The Harmony of Reason and Revelation in Ibn Rushd
العقل والنقل عند ابن رشد
خپرندوی
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
د ایډیشن شمېره
السنة الحادية عشرة-العدد الأول
د چاپ کال
غرة رمضان ١٣٩٨هـ/١٩٧٨م
ژانرونه
العقل والنقل عند ابن رشد
بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية
تمهيد
من هو ابن رشد؟
قبل أن نتحدث عن موقف ابن رشد من العقل والنقل يحسن بنا أن نقول شيئًا عن ابن رشد:
عن حياته، عن فلسفته، لكي نعرف الظروف التي نشأ فيها حتى صار أحد أساطين الفلسفة، وما الذي عرضه لذلك الاضطهاد والعسف والتشريد، والاتهام بالإلحاد والزندقة أحيانًا؟!!
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد في مدينة قرطبة سنة خمسمائة وعشرين من الهجرة الموافق عام ستة وعشرين بعد الألف ميلاديا، وترعرع في حب العلم وأهله في كنف والده الذي كان من كبار علماء قرطبة وقضاتها، وشغف في حداثة سنه بدراسة الطب والشريعة وتطلع إلى العلوم الماورائية، فظهر منه نبوغ عجيب لفت إليه النظار، والعجيب من أمر هذا الفيلسوف الكبير أنه لا يُدرى أين درس الفلسفة والعلوم الماورائية، ومن أستاذه في هذه العلوم؟
يرى بعض الناس أنه اتخذها عن ابن ماجه - الفيلسوف المشهور - إلا أن الواقع التاريخي يأبى ذلك، لأن وفاة ابن ماجه كانت سنة ١١٣٨م وكان ابن رشد في هذا التاريخ في الثانية عشرة من عمره، فليس في الإمكان أن يدرس الفلسفة في هذا السن المبكر، بل كان يدرس مبادئ العلوم الشرعية في هذا التاريخ كالفقه وعلم الكلام على والده. ويرى البعض الآخر أنه تتلمذ على ابن طفيل، ولكن التاريخ يثبت أن ابن طفيل ما كان يعرف ابن رشد معرفة شخصية إلا في الوقت الذي ذاعت فيه شهرته وطار صيته في الآفاق، كفيلسوف وطبيب، هذا ما يستنتج من وصفه لحاله عندما دخل على السلطان يوسف
1 / 75
بن يعقوب لأول مرة، وعنده ابن طفيل، يقول ابن رشد: "لما دخلت على أمير المؤمنين ابن يعقوب وجدته هو وأبا بكر بن طفيل، فأخذ أبو بكر يثني عليّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم إلى ذلك بفضله أشياء لا يبلغها قدري.." إلى آخر كلامه..
وهذا يدل على أن ابن طفيل إنما عرف ابن رشد من صيته الطويل، ولا يعرفه قبل ذلك، فضلًا عن أن يتتلمذ عليه.
هكذا يثبت بالواقع التاريخي أن ابن رشد لم يأخذ فلسفته عن ابن طفيل كما أثبت من قبل أنه لم يأخذها عن ابن ماجه، فيبقى أستاذه في الفلسفة غير معروف ولعله بدراسته لمبادئ العلوم الشرعية وعلم الكلام عكف على دراسة كتب أرسطو وتتلمذ عليه بواسطة كتبه، كما يظهر من تأثره البالغ بفلسفته، وعلى أي حال فهو فيلسوف كبير يكتنفه الغموض وتحيط به الاستفهامات من كل جانب، أهو فيلسوف متهور؟ كما يقول بعض الكتاب؟ أهو فيلسوف جامع بين الفلسفة والدين كما يظهر من بعض كتبه؟ أهو أشعري في عقيدته؟ أو واقفيٌ؟ أو مفوض؟ أو هو.. أو هو.. أهو باطنيٌ الخ. والذي جعل ابن رشد يقع تحت هذه الاستفهامات ويعيش هذا الغموض أنه كان كثير المداراة ويحاول أن يعيش مع الجمهور بظاهره، وأما في حقيقته فهو في عالم آخر.. عالم الخواص، الذي يزعم أنه يفهم من نصوص الشريعة فهمًا خاصًا لا يفهمه الجمهور ويعذر الجمهور في مفهومه السطحي - على زعمه - ولا يبيح للعلماء أو الخواص أن يقفوا عند مفهوم الجمهور، ولابن رشد اصطلاح خاص قد ينفرد في هذا المعنى، وهو أنه يثبت فريقًا ليسوا من العلماء، وهم فوق الجمهور، وهم علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومن يدور في فلكهم، يطلق عليهم (جدليون) ويتبعون ما تشابه من النصوص ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
فابن رشد شخصية غريبة يحتار المرء في تحديده، فتراه فقيهًا واسع الاطلاع على أقوال الفقهاء وكثيرًا ما يحاول ترجيح قول على قول، أو تقديم رأي على رأي فيقارع الحجج بالحجج، وقد تراه يتحدث عن مذهب السلف حديث مطلع ومقتنع ويثني عليه خيراُ لأنه لا يأول النصوص بل يبقيها على ظاهرها على ما يليق بالله، ثم تراه وقد انزلق مع الفلاسفة المتهورين ويدعو إلى تحكيم البراهين، ويعتبرها هي الأصل في باب الإلهيات مع الاكتراث بالأدلة النقلية، ويقول بقدم العالم كما يبدو من بعض كتبه١.
بين يدي البحث قبل أن أشرع في البحث أحب أن أضع بين يدي القارئ النقاط التالية: ١ – مما يجب الاتفاق عليه بين المسلمين (وحدة المصدر في معرفة العقيدة الإسلامية) واعتماد ذلك _________ ١ منهاج الأدلة.
بين يدي البحث قبل أن أشرع في البحث أحب أن أضع بين يدي القارئ النقاط التالية: ١ – مما يجب الاتفاق عليه بين المسلمين (وحدة المصدر في معرفة العقيدة الإسلامية) واعتماد ذلك _________ ١ منهاج الأدلة.
1 / 76
المصدر في بحث أي معنى من معاني العقيدة الإسلامية، وعدم إغفاله، وبذلك تسلم عقيدة المسلم من الزيف والإلحاد والضلال.
٢ – لا يجوز تعطيل العقل في مجال العقيدة وغيرها؛ لأن العقل أساس التكليف ومناط الأهلية، إلا أنه لا يجوز أن يتجاوز العقل حدوده ويتجاهل وظيفته ويجمع في مجال الخيال الفاسد والأوهام الكاذبة، والخيالُ والأوهامُ لا يصلحان أساسًا للعقيدة والمعرفة الصحيحة حتمًا.
٣ – دعوتنا إلى وحدة المصدر للعقيدة الإسلامية حقيقة دل عليها الشرع بالقواطع من الأدلة النقلية، والعقل السليم لا يعارضها، عل القاعدة التي تقول:
(العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح) ٤ – إذا كان العقل هو الذي دلنا على معرفة الله ﷿ وعلى أن محمدًا رسول الله حقًا فأي معارضة تفرض بين العقل وبين ما جاء به الكتاب والسنة، أورد خبر الله وخبر رسوله بحجة مخالفتهما للعقل، يعتبر كل ذلك مناقصة صريحة لما دل عليه العقل نفسه. ٥ – العقل نور جعله الله في قلبك ليكشف لك عن الأشياء الموجودة والحقائق الواقعة ولتفهم به عن الله ورسوله، هذه وظيفة العقل، فلو أردت منه أن يريك كل ما تحبه وتتخيله من المعدومات قلا يجد إلى ذلك سبيلًا، اللهم إلا إذا كان على سبيل الوهم والخيال، وسبق أن قلنا: إن الوهم والخيال لا يصلحان للمعرفة الصحيحة والعقيدة السليمة، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.١
تعريف العقل يقال: عقل الشيء فهمه معقول أي مفهوم، العقل نور روحانيٌ تدرك به النفس الأمور الضرورية، والفطرية وابتداء وجوده عند اجتنان الولد في الرحم، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ٢. ويقال للأدلة النظرية الأدلة العقلية: لأنها تدرك بالعقل، حيث عن الإنسان يستعمل العقل في ترتيبه وتكوينه وتنظيمه، وسمي العقل عقلًا لأنه يعقل صاحبه لئلا يقع فيما ينبغي من اعتقاد فاسد أو فعل قبيح، ومن ذلك "اعقلها وتوكل على الله" أي احبسها.
تعريف النقل يقال: نقل الشيء أي أخذة من مكان إلى مكان، ونَقَلَةُ الحديث هم الذي يدونون الأحاديث وينقلونها ويسندونها إلى مصادرها. _________ ١ من كتاب القضاء والقدر للدكتور عبد الكريم زيدان بتصرف. ٢ قاموس المحيط..
(العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح) ٤ – إذا كان العقل هو الذي دلنا على معرفة الله ﷿ وعلى أن محمدًا رسول الله حقًا فأي معارضة تفرض بين العقل وبين ما جاء به الكتاب والسنة، أورد خبر الله وخبر رسوله بحجة مخالفتهما للعقل، يعتبر كل ذلك مناقصة صريحة لما دل عليه العقل نفسه. ٥ – العقل نور جعله الله في قلبك ليكشف لك عن الأشياء الموجودة والحقائق الواقعة ولتفهم به عن الله ورسوله، هذه وظيفة العقل، فلو أردت منه أن يريك كل ما تحبه وتتخيله من المعدومات قلا يجد إلى ذلك سبيلًا، اللهم إلا إذا كان على سبيل الوهم والخيال، وسبق أن قلنا: إن الوهم والخيال لا يصلحان للمعرفة الصحيحة والعقيدة السليمة، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.١
تعريف العقل يقال: عقل الشيء فهمه معقول أي مفهوم، العقل نور روحانيٌ تدرك به النفس الأمور الضرورية، والفطرية وابتداء وجوده عند اجتنان الولد في الرحم، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ٢. ويقال للأدلة النظرية الأدلة العقلية: لأنها تدرك بالعقل، حيث عن الإنسان يستعمل العقل في ترتيبه وتكوينه وتنظيمه، وسمي العقل عقلًا لأنه يعقل صاحبه لئلا يقع فيما ينبغي من اعتقاد فاسد أو فعل قبيح، ومن ذلك "اعقلها وتوكل على الله" أي احبسها.
تعريف النقل يقال: نقل الشيء أي أخذة من مكان إلى مكان، ونَقَلَةُ الحديث هم الذي يدونون الأحاديث وينقلونها ويسندونها إلى مصادرها. _________ ١ من كتاب القضاء والقدر للدكتور عبد الكريم زيدان بتصرف. ٢ قاموس المحيط..
1 / 77
ويقال لأدلة الكتاب والسنة: الأدلة النقلية، ويقال لها السمعية ويقال لها: الخبرية والأدلة المأثورة، وكلها بمعنى واحد، وهي الأدلة المسموعة المنقولة عن كتاب الله العزيز والسنة المطهرة أو الأدلة التي نقلها إلينا نقلة الحديث والرواة.
العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح هذا العنوان يجب أن يكون المحور لبحثنا وقاعدة ننطلق منها في دراستنا لآراء أبي الوليد في الإلهيات ومناقشتها، لنتبين مذهبه على حقيقته إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وهو أمر عسير غير يسير. وذلك لأن العقل هو الذي دلنا على وجود الخالق، وصحة رسالة رسوله الذي أيده بالمعجزات تلك المعجزات التي تدل على صدق نبوة الأنبياء باستعمال الفكر والنظر، ويقول شيخ الإسلام بن تيمية: "المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح" وله كتاب خاص بهذا المعنى تحت عنوان: (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وقد يسايرنا أبو الوليد في هذا الخط فترة من الزمن غير طويلة إلا أنه لا يستطيع أن يواصل سيره معنا بل سرعان ما يتركنا في وسط الطريق، ليعود إلى غموضه متناقضًا ومُطْلقًا على ما نحن عليه مذهب الجمهور أو مذهب العوام. الواقع أن ابن رشد يساير أيضًا علماء الكلام بل يوافقهم في الحقيقة، ويتظاهر بمخالفتهم في الظاهر أو في طريق التطبيق، فتجده يعتب على علماء الكلام في تأويلهم لنصوص الكتاب والسنة، ويعلن أمام الرأي العام أن تأويلهم هو الذي غير الشريعة وبدل معالمها، وأفسد على الناس مفهومها، وإذا قلبت النظر في أمره فتجد أن عتابه لا ينصب على التأويل من حيث هو تأويل، ولكنه ينصب على التصريح به للجمهور، فهو يبيح من التأويل للعلماء ما لا يبيح للجمهور شريطة ألا يصرح العلماء للجمهور بذلك التأويل لأنهم حرفيون على حد تعبيره. هكذا عاش ابن رشد غير واضح في عقيدته وفلسفته ويسمى هذا الموقف: التوفيق بين الفلسفة والشريعة أو بين الحكمة والدين، وكان مقتنعًا بصحة هذا المذهب ولذا نراه يعتب على الإمام الغزالي وينقم منه تصريحه أمام الجمهور ما لا ينبغي أن يصرخ به إلا أمام الخواص في منهج القوم!!
فلسفة ابن رشد مما لا يختلف فيه اثنان أن ابن رشد فيلسوف كبير وخطير، ومن الصعوبة بمكان أن يحدد المرء معالم فلسفته ومذهبه كما قلت آنفًا حيث اختار لنفسه الغموض في حياته، ولا أقول إن ابن رشد لا يملك الجرأة الكافية التي تمكنه من الإعلان عما يتفاعل في نفسه من آراء عرفانية ولكني أقول: عن ابن رشد لم يستخدم أو لم يرد أن يستخدم جرأته في الإعلان عن مذهبه، والثبات عليه بشكر واضح ودائم بل قد اضطر أحيانًا إلى مسايرة الناس في خلاف ما يعتقد، ْ وخصوصًا بعد أن نكب على يد السلطان المنصور ابن أبي يعقوب، سلطان الموحدين وأحرقت كتبه في الفلسفة، ورمي
العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح هذا العنوان يجب أن يكون المحور لبحثنا وقاعدة ننطلق منها في دراستنا لآراء أبي الوليد في الإلهيات ومناقشتها، لنتبين مذهبه على حقيقته إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وهو أمر عسير غير يسير. وذلك لأن العقل هو الذي دلنا على وجود الخالق، وصحة رسالة رسوله الذي أيده بالمعجزات تلك المعجزات التي تدل على صدق نبوة الأنبياء باستعمال الفكر والنظر، ويقول شيخ الإسلام بن تيمية: "المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح" وله كتاب خاص بهذا المعنى تحت عنوان: (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وقد يسايرنا أبو الوليد في هذا الخط فترة من الزمن غير طويلة إلا أنه لا يستطيع أن يواصل سيره معنا بل سرعان ما يتركنا في وسط الطريق، ليعود إلى غموضه متناقضًا ومُطْلقًا على ما نحن عليه مذهب الجمهور أو مذهب العوام. الواقع أن ابن رشد يساير أيضًا علماء الكلام بل يوافقهم في الحقيقة، ويتظاهر بمخالفتهم في الظاهر أو في طريق التطبيق، فتجده يعتب على علماء الكلام في تأويلهم لنصوص الكتاب والسنة، ويعلن أمام الرأي العام أن تأويلهم هو الذي غير الشريعة وبدل معالمها، وأفسد على الناس مفهومها، وإذا قلبت النظر في أمره فتجد أن عتابه لا ينصب على التأويل من حيث هو تأويل، ولكنه ينصب على التصريح به للجمهور، فهو يبيح من التأويل للعلماء ما لا يبيح للجمهور شريطة ألا يصرح العلماء للجمهور بذلك التأويل لأنهم حرفيون على حد تعبيره. هكذا عاش ابن رشد غير واضح في عقيدته وفلسفته ويسمى هذا الموقف: التوفيق بين الفلسفة والشريعة أو بين الحكمة والدين، وكان مقتنعًا بصحة هذا المذهب ولذا نراه يعتب على الإمام الغزالي وينقم منه تصريحه أمام الجمهور ما لا ينبغي أن يصرخ به إلا أمام الخواص في منهج القوم!!
فلسفة ابن رشد مما لا يختلف فيه اثنان أن ابن رشد فيلسوف كبير وخطير، ومن الصعوبة بمكان أن يحدد المرء معالم فلسفته ومذهبه كما قلت آنفًا حيث اختار لنفسه الغموض في حياته، ولا أقول إن ابن رشد لا يملك الجرأة الكافية التي تمكنه من الإعلان عما يتفاعل في نفسه من آراء عرفانية ولكني أقول: عن ابن رشد لم يستخدم أو لم يرد أن يستخدم جرأته في الإعلان عن مذهبه، والثبات عليه بشكر واضح ودائم بل قد اضطر أحيانًا إلى مسايرة الناس في خلاف ما يعتقد، ْ وخصوصًا بعد أن نكب على يد السلطان المنصور ابن أبي يعقوب، سلطان الموحدين وأحرقت كتبه في الفلسفة، ورمي
1 / 78
بالإلحاد، ومما يروى في سبب تلك النكبة أنه أنكر بحضرة والي قرطبة وجود قوم عاد الذين ورد ذكرهم في الكتاب العزيز، هكذا الرواية - والعهدة على الراوي - وعلى الرغم مما قيل فإن الدارس لآراء ابن رشد يشهد له بالعمق وأنه من أوسع الفلاسفة الإسلاميين في العلوم الماورائية، وله محاولة في ربط الفلسفة بالشريعة في حدود تصوره للشريعة.
وقد قام ابن رشد بشرح عدة كتب من كتب الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم، وانتقد بعض أولئك الفلاسفة وفند آراءهم ونظر في علم الكلام فوقف عنده كثيرًا ولم يستسغ آراءهم وتأويلهم فأخذ ينقد تأويل الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية وحكم عليهم كلهم بأنهم خصمون يجادلون بالباطل حتى تخضع النصوص لآرائهم وعقلياتهم، فرأى أنه لا بد له أن يشق له طريقًا وحده ويطلق العنان لجواد فلسفته لينطلق كما يريد إلا أن جواده لم يسلم كبوة - لكل جواد كبوة - ومن كبوة جواده وهفوة ذهنه أنه يرى:
إذا وجدت بعض الآيات في الكتاب العزيز تضاد الفلسفة يجب تفسيرها تفسيرًا شعبيًا باعتبار أن لكل آية معنيين: حرفي شعبي وروحي خاص، فالحرفي للشعب، والروحي للفلاسفة. بل يقول ما هو أدهى من هذا وأمر؛ إذا يقول: "كما أن الأنبياء يتقبلون الوحي فيبلغونه للشعب، وكذلك الفلاسفة وهم أنبياء الطبقة العالمة".
لذلك يجب أن يوفق بين الدين والعلم، وعلى العلماء أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة وأن يعلموا من الشريعة بما يوافق الحكمة حتى يكون علمهم في كل شيء موافقًا للحكمة. ومن أقواله المأثورة: "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".
هذه - كما ترى - كبوة خطيرة، بل انزلاقة قاتلة، وقولة منكرة في الإسلام، لا أعلم أنه سبق إليها؛ إذ هي سخرية ساخرة من مقام النبوة، والنبوة منزلة خاصة لا تنبغي إلا لأولئك المصطفين المختارين الذين اختارهم الله وجعلهم واسطة بينه وبين عباده في تبليغ الرسالة إليهم ونصحهم وهدايتهم، أولهم آدم وآخرهم خاتم النبيين محمد بن عبد الله العربي الهاشمي، وقد صرح الكتاب العزيز أنه خاتم النبيين حيث يقول الرب تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: ٤٠) .
وادعاء النبوة لأحد بعده مصادمة لهذه الآية والأحاديث الصحيحة التي جاءت في هذا المعنى كقوله ﵊: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"، وابن رشد قد قال قولًا شططًا بادعاء النبوة للفلاسفة، بل إنه يجعلهم نخبة ممتازة من الأنبياء ومرسلة إلى نخبة ممتازة من الناس - إذ يقول: "وكذلك الفلاسفة
1 / 79
وهم أنبياء السبقة العالمة"، ولست أدري ما مفهوم النبوة عند ابن رشد؟ حتى تبيح له فلسفته مثل هذا الادعاء علمًا بأنه من الفلاسفة الذين يشملهم ادعاؤه فلاسفةُ اليونان من غير المسلمين مثل أستاذه أفلاطون ومثل أرسطو فهل تبيح فلسفة ابن رشد أن يكون أمثال هؤلاء من قدماء الفلاسفة وحدثائهم من المسلمين وغير المسلمين من أنبياء الله تعالى؟!! والله المستعان.
نعود إلى قول ابن رشد: "الحق لا يضاده الحق بل يوافقه ويشهد له". وهو حق بقطع النظر عما أراد به أبو الوليد، وسبق أن نقلنا عن بعض المحققين قوله: "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح"،١ وعندما يحصل الاختلاف بين العقل والنقل لا بد من أحد أمرين:
أحدهما: أن النقل غير صحيح في نفسه أو أسيء فهمه وفسر تفسيرًا غير صحيح.
ثانيهما: المعقول الذي ادعى أن النقل يخالفه غير صريح وغير سليم، بل إنه أصيب بأدران الشبهة أو الهوى الذي غيّره حتى فقد العقل سلامته، بل هو إما مريض أو ملوث ولا محالة، ولو كان العقل يتمتع بعافيته وسلامته، والنقل يتمتع بصحته وقوته لا يكاد أن يختلفان.
وهذه قاعدة عظيمة ونافعة بإذن الله، ومقبولة لدى العقلاء المنصفين، بل لا يكاد يتردد فيها كل من نظر في العقليات، وله اطلاع على النقليات، ورزق التجرد عن التعصب والهوى والتحيز.
وقد أشار أبو الوليد بن رشد إلى هذه القاعدة في كتابه (منهاج الأدلة) في غير ما موضع في أثناء منقاشته لبعض علماء الكلام في تأويلهم البعيد عن روح الإسلام وفي رد شبههم التي عرضوها على الشريعة ليعارضوها بها، ومما قاله أبو الوليد في هذا الصدد قوله:
"وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرًا مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا إن التأويل ليس هو المقصود به، وإنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده، واختبارًا لهم" ثم قال أبو الوليد: "نعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزًا من جهة الوضوح والبيان" إلى أن قال: "وما أبعد عن مقصد الشرع من قال: فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم إنه أول ذلك المتشابه بزعمه وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش، وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه" يشير أبو الوليد إلى بعض آيات الصفات التي حرفها كثير من علماء الكلام، وتبعهم كثير من الناس في تحريفهم باسم التأويل كآية مجيء الرب يوم القيامة ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (الفجر:٢٢)، وصفة المحبة ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه﴾ (المائدة: ٥٤)، وصفة الرحمة التي دل عليها قوله ﵊: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، و"ارحموا من في الأرض
_________
١ موافقة صريحة المعقول لصحيح المنقول - لابن تيمية.
1 / 80
يرحمكم من في السماء"، وصفة الرضاء المأخوذة من قوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (المائدة: ١١٩) وغير ما ذكر من نصوص الصفات التي جاءت في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، والتي سلط عليها أهل الكلام وكثير من الفلاسفة صنوف التأويل البعيدة عن مراد المتكلم بها، والتي أبعدت كثيرًا من الناس عن المفهوم الصحيح لنصوص الصفات، ويضرب أبو الوليد مثالًا رائعًا لهذا الصنف من الناس فيقول: "ومثال من أوّل شيئًا من الشرع وزعم أنّ ما أوله هو ما قصده الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور - مثال من أتي إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة الناس أو الأكثر، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أريد بد دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك الاسم باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول عن دلك المركب الأعظم، وجعل بدله الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيب وقال للناس هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول ففسدت به أمزجة كثير من الناس فجاء آخرون شعروا فساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه، بأن بدلوا بعض أدويته بدواء غير الدواء الأول فعرض للناس من ذلك نوع من المرض غير النوع الأول، فجاء ثالث فتأول من أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها عرض للناس منه أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بهذا الدواء المركب في حق أكثر الناس. وهذا هي حال الفرق الحادثة في هذه الطريقة مع الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلًا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشريعة حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جدًا عن موضعه الأول.
ولما علم صاحب الشرع ﵊ أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تأوله تأويلًا صرحت به للناس، وإذا تأملت ما في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية ثم الصوفية". إلى آخر كلامه في هذا المعنى، حقًا إنه لمثال صحيح وسليم لو سلم من شيء واحد وهو ما جاء في تفسير أبي الوليد للحديث الذي استشهد به، إذ يقول: وهو يصف الفرقة التي تنجو من النار وتفوز بدخول الجنة وحدها "يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تأوله تأويلًا صرحت به للناس" يفهم من هذا التفسير الغريب أن التأويل المذموم - في نظر ابن رشد، هو التأويل
1 / 81
مع عدم التصريح به للجمهور وهم عامة الناس غير العلماء بل هو مفهوم خاص بالخاصة، ولا يجوز لهم البقاء مع ظاهر الشرع حين يخالف ظاهر الشرع الحكمة - في زعمهم - ويسمى ذلك عندهم التوفيق بين الشريعة والحكمة. المفهوم الثاني: مفهوم يخص الجمهور، وهم عوام الناس غير العلماء كما تقدم، وواجبهم التمسك بظاهر الشرع قبل أن يحيدوا عنه، ولا يجوز لهم التأويل بل يخبرون عنه. هذه هي فلسفة ابن رشد في هذه المسألة، وقد وقع فيما هو أقبح مما عابه على أهل الكلام حيث زعم أن للشريعة الإسلامية معنيين، معنى جمهوري أو شعبي ومعنى فلسفي خاص بالحكماء، وادعى أن كلا المعنيين صحيح، ومراد للشارع، وسبق أن صرح - فيما نقلنا عنه - أن مثل هذا الادعاء تغيير للشريعة وإفساد على الناس، ويعد ابن رشد علماء الشريعة من العوام أو الجمهور ولا يطلق لقب العلماء إلا على الفلاسفة الذين يسمونهم حكماء أحيانًا.
ولست أدري كيف غاب عن هذا الفيلسوف الكبير أن الحق لا يتعدد، بل هو واحد بلا نزاع، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!!.
يذكرني موقف ابن رشد هذا قول الشاعر العربي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم
بل ما فعله ابن رشد أقبح مما فعله علماء الكلام في هذا المقام بالذات، قبل أن نضيف سخريته من علماء الشريعة والاستخفاف بهم حيث يعدهم من العوام.
وجود الله عند ابن رشد لم أعثر فيما قرأت لابن رشد على رأي صريح ينكر فيه وجود الله الخالق المصور المبدع بل على العكس من ذلك، نراه يرسم معالم الطريق لمعرفة الله تعالى، ويقيم الأدلة العقلية على وجود الله وينبه على الآيات الكونية الأفقية والنفسية بصورة واضحة ولكنه كما قسم الناس في مفهوم الشريعة - كما رأينا آنفًا - يقسمهم مرة أخرى في مجال الاستدلال بالآيات الكونية على وجود الله فيقول: "إن الأدلة على وجود الله الصانع تنحصر في هذين الجنسين: _________ ١ العلماء في اصطلاح ابن رشد: الحكماء أي الفلاسفة.
وجود الله عند ابن رشد لم أعثر فيما قرأت لابن رشد على رأي صريح ينكر فيه وجود الله الخالق المصور المبدع بل على العكس من ذلك، نراه يرسم معالم الطريق لمعرفة الله تعالى، ويقيم الأدلة العقلية على وجود الله وينبه على الآيات الكونية الأفقية والنفسية بصورة واضحة ولكنه كما قسم الناس في مفهوم الشريعة - كما رأينا آنفًا - يقسمهم مرة أخرى في مجال الاستدلال بالآيات الكونية على وجود الله فيقول: "إن الأدلة على وجود الله الصانع تنحصر في هذين الجنسين: _________ ١ العلماء في اصطلاح ابن رشد: الحكماء أي الفلاسفة.
1 / 82
١ – دلالة العناية.
٢ – دلالة الاختراع.
يقوم دليل العناية على أن يفكر الإنسان جيدًا وينظر فيما يحيط به من حماية وعناية ربانية ونعم لا تعد ولا تحصى، وقد خلق الله من أجله أكثر الموجودات، بل جميع ما في السموات وما في الأرض، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ (الجاثية:١٣) .
ويقوم دليل الاختراع على النظر الدقيق في الموجودات والمصنوعات التي تدل لا على وجود الخالق فحسب، بل على قدرته وعظمته ووحدانيته، كأثر يدل على المؤثر، وصفة تدل على الصانع الحكيم، ويرى أبو الوليد أن لكل دلالة من الدلالتين جماعة من الناس تفهمها وتختص بفهمها وإدراكها، ويجعل دلالة العناية طريقة الجمهور لأنها حسية، كما يجعل دلالة الاختراع خاصة بالعلماء والخواص؛ لأنهم يزيدون على ما يدركه الحس ما يدركونه بالبرهان الذي يتم بالنظر واستعمال الفكر، وينظروا في ملكوت السموات والأرض، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾، ليستدلوا على وجود الله وقدرته وحكمته بالنظر في أسرار هذه المخلوقات إذ كان ذلك في استطاعتهم دون الجمهور ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: ٢٨٦) ولنستمع الآن إلى أبي الوليد وهم يتقدم إلى الجمهور بإرشاده كي يعرفوا الاستدلال على وجود الله تعالى: فيقول:
"الطريق التي نبه بها الكتاب العزيز عليها، ودعا الكل من بابها تنحصر في جنسين:
١ – في العناية بالإنسان وخلق جميع الأشياء من أجله، ولنسم هذا دليل العناية.
٢ – ثم ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذا دليل اختراع".
ويرى ابن رشد أن هذين الدليلين هما دليل الشرع، ثم يقول أبو الوليد: "إن جميع الموجودات في هذا الكون مناسبة ومفيدة لوجود الإنسان، كوجود الشمس والقمر والنبات والحيوان والأمطار والبحار والهواء والنار، بل في أعضاء الإنسان ذاتها دليل على أن موجد هذا العالم قدير حكيم عليم لطيف بعباده"، ثم يواصل تحليله البديع فيقول: "لما كانت جميع هذه الموجودات مخترعة من العدم بعد أن لم تكن دل على أنه لا بد من وجود مبدع صانع لهذا الكون قادر على الاختراع لاستحالة تحولها من العدم إلى الوجود بنفسها، وذلك المبدع الخالق هو الله لا إله إلا هو ولا رب سواه".
1 / 83
الوحدانية عند ابن رشد
تبينا فيما سبق أن ابن رشد لا يثار الغبار حوله في باب إثبات وجود الله تعالى، لا أقول: إنه على يقين تام من وجود الله فحسب، بل هو على استعداد تام لإقناع غيره ممن يخالطه شك أو ليس على يقين من وجود الله تعالى بأدلة عقلية وآيات كونية بأسلوبه القوي الممتاز، كما رأينا فيما سبق من الأبواب، فلنستمع إليه وهو يسوق الأدلة النقلية والعقلية، ويحلل المسألة كعادته، إذ يثبت بأنه تعالى واحد فرد صمد اعتمادًا على الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (الإخلاص:١-٤)، ويقول أبو الوليد: "إن من نظر في كلمة (لا إله إلا الله) وصدق المعنيين الواردين فيها وهما الإقرار بوجود الباري ونفي الإلهية عما سواه، فهو المسلم الحقيقي"، ويثبت ابن رشد من ناحية إدراكه الفلسفي بأن الله هو الصانع الخالق الأول، صنع كل ما في العالم لحكمة على نظام ترتيب وقانون، صدرت عنه جميع الموجودات المتغايرة صدورًا أوليًا أزليًا ودفعة واحدة، ويرى ابن رشد أن الفاعل الأول واحد، والوحدانية ذاتية إذ لا يمكن أن تكون الوحدانية زائدة على ذاته التي هي في الوقت نفسه وجوده.
وهذا يعني أن الصفات قائمة بذات الله ومتحدة معها وليست زائدة عليها، وسيأتي لهذه المسألة مزيد إيضاح - إن شاء الله - ماذا يريد أبو الوليد بهذه (الرطانة الفلسفية)، بعد أن أثبت وجود الله ووحدانيته اعتمادًا على الآيات القرآنية، وبعد أو وفق في تفسير كلمة التوحيد تفسيرًا سلفيًا أثبت فيه الربوبية والألوهية معًا بطريقة رائعة ودقيقة، وصرح بأن المسلم الحقيقي ذلك الذي يقر بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته.
بعد هذا كله أبت عليه فلسفته إلا أن يستعمل أسلوبًا مغلقًا ملتويًا بأن الفيلسوف قد اختلط عليه الأمر، ولعل هذا التخبط أثر من آثار فلسفة أرسطو وزملائه الذي تتلمذ على كتبهم وتأثر بهم. وهم يعتقدون بقدم العالم وأزليته ويثبتون تأثيرًا لغير الله في هذا العالم في الأفلاك وغيرها على سبيل الاستقلال، ويشبهون الله ﷿ بملك في مدينة ما يعطي الاستقلال في التصرف في المدينة لمن تحته لحاجته إليه في التعاون معه.. سبحان الله عن الشريك والوزير المساعد!! بل هو الواحد الأحد سبحانه. وهؤلاء الفلاسفة الذين تأثر ابن رشد بفلسفتهم يعتقدون بأن الله إنما خلق العقل الأول فقط، والعقل الأول خلق العقل الثاني، وهكذا إلى آخر، كلام ركيك ومليء بالإلحاد والقول على الله بغير علم، وليس فيه مسكة من تقدير الله حق قدرته، سبحانك ما أحلمك يا رب العالمين!!
وقد تورط ابن رشد في هذا الاعتقاد في هذه المسألة كما ترى وكما سيتضح فيما سيأتي من كلامه. ثم أخذ ابن رشد يخوض في مسألة طالما خاض فيها علماء الكلام، وهي هل الصفات زائدة على الذات أم هي عين الذات، إذ يقرر أن ذات الله ووجوده ووحدانيته كلمات يختلف معناها، ولكن دلالتها
1 / 84
فيما يتعلق بالله واحدة. فالله قديم لأن الواحد بما هو واحد سابق على كل مركب، وهذا الأول القديم بذاته باق مطلقاُ وصفات الله من الحكمة والقدرة والوحدانية وغيرها ليست زائدة على الذات.
وتحقيق هذا المقام يتطلب نوعًا من التفصيل حتى يتضح الحق بإذن الله.
فنقول: يمكن أن يقال: الصفة عين الذات ويصح هذا الحكم، بمعنى أن الصفات لا تنفك عن الذات إذ لا نستطيع أن نتصور علمًا بغير عالم، وقدرة قائمة وحدها بغير قادر، أو إرادة قائمة بنفسها دون مريد، وهكذا وبهذا الاعتبار نقول: الصفات عين الذات.
كما أنه من الممكن أن نقول: الصفة غير الذات فيصح الحكم أيضًا باعتبار آخر، وهو أن للصفة معنى وللذات معنى مغاير لمعنى الصفة، وبهذا الاعتبار أن الصفة غير الذات قطعًا، وما قيل في هذه المسألة يقال في مسألة هل الاسم عين المسمى أن غير المسمى؟. وعلى هذا المعنى يخرج كلام أبي الوليد، إذ يقول: إن صفات الله ليست زائدة على الذات" والله أعلم.
ومثل هذا البحث يعده أبو الوليد إذا صدر من غيره بدعة محدثة غير معروفة عند السلف، إذ لا يكادون يزيدون على ما دل عليه الكتاب والسنة، بل يؤمنون بأن الله موصوف بصفات الكمال كالعلم والقدرة والرحمة والاستواء، وغير ذلك من الصفات ذاتية أو فعلية، ولا يسألون هل هي عين الذات أو غير الذات.
وهي الطريقة السليمة، وتدل على عمق علم السلف ودقتهم وبعدهم عن التكلف والقول على الله بغير علم، والمعروف عنهم أنهم لا يتجاوزون الكتاب العزيز والسنة المطهرة في المطالب الإلهية خشية القول على الله بغير علم، والخوض في حقائق ذاته وصفاته وأسمائه وتسليط الوهم والخيال عليها فأمر جد خطير، إذ لا يصف الله أعلم من الله، ولا يصفه من خلقه أعلم من رسوله ﵊ الذي أذن له أن يصفه وأمره أن يبلغ عنه ما نزل عليه، ومن جملة ما نزل عليه صفات الله ﷿، ومن بعدهم عن التكليف أنهم لا يتطلعون إلى إدراك حقائق الصفات والأسماء إيمانًا منهم بأن المخلوق لا يحيط بالخالق، علمًا مهما أوتي من علم وذكاء لأن علم المخلوق محدود ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلًا﴾ (الإسراء: ٨٥)، ولا يقاس بغيره بأي نوع من أنواع القياس، إذ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى: ١١)، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ (مريم: ٦٥)، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، والملاحظ أن ابن رشد قد يتسامح مع نفسه ما لا يتسامح مع غيره كما رأينا فيما سبق، فيطلق لنفسه حرية الخوض والتأويل بينما هو يعيب كل ذلك لو صدر من غيره، ويعده بدعة محدثة.
ومن الإنصاف - والإنصاف من الإيمان - أن يعد هذا التصرف بدعة في حق كل أحد حتى في حق أبي الوليد، وعلى العموم يلاحظ الدارس لكتب ابن رشد أنه يورد من الأدلة العقلية والنقلية في حواره ونقاشه في الإلهيات ما يدل على اطلاعه الواسع ومقدرته الرائعة وذكائه الخارق.
1 / 85
العلم عند ابن رشد
يقول أبو الوليد في بعض كتبه: "أما الأوصاف التي صرح بها الكتاب العزيز التي وصف الصانع الموجد للعالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، إلى أن قال: أما العلم فقد نبه الكتاب العزيز على وجه الدلالة عليه في قوله تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك:١٤)، وهي أن المصنوعات تدل - من جهة الترتيب الذي في أجزائه، ومن جهة كونها صنع بعضها من أجل بعض آخر، ومن جهة موافقتها جميعها للمنفعة المقصودة بذلك المصنوع انه لم يحدث عن صانع هو (طبيعة) كما لم يحدث (صدفة) وإنما حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية قبل الغاية فوجب أن يكون عالمًا به، مثال ذلك:
إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما صنع من أجل الحائط، وأن الحائط إنما أقيم من أجل السقف، يتيقن أن البيت إنما وجد عن عالم بصناعة البناء.
يقول أبو الوليد: "إن من نظر في أجزاء الموجودات وفي ترتيبها وتنظيمها وارتباط أجزائها وحاجة بعض أجزائها إلى البعض الآخر، يدرك تمامًا أنّ هذا المصنوع إنما صنعه صانع عليم حكيم، هذا الدليل الذي ساقه ابن رشد والمثال الذي ذكره والأسلوب الذي استعمله يقطع مجموع ذلك دابر ذلك الزعم بأن العالم وجد (صدفة) أو أوجدته (الطبيعة) إذ يأبى العقل الصريح والفطرة السليمة صدور هذا المصنوع العجيب عن طبيعة ليست هي أكثر من الشيء نفسه، أو صفة من صفات الشيء، والشيء لا يوجد نفسه، وأما صفة الشيء فهي تابعة للشيء، لأنها عرض قائم بالشيء، كما هو معروف لدى العقلاء"، ثم يواصل ابن رشد حديثه في صفة العلم فيقول:
"وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه سبحانه ألا يتصف بها وقتًا ما، ولكن لا ينبغي أن يتعمق في هذا، فيقال: ما يقوله المتكلمون"، ثم أخذ أبو الوليد يناقش أهل الكلام في بدعتهم التي أحدثوها في هذه الصفة كعادتهم: وهي قولهم: "هل الله يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم أو بعلم حديث؟!! "، إلى آخر خوضهم الذي يدل على عدم تقديرهم الخالق حق قدره، فيقول أبو الوليد في تعليقه على هذا الخوض: "وهذا شيء لم يصرح به الشرع، بل المصرح به خلافه، وهو أنه تعالى يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا﴾ (الأنعام: ٥٩) .
هكذا يقرر أبو الوليد شمول علم الله تعالى، وأنه يعلم الأشياء قبل أن تكون على أنها ستكون، وكيف تكون، وإذا كانت على أنها كانت، وهو بكل شيء عليم، كيف لا؟ وهو الخالق البارئ المصور، وهذا مفهوم علم الله عند المسلمين سلفًا وخلفًا، بعيدًا عن تكلف المتكلفين وتشبيه المشبهين، وتنطع أهل الكلام الذين يهرفون ما لا يعرفون، وقد ابتليت الأمة الإسلامية بهذه الطائفة أيما بلاء. والله المستعان.
1 / 86
محاولة ابن رشد الحل الوسط في قضية قدم العالم
ناقش ابن رشد الخلاف القائم بين القائلين بأن العالم مخلوق محدث بعد أن لم يكن، وبين الفلاسفة القائلين بأن العالم قديم أزلي مع الاعتراف بأنه مخلوق. فيقول ابن رشد أن الخلاف في هذه المسألة يعود إلى اللفظ، أي خلاف لفظي غير جوهري، لأن في الوجود طرفين وواسطة لقد اتفق الجميع على الطرفين وهما:
أولًا: هناك واحد بالعدد قديم - الأول الذي ليس قبله شيء.
ثانيًا: هناك على الطرف الآخر كائنات مكونة، وهي عند الجميع محدثة، ولكنهم اختلفوا في هذا العالم بجملته أقديم هو أم محدث؟ فيواصل الفيلسوف مناقشته قائلًا: "إن العالم في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًا ولا قديمًا حقيقيًا لأن القول: إنه محدث حقيقي فاسد ضرورة لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى أي لا تنعدم مادته، والقدم الحقيقي ليس له علة والعالم له علة!!.
إذًا العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن، الخلاصة أن العالم بالإضافة إلى الله محدث، وبالإضافة إلى أعيان الموجودات قديم".
هكذا ينهي الفيلسوف ابن رشد مناقشته لهذه القضية العويصة حقًا. وقد اضطرب فيها كثير من حذاق الفلاسفة وأساطين أهل الكلام، والخوض في مثل هذه المسألة يعد من فضول الكلام، كما قال غير واحد من المحققين المعتدلين، ويكفي المرء أن يقول جملتين اثنتين مع الفهم والفقه وهما:
١ – الله خالق كل شيء وهو المبدىء المعيد.
٢ – ما سوى الله مخلوق محدث بعد أن لم يكن. وكفى..
وشبهة ابن رشد في تردده في هذه المسألة في أمرين اثنين هما:
١ – أن الله لن يزل فعالًا وخلاقًا.
٢ – أن مادة العالم باقية ولا تفنى.
الجواب عن الشبهة الأولى أن يقال: إن الله تعالى له معنى الربوبية قبل أن يخلق المربوب، وله معنى الخالق قبل أن يخلق، وهو الرازق قبل أن يخلق الرزق والمرزوق، أي هو موصوف بجميع صفات الكمال أزلًا وأبدًا، ولم تتجدد له بإيجاد خلقه صفة لم تكن له ولا يجوز أن يعتقد بأنه تعالى تجددت له صفة لم يكن متصفًا بها من قبل؛ لأن صفاته تعالى صفات كمال وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يعتقد أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن.
1 / 87
وهذا واضح في الصفات الذاتية، وأما الصفات الفعلية كالخلق والتصوير والإحياء والإماتة والمجيء والنزول والاستواء والغضب والرضاء، وإن كانت هذه الأحوال والأفعال تتجدد وتحدث في وقت دون وقت كما في حديث الشفاعة، حيث يقول الرسول ﵊: "إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله" لأن هذا التجدد والحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من١ تكلم اليوم وكان متكلمًا بالأمس لا يقال بأنه حدث له الكلام، بل في حال تكلمه يقال: إنه متكلم بالفعل، وفي حال سكوته يقال: إنه متكلم بالقوة، وكذلك من كان قادرًا على الكتابة يقال: كاتب بالفعل في حال كتابته وفي الحالة الأخرى يقال: كاتب بالقوة، فالله تعالى: خالق، رازق، محيي، مميت، معطي، قبل أن يخلق خلقه وعباده الذين يرزقهم ويعطيهم ويحييهم ويميتهم؛ لأنه قادر على ذلك كله أزلًا ولم يكن فاقدًا صفة من هذه الصفات أو عاجزًا عن فعل من هذه الأفعال، بل هو على كل شيء قدير، ولعل في هذا المقدار غنية لطالب الحق، ومحاولة الإحاطة بالله تعالى محاولة فاشلة لقصور علمنا وعجزنا الذاتي ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلًا﴾ (الإسراء: ٨٥)، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ (طه: ١١٠)، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ﴾ (البقرة: ٢٥٥) . هكذا يتم الجواب على الشبهة الأولى من الشبهتين اللتين جعلتا ابن رشد يتردد في هل العالم محدث أو قديم، فلنجب الآن على الشبهة الثانية بمعونة الله وتوفيقه، وهي أن مادة العالم لا تفنى ولا تنعدم وذلك دليل قدم العالم، كأن ابن رشد يحاول أن يستنتج من بقاء شيء من أجزاء العالم وعدم فنائه، يستنتج من ذلك أن العالم قديم أزلي.
الجواب: صحيح أن بعض المخلوقات لا تفنى بل تبقى بإبقاء الله إياها، ويجاب عن بقائها بجوابين:
أولًا: لا يلزم من عدم فنائها أزليتها، إذ لا تلازم بين عدم فنائها وأزليتها.
ثانيًا: أن بقاء ما يبقى من المخلوقات ليس بقاؤه ذاتيًا، وإنما يبقى بإبقاء الله إياه كالجنة وأهلها والنار وسكانها، وعجب الذنب من ابن آدم، وأما الباقي الذي البقاء وصف ذاتي له فهو الله، لا يشاركه أحد في بقائه كما لم يشاركه أحد في سائر صفاته وان اتحدت الأسماء أحيانًا في بعض الصفات.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، هذا والأمر في غاية الوضوح لطالب الحق، والحمد لله رب العالمين وله المنة وحده.
صفة الحياة والقدم والإرادة عند الفيلسوف ابن رشد يثبت ابن رشد عددًا معينًا من صفات الله تعالى، على الطريقة الأشعرية على الرغم من الحملات العنيفة التي يشنها عليهم أحيانًا. _________ ١ من شرح الطحاوية بتصرف.
صفة الحياة والقدم والإرادة عند الفيلسوف ابن رشد يثبت ابن رشد عددًا معينًا من صفات الله تعالى، على الطريقة الأشعرية على الرغم من الحملات العنيفة التي يشنها عليهم أحيانًا. _________ ١ من شرح الطحاوية بتصرف.
1 / 88
ومن الصفات التي يثبتها: صفة الحياة والإرادة والقدم، يثبت هذه الصفات بدليل عقلي مؤيد بالأدلة النقلية، وإن كان الاعتماد عنده على الأدلة العقلية على طريقة أهل الكلام.
بل يرى أن الاعتماد على الأدلة النقلية والوقوف عندها طريقة الجمهور، والجمهور في اصطلاح ابن رشد هم من ليسوا بالفلاسفة الذين يسميهم (الحكماء) .
فيقول - في إثبات هذه الصفات بعد أن تحدث عن صفة العلم -: إنّ صفة الحياة والإرادة والقدرة، وجودها ظاهر في صفة العلم، وذلك يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة والإرادة والقدرة، والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم إلى الغائب، وما قالوه صواب، وهذا التصويب يعتبر إنصافًا من ابن رشد، وعلى الرغم من كثرة مناقشته الحادة للأشاعرة والمعتزلة يعترف لهم بالفضل فيما أصابوا فيه لأن الحق ضالة المؤمن أخذها أين وجدها ولو كانت عند المتكلمين.
وبعد: فقد لاحظنا فيما سبق أن الفيلسوف بن رشد كثيرًا ما يناقض نفسه، إذ رأيناه غير مرة يقف مواقف كان يعيبها على أهل الكلام، من التأويل ودعوته المعنى الجمهوري، والمعنى الخاص لبعض النصوص، ولا عجب في ذلك لأن التناقض يكاد يكون وصفًا ذاتيًا للفلاسفة كلهم، إلا ما شذ أو من شذ وقليل ما هم.
فليس أبو الوليد بدعًا من الفلاسفة، هذا ما يهون الأمر علينا، وقديمًا قيل: "إذا عمت هانت"
الكلام عند ابن رشد يسلك ابن رشد في إثبات صفة الكلام، المسلك الذي سلكه في إثبات صفة الحياة والقدرة والإرادة، وهو الاستدلال بثبوت صفة العلم لأن الكلام في فلسفة ابن رشد ليس شيئًا أكثر من أن يفعل المتكلم فعلًا يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه أو الفعل الذي يصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه، وذلك فعل جملة الأفعال وأغرب من هذا قوله: "وقد يكون من كلام الله ما يلقيه الله إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين، وبهذه الحجة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله". وقد توسع ابن رشد في مفهوم الكلام إلى أن أدخل في مسمى كلام الله ما يتكلم به علماء الفلاسفة بدعوى أن الله ألقى إليهم الكلام بواسطة البراهين. يقف أبو الوليد في هذه المسألة موقفًا شاذًا خطيرًا، لم يسبق إليه - فيما نعلم - وذلك أنه خالف الأشعرية القائلة بالكلام النفسي واللفظي معًا على أن النفسي هو الكلام الحقيقي لله، واللفظي دال عليه
الكلام عند ابن رشد يسلك ابن رشد في إثبات صفة الكلام، المسلك الذي سلكه في إثبات صفة الحياة والقدرة والإرادة، وهو الاستدلال بثبوت صفة العلم لأن الكلام في فلسفة ابن رشد ليس شيئًا أكثر من أن يفعل المتكلم فعلًا يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه أو الفعل الذي يصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه، وذلك فعل جملة الأفعال وأغرب من هذا قوله: "وقد يكون من كلام الله ما يلقيه الله إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين، وبهذه الحجة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله". وقد توسع ابن رشد في مفهوم الكلام إلى أن أدخل في مسمى كلام الله ما يتكلم به علماء الفلاسفة بدعوى أن الله ألقى إليهم الكلام بواسطة البراهين. يقف أبو الوليد في هذه المسألة موقفًا شاذًا خطيرًا، لم يسبق إليه - فيما نعلم - وذلك أنه خالف الأشعرية القائلة بالكلام النفسي واللفظي معًا على أن النفسي هو الكلام الحقيقي لله، واللفظي دال عليه
1 / 89
أو ترجمة له، أو عبارة عنه، والقرآن عند الأشعرية ليس بكلام الله حقيقة، ولكنه دال على كلام الله الحقيقي الذي هو الكلام النفسي فلذا يجب احترامه إلى آخر الكلام المعروف عندهم.
وأبو الوليد لم يلتزم هذا المذهب التزامًا كليًا ولم يرفضه رفضًا باتًا، وهو في الوقت نفسه يخالف المعتزلة التي لا تثبت كلامًا نفسيًا، بل تصرح بأن كلام الله مخلوق، ومعنى أن الله متكلم عندهم أنه خالق للكلام، فالقرآن مخلوق من مخلوقات الله عندهم وعند الأشعرية، ونقطة الخلاف بينهم التصريح بالقول بأنه مخلوق وعدم التصريح به، فالطائفتان متفقتان في العقيدة الداخلية - إن صح التعبير - ومختلفتان في السياسة الخارجية.
إذ ترى المعتزلة أن يصرح بذلك لدى الجمهور، لأن القضية قضية العقيدة يستوي فيها العامة والخاصة، بينما ترى الأشاعرة عدم التصريح إلا في مقام التعليم، وكأنها عقيدة تخص الخاصة دون العامة، وهو موقف يشبه موقف ابن رشد من حيث التفريق بين العامة والخاصة في بعض الواجبات والاعتقادات - كما رأينا - إلا أنه يختار لنفسه طريقة أخرى من هذه المسألة كما أشرنا، وكما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله، هذا ما عنيناه بقولنا: إن موقفه شاذ وخطير. وما أهل السنة والجماعة الذين اكتفوا بما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذي يتجاوزون الكتاب العزيز والسنة المطهرة فهم يعتقدون بأن الله يتكلم حقيقة كما يليق به بكيفية لا نعلمها، إذ لا نحيط به علمًا ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ﴾، وهم لا يخوضون في كيفية تكلمه كما لم يخوضوا في كيفية جميع صفاته وكيفية ذاته تعالى، وإذا كان إيمانهم بالله إيمان تسليم لا إيمان تكييف فيجب أن يكون إيمانهم بصفاته كذلك إيمان تسليم بما في ذلك صفة الكلام، لأن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، والكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر يحذو حذوه فلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، أو تحريف.
أما القرآن فمن جملة كلام الله غير مخلوق كسائر كلامه، وقد أخبرنا الله في الكتاب العزيز أن القرآن كلامه، حيث يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ﴾ ١ وما من شك أن الكلام الذي سمعه ذلك المشرك المستأمن هو هذا القرآن الذي في المصحف، المحفوظ في الصدور، المكتوب في الألواح، ولذلك نستشهد به قائلين: "قال الله تعالى: كذا وكذا". وكلماته تعالى لا نفاد لها إذ يقول الرب جل من قائل: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ ٢.
هذا هو اعتقاد أهل السنة في كلام الله وموقفهم من القرآن الكريم. وهم - كما لا يخفى على المنصف - خير هذه الأمة على الإطلاق بشهادة المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى ﵊ فهو يقول
_________
١ سورة براءة. الآية: ٦.
٢ سورة الكهف. الآية: ١٠٩.
1 / 90
عنهم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، والخيرية تستلزم قطعًا صلاح العقيدة وصحتها ضرورة بحكم أنهم شاقوا صاحب الرسالة محمدًا ﵊ وأخذوا عنه دينهم وعقيدتهم.
وإذا كنا نؤمن بأنه ﵊ بلّغ رسالة ربه كاملة قبل أن يكتم شيئًا منها في أصول الدين وفروعه، ونؤمن ثانيًا بأن الصحابة فهموا ما بلّغهم الرسول ﵊ فهمًا صحيحًا وشاملًا وتحمّلوا أمانة التبليغ لمن بعدهم فبلغوهم فعلًا قبل أن يكتموا شيئًا مما بُلِّغُوا، إذا كنا نؤمن إيمانًا كهذا يلزمنا أن نعتقد أن كل خير في اتباعهم فيما كانوا عليه لأنهم على هدى وعلى صراط مستقيم ومخالفتهم تعد إحداث بدعة في الدين مع ادعاء أن الدين لم يتم بعد بل هو في حاجة إلى زيادة أو تعديل أو تحسين، وكل ذلك تحدٍ سافر لشهادة الله تعالى لنبيه وأتباعه أنه أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمة الإسلام إذ يقول الله جل من قائل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: ٣) وقد نزلت هذه الشهادة من السماء في آخر حياته ﵊، وكان نزولها في حجة الوداع على رؤوس الأشهاد في أعظم تجمع حصل في تاريخ الإسلام.
وكل الذي أقصده بهذا الاستطراد، أن الصواب في هذه المسألة وغيرها من مسائل الدين بما في ذلك البحث الذي حول القرآن هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكل مل خالف ما كانوا عليه فهو باطل ضرورة (إن الحق واحد لا يتعدد) هذه هي الطوائف الثلاثة في هذه المسألة، ولا نعلم لها رابعة - فيما نعلم - ولكننا فوجئنا في أثناء دراستنا لكتب ابن رشد بقول غريب لم يسبق إليه، وذلك في تعريفه للكلام - وقد ذكرناه فيما تقدم - وقد انتهى كلامه إلى القول: "بأن حروف القرآن التي في المصحف إنما هي من صنعنا نحن بإذن الله، وإنما وجب لها التعظيم لأنها دالة على المخلوق لله، وعلى المعنى الذي ليس بمخلوق"١.
مناقشة ابن رشد في رأيه يمكن أن نوجز فلسفة ابن رشد في هذه المسألة في نقطتين اثنتين: ١ – تعريفه للكلام بأنه فعل يفعله المتكلم إلى آخر كلامه.. ٢ – الادعاء بأن الحروف التي في المصحف صنفان، صنف مصنوع لنا، وصنف مخلوق لله، وأن الصنف الذي من صنعنا يدل على اللفظ المخلوق وعلى المعنى غير المخلوق. تعليقي على النقطة الأولى: بأنه كلام لا معنى له، بل تأباه اللغة العربية ويأباه الواقع إذ لا يعرف
مناقشة ابن رشد في رأيه يمكن أن نوجز فلسفة ابن رشد في هذه المسألة في نقطتين اثنتين: ١ – تعريفه للكلام بأنه فعل يفعله المتكلم إلى آخر كلامه.. ٢ – الادعاء بأن الحروف التي في المصحف صنفان، صنف مصنوع لنا، وصنف مخلوق لله، وأن الصنف الذي من صنعنا يدل على اللفظ المخلوق وعلى المعنى غير المخلوق. تعليقي على النقطة الأولى: بأنه كلام لا معنى له، بل تأباه اللغة العربية ويأباه الواقع إذ لا يعرف
1 / 91
في اللغة العربية: أن الكلام هو الفعل، فيقول النحاة عندما يعرفون الكلام: (هو اللفظ المركب المفيد بالوضع)، وذلك يعني أن الكلام هو ذلك الملفوظ المنطوق، وفي الواقع أن الناس يفرقون بين الكلام والفعل طبعًا، وأكتفي بهذا المقدار في هذه النقطة لوضوحها فيما أحسب.
وأما النقطة الثانية: فادعاء ابن رشد صنفين من الحروف للقرآن فكلام خال وفارغ عن المعنى في نظرنا، وعلى أي حال فقد وقع ابن رشد في البدعة التي كان يشنعها على أهل الكلام، ولم يقف مع ظاهر الشرع كما يدعو إليه وكما هو المتحتم على كل مسلم وبعد:
فكم كان جديرًا بابن رشد أن يطبق القاعدة التي يذكرها دائمًا في بحثه وهي: (لا يحق للباحث في مسائل الدين أن يطبق الاعتبارات الإنسانية على الأمور الإلهية)، ولكنه خالفها ولم يلتزم بها - وللأسف - والملاحظ أن ابن رشد قد خالف علماء الكلام في مواقفهم من صفات الله، وأنكر عليهم تأويلهم وشدد الإنكار عليهم، وكان يرى أن تبقى نصوص الصفات على ظاهرها - كما يليق بالله - ويدعو إلى ذلك بكل صراحة، وهي دعوى حق طبعًا، ولكنه قلب ظهر المجن - كما يقولون - لهذه الطريقة في صفة الكلام، وانحاز إلى الطريقة الأشعرية وهي القول بخلق القرآن مع إثبات الكلام النفسي بل زاد عليهم حيث ادعى أن للقرآن حرفين، حرف مخلوق لله وحرف مصنوع للعباد دال على الحرف المخلوق، وهو موقف - كما ترى - في غاية الغرابة، بل انزلاقة خطيرة يخشى منها على إيمان صاحبها، والله المستعان.
موقف ابن رشد من مثبتة الصفات جرت عادة معطلة الصفات الذين تعودوا أن يسلطوا ألوانًا من التأويل على صفات الله تعالى، إذا خالفت المعقول وأوهمت التشبيه - في زعمهم - جرت عادة هؤلاء بأن يلقبوا مثبتة الصفات بالألقاب التالية: أ – المشبهة. ب – المجسمة. جـ – الحشوية. وفي زعم هؤلاء أن الإثبات يستلزم التشبيه والتجسيم، وهو زعم فاسد لا يعتمد على قاعدة علمية ونظر سليم، وإنما هو زعم يتوارثه أهل الكلام بعضهم من بعض مبعثه إما الجهل، أو هوى في النفس، وإلا فإن التشبيه أو التجسيم أمر زائد على الإثبات فلا يلزم من إثبات العلم لله مثلًا - تشبيه الله بخلقه في علمه، ضرورة أن علم الخالق ليس كعلم المخلوق، لأن علم المخلوق يناسب حال المخلوق محدث مثله، محدود لا يحيط بالمعلومات، ومعرض للنسيان والغفلة والذهول، ثم إنه غير باق، ضرورة زوال الصفة بزوال الموصوف، وهذه الأعراض التي ذكرناها لعلم المخلوق ينزه
موقف ابن رشد من مثبتة الصفات جرت عادة معطلة الصفات الذين تعودوا أن يسلطوا ألوانًا من التأويل على صفات الله تعالى، إذا خالفت المعقول وأوهمت التشبيه - في زعمهم - جرت عادة هؤلاء بأن يلقبوا مثبتة الصفات بالألقاب التالية: أ – المشبهة. ب – المجسمة. جـ – الحشوية. وفي زعم هؤلاء أن الإثبات يستلزم التشبيه والتجسيم، وهو زعم فاسد لا يعتمد على قاعدة علمية ونظر سليم، وإنما هو زعم يتوارثه أهل الكلام بعضهم من بعض مبعثه إما الجهل، أو هوى في النفس، وإلا فإن التشبيه أو التجسيم أمر زائد على الإثبات فلا يلزم من إثبات العلم لله مثلًا - تشبيه الله بخلقه في علمه، ضرورة أن علم الخالق ليس كعلم المخلوق، لأن علم المخلوق يناسب حال المخلوق محدث مثله، محدود لا يحيط بالمعلومات، ومعرض للنسيان والغفلة والذهول، ثم إنه غير باق، ضرورة زوال الصفة بزوال الموصوف، وهذه الأعراض التي ذكرناها لعلم المخلوق ينزه
1 / 92
عنها علم الخالق لأنه علم يليق به تعالى قديم قدم ذاته، محيط بكل شيء لا يلحقه نسيان أو ذهول، أو غفلة وهو باق بقاء الذات العلية، فإثبات صفات الله تعالى عند المثبتة على غرار قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى: ١١)، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: ٤)، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ (طه: ١١٠)، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ (مريم: ٦٥)، وما قيل في صفة العلم يقال في سائر الصفات الذاتية والفعلية، هكذا يثبت لدى المصنف أن الإثبات شيء والتشبيه شيء آخر والله ولي التوفيق.
وقد استخدم أبو الوليد بعض تلك الألقاب التي تقدم ذكرها في حق المثبتة جريًا على عادة القوم، وكان المتوقع من أبي الوليد أن يقف موقف البصير المنصف فيضع الأمور في نصابها، ويلحق الألقاب بأهلها، فيقول لمن أثبت صفات الله كما يليق به أنه مثبت، ولمن أول وحرف أنه مؤول، ولمن شبه صفات الله بصفات خلقه أنه مشبه.
وقد أثبتنا - فيما سبق - أن المثبتة ليسوا بمشبهين ولا مجسمين، بل طريقتهم وسط بين التشبيه والتعطيل، كما وضحنا آنفًا، وإذا كانت المشبهة قد غلت في إثبات صفات الله فأثبتوها معتقدين أنها صفات كصفات المخلوقين، بدعوى أنهم لا يعقلون من صفات الله إلا كما يعقلون صفات المخلوقين، فقدرة الله عندهم كقدرة المخلوقين، وإرادته كإرادتهم، واستواؤه كاستوائهم، كذلك محبته ورضاؤه، غلت المعطلة في التنزيه من الطرف الآخر فنفت وعطلت صفات الله تعالى أو بعضها، بدعوى التنزيه معتقدين أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه فأهل السنة والجماعة فقد هداهم الله إلى سواء السبيل ووفقهم فسلكوا مسلكًا وسطًا، فأثبتوا ونزهوا - أثبتوا لله ما أثبت لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال - وجميع صفاته كمال - إثباتًا بلا تشبيه أو تمثيل في ضوء قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
وقد أثنى أبو الوليد على هذه الطريقة في غير ما موضع في بعض كتبه١ ولكنه يراها أنها إنما تناسب الجمهور فقط دون العلماء فإنهم لا يقفون عندها، بل عليهم أن يغوصوا في بحار الفلسفة، فيكشفوا حقائق لا يدركها الجمهور، مع التكتم٢ الشديد وعدم التصريح بتلك الحقائق أمام الجمهور، فلو التزم أبو الوليد طريقة معينة في إصدار الأحكام على الناس لسهل علينا أن نصغي إلى أحكامه ثم ننقاشه، ولكنه صعب المنال وكثير التقلب، فبينما تراه يتحدث في باب الأسماء والصفات حديث سلفي مثبت الصفات واقف على ظاهر الشريعة فإذا هو يخطب على منصة أهل الكلام فيؤول وينفر عن الإثبات، ولو عرّجت على نادي الفلاسفة لوجدته في طليعة الحكماء الذين يعيشون في مخيم الغموض ويضربون في
_________
١ منهاج الأدلة لابن رشد.
٢ وهي طريقة الباطنية.
1 / 93
بيداء الأوهام والخيال، ولا تكاد تفقه كثيرًا مما يقولون، ولو مررت بمجموعة الفقهاء لرأيته في وسطهم يقارع الحجج بالحجج فيؤصل ويفرع، وربما دخل مجالس المحدثين ليتشبه بهم، على حد قول القائل:
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم … فإن التشبه بالرجال فلاح
والصفة البارزة في ابن رشد أنه يرى نفسه أنه محلق في سماء الفلسفة مع مجموعة الحكماء تاركًا الجمهور في سذاجتهم - فيما يظن -.
ابن رشد يثبت المعاد بالأدلة العقلية والنقلية يقول أبو الوليد: "والمعاد مما اتفقت على وجوده الشرائع، وقامت عليه البراهين عند العلماء، وإنما اختلفت الشرائع في صفة وجوده، ولم تختلف في الحقيقة في وجوده" يشير ابن رشد إلى أن المعاد لم يكن محل نزاع بين الشرائع السماوية، أو لدى العقلاء والحكماء، بل كان محل اتفاق في المجالين الشرعي والفلسفي - إن صح التعبير - وإنما اختلفت الناس في أمرين في شأن المعاد: ١ – أهو روحاني فقط، أو روحاني وجسماني معًا، ثم يسوق ابن رشد الدليل فيقول: "والاتفاق على هذه المسألة مبني على اتفاق روحي في ذلك، واتفاق قيام البراهين الضرورية عند الجميع على ذلك" هكذا يصرح ابن رشد بأن الأدلة النقلية المأخوذة من الشرائع السماوية، والبراهين العقلية اتفقت على أن للإنسان سعادتين اثنتين: ١- دنيوية. ٢- أخروية. ويحلل ابن رشد المسألة قائلًا: "وانبنى ذلك عند الجميع على أصول يعترف بها عند الكل منها: أ - أن الإنسان أشرف من كثير من الموجودات. ب - إذا كان كل موجود يظهر من أمره انه لم يخلق عبثًا، وأنه إنما خلق لفعل مطلوب منه، وهو ثمرة وجوده، فالإنسان أحرى بذلك، وقد نبه الله تعالى على وجود هذا المعنى في جميع الموجودات في الكتاب العزيز فقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: ٢٧)، وقال جل من قائل وهو يثني على عباده الذين يدركون هذه الغاية المطلوبة من الوجود: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:١٩١) ". ثم يقول أبو الوليد: "ووجود الغاية في الإنسان أظهر منها في جميع الموجودات، وقد نبه الله تعالى عليها في غير مرة ما آية في كتابه العزيز فقال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: ١١٥)، وقال: ﴿أَيَحْسَبُ
ابن رشد يثبت المعاد بالأدلة العقلية والنقلية يقول أبو الوليد: "والمعاد مما اتفقت على وجوده الشرائع، وقامت عليه البراهين عند العلماء، وإنما اختلفت الشرائع في صفة وجوده، ولم تختلف في الحقيقة في وجوده" يشير ابن رشد إلى أن المعاد لم يكن محل نزاع بين الشرائع السماوية، أو لدى العقلاء والحكماء، بل كان محل اتفاق في المجالين الشرعي والفلسفي - إن صح التعبير - وإنما اختلفت الناس في أمرين في شأن المعاد: ١ – أهو روحاني فقط، أو روحاني وجسماني معًا، ثم يسوق ابن رشد الدليل فيقول: "والاتفاق على هذه المسألة مبني على اتفاق روحي في ذلك، واتفاق قيام البراهين الضرورية عند الجميع على ذلك" هكذا يصرح ابن رشد بأن الأدلة النقلية المأخوذة من الشرائع السماوية، والبراهين العقلية اتفقت على أن للإنسان سعادتين اثنتين: ١- دنيوية. ٢- أخروية. ويحلل ابن رشد المسألة قائلًا: "وانبنى ذلك عند الجميع على أصول يعترف بها عند الكل منها: أ - أن الإنسان أشرف من كثير من الموجودات. ب - إذا كان كل موجود يظهر من أمره انه لم يخلق عبثًا، وأنه إنما خلق لفعل مطلوب منه، وهو ثمرة وجوده، فالإنسان أحرى بذلك، وقد نبه الله تعالى على وجود هذا المعنى في جميع الموجودات في الكتاب العزيز فقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: ٢٧)، وقال جل من قائل وهو يثني على عباده الذين يدركون هذه الغاية المطلوبة من الوجود: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:١٩١) ". ثم يقول أبو الوليد: "ووجود الغاية في الإنسان أظهر منها في جميع الموجودات، وقد نبه الله تعالى عليها في غير مرة ما آية في كتابه العزيز فقال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: ١١٥)، وقال: ﴿أَيَحْسَبُ
1 / 94