماذا كانت النتيجة؟ !
كانت النتيجة أن تحوّل المال الذي استخدموه لمرضاة الله والذي أعرضوا عنه -بكل معنى الكلمة- في سبيل أن يستعيضوا عن المال رضى الله ﷿؛ كانت النتيجة أن قَدَّم الله لهم من المال سُلَّمًا أمام أقدامهم، ارتقوا بهذا السُّلَّم إلى أعلى درجات الغنى، وإلى أعلى درجات القوة، وإلى أعلى درجات الوحدة والترابط ..
مع أن الفراق في بادئ الأمر وظاهره كان صعبًا وأليمًا على رسول الله ..، فمكة- فضلًا عن كونها مولدًا ومنشأ للرسول وأصحابه- فهي كذلك مهوى للأفئدة بل هي مغناطيس القلوب، ففيها الكعبة البيت الحرام، الذي جرى حبّه منهم مجرى الروح والدم، ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن، ومفارقة الأهل والسكن، حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة، وتنكّر أهلها لهما.
وقد تجلّت هذه العاطفة المزدوجة- عاطفة الحنين الإنسانيّ وعاطفة الحبّ الإيمانيّ - في كلمته التي قالها مخاطبا لمكّة في وداعها: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ" فطمأنه ربه بقوله: ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ..﴾ [القصص: ٨٥]. ستعود إليها يا محمد ..، إن الذي فرض عليك القرآن وأنزله على قلبك هو الذي سيردّك إلى مكة يا حبيب الله، وانظروا إلى اختيار لفظ التطمين لرسول الله .. "لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ" لماذا " لَرَآدُّكَ" بهذا التعبير بالذات؟ !
1 / 3
كأنَّ الله يريد أن يذكِّر رسوله بقوله لأم موسى: ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ [القصص: ٧] فكما رددتُ موسى إلى أمه؛ سأردُّ ك يا محمد منتصرًا مكرمًا .. ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ ...﴾ (^١).
إذن الفراق في بادئ الأمر وظاهره كان صعبًا وأليمًا على رسول الله ..، لكن النتيجة كانت سببًا لنهضة الإسلام وانتشاره وتوطده ...
وهكذا فرُبّ ضارّة نافعة، بل كم من مِحنةٍ محويّة في طيِّها مِنَحٌ ورحماتٌ مطويّة ..
وهذه المحن الأليمة العصيبة التي تعيشها الأمة الإسلامية
اليوم لها ظاهر وباطن، لها مظهر جلي ولها باطن خفي؛
أما الظاهر الجلي: فمأساة تتقطع لها القلوب، محنة ما أظن أن تاريخنا الإسلامي بحلوه ومره سجل مثل هذه الظاهرة الأليمة، هذا هو الظاهر محنةٌ وبلاء ...
أما الباطن: فإنما هو منحةٌ من منح الله ﷿ ليستبين
الصادق من الكاذب، ولكي تتمزق أقنعة النفاق فيعرف المؤمن الصادق من غيره: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٢ - ٣]
_________
(^١) (تفسير الشعراوي - الخواطر ١٨/ ١١٠٤٦)
1 / 4
أما الدرس الثاني: الذي ينبغي أن نقطف منه العبرة، لا لنحفظه بل لنطبقه، فهو أن الله ﷿ يكلف عباده المؤمنين أن يعتمدوا في سلوكهم وفي أعمالهم على الأسباب المادية العادية التي وضعها بين أيديهم، كلّفهم الله ﷿ ألَاّ يدخروا وسعًا لاستخدام هذه الأسباب، ولكن عليهم مع ذلك وبعد ذلك ألَاّ يجعلوا معتمَدهم إلا على توفيق الله ﷿ ونصره، وألَاّ يلجئوا بقلوبهم وبثقة أفئدتهم وبعقولهم إلا إلى نصر الله ﷾ وتأييده، وإنكم لتعلمون أن رسول الله في هجرته لم يدخر وسعًا في تجنيد كل الوسائل المادية التي وضعها الله ﷾ بين يديه لإنجاح عمله مهاجرًا من مكة إلى المدينة، فقد أخذ الرسول ﷺ بالأسباب الكاملة في هجرته وكأنها كل شيء، لم يدعْ النبي مكانًا للحظوظ العمياء، فما من ثغرة إلا وقد غطاها الرسول ﷺ، هيأ رجلًا يأتيه بالأخبار، وهيأ رجلًا يمحو الآثار، وهيأ من يأتيه بالطعام والشراب، وهيأ خطةً تبعد عنه الشبه اتجه جنوب مكة، واستقر في غار ثلاثة أيام حتى يخف الطلب عنه، وهيأ دليلًا غلب فيه الخبرة على الولاء ولم يدع ثغرةً إلا وغطاها، أخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، فلما وصلوا إليه وأصبح أحدهم على بعد أمتار منه وقال الصديق ﵁ لرسول ﷺ: "لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا". الآن لأنه أخذ بالأسباب طاعةً وأخذ بالأسباب تعبدًا ولم يعتمد على الأسباب كما يفعل أهل الغرب، قال الرسول لأبي بكر مطمئنًا له: "يا أبا بكر مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" ﴿إلَاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ؛ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التَّوْبِة: ٤٠] وهكذا عناية الله تكون بعد أن يستنفذ العبد كل الأسباب التي جعلها الله بين يديه فإذا انقطعت ولم تكن فاعلة وجد العبدُ المدد والنصر الإلهي ...
1 / 5
لذلك قال الله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم﴾ [محمد: ٧] أي أن نصره سبحانه للمؤمنين مرهون بأمرين (^١):
١ - الإعداد المادي والمعنوي لاستحقاق النصر كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠].
٢ - نصرة دين الله بتطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه، وأن تقف مع الحق، وتحكم بالعدل، ولا تأخذك في الله لومة لائم، إن فعلت ذلك فقد نصرت دينه، وسينصرك الله سبحانه.
أما الاتّكال على مجرد الاتّصاف بالإسلام قولًا لا عملًا، وأن نطلب النّصر بخوارق العادات، والأدعية فقط، دون إعداد ودون عمل بالأسباب، فكل ذلك لا يحقق شيئًا من النّصر المرتجى على أعداء الله ..
ولعل هذا الدرس من أهم الدروس التي نستفيدها من هجرته ﷺ، "أن نأخذ دائمًا بالأسباب، وكأنها كلُّ شيء، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .. "، فعند ذلك يكون التوفيق والمدد والنصر ....
أيها الأحبة: دروس وعبر الهجرة كثيرة وكثيرة .. نحتاج للوقوف علىها إلى خطب عديدة ..، نفعني الله وإياكم بما سمعنا، وجعلنا دائمًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ....
كل عام وأنتم والأمة الإسلامية بخير .. أعاده الله على الأمة بالفرج والنصر والعزة إنه ولي ذلك والقادر عليه ...
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين .. استغفروا الله .. (^٢).
_________
(^١) (التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج ٩/ ٣٢٣ د. وهبة بن مصطفى الزحيلي).
(^٢) ألقيت هذه الخطبة في أحد مسجد عمَّان، (عام ١٤٤٠ هـ ٢٠١٨ م). كما ألقيت في بعض المراكز الإسلامية الدعوية.
1 / 6