فهذا جملة ما وقفت عليه من طرق لهذا الأثر عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس ﵀، وبعض طرقه صحيحة ثابتة، وبعضها لا يخلو من مقال، إلا أنّها يشدّ بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض، والأثر ثابت بلا ريب بمجموع هذه الطرق، ولذا اعتمده أهل العلم، وصححه غير واحد، وقد تقدّم الإشارة إلى بعض من صحّحه، ولا يُعرف أحدٌ منهم ضعّفه، وسيأتي في مبحث لاحق نقل كلام أهل العلم في التنويه به، والثناء عليه، وتلقّيهم له بالقبول والاستحسان.
وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ كلام الإمام مالك ﵀ واضح في الإثبات على طريقة أئمة السلف، ومع ذلك فـ"قد حرّف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال: معناه الاستواء معلوم لله، فنسبوا السائل إلى أنَّه كان يشكّ هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه، ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال: إنّما أراد به أنَّ ورود لفظه في القرآن معلوم، فنسبوا السائل والمجيب إلى الغفلة١، فكأنَّ السائل لم يكن يعلم أنّ هذا اللفظ في القرآن وقد قال يا أبا عبد الله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾ كيف استوى؟ فلم يقل: هل هذا اللفظ في القرآن أم لا، ونسبوا المجيب إلى أنَّه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه، ولا استشكله السائل، ولا خطر بقلب المجيب أنَّه يسأل عنه"٢.
وقد أجاب عن هذا التحريف شيخُ الإسلام ابن تيمية ﵀ بقوله: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم" أنَّ ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه.
قيل: هذا ضعيف، فإنَّ هذا من باب تحصيل الحاصل، فإنَّ السائل قد علم أنَّ هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية، وأيضًا فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنَّما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنَّه معلوم، لم يخبر عن الجملة.
وأيضًا فإنَّه قال: "والكيف مجهول"، ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء