The Impact of Medical Knowledge Development on the Change in Fatwa and Judiciary
أثر تطور المعارف الطبية على تغير الفتوى والقضاء
خپرندوی
دار بلال بن رباح (القاهرة)
د ایډیشن شمېره
الثانية
د چاپ کال
١٤٤٠ - ٢٠١٩ م
د خپرونکي ځای
دار ابن حزم (القاهرة)
ژانرونه
تقديم
الدكتور صلاح الصاوي
هذا الكتاب
أطروحة علمية قدمت لنيل درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، خطها يراع فقيه شاب، آتاه الله تخصصا في العلوم الكونية ونبوغا في العلوم الشرعية، وقد أكرمني الله بالإشراف على هذه الرسالة، فأفدت منه أكثر مما أفاد مني! وكنت أقول لنفسي: نحن أمام مشروع فقيه متميز، وإن امتد به العمر وانقطع لمواصلة الطلب ليملأن أكناف الأرض عليها، ولتعلمن نبأه بعد حين!
وموضوع هذا الكتاب أثر تطور المعارف الطبية على تغير الفتوى والقضاء، وهو موضوع جدير بأن يكون موضع عناية مثله، وهو من جمع بين الفقه والطب، والتطور المعارف الطبية أثرها المحتوم على تغير كثير من أحكام القضاة وفتاوى المفتين، فإن الحكم على الشي ء فرع عن تصوره، وعلى قدر دقة تصور النازلة تكون دقة الفتوى فيها والحكم عليها، وقد طوف في هذا البحث في آفاق شتى منها ما ظهر فيه أثر هذا التطور بصورة جلية ومنها ما كان دون ذلك، وقد أفاد في ذلك كله وأجاد، فأسأل الله أن يهيء له من أمره رشدا، وأن يحملنا وإياه في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة، وأن ينفع بقلمه العباد والبلاد، اللهم آمين
الأستاذ الدكتور صلاح الصاوي الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ورئيس الجامعة الإسلامية بأمريكا الشمالية (مشكاة)
1 / 3
المقدمة
بسم الله والحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ عن ربه فأتم البلاغ، وبين لنا شرائع ديننا في شتى مناحي الحياة، حتى غبطنا على بيانه أهل الكتاب. فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع ملته إلى يوم الدين. أما بعد،
فإن التَّداخُل بين علمَي الفقه والطب أمر يتفق عليه العارفون بهما؛ وذلك لأن موضوع علم الطب هو بدن الإنسان ونفسه، والبدن والنفس مَحَلٌّ للتكاليف الشرعية؛ ولذلك كثر ذكرُ الفقهاء لمسائلَ من علم الطب وإحالتُهم على الأطباء، بل وسؤالُهم إياهم لتحقيق مَناط الأحكام الشرعية.
ولما كان علم الطب متغيرًا، لزم أن تتغير الفتاوى والآراء الفقهية المبنية على المعارف الطبية. ولعل تغير الآراء الفقهيه بتغير المعارف الطبية هو أوضح مثال على تغير تلك الآراء الفقهية - وليس الأحكام الشرعية - بتغير الزمان والمكان والحال.
من أجل ذلك، يُحتاج إلى الكثير من البحوث الفقهية المتخصصة في هذا الباب. وفي هذا البحث محاولة لمراجعة أهم الفتاوى الفقهية المبنية على المعارف الطبية أو المتأثرة بها.
وليس هناك مسألة مما تعرض له الفقهاء قد أطبقَت الأمة على الخطأ فيها، أو تَعارَضَ بشأنها نصُّ الوحي مع قطعيِّ العلم، ولذا فإننا عند مراجعة الآراء الفقهية في ضوء المعارف الطبية الحديثة، لا نَزيد على أن نختار من آراء الفقهاء ما هو الأرجح، حَسَب تلك المعارف الحديثة، وإن كان خلاف الأشهرِ أو قولِ الجمهور.
1 / 7
وكذلك فإن هناك مادة علمية ثرية للعديد من البحوث في المسائل المستجدة التي لم يتعرض لها فقهاؤنا بالتفصيل لكونها من النوازل التي أدى إليها تطور الطب، ولكن هذا البحث لن يتناول من هذه النوازل إلا ما كان منها ذا تأثير على تَغيُّر الفتوى في بعض مسائل الفقه.
* * *
1 / 8
أهمية البحث والدراسة في الموضوع في زمننا
إن التغير في العلوم الطبية كان بطيئًا حتى بدايات القرن العشرين الميلادي، حيث بدأ تطور العلوم والمعارف الطبية تتسارع خطاه، إلى أن وصلت تلك العلوم إلى مرحلة الازدهار الحالية. وإن فقهاءنا المتقدمين ﵏ لم يكن تحت تصرفهم من العلوم الطبية ما هو عندنا، لذلك فقد اختلفت فتاواهم بشأن العديد من الأحكام الفقهية المتعلقة بالطب ومعارفه، كتحديد أدنى الحمل وأقصاه ونوع الخنثى والمنافذ للجَوْف وغير ذلك من المسائل. وكان من أهم أسباب اختلافهم اضطراب أطباء أزمنتهم بشأن هذه الأمور.
أما الآن، فإن الكثير من المعارف والممارسات الطبية صار مبناها على التجربة واليقين، لا الظن والتخمين، ومن ثَمَّ فقد صارت مراجعة هذه الأقوال الفقهية المبثوثةِ في كتب الفقهِ، والتي تتعلقُ بالطب وعلومه، مما تدعو إليه الحاجة.
إن مراجعة وتصحيح الآراء الفقهية المنبنية على معارف طبية قديمة منقوصة أمر مهم لنا في تعبدنا لربنا، وتحاكمنا لشريعتنا؛ وكذلك فهو مهم للتأكيد على عصمة الوحي وبيان أن ما كان من خطأ في بعض هذه الآراء لم يكن أبدًا ناتجًا عن خطأ في أحد مصدريه، كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
* * *
1 / 9
سبب اختياري للموضوع
لما كنت قد درست الفقه والطب، رأيت أنه يحسن أن أجعل رسالتي في مرحلة الدكتوراه للمساعدة في سد ثغرة في هذا الباب العظيم من أبواب الفقه، وقررت أن أتتبع فيها مسائل الفقه التي قد يؤثر تطور العلوم الطبية على الترجيح فيها. ولست أزعُم الاستيعاب لكل تلك المسائل، فإن هذا ما لا تتسع له رسالة واحدة، ولكنني حاولت أن أتناول بعض القضايا الأهم في أبواب الفقه كافة، من عبادات وعادات ومعاملات وقضاء.
ولقد رأيت أن أضع لرسالتي هذه عنوان: «أَثَرُ تَطَوُّرِ الْمَعَارِفِ الطِّبِّيَّةِ عَلَى تَغَيُّرِ الْفَتْوَى والْقَضَاءِ»
* * *
1 / 10
بعض ما كتب مما له تعلق بالفقه والطب معًا
لم يتم بحث المسائل الفقهية التي يؤثر تطور الطب عليها بما فيه الكفاية، ولم تُولَ هذه القضيةُ، بعد، العنايةَ التي تستحقها، وإن كان قد كتب العديد من الكتب التي تناولت المسائل الفقهية ذات التعلق بالطب وعلومه؛ أذكر منها:
١ - «أبحاث فقهية في قضايا طبية معاصرة» للدكتور محمد نعيم ياسين.
٢ - «بحوث في الفقه الطبي والصحة النفسية من منظور إسلامي» للدكتور عبد الستار أبي غدة.
٣ - «دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة» للدكاترة عمر سليمان الأشْقَر ومحمد عثمان شبير وعبد الناصر أبو البصل وعارف علي عارف وعباس أحمد محمد الباز.
٤ - «أخلاقيات الطبيب المسلم» للدكتور سعد بن ناصر الشثرى.
٥ - «الطبيب المسلم وأخلاقيات المهنة» للدكتور هشام الخطيب وزملائه.
٦ - «الطبيب: أدبه وفقهه» للدكتورين السباعي والبار.
٧ - «الأحكام الشرعية للأعمال الطبية» للدكتور أحمد شرف الدين.
٨ - «الموسوعة الطبية الفقهية» للدكتور أحمد محمد كنعان.
٩ - «الوجيز في الطب الإسلامي» للدكتور هشام إبراهيم الخطيب.
١٠ - «أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها» للدكتور محمد بن محمد مختار الشنقيطي.
١١ - «الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء» للدكتور محمد خالد منصور.
1 / 11
١٢ - «المسائل الطبية المستجدة» للدكتور محمد بن عبد الجواد النتشة.
١٣ - «مستجدات طبية معاصرة من منظور فقهي» للدكتورين مصلح بن عبد الحي النجار وإياد أحمد إبراهيم.
١٤ - «بحوث فقهية في مسائل طبية معاصرة» للدكتور علي محمد يوسف المحمدي.
١٥ - «فقه القضايا الطبية المعاصرة» للدكتورين علي القره داغي وعلي يوسف المحمدي.
١٦ - «المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب» و«التداوي بالمحرمات» و«مداواة الرجل للمرأة ومداواة الكافر للمسلم» و«الختان» و«الموقف الفقهي والأخلاقي من قضية زرع الأعضاء» و«حكم التداوي» و«الإيدز ومشاكله الاجتماعية والفقهية» و«خلق الإنسان بين الطب والقرآن» وكلها للدكتور محمد علي البار.
١٧ - «الأحكام والفتاوى الشرعية لكثير من المسائل الطبية» للدكتور علي بن سليمان الرميخان.
١٨ - «الجناية العمد للطبيب» للدكتور محمد يسري إبراهيم.
١٩ - «مدى مشروعية الانتفاع بأعضاء الآدمي حيا أو ميتا في الفقه الإسلامي» للدكتور عبد المطلب عبد الرزاق حمدان.
٢٠ - «موت الدِّمَاغ بين الطب والإسلام» لندى محمد نعيم الدقر.
٢١ - «أحكام الجنين» لعمر بن محمد غانم.
1 / 12
٢٢ - «أحكام المرأة الحامل» ليحيى عبد الرحمن الخطيب.
٢٣ - «حكم تشريح الإنسان بين الشريعة والقانون» للدكتور عبد العزيز القصار.
٢٤ - «أحكام المرأة الحامل وحملها» للدكتور عبد الرشيد قاسم.
٢٥ - «التلقيح الصناعي بين أقوال الأطباء وآراء الفقهاء» للدكتور أحمد لطفي أحمد.
٢٦ - «موسوعة الفقه والقضاء في الطب الشرعي» للأستاذ شريف الطباخ والدكتور أحمد جلال.
٢٧ - «أثر التقنية الحديثة على الخلاف الفقهي» رسالة دكتوراه للدكتور هشام آل الشيخ. وفيها جملة من المسائل الفقهية المتعلقة بالطب.
٢٨ - «أثر المستجدات الطبية في باب الطهارة» لزايد نواف الدويري.
إن هذه البحوث والكتب، سوى الأخيرين، كان جل ما فيها إما متعلقًا بفقه العمل الطبي أو ببعض النوازل في مجال الطب التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي. أما عملي فسيكون في المسائل الفقهية التي تعرض لها المتقدمون بالبحث ولكن أخطأ بعضهم فيها بسبب قصور المعارف الطبية في أزمنتهم، أو تلك المسائل التي لم يخطئ فيها أحد، وإنما وجبت مراجعتها لتغير الواقع بسبب تطور الطب، وذلك كتوسيع دائرة الاستيفاء في القِصاص واستيعاب الطب الشرعي في أنظمة القضاء الإسلامي؛ وهو من باب تحقيق المناط.
* * *
1 / 13
منهجي وأسلوبي في البحث
• لقد انتهجت في رسالتي مَنهَج الوصف عند عرض المعلومات الطبية، مع التوثيق، وفي بعض المواضع الخلافية في الطب، نَهَجت طريقة التحليل.
• وعند عرض الآراء الفقهية، سرت على منهج التحليل بمراحله المختلفة من التفسير والنقد والاستنباط، وذلك ببيان الآراء المختلفة والعرض التفسيري لما يتعلق بها من النصوص ووجوه الاستدلال الأخرى، مع النقد والاستنباط ثم الترجيح.
• ولكون الرسالة مقارنة، فقد اعتمدت منهج الاستقراء الجزئي في حصر الآراء المختلفة، ثم سرت على المنهج الحواري الجدلي بعرض ومقابلة الآراء الفقهية المختلفة ثم ترجيح الأقوى دليلا من حيث الخبر ثم النظر.
• ولقد أوردت الخلاف بين المذاهب الأربعة المتفق على شرف مكانتها عند أهل السنة، وذكرت قول السادة الظاهرية عند الحاجة، وكذلك أقوالًا من خارج المذاهب لمجتهدين من غير أتباعها؛ ولكن أكثر الاعتماد كان على أقوال السادة الأئمة من المذاهب الأربعة.
ورَغم كوني على مذهب الإمام أحمد، فقد حرَصت، كباحثٍ، على التجرد والإنْصَاف، وألا يكون التعصب إلا للوحي ومُبلِّغه ﷺ. وليس شيءٌ إلا أخضعته للنقد والأخذ والرد إلا نصٌ محكمٌ صحيحٌ أو إجماعٌ ثابتٌ صريحٌ أو أوائلُ العقلِ والحسِّ التي لا يختلف عليها ذوو الحِجا.
• من حيث مراعاةُ التوثيق، فقد التزمت بالرجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة في نقل الأقوال عند أصحاب المذاهب الأربعة وغيرها: كـ «المَبسُوط» و«بَدَائع الصَّنَائع» و«تَبْيين الحَقَائق» و«فَتْح القَدِير» و«رَدّ المُحتار» في الفقه الحنفي؛ و«المُدَوَّنَة» و«شَرح مُخْتَصَر خَلِيل» و«حَاشِيَة الدُّسُوقِيّ» و«مَوَاهِب الجَلِيل» و«مِنَح الجَلِيل» في الفقه
1 / 14
المالكي؛ و«الأم» و«المَجْمُوع» و«أسْنَى المَطَالِب» و«نهاية المُحْتاج» و«تُحْفَة المُحْتاج» و«مغني المُحْتاج» و«حَاشِيَة البُجَيرَمِيّ» وحاشيتان لقَلْيُوبِيّ وعَمِيرَة» في الفقه الشافعي؛ و«مُخْتَصَر الخِرَقِيّ» و«المُقنِع» و«المُغْنِي» و«الفُرُوع» (لابن مُفْلِح) و«الإنْصَاف» و«كشَّاف القِنَاع» و«مُنْتَهَى الإرَادَات» في الفقه الحنبلي؛ و«المُحَلَّى» في الفقه الظاهري، على أنني لم أتقيد بالنقل من كتب الفتوى دون غيرها؛ لأن المطلوب في بحث كهذا تحرير نسبة الآراء إلى أصحابها، وهذا متحصل من كتب الفتوى وغيرها من المصادر المعتمدة.
• واعتنيت بعزو الأحاديث والآثار إلى مصادرها الأصلية، بما في ذلك العزو إلى الكتاب والباب تسهيلًا على القارئ. وذلك مع العناية ببيان درجتها إن كانت خارج الصحيحين. وهذا وإن كان مهمًّا في كل دراسة، فأهميته أظهر في دراسة تناقش أثر التطور العلمي على الفتوى والقضاء في الإسلام، حتى لا تُحَمَّل الشريعةُ أخطاءَ غيرِ المعصومين أو الأخبارَ الواهية وتلك التي لا أصل لها.
• واعتمدت في نقل المعارف الطبية على المصادر الموثوقة عند الأطباء، وإن كان أكثرها من المراجع الأجنبية؛ لأن الغربيين هم رواد هذا العلم وتلك الصنعة في زماننا، بعد أن تأخر المسلمون ورضُوا باستهلاك العلوم والتقنية دون صناعتها؛ وإلى الله المُشتَكى.
• ومن حيث الأسلوب، فقد اجتهدت في مراعاة الإيجاز مع الوضوح والسلامة من الأخطاء وحسن البيان بقدر الإمكان، وذلك من غير أن يطغى الشكل على المضمون.
• وأوردت نصوص الوحي مَشكولة حماية لجنابها الشريف من اللَّحْنِ. أما غيرها، فشَكَلت ما يحتاج إلى ضبط في النطق، أو ما كان في شكله تسهيلًا للقراءة، فإن كان هناك وجوهٌ، جعلت العلامة الأصح - وإن لم تكن الأشهر في استعمال المتأخرين - هي الأقرب إلى الحرف، متى تيسر ذلك من غير تكرار الكلمة؛ مثال: تُهَمَة. فتح الهاء هو الأشهر في استعمال الأولين، والسكون وجه صحيح.
1 / 15
• اجتهدت في العمل بالراجح والأقوى من قواعد الإملاء، فحيث كان هناك وجهان اخترت أرجحهما، كما في كتابة الهمزة المضمومة المسبوقة بغير الكسر في مثل (مسؤول)، فالراجح كتابتها على الواو، وإن جاز أن تكتب على النبرة (مسئول) إن كان ما قبلها متصلًا بها. أما عندما يكون الرجحان غير ظاهر، كما في ترك الفراغ بين واو العطف وما بعدها أو علامات الترقيم وما قبلها، فربما عملت بما يترجح لدي من عدم ترك الفراغ بين واو العطف وما بعدها، ولكن، بالنسبة لعلامات الترقيم، قد يلاحظ القارئ، عدم اضطراد العمل بقواعد ثابتة في العلامات غير المتفق عليها. والمرجو أن يحصل توافق بين أصحاب اللسان العربي على حد أدنى من توحيد المعايير، سيما فيما يخص علامات الترقيم. بقي أنني لم أغير في النقول إلا بزيادةِ حركات الضبط وعلامات الترقيم لفائدة القارئ.
• إنه وإن كانت سنة العلماء أحب إلينا، فإن العرف المعاصر في الكتابة، والأيسر عند الكتابة على الحاسوب، هو وضع الخط تحت ما يحتاج إلى التنبيه لا فوقه، وعلى هذا العرف سرت في الرسالة. ووضعت الخط في التراجم تحت الكنية أو الاسم أو اللقب الذي عُرِف به صاحب الترجمة.
• استعملت ألفاظ العلماء مثل (لنا وقلت) تشبهًا بهم من باب قول الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
وكذلك، فإن توحيد الأسلوب بين الأول والآخر من هذه الأمة يحافظ على قدرة أجيالها على التواصل.
أما استعمال ضمائر الجمع، فإن العلماء قد استعملوها تواضعًا، لا تعاظمًا؛ فبدل نسبة القول إلى أنفسهم، نسبوه إلى أصحاب مذهبهم، أو القائلين بقولهم.
1 / 16
• عمِلت مَسرَدًا للألفاظ والعبارات المهمة: واخترت ألا يكون آليًّا، وألا يشمل كل مواضع ذكر اللفظ المعني، بل تلك المواضع التي كان ذكر اللفظ فيها أصالةً لا تبعًا؛ وفي هذا المسرد ذكر بعض العبارات ذات الأهمية كذلك.
• إن الضابط التعبدي في الدراسة لم يغب عني، فبخلاف البحوث الأخرى في العلوم الإنسانية، فإن هذا البحث في الفقه المقارن. والفقه المقارن أحد فروع العلوم الإنسانية من جهة كون الشريعة إنسانية في مقاصدها، ولكنه يختلف عنها من جهة كونها ربانية في مصدرها.
إن الباحث في هذا العلم الشريف ينبغي له مراعاة المنهجية العلمية في البحث من غير إغفال الجانب العقدي التعبدي، والذي يتجلى في أن المقصود الأعظم من هذه العلوم وتلك البحوث هو نيل رضا الله، ثم يأتي مقصود الإسهام في إسعاد البشرية مع بقية المقاصد الأخرى.
ومن تجليات ذلك أيضًا، أن النقد لا يرد على نصوص الوحي متى عرفت صحة نسبتها إلى مشكاته، ولكن المنهج التحليلي بمعنى التفسير والاستنباط هو الذي يتعامل به مع النصوص. أما آراء العلماء، فتجري عليها المرحلتان السابقتان مع مرحلة النقد ما لم يكن رأيهم إجماعًا صحيحًا، فلا يرد عليه إذًا النقد أو الطعن.
• وفي الجملة، فقد جمعت المسائل ذات التعلق بموضوع الرسالة، ثم عرضت آراء الفقهاء فيها وناقشتها ورجحت أسعدها حظًّا بالدليل، ثم بينت تغير المعارف الطبية بشأنها وأثر ذلك على قَبول أو رد بعض الاجتهادات الفقهية أو الترجيح بينها.
* * *
1 / 17
خطة الرسالة
لقد كسرتُ الرسالةَ على مقدمةٍ وتمهيدٍ وأربعةِ أبوابٍ وخاتمةٍ لخصت فيها أهم نتائجِ البحثِ.
أما المقدمة، ففيها بيان موضوع البحث وسبب اختياري له وطريقة عملي فيه وتقسيمه وكذلك ذكر ما كتب من قبله مما له تعلق بذات الموضوع.
وفي التمهيد، بينت التداخل بين علمي الفقه والطب، ثم ناقشت المسألة التي يرتكز عليها البحث، وهي مشروعيةُ بل وجوبُ تغيرِ الفتوى بتغير الواقع الذي يحكم فيه الفقيه أو المُعطَياتِ التي يعتمدُ عليها.
* وفي الباب الأول ذكر بعض المسائل الفقهية التي تغيرت الفتوى فيها بتطور الطب في أبواب العبادات. وجعلت هذا الباب مقسمًا إلى ثلاثةِ فصول:
١ - الأولُ في الطهارة: وفيه مسائلُ.
١ - الختان للجنسين.
٢ - الماء المشمس.
٣ - الحيض وصفته وأقله وأكثره وبدايته ونهايته وهل تحيض الحامل، والطهر وأقله وأكثره.
٤ - النفاس وصفته وبدايته وأكثره ومتى يسمى الدم مع السقط نفاسًا والمرأة تلد التؤام بينهما فترة طويلة هل تنفس بعدهما كليهما.
٢ - الثاني في الجنائز: وفيه مسائل:
١ - علامات الموت وموت الدِّمَاغ.
1 / 18
٢ - المنع من انتهاك حرمة الميت وأثرُ ذلك على ما قد يُفعل بالمسلم عند موته أحيانًا من التشريح أو شقِّ البطن لدواعي نقل الجثة أو لمعرفة سبب الوفاة أو غير ذلك.
٣ - الثالث في الصيام. وفيه مسائل مبطلات الصيام.
* أما الباب الثاني ففيه ذكر بعض المسائل التي تغيرت الفتوى فيها بتطور الطب في أبواب العادات وقسمته إلى ثلاثة فصول:
١ - الأول في الأطعمة والأشربة. وفيه مسائل:
١ - حكم الجَلالة وإطعامِ الميتةِ والنجاساتِ للحيوانات.
٢ - حكم التدخين.
٢ - الثاني في الاستمناء.
٣ - الثالث في التداوي. وفيه مسائل:
١ - حكم التداوي.
٢ - حكم مداواة المصاب بالحياة النباتية المستمرة.
* وفي الباب الثالث ذكر بعض المسائل التي تغيرت الفتوى فيها بتطور الطب في أبواب المعاملات، وقسمته على فصلين:
١ - الأول في النكاح والعدد. وفيه مسائل في الحمل والعدد:
١ - أقل الحمل.
٢ - أكثر الحمل.
٣ - الحمل من ماءين.
1 / 19
٤ - مسائل في عدَّةِ من انقَطَع حيضُها قبل سنِّ الإياس أو تَباعَدَ؛ وعدة المُستحاضة.
٢ - الثاني في الحجر والفرائض. وفيه مسائل:
١ - البلوغ وأماراته.
٢ - الخنثى وأنواعه.
* وفي الباب الرابع أتعرض إلى القضاء ودور الطب الشرعي فيه. وفيه فصلان:
١ - الأول في القضاء.
وفيه مناقشة أدلة الإثبات في القضاء الإسلامي ودور الطب الشرعي في الإثبات مع الإقرار والشهادة واليمين وغيرها من البينات والقرائن القاطعة؛ وفيه مثال تطبيقي على حجية الدليل المادي، واخترت لذلك مسألة تحديد النسب عن طريق الأحماض الأمينية.
٢ - الثاني في الجراح والقِصاص والحدود. وفيه مسائل:
١ - استيفاء القِصاص عن طريق الأطباء الجراحين، وأثر ذلك على الاستيفاء.
٢ - أثر تطور علم الأجنة على خلاف الفقهاء في وقت نفخ الروح وما يترتب عليه من أحكام الإجهاض.
* ثم ختمت بخاتمة ذكرت فيها أهم نتائج البحث.
* وجعلت الفهارس سبعة:
١ - أولها للآيات القرآنية.
1 / 20
٢ - وثانيها لأطراف الأحاديث النبوية.
٣ - وثالثها للأعلام.
٤ - ورابعها للألفاظ والعبارات.
٥ - والخامس للمراجع.
٦ - والسادس للصور والجداول.
٧ - والسابع للموضوعات.
والحَمدُ للهِ على مَنِّه وفَضلِه. وصلى اللهُ وسلَّم على سيِّدِنا محمَّدٍ وآلِه وصّحبِه
* * *
1 / 21
التمهيد
1 / 23
التداخل بين الفقه والطب
للوقوف على حقيقة وحجم التداخل بين الفقه والطب، أبدأ بتعريفهما.
تعريف الفقه:
الفقه: هو في اللغة: الفهم، ثم خُصَّ به علمُ الشريعة لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب اسم النجم على الثريا (^١). وفي معجم «مقاييس اللغة»: «الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به» (^٢).
وفي الاصطلاح: عرفه الإمام أبو حنيفة (^٣) بأنه «معرفة النفس ما لها وما عليها» (^٤). وهو بذلك يشمل: العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات. وعرفه المُناوِيّ (^٥): بأنه «العلم
_________
(^١) «لِسَان العَرَب» لابن مَنْظُور (١٣/ ٥٢٢)، «مختار الصِّحَاح» للرَازِيّ (١/ ٢١٣)، «القَامُوس المُحِيط» للفَيْرُوزْآبَادِي (ص ١٦١٤).
(^٢) مُعْجَم «مَقَاييس اللُّغَة» لابن فَارِس (ص ٧٩٤).
(^٣) هو: النُّعْمَان بن ثابت بن زُوطي، أبو حَنِيفَةَ، التَّيمِيُّ بالولاء، الكُوفِيُّ، إمام الحنفية، الفقيه النظار المجتهد، العالم العامل العلم، أحد أئمة المذاهب الأربعة المتبوعة عند أهل السنة، ولد سنة ٨٠ هـ بالكوفة، وأدرك أربعة من الصحابة، ولم يرو عن أحد منهم، أخذ الفقه عن كبار التابعين، منهم حَمَّاد بن أبي سليمان وعَطَاء ونافع؛ وتعلم عليه القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشَّيبانِيّ وزُفَر وغيرهم. توفي: سنة ١٥٠ هـ. راجع ترجمته في: «سير أعلام النبلاء» للذَّهَبِيّ (٦/ ٣٩٠)، «الجَوَاهِر المُضِيَّة في طَبَقَات الحَنَفِيَّة» (١/ ٢٦).
(^٤) «قَوَاعِد الفِقْه» لعَمِيم الإحْسان (١/ ٤١٤)، «شَرْح التَّلْوِيح على التَّوْضِيح» للتَّفْتَازانِيّ (١/ ٢١)، وزاد على تعريف الإمام «عمَلًا» لإخراج العقائد، ونبه أن الإمام لم يزد «عمَلًا» لأنه أراد الشمول.
(^٥) هو: زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين الحَدَّادِيّ ثم المُناوِيّ القاهري، من كبار العلماء بالدين والفنون، ولد سنة ٩٥٢ هـ. له نحو ثمانين مصنفًا، منها الكبير والصغير والتام والناقص. منها: «كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق» «التيسير في شرح الجامع الصغير» اختصره من «فَيْض القَدِير» له، «شرح الشمائل» للتِّرْمِذِيّ. عاش في القاهرة وتوفي ﵀ بها سنة ١٠٣١ هـ. راجع ترجمته في: «الأعلام» للزرِكلِيّ (٦/ ٢٠٤)، «مُعْجَم المؤلفين» لكحَالة (١٠/ ١٦٦).
1 / 25
بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد» (^١). وعرفه الأكثرون بأنه «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية» (^٢).
وإذا كنا بصدد تعريف هذا العلم المخصوص، فلعل تعريف الجمهور هو الأقوى، ولقد ذكروا العمليَّة للتفريق بين أحكام الفقه والعقيدة؛ غير أن الأدلة فيها التفصيلية وغير ذلك، كالاستدلال بكليات الشريعة ومقاصدها والقواعد الفقهية الكلية والضوابط المختصة بأبواب بعينها، فإن المطالع لكتب الفقه يدرك كثرة تعويل العلماء على كل ذلك. وإن كانت هذه بدورها مستنبَطةً من الأدلة التفصيلية.
والمقصود بالعلم الذي يمتاز به الفقيه - كما أشار إليه تعريف المُناوِيّ - هو ما يستفاد عن طريق الاستنباط، الذي يتأتى له لوقوفه على تلك المعاني الخفية التي لا يدركها أكثر الناس (^٣). وفي «المنثور»: «وقال ابن سراقة في كتابه في الأصول: حقيقة الفقه عندي الاستنباط، قال الله تعالى: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣]؛ وكذلك قال ابن السَّمْعَانِيِّ في القواطع: هو استنباط حكم المُشكِل من الواضح. قال رسول الله ﷺ: «رُبَّ حامِلِ فِقهٍ غَيرِ فَقيهٍ» أي غير مستنبِط، ومعناه أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلالٌ واستنباطٌ منها. قال وما أشبه الفقيهَ بغواصٍ في بحر
_________
(^١) «التَّعَارِيف» للمُناوِيّ (١/ ٥٦٣).
(^٢) انظر «شَرْح التَّلْوِيح على التَّوْضِيح» للتَّفْتَازانِيّ (١/ ٢١)، «شَرح مُخْتَصَر خَلِيل» للخَرَشِيِّ (٧/ ١٩)، «نهاية المُحْتاج» للرَّمْلِيّ (١/ ٣١)، «أنِيس الفُقَهَاء في تَعْرِيفَات الألفَاظِ المُتَدَاوَلَة بين الفُقَهَاء» للقُونَوِيّ (١/ ٣٠٨)، «معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية» لمحمود عبد الرحمن (٣/ ٤٩).
(^٣) انظر «أنِيس الفُقَهَاء في تَعْرِيفَات الألفَاظِ المُتَدَاوَلَة بين الفُقَهَاء» للقُونَوِيّ (١/ ٣٠٩).
1 / 26
دُرٍّ كلما غاص في بحر فِطنته استخرج دُرًّا وغيره يستخرج آجُرًّا» (^١). وهذا الذي ذكرنا لا ينافي أن العلم بوجوب الصلاة من الفقه في الاصطلاح الخاص على الصحيح.
لكن الفقه أوسع من ذلك في التعريف العام ونصوص الوحي وفهم السلف، فهو يشمل المعارف الإسلامية جملة، بل ويشمل الممارسة العملية (^٢) بالقلب والجوارح، فهي المقصودة، ولذا جاء في حديث رسول الله ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (^٣). ومعلومٌ أنه لا يحوز الخير حتى يعمل بما علِم مخلصًا لله تعالى.
أما المقصود من حديثنا عن التداخل بين الفقه والطب فهو الفقه حسَب التعريف الخاص.
تعريف الطب:
الطِّب، هو كما قال ابن طرخان (^٤) في تعريفه: «الطِّب: بكسر الطَّاء، في لغة العرب يقال على معانٍ: منها الإِصلاح، يقال: طبَّبته إذا أَصلحته. ويقال: لفلان طِب بالأمور، أي: لطف وسياسة ... قال الشاعر:
وَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا كُنتَ الطَّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثاقِبِ
_________
(^١) «المَنْثُور في القواعد» للزَّرْكَشِيّ (١/ ٦٧).
(^٢) انظر «أصول البَزْدَوِيّ» (١/ ٤)؛ وفيه تقسيم الفقه إلى ثلاث مراحل: معرفة الأحكام، ثم إتقان ذلك بمعرفة الدليل وطريق الاستنباط، ثم العمل بذلك العلم.
(^٣) «صَحِيح البُخَارِيّ» كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (١/ ٣٩)، «صَحِيح مُسْلِم» كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة (٢/ ٧١٨).
(^٤) هو: أبو الحسن علي بن مُهَذَّب الدين أبو المكارم عبد الكريم بن طَرْخَان بن تقي الدين الحَمَوِيّ الصَّفَدِيّ، الطبيب، المتوفى سنة ٧٥٩ تسع وخمسين وسبعمائة. صنف: «الطب النبوي»، «مطلع النجوم في شرف العلماء والعلوم». راجع ترجمته في «هَدِيَّة العَارِفِين» (١/ ٣٨٤).
1 / 27