The Miracles and the Metaphysics between the Insights of Revelation and the Darkness of Denial and Interpretation
المعجزات والغيبيات بين بصائر التنزيل ودياجير الإنكار والتأويل
خپرندوی
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
د ایډیشن شمېره
السنة الثانية عشرة،العدد السابع والأربعون والثامن والأربعون
د چاپ کال
رجب - ذو الحجة ١٤٠٠هـ/١٩٨٠م
ژانرونه
مدخل
المعجزات والغيبيات بين بصائر التنزيل ودياجير الإنكار والتأويل
لفضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامه
الأستاذ المساعد بكلية الحديث النبوي الشريف والدراسات الإسلامية
الحمد لله الذي له الخلق والأمر وقوله الفصل، وله الدين واصبا.. والصلاة والسلام على من تمت به النبوة، وختمت به الرسالة، وقامت بدعوته صروح الهداية، وعلى آله الأبرار المطهرين، وعلى صحبه الأخيار المكرمين، وعلى من اهتدى واقتفى، واقتدى واتقى. أما بعد:
فإن للحق سبيلا واضحة المعالم، متلألئة المنائر، لا يزيغ سالكها، ولا يضل طالبها، وإن للباطل فجاجا هي المتاهات الشاردة، والعثرات الجائرة، من سلكها تلجلج في حيرة وشقاء، ومن طلبها ضل في غواية دهياء؛ ﴿وَمَنْ لمْ يَجْعَلِ اللهُ لهُ نُورًا فَمَا لهُ مِنْ نُورٍ﴾ (٤٠: النور) .
ولقد كان للناس من المعجزات والغيبيات مواقف:
- فمنهم من اتخذ (الإنكار) سبيلا، فكان جحوده: مهيعا وبيلا، وجعل التكذيب له رزقا، وارتفق العناد دربا؛ فساء مرتفقا، وهؤلاء وأسلافهم وأخلافهم، هم من الذين قال فيهم أحكم القائلين: ﴿بَل كَذَّبُوا بِمَا لمْ يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (٢٩: يونس) .
وزعم أن إنكاره ينهض على دعامتين من العلم التجريبي، والعقل المادي، والحق الناصع: أنّ تكذيبه ينهض على ساقين كسيحتين من شطط الغرور، وخبل الأوهام، والعلم التجريبي شاهد عدل على كذب دعواه، والعقل البصير يجانبه ويجافيه.
1 / 160
وفي كل يوم نرى من جديد البحث العلمي التجريبي: ما يقوم آية ناطقة وحجة شاهدة على عجائب الصنع الرباني، وبدائع الإعجاز الإلهي، وهذه الكشوف تفسير بليغ، وتوضيح فصيح، لقول رب العزة والجلال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (٥٣: فصلت)، ولقوله سبحانه: ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (٢٠، ٢١: الذاريات) .
- وفريق وقف من (المعجزات والغيبيات) موقفا يتذبذب بين الإيمان والجحود، فهو يؤمن ببعضها، ويكذب ببعض، فاتبع في إيمانه غير سبيل المؤمنين وهو إلى المكذبين أقرب، ومن المنافقين أكثر دنوا، ومن هذا الفريق بعض أهل التفلسف، والذين زعموا أن في القرآن أخبارا لم تكن واقعا ملموسا في يوم من أيام هذه الدنيا، بل توقح منهم من زعم أن في القرآن (أساطير فنية)، وأنها لا تمس قدسيته، وإذا كان هؤلاء من عبيد الشهوة، فإن نقل هذيانهم إلى من لم يسمع بهم قد يبعث من (قبر الخمول) جيفا أحرى بها أن تظل في أجداثها مع البلى والدثور، وهؤلاء لا يؤمنون حتى يصدقوا موقنين بكل خبر جاء عن الله، أو صح عن إمام المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
فالفريق الأول يتمثل في الماديين الذين يعبدون أوهاما يسمونها بغير اسمها، ويصفونها بغير صفتها.
والفريق الثاني يتمثل في أفراخ (الاستشراق) وعبيد (الاستغراب) وصبيان (التضليل) الذي يسمونه (تبشيرا) .
- وفريق ثالث وقف من المعجزات موقف التأويل، والتأويل أنواع وأشكال؛ فمنه ما يمت إلى الحقيقة بسبيل، ومنه ما ينتمي إلى التلبيس والتضليل.. ولأن هذا الفريق الثالث هو - إن شاء الله - من (أهل
1 / 161
القبلة) انصرفت هذه الصفحات إلى نقاشه، نقاشا يعتمد على أمانة النقل عنه، وينهض على بيان الحجة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
والمحظور عند كاتب هذه السطور هو القول على الله بغير علم، والاحتكام إلى أقوال الرجال، والمحذور هو المسارعة إلى تكفير الناس بغير سلطان، أو تفسيقهم بغير برهان، والحكم الفصل في الأمور كلها لله وحده، ومن الرسول ﵊ البلاغ والبيان، وعلينا حسن الاستماع، وتمام الانقياد لله، والاتباع لرسوله.
وأما تزكية العباد فإلى الله وحده، ونعوذ بالله أن نكون ممن قال عنهم: ﴿أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ (٤٩: النساء) .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يشاء، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.
ولنبدأ سويا السير على دروب الدرس المستأني، سائلين الله أن يجنبنا عثرة الرأي، وسوء القصد، إنه على ما يشاء قدير.
تأويل المعجزات والغيبيات: قبل أن نتحدث عن وقائع التأويل في هذه القضية، نبدأ فنعرف بما تدل عليه ألفاظها: فالغيب لغة: كما قال ابن فارس١: "الغين والياء والباء: أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس؛ من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله، ويقال: غابت الشمس تغيب غيبة وغيوبا وغيبا، وغاب الرجل عن بلده، وأغابت المرأة فهي مغيبة، إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض يغاب فيها، قال الله تعالى على لسان قائل من إخوة يوسف في قصة يوسف ﵇: ﴿وَأَلقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبّ..﴾ (١٠: يوسف)، والغابة: الأجمة، والجمع: غابات وغاب، وسميت غابة لأنه يغاب فيها، والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة. _________ ١ انظر معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس ج ٤ ص ٤٠٣ ببعض تصرف.
تأويل المعجزات والغيبيات: قبل أن نتحدث عن وقائع التأويل في هذه القضية، نبدأ فنعرف بما تدل عليه ألفاظها: فالغيب لغة: كما قال ابن فارس١: "الغين والياء والباء: أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس؛ من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله، ويقال: غابت الشمس تغيب غيبة وغيوبا وغيبا، وغاب الرجل عن بلده، وأغابت المرأة فهي مغيبة، إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض يغاب فيها، قال الله تعالى على لسان قائل من إخوة يوسف في قصة يوسف ﵇: ﴿وَأَلقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبّ..﴾ (١٠: يوسف)، والغابة: الأجمة، والجمع: غابات وغاب، وسميت غابة لأنه يغاب فيها، والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة. _________ ١ انظر معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس ج ٤ ص ٤٠٣ ببعض تصرف.
1 / 162
والغيب شرعا: هو ما سوى الشهادة، والخلق كله منقسم إلى عالمين، عالم غيبي مستور، وعالم مشهود محس.
والغيب منه ما هو مطلق، ومنه ما هو نسبي، ومنه ما مضى، ومنه ما لم يقع بعد، ولكنه سيقع في الدنيا، ومنه ما هو من أمر الآخرة، ولهذا وصف الله جل ذكره نفسه بأنه ﴿عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ﴾ (٩: الرعد)؛ فالإيمان بالله: إيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة بالنسبة لعامة الناس: إيمان بالغيب، وبالنسبة للأنبياء والمرسلين الذين شاهدوا جبريل ﵇، وشاهدوا غيره من الملائكة، إيمان بالشهادة، ويقاس على الأنبياء في هذا من ورد به النص: كمريم ﵍، حين رأت جبريل، وتمثل لها بشرا سويا، والإيمان بالمعجزات بالنسبة لمن شاهدوها: إيمان بشيء شاهدوه، وبالنسبة لغيرهم: إيمان بالغيب، والإيمان بالجن، والجنة، والنار، والميزان، والحور العين، والولدان المخلدين، وبالخَزَنة، والزبانية، وحملة العرش، وأنواع النعيم الأخروي، وصنوف العذاب في جهنم؛ كل هذا من الإيمان بالغيب.
وأخبار الرسل مع أقوامهم هي لمن بعدهم من أحاديث الغيب، كما قال جل ذكره خطابا للنبي صلى الله عيه وسلم بعد ما قص عليه من أنباء نوح ﵇: ﴿تِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِليْكَ مَا كُنْتَ تَعْلمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ﴾ (٤٩: هود)، وبعد ما قص عليه ربنا سبحانه من أنباء الكليم ﵇ قال له: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (٤٤: القصص)، وبعد ما قص عليه من أنباء الطاهرة مريم ﵍ قال له: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِليْكَ وَمَا كُنْتَ لدَيْهِمْ إِذْ يُلقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ (٤٤: آل عمران)، فكل هذه الأحداث سماها القرآن غيبا؛ إذ هي كذلك بعد انقضاء الأعوام علة وقوعهان وزوال الأعيان.
والمعجزات لغة: مشتقة من الإعجاز تقول: أعجزت فلانا وعجَّزته وعاجزته إعجازا، أي: جعلته عاجزا، والإعجاز: الفوت والسبق.
1 / 163
وعرفت اصطلاحا بأنها١: بأنها أمر خارق للعادة يؤيد الله بها أنبياءه لإظهار صدقهم، وتكون كما لو قال تعالى: "صدق عبدي فيما بلغ عني"، ولا يشترط أن تكون استجابة لتحدي المعاندين.
وقد وردت مشتقات للكلمة في القرآن الكريم، نذكر منها بعض ما يقارب وجهتنا.
فمن ذلك قوله تعالى على لسان الجن: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا﴾ (١٢: الجن)، والمعنى: أن مؤمني الجن استيقنوا أنهم لا يستطيعون الإفلات من قدرة الله وحسابه.
ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ (٤٤: فاطر) .
ومنها قوله عز من قائل: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ﴾ (٥٩: الأنفال) .
وقوله سبحانه: ﴿وَالذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ﴾ (٥١: الحج) .
وقوله: ﴿وَالذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ (٣٨: سبأ) .
وقوله ﷾ خطابا للمشركين متوعدا لهم: ﴿وَإِنْ تَوَليْتُمْ فَاعْلمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (٣: التوبة) .
فهذه الآيات يتضافر معناها لبيان حقيقة القدرة الإلهية، وعجز المحاولات البشرية.
وأما لفظة (المعجزة) بمعنى الأمر الخارق للعادة: فلم ترد في كتاب الله، وإنما وردت لفظة (الآية) أو (الآيات) لتدل على هذا المعنى، كما في قوله جل ذكره: ﴿سَل بَنِي
_________
١ قارن وجوه الاشتباه والافتراق بين هذا التعريف وبين ما أورده علي بن محمد الجرجاني في التعريفات ص ١٩٥ ط: الحلبي القاهرة.
1 / 164
إِسْرائيل كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ (٢١١: البقرة)، وقوله تعالى: ﴿وَقَال الذِينَ لا يَعْلمُونَ لوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ (١١٨: البقرة)، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِل بِالآياتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلا تَخْوِيفًا﴾ (٥٩: الإسراء) .
فالمعجزة إذا: أمر خارق للعادة، يؤيد الله بها أنبياءه ورسله؛ ليقيموا بها الحجة الغالبة المعجزة لأقوامهم، وقد سبق تعريفها.
الإغارة على المعجزات والغيبيات: ولما كانت الغيبيات والمعجزات أمورا لا تقع غالبا تحت الحس، ولا تخضع لمألوف العقل البشري، ولا تجري على السنن المعتادة، أقدم نفر ممن جعلوا عقولهم آلهتهم على إنكارها، وحاول آخرون تأويلها، وهاكم شذرات من تفاصيلها: الرازي الطبيب وإنكار المعجزات: من أقدم المحاولات التي وصلنا منكَر أخبارها في جحد المعجزات هذه المحاولة التي قام بها أبو بكر الرازي حوالي عام ٣٠٠؟؛ فألف كتابا سماه: (مخاريق الأنبياء)، وقد وصفه المطهر المقدسي١ بأنه: "المفسد للقلب، المذهب للدين، الهادم للمروءة، المورث البغض للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم" ويفهم من عبارات المطهر أنه قرأ الكتاب، ولكنه لم يبح لنفسه أن ينقل شيئا من كفرياته وأكاذيبه.
صور من تأويلات منكري المعجزات: قال٢ المطهر المقدسي وهو يؤرخ لظهور هذه التأويلات: "وأنكر قوم العجائب رأسا، وصرفها إلى تأويل منحول". ومن هذه التأويلات ما يلي: أولا: تأويلات حول عمر سيدنا نوح وسفينته: هال الماديين القدامى - الذين يسمون أنفسهم بالعقليين - خبر القرآن عن عمر سيدنا نوح ﵇ في قوله تعالى: ﴿وَلقَدْ أَرْسَلنَا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَلبِثَ فِيهِمْ أَلفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ١٤) . _________ ١ انظر كتاب البدء والتاريخ ج ٣ ص ١١٠ يقع في ستة أجزاء، ويحوي الكثير من أخبار الفرق وتاريخ الحياة العقلية في الإسلام، وقد انتفع به الدكتور أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) / وكان عمدة المستشرق آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية)، وينسب بعض الباحثين هذا الكتاب إلى أبي زيد البلخي، لكن المحققون ينسبونه إلى المطهر بن طاهر المقدسي. ٢ انظر البدء ج ٣ ص ١٧.
الإغارة على المعجزات والغيبيات: ولما كانت الغيبيات والمعجزات أمورا لا تقع غالبا تحت الحس، ولا تخضع لمألوف العقل البشري، ولا تجري على السنن المعتادة، أقدم نفر ممن جعلوا عقولهم آلهتهم على إنكارها، وحاول آخرون تأويلها، وهاكم شذرات من تفاصيلها: الرازي الطبيب وإنكار المعجزات: من أقدم المحاولات التي وصلنا منكَر أخبارها في جحد المعجزات هذه المحاولة التي قام بها أبو بكر الرازي حوالي عام ٣٠٠؟؛ فألف كتابا سماه: (مخاريق الأنبياء)، وقد وصفه المطهر المقدسي١ بأنه: "المفسد للقلب، المذهب للدين، الهادم للمروءة، المورث البغض للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم" ويفهم من عبارات المطهر أنه قرأ الكتاب، ولكنه لم يبح لنفسه أن ينقل شيئا من كفرياته وأكاذيبه.
صور من تأويلات منكري المعجزات: قال٢ المطهر المقدسي وهو يؤرخ لظهور هذه التأويلات: "وأنكر قوم العجائب رأسا، وصرفها إلى تأويل منحول". ومن هذه التأويلات ما يلي: أولا: تأويلات حول عمر سيدنا نوح وسفينته: هال الماديين القدامى - الذين يسمون أنفسهم بالعقليين - خبر القرآن عن عمر سيدنا نوح ﵇ في قوله تعالى: ﴿وَلقَدْ أَرْسَلنَا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَلبِثَ فِيهِمْ أَلفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ١٤) . _________ ١ انظر كتاب البدء والتاريخ ج ٣ ص ١١٠ يقع في ستة أجزاء، ويحوي الكثير من أخبار الفرق وتاريخ الحياة العقلية في الإسلام، وقد انتفع به الدكتور أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام) / وكان عمدة المستشرق آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية)، وينسب بعض الباحثين هذا الكتاب إلى أبي زيد البلخي، لكن المحققون ينسبونه إلى المطهر بن طاهر المقدسي. ٢ انظر البدء ج ٣ ص ١٧.
1 / 165
فاستبعدوا أن يعيش واحد من خلق الله هذه السنين وأن يعمر قرونا، فتأولوا١ ذلك بأن لبثه ليس مدة حياته، وإنما هذا العمر هو عمر شريعته ومدة بقائها، وقالوا٢ عن السفينة إنها ليست فُلكا وإنما هي (رمز للدين الذي جاء به) .
ولو أنهم قالوا إن هذه السفينة كانت مركب النجاة للمؤمنين، لصدقوا، ولكن هذا التأويل السابق إهدار للغة، ومسخ لدلالات الألفاظ، وتكذيب لآيات أخرى من القرآن، ورد فيها النص الصريح عن هذه السفينة كقوله تعالى: ﴿وَحَمَلنَاهُ عَلى ذَاتِ أَلوَاحٍ وَدُسُر، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ (١٣- ١٤، القمر)، ففي هذا النص الكريم ذكر الله المواد التي صنعت منها السفينة، كما ذكر سبحانه أمره العلوي لنوح ﵇ بصناعتها في قوله: ﴿وَاصْنَعِ الفُلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الذِينَ ظَلمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الفُلكَ وَكُلمَا مَرَّ عَليْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَال إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ (٣٧، ٣٨: هود) .
وهكذا ترى أن المؤول إن ركب متن الشطط في تأويل آية، أحاطت به آيات أخر، فلا يستطيع لها صرفا ولا تأويلا.
تأويل حول غرقى الطوفان ثانيا: تأويل غرقى الطوفان: وجمحت بأولئك الحسيين عقولهم؛ فتساءلوا كيف يهلك الله في الطوفان الأطفال، وهم غير مكلفين؟ وأدى بهم هذا الجموح إلى افتراض لا علم لهم به ولا برهان، وهذا الافتراض جعلوه خبرا كأنه قد وقع؛ فقالوا: "إن الله قد عقم النساء خمسة عشر عاما قبل الطوفان فلم تلد منهن واحدة، وبذلك لم يهلك في الطوفان إلا بالغ مكلف، جاوز عمره خمسة عشر عاما". وغاب عن هؤلاء ما ذكره رب العزة على لسان نوح ﵇: ﴿وَقَال نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (٢٦، ٢٧: نوح) .
ثالثا: تأويل ناقة صالح ﵇ بأنها رمز: وتأويل ما ورد في القرآن عن ناقة٣ صالح ﵇ كقوله سبحانه: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ _________ ١ انظر البدء ج ٣ ص ٢٢. ٢ نفس المصدر والصفحة. ٣ انظر البدء والتاريخ ج ٣ ص ٤٢.
تأويل حول غرقى الطوفان ثانيا: تأويل غرقى الطوفان: وجمحت بأولئك الحسيين عقولهم؛ فتساءلوا كيف يهلك الله في الطوفان الأطفال، وهم غير مكلفين؟ وأدى بهم هذا الجموح إلى افتراض لا علم لهم به ولا برهان، وهذا الافتراض جعلوه خبرا كأنه قد وقع؛ فقالوا: "إن الله قد عقم النساء خمسة عشر عاما قبل الطوفان فلم تلد منهن واحدة، وبذلك لم يهلك في الطوفان إلا بالغ مكلف، جاوز عمره خمسة عشر عاما". وغاب عن هؤلاء ما ذكره رب العزة على لسان نوح ﵇: ﴿وَقَال نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (٢٦، ٢٧: نوح) .
ثالثا: تأويل ناقة صالح ﵇ بأنها رمز: وتأويل ما ورد في القرآن عن ناقة٣ صالح ﵇ كقوله سبحانه: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ _________ ١ انظر البدء ج ٣ ص ٢٢. ٢ نفس المصدر والصفحة. ٣ انظر البدء والتاريخ ج ٣ ص ٤٢.
1 / 166
(٧٣: الأعراف)، فقالوا: هي رمز لحجة دامغة وسلطان قاهر، أذعن له القوم، وتأولوا ما ورد في القرآن عن شربها١ في قوله تعالى: ﴿قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لهَا شِرْبٌ وَلكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ ٢ (١٥٥: الشعراء)، بأن معنى هذا الشرب هو أن هذه الحجة قد أبطلت جميع ما خالفها.
وتغافلوا عن وصف القرآن لها بأنها ﴿تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ﴾ (٧٣: الأعراف) وقوله: ﴿لهَا شِرْبٌ﴾ (١٥٥: الشعراء)، وأنهم عقروها ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾ (١٤: الشمس)، وكل هذا ينقض دعواهم.
رابعا: تأويل الهدهد بأنه رجل وليس طائرا: وقرأوا ما ذكره الله في كتابه عن هدهد سليمان في قوله سبحانه: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ﴾ (٢٠: النمل)، واستبعدوا كيف يتكلم هذا الهدهد؟ وكيف يقول لسليمان ﵇ كما ذكر الله سبحانه: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ﴾ (٢٢: النمل) فقالوا: إن الهدهد رمز لرجل، أو أنه اسم لجندي من جنود سليمان ﵇، كانت مهمته أن يجمع له المعلومات. ولو أن هؤلاء فهموا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾، وقوله تعالى: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (١٦: النمل) وكانت لهم عقول يعلمون بها أن الهدهد طائر من هذا الطير لما قالوا بهذا، ولقد كان الطير جنودا لسليمان كما قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (١٧: النمل) وقد ذكر الفخر الرازي ﵀ في تفسيره٣ مطاعن الملاحدة في قصة الهدهد فأطال في ذكرها، وأوجز في نقضها، ولست أرى ما يدعو إلى ذكرها.
خامسا: تأويل النمل بأنهم قوم ضعاف: وحامت في نفوسهم وساوس الريب حول قول الله جل ذكره: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلى وَادِ النَّمْلِ قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ _________ ١ الشرب بكسر الشين: النصيب من الشراب. ٢ كانت الناقة آية من الله سبحانه، ومعجزة لصالح ﵇، والمعجزة أمر خارق للعادات لكن الفكر المتشيع للمادية لا يؤمن إلا بما عاينه ولامسه؛ لأن عيونهم كليلة، وفي القلوب أمراضها. ٣ انظر مفاتح الغيب للفخر الرازي ح ٢٤ ص ١٩٠- ١٩١ ط دار المصحف.
رابعا: تأويل الهدهد بأنه رجل وليس طائرا: وقرأوا ما ذكره الله في كتابه عن هدهد سليمان في قوله سبحانه: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ﴾ (٢٠: النمل)، واستبعدوا كيف يتكلم هذا الهدهد؟ وكيف يقول لسليمان ﵇ كما ذكر الله سبحانه: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ﴾ (٢٢: النمل) فقالوا: إن الهدهد رمز لرجل، أو أنه اسم لجندي من جنود سليمان ﵇، كانت مهمته أن يجمع له المعلومات. ولو أن هؤلاء فهموا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾، وقوله تعالى: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (١٦: النمل) وكانت لهم عقول يعلمون بها أن الهدهد طائر من هذا الطير لما قالوا بهذا، ولقد كان الطير جنودا لسليمان كما قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (١٧: النمل) وقد ذكر الفخر الرازي ﵀ في تفسيره٣ مطاعن الملاحدة في قصة الهدهد فأطال في ذكرها، وأوجز في نقضها، ولست أرى ما يدعو إلى ذكرها.
خامسا: تأويل النمل بأنهم قوم ضعاف: وحامت في نفوسهم وساوس الريب حول قول الله جل ذكره: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلى وَادِ النَّمْلِ قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ _________ ١ الشرب بكسر الشين: النصيب من الشراب. ٢ كانت الناقة آية من الله سبحانه، ومعجزة لصالح ﵇، والمعجزة أمر خارق للعادات لكن الفكر المتشيع للمادية لا يؤمن إلا بما عاينه ولامسه؛ لأن عيونهم كليلة، وفي القلوب أمراضها. ٣ انظر مفاتح الغيب للفخر الرازي ح ٢٤ ص ١٩٠- ١٩١ ط دار المصحف.
1 / 167
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (١٨: النمل)؛ إذ كيف تتكلم نملة؟ وكيف يبتسم سليمان ﵇ ضاحكا من قولها؟ فعمدوا إلى أوهام التأويل يفهمون النص الكريم من خلالها؛ فقالوا: إن النمل ليس هو الحشرة التي نعرفها، وإنما هم قوم ضعاف.
وجاء مؤول١ آخر في القرن العشرين فقال: (إن المراد بوادي النمل: الوادي الكثير الناس، كأنهم النمل في كثرتهم) .
وقد رد عليه الشيخ النجار٢ بقوله: "وليس ما قاله بشيء؛ لأنه ينافيه قولها: ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾؛ إذ كيف لا يشعر جند سليمان بالناس وخاصة إذا كانوا كثيرين كالنمل".
ونضيف نحن إلى قول الشيخ النجار فلنسلم بوجود مكان من الأرض اسمه وادي النمل؛ فهذا احتمال عقلي، ولكن ماذا نفعل في قوله تعالى: ﴿قَالتْ نَمْلةٌ﴾ وقولها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ﴾؟ فهل يمكن لغة أن يكون الناس هم النمل؟ وماذا يقول المؤول في قوله: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾؟ والضمير عائد عليها.
وقد عقد الأديب العربي المعتزلي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فصلا في كتابه (الحيوان) ٣ عن النمل ذكر فيه من طبائع هذه الحشرة ما يدل على أنها آية من آيات الله، فكان مما قال:
وقد يبلغ من تفقدها وحسن خبرها، والنظر في عواقب أمورها، أنها تخاف على ما ادخرته من الحبوب في الصيف للشتاء أن تعفن أو تسوس؛ فتخرجها إلى ظهر الأرض لتيبسها، وتعيد إليها جفافها وليضربها النسيم وينفي عنها الفساد، وإن خافت أن تنبت، نقرت موضع القطمير من وسط الحبة، وتعلم أنها من ذلك الموضع تنبت.. وتفلق حب الكسبرة أرباعا لأن أنصافه تنبت.
ثم تحدَّث عن ما لها من الهمة والجراءة على نقل شيء يزيد وزنه أو حجمه على حجمها مائة مرة، وتحدث عن التعاون في مجتمع النمل، وكيف تدل النملة صويحباتها على مكان الطعام فيتبعنها كالرائد الذي لا يكذب أهله.
ثم قال: ومن العجب أن تفكر أنها توحي إلى أختها بشيء.
والقرآن قد نطق بما هو أكثر من ذلك أضعافا.. فقد أخبر القرآن بأنها قد عرفت سليمان، وأثبتت عينه٤، وأنه ﵇ علم
_________
١ صاحب هذا التأويل هو الأستاذ أحمد زكي صاحب الخزانة الزكية التي كانت تحوي الكثير من المخطوطات، وقد نشر هذا الرأي في جريدة الأهرام الصادرة في ١٦ أغسطس ١٩٣٣م.
٢ انظر قصص الأنبياء للشيخ عبد الوهاب النجار ص ٣٣٦ ط: ٣.
٣ انظر (الحيوان) للجاحظ ج٤ ص ٥- ٤ طبعة الكتاب العربي بيروت بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون.
٤ أثبتت عينه: أي عرفت ذاته.
1 / 168
منطقها، وأنها أمرت صويحباتها بما هو أحزم وأسلم، ثم أخبر أنها تعرف الجنود من غير الجنود، وقد قالت: ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾، ثم بين أن كلام النمل قول ومنطق، وأنها تفصل بين المعاني التي هي بسبيلها.
إلى أن يقول: "وإن من دخلت عليه الشبه من هذا المكان لناقص الروية رديُّ الفكرة".
ونقل الجاحظ عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي قوله عن وادي النمل: كان ذلك الوادي معروفا (بوادي النمل)؛ فكأنه كان حمى، وكيف تنكر أن يكون حمى، والنمل ربما أجلت قرية١ من سكانها.
وهذا الذي ذكره الجاحظ نقلا عن (النظام) ٢ ليس خيالا ولا تاريخا يتسرب الشك إلى رواياته، وإنما هو واقع رآه بعضنا وسمع به قوم آخرون، فالصحف في مصر وغير مصر تنشر بين حين وآخر أخبار غزوات النمل البيض، وكيف تهلك غزواته الحرث والفرش.
والقرآن الكريم لم يذكر لنا حجم النملة المتكلمة ولا نوعها، وإنما نؤمن بأنها نملة من نوع النمل.
وبعد أن ذكرنا ما قاله أحد العلماء المسلمين عن النمل ننقل ما كتبه أحد علماء التاريخ الطبيعي من الغربيين وهو (رويال ديكنسون) في كتابه (شخصية الحشرات) إذ قال٣: "ولقد ظللت أدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاما، في بقاع مختلفة من العالم؛ فوجدت أن كل شيء يحدث في هذه المدينة في دقة بالغة، وتعاون عجيب، ونظام لا يمكن أن نراه في مدن البشر، لقد راقبته وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة رباها النمل في جوف الأرض حتى فقدت في الظلام بصرها.
لقد زرع النمل ١٥ مترا مربعا من الأرض بالأرز) .
ثم ذكر الكاتب أنه وجد جماعة من النمل تقوم بحرثها على أحسن ما يقضي به علم الزراعة، فبعضها زرع بالأرز، وجماعة أزالت الأعشاب، وغيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان.
ولما بلغت عيدان الأرز نموها، وكان يرى صفا من الشغالة تتسلق العيدان وتنزع الحب، وتعود به إلى مخازن تحت الأرض..
وبعد الحصاد هطل المطر أياما، وما أن انقطع حتى قام النمل بإخراج الأرز من المخازن، وتعريضه للشمس؛ ليجف ثم عادوا به من جديد.
_________
١ النقل عن كتاب (الحيوان) كما سبقت الإشارة بإيجاز وتصرف، وقد أجاد وأفاد.. وله في غير هذا كبوات.. والحق هو الميزان.
٢ خالف الجاحظ (النظام) في مسائل، وضلله فيها، وليس هنا مجال تفصيلها.
٣ نقلا عن كتاب (الله والعلم الحديث) ص ١٠٠ ط: ٣ لعبد الرزاق نوفل.
1 / 169
وكل هذا يدل على أن النمل عالم عجيب غريب، وهو من بعض آيات الله في خلقه.
وإنما أطلنا القول في هذه المسألة لنبين لأصحاب التأويلات الجانحة أنهم ليسوا على شيء مما يدعون؛ فلا العلم بمؤيد لهم - وإن زعموا أنهم فيه متبحرون - ولا ظهير من الرشاد.
سادسا: تأويل عقاب المسخ: ومن أمثلة التأويلات التي يتحكم فيها جموح العقل، فيغدو النص القرآني محكوما بضيق التصور، ويصبح مقيدا بقيود (الواقعية المادية المحدودة) و(العقلانية) المزعومة، من هذه الأمثلة تأويل المسخ الذي ضربه الله عقابا على المعتدين من بني إسرائيل تأويلا لا برهان لهم به. فقد ورد الحديث عن المسخ في أربعة مواضع من القرآن الكريم، هي قوله عز من قائل: ١) ﴿وَلقَدْ عَلِمْتُمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلنَا لهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ﴾ (٦٥، ٦٦: البقرة) . ٢) ﴿قُل يَا أَهْل الكِتَابِ هَل تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِل إِليْنَا وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، قُل هَل أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَليْهِ وَجَعَل مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ (٥٩، ٦٠: المائدة) . ٣) ﴿فَلمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلنَا لهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (١٦٦: الأعراف) . ٤) ﴿وَلوْ نَشَاءُ لمَسَخْنَاهُمْ عَلى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ﴾ (٦٧:يس) .
١-أقدم محاولة لتأويل المسخ: وأقدم ما وصلنا من الآراء في تأويل المسخ، هذا الرأي الذي قال به المفسر التابعي مجاهد بن جبير وهو١: "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وغنما هو مثل ضربه الله لهم كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (٥: الجمعة) .
٢- رأي الطبري: نقل شيخ المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري هذا الرأي في تفسيره٢ _________ ١ انظر تفسير الطبري: جامع البيان ج ٢ ص ١٧٣ط: المعارف المحققة. ٢ انظر تفسير الطبري جامع البيان ج ٢ ص ١٧٣ ط المعرف المحققة.
سادسا: تأويل عقاب المسخ: ومن أمثلة التأويلات التي يتحكم فيها جموح العقل، فيغدو النص القرآني محكوما بضيق التصور، ويصبح مقيدا بقيود (الواقعية المادية المحدودة) و(العقلانية) المزعومة، من هذه الأمثلة تأويل المسخ الذي ضربه الله عقابا على المعتدين من بني إسرائيل تأويلا لا برهان لهم به. فقد ورد الحديث عن المسخ في أربعة مواضع من القرآن الكريم، هي قوله عز من قائل: ١) ﴿وَلقَدْ عَلِمْتُمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلنَا لهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ﴾ (٦٥، ٦٦: البقرة) . ٢) ﴿قُل يَا أَهْل الكِتَابِ هَل تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِل إِليْنَا وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، قُل هَل أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَليْهِ وَجَعَل مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ (٥٩، ٦٠: المائدة) . ٣) ﴿فَلمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلنَا لهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (١٦٦: الأعراف) . ٤) ﴿وَلوْ نَشَاءُ لمَسَخْنَاهُمْ عَلى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ﴾ (٦٧:يس) .
١-أقدم محاولة لتأويل المسخ: وأقدم ما وصلنا من الآراء في تأويل المسخ، هذا الرأي الذي قال به المفسر التابعي مجاهد بن جبير وهو١: "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وغنما هو مثل ضربه الله لهم كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (٥: الجمعة) .
٢- رأي الطبري: نقل شيخ المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري هذا الرأي في تفسيره٢ _________ ١ انظر تفسير الطبري: جامع البيان ج ٢ ص ١٧٣ط: المعارف المحققة. ٢ انظر تفسير الطبري جامع البيان ج ٢ ص ١٧٣ ط المعرف المحققة.
1 / 170
لسورة البقرة معزوا إلى مجاهد، ووصفه بأنه "قول لظاهر ما يدل عليه كتاب الله مخالف".
ثم إن الطبري ﵀ كرّ على هذا الرأي بما ينقضه، وذكر عقوبات الله لهم فقال: "وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر أنهم قالوا لنبيهم: ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ (١٥٣: النساء)، وأن الله - تعالى ذكره - صعقهم عند مسألتهم ذلك نبيهم، وأنهم عبدوا العجل فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (٢٤: المائدة) فابتلاهم بالتيه، فسواء قائل قال: هم لم يمسخوا قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم؛ من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم، ومن أنكر من ذلك شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان عن قوله، وعورض - فيما أنكر من ذلك - بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد، قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلا على فساد قول إجماعها على تخطئته١.ا؟.
٢- رأي الزمخشري: ومع اعتزاليات الزمخشري وولعه بالتأويل؛ فإنه لم ينهج هذا المنهج مع عقوبة المسخ فقال٢: (﴿قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصَّغار والطرد، ﴿فَجَعَلنَاهَا﴾ يعني المسخة ﴿نَكَالًا﴾ عبرة تنكل من اعتبر بها: أي تمنعه، ومنه النِّكل: القيد، ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ لما قبلها، ﴿وَمَا خَلفَهَا﴾ وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها٣، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، أريدَ بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم٤، وقيل: ﴿نَكَالًا﴾ عقوبة منكلة لما بين يديها لأجل ما تقدمها من ذنوبهم، وما تأخر منها، ﴿وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ﴾ للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متق سمعها. ا؟.
٤- رأي الجاحظ: للجاحظ في موسوعته (الحيوان) استطرادات كثيرة، ولقد تعرض لموضوع المسخ، ومع _________ ١ انظر جامع البيان ج ٢ ص ١٧٣. ٢ انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ج ١ ص ٢١٩ ط الحلبي. ٣ هذا الوجه في تفسير ﴿لما بيد يديها﴾ بعيد، ولا دليل عليه. ٤ وهذا وما بعده هو الأولى.
٢- رأي الزمخشري: ومع اعتزاليات الزمخشري وولعه بالتأويل؛ فإنه لم ينهج هذا المنهج مع عقوبة المسخ فقال٢: (﴿قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو الصَّغار والطرد، ﴿فَجَعَلنَاهَا﴾ يعني المسخة ﴿نَكَالًا﴾ عبرة تنكل من اعتبر بها: أي تمنعه، ومنه النِّكل: القيد، ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ لما قبلها، ﴿وَمَا خَلفَهَا﴾ وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها٣، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، أريدَ بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم٤، وقيل: ﴿نَكَالًا﴾ عقوبة منكلة لما بين يديها لأجل ما تقدمها من ذنوبهم، وما تأخر منها، ﴿وَمَوْعِظَةً لِلمُتَّقِينَ﴾ للذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متق سمعها. ا؟.
٤- رأي الجاحظ: للجاحظ في موسوعته (الحيوان) استطرادات كثيرة، ولقد تعرض لموضوع المسخ، ومع _________ ١ انظر جامع البيان ج ٢ ص ١٧٣. ٢ انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ج ١ ص ٢١٩ ط الحلبي. ٣ هذا الوجه في تفسير ﴿لما بيد يديها﴾ بعيد، ولا دليل عليه. ٤ وهذا وما بعده هو الأولى.
1 / 171
نزعته الاعتزالية، ودراسته الكلامية؛ فقد كان من المثبتين للمسخ، المحتجين لوقوعه بحجج النقل والعقل، فتكلم عن بعض أسباب المسخ، ولماذا عاقب الله الممسوخين بأن جعلهم قردة وخنازير؟
فقال عن الخنزير١: "فأما قبح وجهه فلو أن القبح والغدر والكذب تجسدت ثم تصورت لما زادت على قبح الخنزير، وكل ذلك بعض الأسباب التي مسخ لها الإنسان خنزيرا، وإن القرد لسمج الوجه، قبيح كل شيء، وكفاك أنه للمثل المضروب.. " يعني أن القرد قد ضرب مثلا للقبح.
ثم عاد٢ إلى ذكر مقابح الخنزير؛ فبين أن الخنزير ينزو ذكره على ذكره، وأن الله سبحانه سمى لحمه رجسا وإن كان غير ميتة ولو ذكر الذابح عليه اسم الله، ولوصفه بهذا الوصف (الرجس) يقول الجاحظ: "ولا نعلم لهذا الوصف وجها إلا الذي خص الله به من ذكر المسخ، فأراد تعظيم شأن العقاب، ونزول الغضب، وكان ذلك القول ليس مما يضر الخنزير، وفيه الزجر عن محارمه، والتخويف من مواضع عذابه".
ثم ذكر الجاحظ "أن المسخ لا يتناسل ولا يبقى إلا بقدر ما يكون موعظة وعبرة".
ثم تكلم عن إنكار الدهرية للمسخ؛ فقال٣: "فمنهم من جحد المسخ، وأقر بالخسف والريح والطوفان، وجعل الخسف كالزلازل، وزعم أنه يقر من القذف بما كان من البَرَد الكبار، فأما الحجارة فإنها لا تجيء من جهة السماء.. إلى آخر أضاليل الدهرية..".
وهكذا رأينا قطبين من مدرسة الاعتزال - هما (الزمخشري والجاحظ) - يؤمنان بالمسخ على حقيقته، ولا يتأولانه على غير وجهه.
٥- رأي الفخر الرازي: وأما (الفخر الرازي) فهو وإن لم ينتصر لرأي مجاهد ويجنح إليه، إلا أنه لم يجد في قبوله غضاضة، ويجدر بنا أن نلم برأيه لما له من منهج خاص. فقد قال٤: "..قوله ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ ليس بأمر لهم؛ لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، بل المراد سرعة التكوين، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (٤٠: النحل)، وكقوله: ﴿قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (١١: فصلت)، والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء، بل قال لهم،: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾، أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد. _________ ١ انظر كتاب الحيوان لأبي عثمان بن بحر الجاحظ ج ٤ ص ٥٠، وكتاب الحيوان موسوعة كبرى نشرها الأستاذ عبد السلام محمد هارون محققة في سبعة أجزاء كبيرة ط الحلبي القاهرة. ٢ انظر الصفحات ٥١، ٥٦، ٦٠، ٦١، من الجزء الرابع من الحيوان، والنقل ببعض تصرف. ٣ انظر الحيوان ج ٤ ص ٧٠. ٤ انظر التفسير الكبير (مفاتح الغيب) للفخر الرازي ج ٣ ص ١١٠ وما بعدها ط دار الكتب العلمية طهران.
٥- رأي الفخر الرازي: وأما (الفخر الرازي) فهو وإن لم ينتصر لرأي مجاهد ويجنح إليه، إلا أنه لم يجد في قبوله غضاضة، ويجدر بنا أن نلم برأيه لما له من منهج خاص. فقد قال٤: "..قوله ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ ليس بأمر لهم؛ لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، بل المراد سرعة التكوين، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (٤٠: النحل)، وكقوله: ﴿قَالتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (١١: فصلت)، والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء، بل قال لهم،: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾، أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد. _________ ١ انظر كتاب الحيوان لأبي عثمان بن بحر الجاحظ ج ٤ ص ٥٠، وكتاب الحيوان موسوعة كبرى نشرها الأستاذ عبد السلام محمد هارون محققة في سبعة أجزاء كبيرة ط الحلبي القاهرة. ٢ انظر الصفحات ٥١، ٥٦، ٦٠، ٦١، من الجزء الرابع من الحيوان، والنقل ببعض تصرف. ٣ انظر الحيوان ج ٤ ص ٧٠. ٤ انظر التفسير الكبير (مفاتح الغيب) للفخر الرازي ج ٣ ص ١١٠ وما بعدها ط دار الكتب العلمية طهران.
1 / 172
والمروي عن مجاهد: أنه تعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم، لا أنه مسخ صورهم، وهو مثل قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ (٥: الجمعة)، ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد لا ينجح فيه تعليمه: كن حمارا، واحتج على امتناعه (أي المسخ) بأمرين:
الأول: أن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد، والبنية المحسوسة؛ فإذا أبطلها، وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله، كان ذلك إعداما للإنسان، وإيجادا للقرد؛ فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنسانا، وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قردا١؛ فهذا يكون إعداما وإيجادا، لا أنه يكون مسخا.
ثم قال الرازي: وأجيب٢ بأن الإنسان ليس هو تمام هذا الهيكل، وذلك لأن هذا الإنسان قد يصير سمينا بعد أن كان هزيلا وبالعكس بالمسخ، ثم أثار إشكالات عليه ثم نقضها، ثم لم يجد محظورا البتة من الصيرورة إلى التأويل وقبول رأي مجاهد.
ويقول كاتبه: فأما عن الإشكال الأول فإن المسخ لغة هو٣: "تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها"، وهذا التبديل أو التحويل لا دليل على استحالته من نقل أو عقل أو علم.
فأما النقل فدلالته بينة - كما سنوضح بإذن الله -.
وأما العقل والعلم فإن دراسة آيات الله في الأنفس والآفاق - بتعميق واستيعاب - تقرب إلى أذهاننا القاصرة وعلمنا المحدود هذا الذي يراه البعض بعيدا، وخاصة بعد تقدم علم الأحياء (البيولوجيا) في الكشف عن كثير من أسرار (الخلية) و(الغدد) و(الهرمونات)، وما قرأناه في الصحف منذ سنوات عما سمي (بالإنسان القرد)، وهو طفل نشأ في غابة بين القرود، فصار يطعم طعامهم ويسير على أربع، ونبت على جسمه شعر القردة.. وانقطعت صلته بالإنسانية.
وفصل القول:
أن المسألة عقاب "أراده الله ببني إسرائيل لعدوانهم وظلمهم، وشاءت إرادته أن يكون العقاب خرقا للعادات ومجريات السنن، ليكون عبرة ونكالا، وليكون آية على تفرده وحده بالقدرة والقهر والجبروت، فهل يعجزه سبحانه شيء في الأرض أو السماء؟ تعالى علوا كبيرا، ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ (٤٤: فاطر) .
وكما قال الرازي نفسه:
_________
١ هذا بالأصل ولو قال: (صارت قرودا) لكان هذا ما يدل عليه السياق، لكن لعله راعى المقابلة بين (إنسانا) و(قردا) .
٢ ذكرنا الرد عقب الإشكال مخالفين ترتيب الرازي لأن هذا - في نظرنا - هو الأولى.
٣ انظر المختار مادة مسخ ص ٦٢٤.
1 / 173
"فالأجزاء متبدلة.. وعلى جميع التقديرات فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغيير إلى هذا الهيكل، وهذا هو المسخ، وبهذا التقدير يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول ﵇"١.
ثم قال الرازي:
والإشكال الثاني: إن جوزنا ذلك - أي المسخ - لما أمِنّا في كل ما نراه قردا وكلبا، أنه كان إنسانا عاقلا، وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات.
والجواب: أن الأمان يحصل بإجماع الأمة.
ولما ثبت بما قررناه جواز المسخ، أمكن إجراء الآية على ظاهرها، ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد ﵀، وإن كان ما ذكره غير مستبعد جدا؛ لأن الإنسان إذا أصر على جهالته - بعد ظهور الآيات وجلاء البينات - فقد يقال في العرف الظاهر إنه حمار وقرد، وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور البتة" ا؟.
فأنت ترى أن الرازي ﵀ أجاز القولين، ثم عاد إلى إثارة شبهة أخرى هي (أنه بعد أن يصير (اليهودي المعتدي) قردا، لا يبقى له فهم ولا عقل ولا علم، فلا يعلم ما نزل به من العذاب، ومجرد القردية غير مؤلم، لأن القرود حال سلامتها غير متألمة، فمن أين يحصل العذاب بسببه؟!
وأجاب بقوله: "ولم لا يجوز أن يقال إن الأمر الذي بسببه يكون الإنسان عاقلا فاهما ظل باقيا، إلا أنه لما تغيرت الخلقة والصورة، لا جرم أنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب شؤم المعصبة، وكانت في نهاية الخوف والخجالة.. ولا يلزم من عدم تألم القرود الأصلية بتلك الصورة عدم تألم الإنسان بتلك الصورة الغريبة القردية" ا؟.
ونضيف إلى قول الفخر الرازي ﵀ قولنا: إن العقاب لا يتحقق ولا يتم المقصود منه إلا ببقاء الغرائز والمشاعر والأحاسيس التي بها يعاني هؤلاء الممسوخون آلام عذاب المسخ.
_________
١ يشير الرازي إلى ما ورد في وصف جبريل ﵇ في حديث بدء الوحي في الصحيحين بأنه (ساد عظم خلقه ما بين السماء والأرض..) ومع ذلك فقد يدخل حجرة الرسول ﷺ حال الوحي.. لكن مع التبدل من حالة إلى حالة، والتشبيه مع الفارق. وانظر في تفصيل أحوال الوحي والملك بحثنا (القرآن الكريم من قضايا الوحي والتنزيل) ص ٤٩.
1 / 174
٦- رأي ابن كثير١:
ذكر ابن كثير رأي مجاهد، ووصف إسناد هذا الرأي إلى مجاهد بأنه إسناد جيد، ثم وصف رأي مجاهد بأنه قول خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، واستشهد ببعض الآيات الأخرى الواردة في مسخ بني إسرائيل، ثم ذكر رأي (العوفي) في تفسيره من أن الشباب صاروا قردة، وأن الشيوخ صاروا خنازير، وذكر رأي قتادة من أن القوم قد صاروا قردة تتعاوى، ولها أذناب، وروى ابن كثير أن الذين نهوهم كانوا يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: أي بلى، وذكر رواية الضحاك عن ابن عباس وهي: مسخهم الله قردة بمعصيتهم، ثم قال ابن عباس: (ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينسل".
وبعد ذكر العديد من الروايات المؤيدة للمسخ عن أئمة التفسير بين ابن كثير أن الغرض من ذكرها هو بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد ﵀ من أن المسخ كان معنويا لا صوريا، والصحيح أنه معنوي صوري والله أعلم. ا؟.
٧- رأي القاسمي٢: نقل القاسمي آراء سابقيه من المفسرين، ثم ارتضى هذا الرأي وهو: "والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة.. وردت به الآيات والأحاديث، وفي أثر: عدد المسوخ ثلاثة عشر، وبيَّن أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث زاول استعداده وتمكن في طبعه، وصار صورة ذاتية له، صار طبعه طبع ذلك الحيوان ونفسه نفسه؛ فصارت صفته صورته) ا؟.
٨- رأي الشيخ رشيد رضا: انتهج الشيخ رشيد منهج أستاذه في إنكار مسخ الصورة والخلقة؛ فبعد ذكره في تفسيره لرأي مجاهد قال٣: "والأمر للتكوين، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان _________ ١ انظر تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠٥- ١٠٧. ٢ انظر محاسن التأويل لمحمد جمال الدين القاسمي ج ٢ ص ١٥٠- ١٥١. ٣ انظر تفسير المنار ج ١ ص ٣٤٤- ٣٤٥.
٧- رأي القاسمي٢: نقل القاسمي آراء سابقيه من المفسرين، ثم ارتضى هذا الرأي وهو: "والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة.. وردت به الآيات والأحاديث، وفي أثر: عدد المسوخ ثلاثة عشر، وبيَّن أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث زاول استعداده وتمكن في طبعه، وصار صورة ذاتية له، صار طبعه طبع ذلك الحيوان ونفسه نفسه؛ فصارت صفته صورته) ا؟.
٨- رأي الشيخ رشيد رضا: انتهج الشيخ رشيد منهج أستاذه في إنكار مسخ الصورة والخلقة؛ فبعد ذكره في تفسيره لرأي مجاهد قال٣: "والأمر للتكوين، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان _________ ١ انظر تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠٥- ١٠٧. ٢ انظر محاسن التأويل لمحمد جمال الدين القاسمي ج ٢ ص ١٥٠- ١٥١. ٣ انظر تفسير المنار ج ١ ص ٣٤٤- ٣٤٥.
1 / 175
وأخلاقه كالقردة المستبذلة المطرودة من حضرة الناس.."،
ثم قال: وذهب الجمهور أيضا إلى أن معنى (كونوا قردة) أن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصا فيه، ولم يبق إلا النقل، ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة؛ لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص، فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له، ينزل عن رتبة الإنسان ويلتحق بعجماوات الحيوان، وسنة الله تعالى واحدة؛ فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية..
ثم يقول: "وحديث المسخ والتحويل، وأن أولئك قد تحولوا من أناس إلى قردة وخنازير، إنما قصد به التهويل والإغراب، فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة، والأجدر بتحريك الفكرة..
ثم يقول: "إنه ليس في تفسير الآية حديث مرفوع إلى النبي ﷺ نص فيه على كون ما ذكر مسخا لصورهم وأجسادهم، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره قول مجاهد إن المسخ معنوي، وقول الآخرين إنه صوري، ثم قال: والصحيح أنه معنوي صوري، فما مراده بذلك؟! " ا؟.
وما كان ينبغي لمثل الشيخ رشيد أن يغيب عنه مراد الحافظ ابن كثير؛ فالمسخ المعنوي هم مسخ قلوبهم لزيغهم عن الحق، والمسخ الصوري هو مسخ صورهم وأبدانهم، ليتطابق ظاهرهم مع باطنهم.
ولما عاد إلى تناول الموضوع في سورة الأعراف١ذكر الخلاف في المسخ أهو مسخ خلق وبدن، أم مسخ خلق ونفس؟ ثم قال: "فالأول قول الجمهور، والثاني قول مجاهد".
٩- رأي الشيخ عبد الجليل عيسى٢: في تفسير الآيتين ٦٥، ٦٦ من سورة البقرة حول (المسخ) اكتفى بذكر المعنى اللغوي لكلمة ﴿خَاسِئِينَ﴾ نقلا عن لسان العرب؛ فقال: الخاسئ من الكلاب والخنازير هو المبعد المطرود، يقال: خسأ فلان الكلب يخسؤه - بفتح السين - خسئا وخسوءا أيضا، أي: طرده مهينا ذليلا، وخسأ الكلب ابتعد ذليلا. ا؟ _________ ١ انظر تفسير المنار ج ٩ ص ٣٧٩- ٣٨٠. ٢ انظر المصحف الميسر في تفسير آيات البقرة والأعراف حول المسخ.
٩- رأي الشيخ عبد الجليل عيسى٢: في تفسير الآيتين ٦٥، ٦٦ من سورة البقرة حول (المسخ) اكتفى بذكر المعنى اللغوي لكلمة ﴿خَاسِئِينَ﴾ نقلا عن لسان العرب؛ فقال: الخاسئ من الكلاب والخنازير هو المبعد المطرود، يقال: خسأ فلان الكلب يخسؤه - بفتح السين - خسئا وخسوءا أيضا، أي: طرده مهينا ذليلا، وخسأ الكلب ابتعد ذليلا. ا؟ _________ ١ انظر تفسير المنار ج ٩ ص ٣٧٩- ٣٨٠. ٢ انظر المصحف الميسر في تفسير آيات البقرة والأعراف حول المسخ.
1 / 176
ولكنه عند قوله تعالى: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (١٦٦: الأعراف) صرح بالتأويل؛ فقال: والمراد أصبحوا كالقردة في الاحتقار.
سابعا: تأويل (طمس الوجوه) بالرؤساء والمقاصد والأماكن:
يقول الله جل ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلعَنَهُمْ كَمَا لعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا﴾،
(٤٧: النساء) .
من المفسرين من حمل الطمس في هذه الآية على ظاهره، ومنهم من سلك به أودية المجاز؛
وبيان ذلك كما يلي١:
١) تفسير الوجه بمعناه الجسماني وهو وجه البدن: وقد استعملت الكلمة في القرآن الكريم بهذا المعنى في أكثر مواضع ورودها، كما في قوله تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ (٦: المائدة)، ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ﴾ (٦: المائدة)، ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ (١٤٤: البقرة)، وهو بهذا المعنى المادي في ١٤٩، ١٥٠: البقرة أيضا، ومن هذا الاستعمال أيضا: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ (٢٩ك الذاريات)، كل هذه الآيات وغيرها كثير، استعمل فيها الوجه بمعناه الحقيقي الجسماني. وعلى هذا المعنى فسر طمس الوجه بما يلي: أ – محو آثارها من العينين والحاجبين والأنف والفم حتى تصير كالأقفاء، فيصبح الوجه والقفا سواء في عدم الحواس والمعالم. ب- أن المقصود بطمس الوجوه: تحويلها من جهة الأمام إلى القفا، فتصبح العينان في القفا فيمشون على أعقابهم القهقرى. ج- أن المقصود بطمس الوجوه: طمس العين فتصير عمياء، كما استشهد الطبري لهذا المعنى بقوله: (ومن ذلك قيل للأعمى الذي تعفَّى غرُّ ما بين جفني عينيه فدثر: (أعمى مطموس، وطميس)، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَلوْ نَشَاءُ لطَمَسْنَا عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾ (٦٦: يس) قال أبو جعفر: الغر ُّ (الشق الذي بين الجفنين) ا؟. _________ ١ رجعنا في تفسير الآية إلى تفسير الطبري ج ٨ ص ٤٤٠- ٤٤٨ ط المعارف المحققة، ابن كثير ج ١ ص ٥٠٧، ٥٠٨ ط الحلبي، والكشاف للزمخشري ج ١ ص ٤٠٦ ط الحلبي، ومحاسن التأويل للقاسمي ج ٥ ص ١٢٨٢ – ١٢٨٦، وتفسير المنار ج ٥ ص ١١٧- ١١٨، وإلى معاجم ألفاظ القرآن الكريم وبعض المعاجم اللغوية.
١) تفسير الوجه بمعناه الجسماني وهو وجه البدن: وقد استعملت الكلمة في القرآن الكريم بهذا المعنى في أكثر مواضع ورودها، كما في قوله تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ (٦: المائدة)، ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ﴾ (٦: المائدة)، ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ (١٤٤: البقرة)، وهو بهذا المعنى المادي في ١٤٩، ١٥٠: البقرة أيضا، ومن هذا الاستعمال أيضا: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ (٢٩ك الذاريات)، كل هذه الآيات وغيرها كثير، استعمل فيها الوجه بمعناه الحقيقي الجسماني. وعلى هذا المعنى فسر طمس الوجه بما يلي: أ – محو آثارها من العينين والحاجبين والأنف والفم حتى تصير كالأقفاء، فيصبح الوجه والقفا سواء في عدم الحواس والمعالم. ب- أن المقصود بطمس الوجوه: تحويلها من جهة الأمام إلى القفا، فتصبح العينان في القفا فيمشون على أعقابهم القهقرى. ج- أن المقصود بطمس الوجوه: طمس العين فتصير عمياء، كما استشهد الطبري لهذا المعنى بقوله: (ومن ذلك قيل للأعمى الذي تعفَّى غرُّ ما بين جفني عينيه فدثر: (أعمى مطموس، وطميس)، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَلوْ نَشَاءُ لطَمَسْنَا عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾ (٦٦: يس) قال أبو جعفر: الغر ُّ (الشق الذي بين الجفنين) ا؟. _________ ١ رجعنا في تفسير الآية إلى تفسير الطبري ج ٨ ص ٤٤٠- ٤٤٨ ط المعارف المحققة، ابن كثير ج ١ ص ٥٠٧، ٥٠٨ ط الحلبي، والكشاف للزمخشري ج ١ ص ٤٠٦ ط الحلبي، ومحاسن التأويل للقاسمي ج ٥ ص ١٢٨٢ – ١٢٨٦، وتفسير المنار ج ٥ ص ١١٧- ١١٨، وإلى معاجم ألفاظ القرآن الكريم وبعض المعاجم اللغوية.
1 / 177
٢) تأويل طمس الوجوه بردها عن الحق:
جاء استعمال الوجه في القرآن بغير مفهومه الحسي كما يلي:
جاء الوجه بمعنى: أول الشيء وبدايته كقوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِالذِي أُنْزِل عَلى الذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ (٧٢: آل عمران) .
وفسر الوجه بحقيقة الشيء وكنهه كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلى وَجْهِهَا﴾ (١٠٨: المائدة) .
ومن هذا الوادي فسر بعضهم طمس الوجه بالتحول عن الصراط الحق.
وقد عزا الطبري هذا الرأي إلى المفسر التابعي مجاهد بن جبر بعدد من الأسانيد، وعبارته: (﴿َنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ عن صراط الحق ﴿فنردها على أدبارها﴾ في الضلالة) .
ونسب الطبري هذا الرأي إلى الحسن كذلك، وأخبرنا أن الضحاك فسرها بقوله: "أي أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردهم على أدبارهم، فكفروا بمحمد ﷺ وما جاء به".
وكان للطبري رده الوجيز البليغ على هذا الرأي حين قال١: "فبين فساد قول من قال ذلك، فما وجه رد من هو في الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه، فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال: نرده فيه".
٣- تأويل الوجوه بالديار والمساكن: وبعضهم فسر طمس الوجوه بقوله: "من قبل أن نطمس وجوههم التي هم ٢فيها، فنردهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز". وقد قال الطبري٣ عن هذا الرأي: إنه "مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد". وذلك أن المعروف من (الوجوه) في كلام العرب التي هي خلاف (الأقفاء)، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب٤ في كلام من نزل بلسانه، حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه.
٤- تأويل طمس الوجوه بإبطال المؤامرات: وقال بعضهم المقصود بطمس الوجوه إبطال مؤامراتهم. وبهذا التأويل قال الشيخ رشيد رضا، وعبارته: "فظاهر معنى العبارة هنا: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من _________ ١ انظر الطبري ج ٨ ص ٤٤٣. ٢ والمقصود بالوجوه على هذا التأويل أماكن الإقامة. ٣ انظر تفسير الطبري ج ٨ ص ٤٤٤. ٤ هذه العبارة قاعدة جليلة لو اتبعها كثير ممن يصرفون النصوص عن حقائقها، لوفروا على هذه الأمة جهودا ضيعت وأوقاتا بددت، ولكفيت الأمة شر فتن كثيرة.
٣- تأويل الوجوه بالديار والمساكن: وبعضهم فسر طمس الوجوه بقوله: "من قبل أن نطمس وجوههم التي هم ٢فيها، فنردهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز". وقد قال الطبري٣ عن هذا الرأي: إنه "مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد". وذلك أن المعروف من (الوجوه) في كلام العرب التي هي خلاف (الأقفاء)، وكتاب الله يوجه تأويله إلى الأغلب٤ في كلام من نزل بلسانه، حتى يدل على أنه معني به غير ذلك من الوجوه.
٤- تأويل طمس الوجوه بإبطال المؤامرات: وقال بعضهم المقصود بطمس الوجوه إبطال مؤامراتهم. وبهذا التأويل قال الشيخ رشيد رضا، وعبارته: "فظاهر معنى العبارة هنا: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من _________ ١ انظر الطبري ج ٨ ص ٤٤٣. ٢ والمقصود بالوجوه على هذا التأويل أماكن الإقامة. ٣ انظر تفسير الطبري ج ٨ ص ٤٤٤. ٤ هذه العبارة قاعدة جليلة لو اتبعها كثير ممن يصرفون النصوص عن حقائقها، لوفروا على هذه الأمة جهودا ضيعت وأوقاتا بددت، ولكفيت الأمة شر فتن كثيرة.
1 / 178
قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة، فهذا ما نفسرها به على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين، وبه قال مجاهد، ولكن أوجز" ا؟.
٥- تأويل الوجوه بالرؤساء والوجهاء: وقيل إن المقصود بطمس الوجوه ما ذكره الزمخشري بقوله١: "ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم، أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم". مختار القول: وبعد استعراض الآراء في تفسير الآية استعراضا وافيا، وإن لم نبلغ به حد الاستقصاء، نرى أن أولى الآراء هو حمل الوجه على حقيقته، وأن الطمس على أصل معناه من المحو والإزالة والإخفاء. وهذا الترجيح هو الذي ارتضاه الطبري حين قال٢: "وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: ﴿أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالةَ..﴾ (٤٤: النساء)، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا﴾ الآية.. بأسه٣ وسطوته وتعجيل عقابه لهم، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به، ولاشك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا" ا؟. وآثر القاسمي حمل الآية على الحقيقة فقال٤: "ولا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات غير الأول، لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ورد على القائلين بأن قرينة المجاز هي عدم وقوع المتوعد به، بأنه ليس في الآية ما يدل على تحتم وقوع الوعيد إن لم يؤمنوا، ولو فهم _________ ١ انظر الكشاف ج ١ ص ٤٠١. ٢ الطبري ج ٨ ص ٤٤٣. ٣ منصوبة بحذرهم في جملة (ثم حذرهم جل ثناؤه) . ٤ انظر محاسن التأويل ج ٥ ص ١٢٨٤- ١٢٨٦ بإيجاز.
٥- تأويل الوجوه بالرؤساء والوجهاء: وقيل إن المقصود بطمس الوجوه ما ذكره الزمخشري بقوله١: "ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة، وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم، أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم". مختار القول: وبعد استعراض الآراء في تفسير الآية استعراضا وافيا، وإن لم نبلغ به حد الاستقصاء، نرى أن أولى الآراء هو حمل الوجه على حقيقته، وأن الطمس على أصل معناه من المحو والإزالة والإخفاء. وهذا الترجيح هو الذي ارتضاه الطبري حين قال٢: "وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: ﴿أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالةَ..﴾ (٤٤: النساء)، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلى أَدْبَارِهَا﴾ الآية.. بأسه٣ وسطوته وتعجيل عقابه لهم، إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به، ولاشك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا" ا؟. وآثر القاسمي حمل الآية على الحقيقة فقال٤: "ولا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات غير الأول، لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ورد على القائلين بأن قرينة المجاز هي عدم وقوع المتوعد به، بأنه ليس في الآية ما يدل على تحتم وقوع الوعيد إن لم يؤمنوا، ولو فهم _________ ١ انظر الكشاف ج ١ ص ٤٠١. ٢ الطبري ج ٨ ص ٤٤٣. ٣ منصوبة بحذرهم في جملة (ثم حذرهم جل ثناؤه) . ٤ انظر محاسن التأويل ج ٥ ص ١٢٨٤- ١٢٨٦ بإيجاز.
1 / 179