The Insight in the Call to God
البصيرة في الدعوة إلى الله
خپرندوی
دار الإمام مالك
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٢٦هـ - ٢٠٠٥م
د خپرونکي ځای
أبو ظبي
ژانرونه
[تقديم]
البصيرة في الدعوة إلى الله
ناپیژندل شوی مخ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله تعالى أوضح سبيل الدعوة ومنهاجها بقوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] (١) .
قال ابن كثير ﵀: ". . . أن هذه سبيله، أي: سبيل رسول الله ﷺ وطريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي " (٢) .
وقد عرّف العلماء البصيرة، فقال البغوي ﵀: " والبصيرة: هي المعرفة التي تُميّز بها بين الحق والباطل " (٣) .
وقال القرطبي ﵀: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: ١٠٨] أي: على يقين وحق " (٤) .
_________
(١) يوسف: ١٠٨.
(٢) تفسير القرآن العظيم (٤ / ٤٢٢) .
(٣) معالم التنزيل (٤ / ٢٨٤) .
(٤) أحكام القرآن (٩ / ١٧٩) .
1 / 5
وقال الراغب ﵀: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف: ١٠٨] أي: على معرفة وتحقيق " (١) .
وذكر الكفوي ﵀ البصيرة بأنها: " قوة في القلب تدرك بها المعقولات، وقوة القلب المدركة بصيرة " (٢) .
وبين ابن عاشور ﵀ البصيرة بأنها: " هي الحجة الواضحة " (٣) .
ولأهمية البصيرة كانت من الفرائض، كما أشار إلى ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ في مسائل: " كتاب التوحيد ".
قال الشيخ سليمان بن عبد الله ﵀: " ووجه ذلك: أن اتباعه ﷺ واجب، وليس أتباعه حقًّا إلا أهل البصيرة، فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه، فتعيّن أن البصيرة من الفرائض " (٤) .
والبصيرة من أعلى درجات العلم، كما أشار إلى ذلك ابن القيم بقوله: " أعلى درجات العلم: البصيرة؛ التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخِصّيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء " (٥) .
والبصيرة في الدعوة لا تختص بالعلم الشرعي فقط، بل تشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة، فيكون بصيرا بحكم الشرع، وبصيرا بحال المدعو، وبصيرا بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة.
تظهر أهميّة البصيرة في الدعوة في أمور منها:
أن البصيرة صفة من صفات الأنبياء والعلماء الراسخين.
_________
(١) مفردات القرآن ص ١٢٧.
(٢) الكليات ص ٢٤٧.
(٣) التحرير والتنوير (٧ / ٦٥) .
(٤) تيسير العزيز الحميد ص ٩٥.
(٥) مدارج السالكين (٣ / ٣٥٦) .
1 / 6
٢ - أن البصيرة ركن من أركان الدعوة وقاعدة من قواعدها الكبرى.
٣ - البصيرة في الدعوة تجنب الداعية الضعف في الرأي، والانحراف في المنهج.
٤ - بالبصيرة تستثمر الأوقات، وتعرف الأولويات، ويُعطى كل ذي حق حقه.
وقد أجاد الشيخ عزيز بن فرحان العنزي في كتابه " البصيرة في الدعوة إلى الله " حيث احتوى كتابه على محورين هامين؛ هما. البصيرة فيما يدعو إليه الداعية، والبصيرة في حال المدعوين، وكيفية دعوتهم، وقد ضمَّن المحورين فصولًا مهمة، ربط المؤلف فيه بين المنهج العلمي والعملي في طرحه لهذا الموضوع فجزاه الله خيرا، وشكر الله له صنيعه، ووفقه وإخوانه الدعاة لخدمة الإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
1 / 7
[المقدمة]
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الدعوة إلى الله تعالى: وظيفة جليلة، وقربة عظيمة، لها منزلة عالية في الشريعة، ويكفيها شرفا ومنزلة كونها وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] (١) .
وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] (٢) .
وقال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥] (٣) .
ولقد كان الرسول ﷺ يبعث الدعاة إلى الناس؛ ليعلموهم وليفقهوهم، وليرشدوهم إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، بل إن الصحابة
_________
(١) النحل: ٣٦.
(٢) يوسف: ١٠٨.
(٣) النساء: ١٦٥.
1 / 9
رضوان الله عليهم، فهموا أن الدعوة إلى الله تعالى واجبة، فكانوا يبادرون بسؤال الرسول ﷺ تعليمهم وتفقيههم؛ ليقوموا بدعوة أقوامهم من خلفهم، بل كان من يسلم حديثا يدرك أهمية الدعوة إلى الله تعالى، وأن تبليغها واجب، فعن ابن عباس، ﵄، في حديث وفد عبد القيس وفيه: قالوا: يا رسول الله، فمرنا بأمر نعمل به، وندعو إليه من وراءنا (١) .
وقد بُوبَ عليه في صحيح الإمام مسلم: " باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه " (٢) .
لأن الناس لا بد لهم من الدعوة إلى الله تعالى؛ وذلك لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإسلام.
ومن ظلمات البدع إلى نور السنة.
ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة والهداية.
ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، كل بحسبه.
فحاجة الناس وضرورتهم إلى الدعوة إلى الله تعالى والهداية أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل لا يستقيم أمر العالم إلا بالدعوة إلى الله تعالى، ولولا ذلك لأصبحت الأرض رجراجة متكفئة، ولعاش الناس فوضى كالبهائم؛ فجنس الإنسان لا يستغني عن الأمر والنهي؛ لأنه لا يمكن أن يستقل بمعرفة الحق والخير على الكمال والتمام، وإن كان يدرك الشر والخير بالجملة، وذلك بما وهبه الله من عقل وحواس، إلا أنه لا يعرف حقائق الأشياء على التفصيل إلا بالوحي من الله تعالى، ولذلك احتاج الخلق إلى إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقيام الحجة.
_________
(١) رواه البخاري (١ / ١٢٩، ١٨٣)، ومسلم (١ / ١٧٩) مع النووي، واللفظ لمسلم.
(٢) صحيح مسلم (١ / ٤٦) .
1 / 10
ولقد كان النبي ﷺ يحث أصحابه على الدعوة إلى الله تعالى، ويُلهب حماستهم لذلك، ويبيّن ما لهم من الأجور ورفعة الدرجات عند الله إن هم قاموا بذلك.
فعن سهل بن سعد ﵁ قال: «قال رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب ﵁: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» (١) .
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» (٢) .
وعن أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. . .» (٣) .
وقد صدقوا رضي الله تعالى عنهم رَبَّهُمْ تعالى بأقوالهم وأفعالهم، وقاموا بالدعوة إليه تعالى أتم قيام، وأدوها أحسن أداء، وقد تسلحوا ﵃ في دعوتهم بتمام الإخلاص، وصدق التوكل، والفقه عن الله تعالى، وعن رسوله ﷺ، واتخذوا الصبر مطية، والأجر الموعود أعظم ثمن وهدية، فاعتلت شجرة دعوتهم تزاحم النجوم في عليائها، وآتت أكلها طيبة الثمار، وما زال المسلمون يتفيؤون ظلال دعوتهم المباركة، وستبقى إلى أَن يرث الله الأرض ومن عليها، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
والمتتبع لنصوص القرآن والسنة وما أُثر عن السلف الصالح يجد أن فضائل الدعوة إلى الله تعالى وخصائصها ومزاياها كثيرة جدا.
_________
(١) رواه البخاري (٧ / ٤٧٦)، ومسلم (١٥ / ٧٧)، في قصة بعث علي بن أبي طالب إلى خيبر.
(٢) رواه مسلم (١٣ / ٣٨) .
(٣) رواه مسلم (١٦ ٢٢٧) .
1 / 11
فمن فضائل الدعوة ومزاياها: أولا: أنها أحسن القول لمن اشتغل بها، مع العمل الصالح.
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ٣٣] (١) .
قال ابن كثير: " وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله ﷺ أولى بذلك. . . " (٢) .
وثانيا: كونها من أسباب حصول الخيرية لهذه الأمة، قال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠] (٣) .
قال ابن كثير: " فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب ﵁ في حجة حجها رأى من الناس سرعة فقرأ هذه الآية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠] ثم قال: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها، رواه ابن جرير.
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩] اهـ (٤) .
وثالثا: الفلاح متحقق بإذن الله تعالى لمن قام بأعبائها، وتحمل مشاقها، قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤] (٥) .
_________
(١) فصلت: ٣٣.
(٢) تفسير القرآن العظيم (٧ / ٢٣٧) .
(٣) آل عمران: ١١٠.
(٤) تفسير القرآن العظيم (٢ / ١٣١) .
(٥) آل عمران: ١٠٤.
1 / 12
قال ابن كثير ﵀: " والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه " (١) .
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فكفى بها شرفا وعزا وفخرا!! .
ومن شرط صحة هذه الدعوة أن تكون على بصيرة كما بين الله تعالى ذلك في كتابه، حيث قال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨] (٢) .
والبصيرة هي: العلم الشرعي المؤصل المبني على الدليل من الوحي المنزل من عند الله تعالى، وعلى لسان رسوله ﷺ، والفهم لمراد الله تعالى فيما أنزله، أي: على علم ويقين وبرهان شرعي وعقلي فيما يدعو إلى فعله، وفيما يدعو إلى تركه، وفي أسلوب الدعوة، وفي حال المدعوين، وسلوك الطريق الصحيح في ذلك.
وأي دعوة تخلو من هذا الشرط وهو: البصيرة فإنها دعوة مهلهلة أساسها غير متين، سرعان ما ينهار ويتقوض فيخر السقف من فوقه.
ولذلك سمى الله تعالى العلم بصيرة؛ لأنه يحصل به الصواب، ويتبين به الحق، وتقوم به الحجة، ويردع به الباطل، ويمكن لصاحب البصيرة أن يُوصل الحق إلى من يستحقه.
وفي الواقع أننا في هذا الوقت نلمس حماسة للإسلام - ولله الحمد - من قبل كثير من المسلمين، وهناك رجوع إلى الدين، وإنه لأمر يثلج صدر كل مسلم، خاصة في ظل تداعيات عالمية وحرب تشن على الإسلام بلا هوادة من أعدائه وكثير من أدعيائه، مما أفرز في هذا الاتجاه الطيب قيام كثير من المتحمسين من أهل الإسلام بالدعوة إلى الله تعالى، وذلك بأساليب
_________
(١) تفسير القرآن العظيم (٢ / ١١٧) .
(٢) يوسف: ١٠٨.
1 / 13
مختلفة ووسائل متعددة أثمرت في بعض جوانبها نتائج طيبة - ولله الحمد والمنة - إلا أن كثيرا من هذه الدعوات بسبب الحماسة والاستعجال في تبليغ الدين وعدم التسلح بالعلم وقعت في أخطاء جسيمة وأرزاء كبيرة، وإن كان كثير منها يقرب من الحق كثيرا؛ فإنه - والحالة هذه - يلزم أهل الاختصاص تصحيح هذه الأخطاء وتثبيت المفاهيم الصحيحة؛ ليستقيم المسار، ولتتضح الرؤية، حيث كان لهذه الأخطاء عواقب وخيمة ونتائج سيئة أثرت سلبا على مستقبل الدعوة إلى الله تعالى، وجعلت المتربصين بهذا الدين يحققون أشياء ليست بالقليلة من أهدافهم.
وبالتتبع والنظر أجد أن سبب ذلك: فقدان شرط البصيرة في الدعوة إلى الله تعالى، وبفقدان هذا الشرط لا تَسلْ عن الأخطاء والمخالفات التي تقع من المشتغلين بهذا الأمر؛ لأن البصيرة هي الميزان الذي يزن به الداعية الأمور، ويقدر الأشياء، ولذلك نجد أن أغلب الدعوات الموجودة على الساحة إنما هي إفراز البيئة العاطفية المحضة؛ مما جعل للعقل العاطفي دورا كبيرا في أن يكون حكمًا على كثير من رموز تلك الدعوات وأتباعها ومناهجها، فأخذت تطوح بهم ذات اليمين وذات الشمال مما أوقع الكثير منهم في أخطاء جوهرية وشكلية ما يزال الناس يعانون من آثارها ونتائجها الوخيمة.
وغالب من يكتب في موضوع الدعوة إلى الله تعالى لا يشبعون مسألة البصيرة بحثا وتقسيما وتفريعا؛ ولذلك تجد غالب المصنفات في هذا الجانب لا تُربي - في تقديري - دعاة يُمكن أن يعتمد عليهم بعد الله تعالى؛ لأن الدعوة إلى الله تعالى ليست مجرد حركة وذهاب وإياب بقدر ما هي اتباع لمنهج النبي ﷺ وأصحابه ومن سار على منهجهم وطريقتهم من أهل العلم والدين.
فمن هذا المنطلق أحببت أن أساهم في هذا الموضوع والذي اخترت أن يكون عنوانه: " البصيرة في الدعوة إلى الله " لتبصير نفسي والعاملين في حقل الدعوة إلى الله تعالى بالأمور التي يجب على الداعية أن
1 / 14
يسلكها في دعوته، مع بيان شيء من مسائل وأحكام ووسائل وأساليب الدعوة إلى الله، والأولويات الواجب على الداعية أن يسلكها في دعوته، وشيء من الحكمة في التعامل مع المدعوين وبيئتهم، ولا أزعم الإحاطة فيما أشرت إليه، وإنما هي محاولات وإلماحات ونقولات، وقد جعلت الحديث عن هذا الموضوع يدور في محورين اثنين:
الأول: البصيرة فيما يدعو إليه.
الثاني: البصيرة في حال المدعوين وكيفية دعوتهم.
والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع مجيب.
وكتب
عزيز بن فرحان العنزي
١٤٢٥ -
1 / 15
[فصل في معنى البصيرة]
فصل
في معنى البصيرة البصيرة، يقال: بصُر بالشيء علم به، وبصر الأمر: عرفه، وبصرته بالشيء: أوضحته له (١) .
وهي: قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة (٢) .
وهي أعلى درجات العلم.
ولذلك يقال للمحقق في العلوم: ذو بصيرة ونظر.
وكثير من ذوي التحقيق من أهل العلم يرى أن: البصيرة لها معان متعددة، وقد تكون هذه المعاني على حسب ما يُساق له الكلام.
فمن معاني البصيرة: المعرفة، والتحقق، والحجة، واليقين، والبرهان الشرعي والعقلي.
فالبصيرة إذا هي: العلم الذي ينير القلب، فهو للأرواح كالماء للأرض اليابسة، وللقلوب كالضياء للبصر.
وأما معنى الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة فهي: أن يكون الداعية
_________
(١) انظر: لسان العرب (٤ / ٦٥)، والمصباح المنير (١ / ٥٠ و٢٤٧)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (١ / ١٣٢) .
(٢) المعجم الوسيط (١ / ٥٩) .
1 / 17
إلى الله عالما بما يدعو إليه، وعالما بحال المدعوين وإيصال ما يصلح لهم وينفعهم، وعالما أيضا بطريقة الدعوة إلى الله تعالى، مؤطرا كل ذلك بالنصوص الشرعية وما عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم، مع الأخذ بالأساليب والوسائل الشرعية المتاحة، وترك الوسائل المنهي عنها.
1 / 18
[المحور الأول البصيرة فيما يدعو إليه]
[فصل فيما يدعو إليه الداعية]
المحور الأول
البصيرة فيما يدعو إليه
1 / 19
فصل
فيما يدعو إليه الداعية من البصيرة في الدعوة إلى الله تعالى: أن يكون الداعية (١) إلى الله على علم فيما يدعو إليه، فإن من دعا الناس بجهل فقد خالف أمر الله تعالى بالدعوة إليه على بصيرة وعلم.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] (٢) .
ولقد سمى الله تعالى العلم بصيرة؛ لأنه يحصل به الصواب، ويتبين به الحق، وتقوم به الحجة، ويردع به الباطل، ولهذا كان أول ما نبئ به النبي ﷺ هو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ١ - ٥] (٣) .
فكانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول اتصال بين السماء والأرض في الإسلام، لتُبين فضل العلم، وأنه لا نجاح ولا فلاح إلا بالعلم، وهي رحمة رحم الله بها عباده، ونعمة أنعم الله بها عليهم.
_________
(١) الداعية والداعي لغة صحيحة، تقول العرب: رجل داعية، أي: يدعو إلى دين، وأدخلت الهاء فيه للمبالغة. انظر: لسان العرب (٦ / ٩٧)، ومختار الصحاح (١ / ٨٦) .
(٢) يوسف: ١٠٨.
(٣) العلق ١ - ٥.
1 / 21
وفي هذه الآيات أيضا: التنبيه على أن من عظيم كرم الله تعالى وكبير منته على عباده: أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه وكرَّمه بهذا العلم، وميَّزه عن باقي خلقه، قال الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا ﷺ: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] (١) .
وقال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل: ٧٨] (٢) .
والمقصود: أن أول ما بدأ الله نبيه ﷺ بالعلم قبل الدعوة والعمل الصالح المقرب إليه، فجعل العلم أصلا والعمل تابعا له.
ولمكانة هذا العلم وعظيم منزلته وجليل قدره عند الله تعالى وطيّب آثاره فإن الله تعالى حث نبيه محمدا ﷺ على حسن الاستماع إلى هذا العلم الذي نزل به جبريل عليه، وأمره بأخذه بعناية تامة، وأن يطلب المزيد منه، ولم يطلب المولى ﷿ الاستزادة من شيء إلا من العلم الشرعي، قال الله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ - إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦ - ١٩] (٣) .
وقال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] (٤) .
قال ابن حجر ﵀: " والمراد بالعلم: العلم الشرعي الذي يُفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص " (٥) .
_________
(١) النساء: ١١٣.
(٢) النحل: ٧٨.
(٣) القيامة: ١٦ - ١٩.
(٤) طه: ١١٤.
(٥) فتح الباري: (١ / ٢٧٤) .
1 / 22
وأمره تعالى بأن يعتني بأهم المهمات وأوجب الواجبات وهو التوحيد، وذلك بتحقيق كلمة لا إله إلا الله، ولا يتم تحقيقها إلا بالعلم، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: ١٩] (١) وقال جل شأنه: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: ٥٢] (٢) .
فقدم العلم على القول والعمل والدعوة؛ لأن تقدم العلم على العمل ضروري للعامل حتى يعلم ما يريده، ويقصد العمل للوصول إليه، وتكون عبادته صحيحة مقبولة.
والمراد بالعلم هو: ما قام عليه الدليل من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله ﷺ.
الأصول الكبرى التي يُدعى إليها: والداعية إلى الله تعالى إنما يدعو إلى دين الإسلام، فهو يدعو إلى التوحيد والسنة، ويحارب الشرك والبدعة، ويبين الأحكام الشرعية لأصول العبادات وفروعها، وينهى الناس عن الخطأ فيها، ويدعو إلى محاسن الأخلاق، وفضائل الآداب، وينهى عن ضدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: " الدعوة إلى الله، هي: الدعوة إلى الإيمان به وما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا " (٣) .
وقال العلامة عبد العزيز بن باز ﵀: " الشيء الذي يدعى إليه، ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس كما أوضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو: الدعوة إلى صراط الله المستقيم، وهو: الإسلام، وهو
_________
(١) محمد: ١٩.
(٢) إبراهيم: ٥٢.
(٣) مجموع الفتاوى (١٥ / ١٥٧) .
1 / 23
دين الله الحق، هذا هو محل الدعوة كما قال سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل: ١٢٥] (١) .
وقد بيّن ﵀ الأصول العامة والخطوط العريضة للإسلام والتي يجب على الداعية أن يدعو إليها فقال: " وعلى رأس الدعوة إلى الإسلام: الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، إلى الإخلاص لله وتوحيده بالعبادة، والإيمان به وبرسله، والإيمان باليوم الآخر، وبكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو الأساس الصراط المستقيم، وهو: الدعوة إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
ومعنى ذلك: الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له، والإيمان به وبرسله عليهم الصلاة والسلام.
ويدخل في ذلك الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسله مما كان وما يكون من أمر الآخرة، وأمر آخر الزمان، وغير ذلك. . .
ويدخل في ذلك أيضًا: الدعوة إلى ما أوجب الله من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، إلى غير ذلك.
ويدخل أيضا في ذلك: الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ بما شرع الله في الطهارة، والصلاة، والمعاملات، والنكاح، والطلاق، والجنايات، والنفقات، والحرب والسلم، وفي كل شيء؛ لأن دين الله ﷿ دين شامل، يشمل مصالح العباد في المعاش والمعاد، ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق، وعن سيئ الأعمال. . . " (٢) .
وهذه الأصول التي يقوم الداعية بالدعوة إليها لا بد فيها من العلم الشرعي المؤصل وإلا لو دعا إليها بجهل أو بنصف علم لأفسد أكثر مما أصلح.
_________
(١) النحل: ١٢٥.
(٢) الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص (٤٠ - ٤٢) .
1 / 24
[فصل منهج الأنبياء هو الدعوة إلى الله تعالى لا إلى شخص ولا إلى جماعة]
فصل
منهج الأنبياء هو الدعوة إلى
الله تعالى لا إلى شخص ولا إلى جماعة وإن من أعظم البصيرة أن تكون الدعوة إلى الله تعالى وحده لا إلى شخص أو حزب أو طائفة أو جماعة، أو مذهب.
فإن العبادة إذا لم تكن خالصة صوابا فهي غير مقبولة، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] (١) .
وقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] (٢) .
وعن عمر بن الخطاب ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (٣) .
ولذلك نجد نصوص الدعوة الواردة في القرآن كلها تضيف الدعوة إلى الله، بأن تكون خالصة لله تعالى، من ذلك:
_________
(١) الكهف: ١١٠.
(٢) البينة: ٥.
(٣) رواه البخاري (١ / ١٠) ومسلم (١٣ ٥٣) .
1 / 25
قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: ١٠٨] (١) .
وقال تعالى: ﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ [الحج: ٦٧] (٢) .
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ [القصص: ٨٧] (٣) .
وهذا هو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلم تكن دعوتهم إلا إلى الله تعالى، ولذلك قالت الجن عن نبينا ﷺ بعدما انتهوا من سماع القرآن: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأحقاف: ٣١ - ٣٢] (٤) .
ولذلك لما اعتقد المكذبون للرسل أن الأنبياء ﵈ ما خالفوا ما هم عليه إلا لطمع دنيوي، عرضوا عليهم شيئا من أمور الدنيا، فكان رد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حاسما وواضحا، بأنهم لم يدعوا لأجل شيء من هذا، وإنما دعوتهم خالصة لله تعالى، ويحتسبون الأجر من عنده وحده.
قال تعالى على لسان نوح: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٩] (٥) .
وقال تعالى على لسان هود: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٢٧] (٦) .
_________
(١) سورة يوسف: ١٠٨.
(٢) الحج: ٦٧.
(٣) القصص: ٧٨.
(٤) الأحقاف: ٣١، ٣٢.
(٥) الشعراء: ١٠٩.
(٦) الشعراء: ١٢٧.
1 / 26