The Audio Explanation of Zad al-Mustaqni - Ibn Uthaymeen
الشرح الصوتي لزاد المستقنع - ابن عثيمين
ژانرونه
ـ[الشرح الصوتي لزاد المستقنع]ـ
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: ١٤٢١ هـ)
عدد الأجزاء: ٢
_________
هذا الكتاب: تفريغ مكتوب لشرحين صوتيين للعلامة ابن عثيمين ﵀ على زاد المستقنع
١ - الشرح الأول/ الكتاب كاملا [٢٩٩ ملفًا]
٢ - الشرح الثاني/ ثلث الكتاب [١٣٢ ملفًا] أبواب/ صفة الصلاة، والمناسك، والبيع، والوقف والوصايا، والنكاح، والطلاق، والإيلاء والظهار واللعان والعِدَد والرضاع، والنفقات، والجنايات والديات، والحدود، والأطعمة، وجزء من الأيمان والقضاء، وجزء من الشهادات
مميزات ليست في (الشرح الممتع) المطبوع:
١ - إضافة مسائل كثيرة تعرّض لها الشيخ في الشرح، خلا منها الشرح المطبوع.
٢ - إيراد مناقشة الشيخ ﵀ للطلاب في الدورس، والتي تكون عادة قبل بداية الدرس، إضافة لأسئلة الطلاب للشيخ أثناء الشرح، وأسئلتهم بعد كل درسٍ، وإجابته عليها ﵀
٣ - إضافة شرح ثانٍ جديدٍ. (لثلث زاد المستقنع).
٤ - أنّ الرجوع للتفريغ فيه حل لبعض المواضع المُشْكِلة في الشرح المطبوع.
٥ - أنّ الشيخ ربما زاد في شرحه للكتاب ما ليس منه إما لإتمام الفائدة، أو لحاجة الطلاب، أو لأسباب أخرى، ومن ذلك:
• زياداته في الشرح من كتب أخرى كزياداته في بعض الأبواب من كتاب (الروض المربع) وغيره، بل إنه أحيانًا: يزيد فصولًا بالكامل، ومثال ذلك شرحه لفصل في الأمان والهدنة، في كتاب الجهاد.
• شرحه لمؤلفات خاصة به كشرحه لرسالته في زكاة الحلي، وذلك في كتاب الزكاة.
• شرحه خلال الشرح الثاني "لمذكرة الجامعة" وذلك للأبواب التالية: (النفقات، والجنايات، والديات، والحدود، والأطعمة، والأيمان والقضاء، وجزءًا من الشهادات).
• شرحه لفصول لا تعلق لها بالكتاب لحاجة الطلبة، كشرحه لفصل في فضل العلم وآداب طالبه في كتاب الفرائض.
أعده للشاملة: ملتقى أهل الحديث
[مصدر النص تطبيق مجاني للأجهزة الذكية برعاية مؤسسة وقف فهد بن عبد العزيز السعيد وإخوانه، وكرسي الشيخ ابن عثيمين للدراسات الشرعية، وقد التزموا فيه بالتفريغ الحرفي لكامل الشرح]
ناپیژندل شوی مخ
كتاب الطهارة
مقدمة المؤلف
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ حَمْدًا لا يَنْفَدُ، أَفْضَلَ ما يَنبغِي أن يُحْمَدَ، وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ على أَفْضَلِ الْمُصْطَفَيْنَ مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِه ومَن تَعَبَّدَ.
أمَّا بعدُ، فهذا مُخْتَصَرٌ في الفِقهِ من مُقْنِعِ الإمامِ الْمُوَفَّقِ أبي مُحَمَّدٍ، على قولٍ واحدٍ، وهو الراجِحُ في مَذهَبِ أحمدَ، ورُبَّمَا حَذَفْتُ منه مَسائلَ نادرةَ الوُقوعِ وزِدْتُ ما على مِثْلِه يُعْتَمَدُ، إذ الْهِمَمُ قد قَصُرَتْ، والأسبابُ الْمُثَبِّطَةُ عن نَيْلِ الْمُرَادِ قد كَثُرَتْ، ومع صِغَرِ حَجْمِه حَوَى ما يُغْنِي عن التطويلِ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكيلُ.
(كتابُ الطهارةِ)
وهي ارتفاعُ الْحَدَثِ وما في معناه وزوالُ الْخَبَثِ.
المياهُ ثلاثةٌ: طَهورٌ لا يَرْفَعُ الحدَثَ ولا يُزِيلُ النَّجَسَ الطارئَ، غيرُه، وهو الباقي علي خِلْقَتِه، فإن تَغَيَّرَ بغيرِ مُمَازِجٍ كقِطَعِ كافورٍ أو دُهْنٍ
[مقدمة المؤلف]
قال رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)
البسملة تقدم الكلام عليها مبسوطًا، وقلنا: إن الجار والمجرور في (باسم الله) متعلق بمحذوف فعليٍّ مؤخر مناسب للمقام، فعندما تريد أن تقرأ تقول؛ التقدير: باسم الله أقرأ، عندما تريد أن تتوضأ: باسم الله أتوضأ، تذبح: باسم الله أذبح، وإنما قدَّرناه فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، وقدَّرناه مؤخَّرًا لفائدتين:
الفائدة الأولى: التبرك في البداءة باسم الله ﷾.
والثاني: إفادة الحصر؛ لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدَّرناه مناسبًا؛ لأنه أدل على المراد، فلو قلنا مثلًا عندما نريد أن نقرأ كتابًا: باسم الله أبتدئ، ما يدرى بماذا تبتدئ؟ لكن: باسم الله أقرأ، يكون أدل على المراد الذي ابتدئ به.
1 / 2
وأما لفظ (الله) فهو علم على الباري جل وعلا، وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء، حتى إنه في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [إبراهيم: ١، ٢]، ما نقول: إن (الله) صفة، بل نقول: هي عطف بيان؛ لأن هذا الاسم تتبعه بقية الأسماء، فهو موصوف بها دائمًا
وأما (الرحمن) فهو أيضًا من الأسماء المختصة بالله ﷿، ما يطلق على غيره، و(الرحمن) معناه: المتصف بالرحمة الواسعة.
وأما قوله: (الرحيم) فإنه قد يطلق على غير الله، والمراد به: ذو الرحمة الواصلة، الأول: ذو الرحمة الواسعة، والثاني: ذو الرحمة الواصلة، فإذا جمع مع الرحمن صار المراد بالرحيم: الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده، كما قال تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ [العنكبوت: ٢].
وابتدأ المؤلف كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله ﷿؛ فإنه مبدوءٌ بالبسملة، واتباعًا لحديث: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأ فِيهِ بِبِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» (١)، واقتداء بالرسول ﵊؛ فإنه يبدأ كتبه بالبسملة.
قال المؤلف: (الحمد لله) هذه جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر.
فالحمد، ويش معنى الحمد؟ حمدت الله؛ يعني: ذكرته بأوصاف الكمال، فالحمد وصف المحمود بالكمال، سواء كان ذلك كمالًا في العظمة، أو كمالًا في الإحسان والنعمة، فالله تعالى محمود على أوصافه كلها.
واللام في قوله: (لله) قال أهل العلم: إنها للاختصاص والاستحقاق.
1 / 3
فالمستحق للحمد المطلق من هو؟ الله، هو المحمود على كل حال، له الحمد المطلق؛ ولهذا كان النبي ﵊ إذا أصابته السَّراء قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ»، وإن أصابته الضراء قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» (٢).
فالذي له الحمد المطلق هو الله ﷿، لا يستحقه أحد سواه، أما غيره فيحمد على أشياء خاصة معينة، ما هو على كل حال.
وأيضًا هي للاختصاص؛ يعني أن الذي يختص بالحمد المطلق الكامل هو الله، فهو المستحق له، المختصُّ به.
(حمدًا لا ينفد) (حمدًا) مصدر، والعامل فيه المصدر قبله، فهو مصدر معمول لمصدر، وقد سبق لنا: أن المصدر المحلى بـ (أل) يعمل مطلقًا، (حمدًا) هذه مصدر مؤكد لعامله، من أين عرفنا أنه مؤكد؟ لأنه إذا جاء المصدر بلفظ الفعل أو معناه فهو مؤكد، مثل ﴿كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤].
لكنه مع ذلك كلمة (حمدًا) مع كونه مؤكدًا وُصِفَ بقوله: (لا ينفد)، فيكون أيضًا بصفته مبينًا لنوع الحمد، وأنه حمد لا ينفد، بل هو دائم، والرب ﷿ ﷾ مستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن كمالاته لا تنفد، فكذلك الحمد -الذي هو وصفه بالكمالات- لا ينفد.
وليس المعنى: لا ينفد مني قولًا، لا؛ لأنه ينفد منه قولًا، كيف ذلك؟ يموت، أو يتشاغل بغيره، لكن المعنى: أن الله مستحقٌ للحمد الذي لا ينفد، باعتبار ذلك منسوبًا إلى الله ﷿ فهو لا ينفد.
(أفضل ما ينبغي أن يحمد) أفضل ما ينبغي صفة لـ (حمدًا)، فيكون وَصَفَ الحمدَ ﵀ بوصفين:
الاستمرارية في قوله: (لا ينفد).
وكمال النوعية في قوله: (أفضل ما ينبغي أن يحمد) أي: ما يستحق أن يحمد؛ يعني: أفضل حمد يستحق أن يحمده، وعلى هذا فتكون (ما) نكرة موصوفة؛ يعني: أفضل حمد ينبغي أن يُحمدَه ﷾، فوصف الحمد هنا بالاستمرارية وبكمال النوعية.
1 / 4
ولما أثنى على الله ﷿ بما ينبغي أن يثنى عليه، ثنَّى بالصلاة والسلام على أفضل الخلق فقال: (وصلى الله وسلَّم) (صلى الله) ما معنى: صلى الله على محمد؟ كلنا نقرأ (صلى الله على محمد) في صلاتنا، لكن ما معناها؟
قال بعض أهل العلم: الصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء.
ولكن هذا ليس بصواب، والصواب ما قاله أبو العالية: إنَّ الصَّلاة من الله ثناؤه على المُصَلَّى عليه في الملأ الأعلى (٣)، عند الملائكة المقربين، وهذا أخص من الرحمة المطلقة.
وعلى هذا، فـ (صلى الله على محمد) أي: أثنى عليه، وهذه الجملة خبرية لفظًا، إنشائية معنًى؛ لأنه ليس المراد: أني أخبر بأن الله صلَّى، ولكنني أدعو الله ﷿ أن يصلي، فهي خبرية لفظًا، إنشائية معنًى، بمعنى الدعاء، وعلى هذا فيصح أن أقول: فلانٌ ﵀ أو لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: يعني: أسأل الله أن يرحمه.
وقوله: (وسلم) هذه أيضًا جملة خبرية لفظًا، إنشائية معنًى؛ أي: تدعو الله تعالى بأن يسلم على محمد ﷺ؛ أي: يلقي ﵇، والسلام هو: الانتفاء من الآفات والنقائص، فإذا ضم السلام إلى الصلاة حصل به المطلوب، وزال به المرهوب، فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص، وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات.
وقوله (على أفضل المصطفَين) أفضل المصطفَيْنَ أو المصطفَيْنِ؟
الطلبة: (...).
الشيخ: بالفتح.
الطلبة: مصطفينَ.
الشيخ: كيف مثنى يكون مفتوح النون؟
الطلبة: (...).
الشيخ: كيف يكون جمعًا وهو مفتوح ما قبل الياء، والجمع (المسلمِين) مكسور ما قبل الياء؟
الطلبة: (...).
1 / 5
الشيخ: الجواب: لأن ما قبل الياء محذوف، والفاء هذه ما كانت الياء تباشرها، فأصلها (المصطفَيَيْنِ) أصلها: المصطفى، هذا المفرد، المثنى: المصطفيان، الجمع: المصطفيون، فإذا نصبت أبدل الواو ياءً، فيكون (المصطفَيِينَ)، هذا أصلها، لكن حصل فيها إعلال بحذف الياء، فصارت (المصطفَيْن)، و(المصطفَين) أصلها (المصتَفين) بالتاء، من الصفوة، وهي خلاصة الشيء، ومنهم المصطفين من الخلق؛ البشر لا شك أن المصطفى منهم الأنبياء، ثم الرسل، ثم أولو العزم.
الخلاصة أو خلاصة الخلاصة أو خلاصة خلاصة الخلاصة هم أولو العزم، وهم مذكورون في القرآن الكريم في موضعين؛ في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧]، وفي سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى: ١٣].
هذه خمسة هم أولو العزم، فمحمد ﷺ هو أفضلهم، ويدل لذلك أنه خاتمهم، ويدل لذلك أيضًا أنه إمامهم ليلة المعراج، ولا يقدم إلا الأفضل، ويدل لذلك أنه صاحب الشفاعة يوم القيامة الشفاعة العظمى، فهذه ثلاثة أشياء تدل، وهناك أشياء أخرى، لكن هذه ذكرناها كأمثلة نماذج، خاتم النبيين هذا في عالم الحس، إمامهم في المعراج في عالم الغيب، كونه هو الشافع يوم القيامة في عالم الغيب، لكنه في عالم الآخرة.
1 / 6
وقوله: (محمد) ويش إعراب محمد؟ هذه عطف بيان؛ لأن أفضل المصطفين ما يعرف من هو، فإذا قيل: (محمد) صار عطف بيان يبين من هذا الأفضل؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ﵊، وهو كما قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (٤)، فكان ﵊ خيارًا من خيار.
قال: (وعلى آله وأصحابه ومن تعبَّد) ثلاثة هؤلاء، نحن نقول في التحيات: اللهم صل على محمد وعلى آل، بس، لكن هنا المؤلف يقول: (آله وأصحابه ومن تعبَّد) فاعلم أنه إذا ذكر (الآل) وحده، فالمراد: كل أتباعه على دينه، ويدخل فيهم بالأولوية أتباعه على دينه من قرابته، أو لا؟ لأنهم آل من وجهين؛ من جهة الاتباع، ومن جهة القرابة، وأما إذا ذكر معه غيره فإنه بحسب السياق، فهنا ذكر (آل) و(أصحاب) و(من تعبَّد).
(آله) نفسرها هنا بأنهم المؤمنون من قرابته، مثل: علي بن أبي طالب، فاطمة، عبد الله بن عباس، حمزة، العباس، وما أشبه ذلك.
(وأصحابه) هم جمع (صحب)، و(صحب) اسم جمع (صاحب)، فأصحابه: كل من اجتمع به مؤمنًا به ومات على ذلك، ها دول أصحابه، كل من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنًا به ومات على ذلك، ولو لم يره؟
الطلبة: (...).
الشيخ: نعم، ولو لم يره، ولو لم تطل الصحبة؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: ولو لم تطل الصحبة، وهذا من خصائصه: أن كل من اجتمع به مؤمنًا به فهو من أصحابه، وإن لم يره، وإن لم يجتمع به، أما غيره من الناس ما يكون صاحبًا له إلا من لازمه مدة يستحق أن ينطبق عليه وصفُ صاحب.
وقوله: (ومن تعبَّد) كلمة (من) اسم موصول، ومعناها، أيش معناها؟ الذي تعبَّد، فهي للعموم.
وقوله: (تعبَّد) لمن؟ لله ﷿؛ أي: تذلل له بالطاعة، والعبادة مبنية على أمرين هما: الحب، والتعظيم.
1 / 7
فبالحب يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود، وبالتعظيم يكون الهرب من الوقوع في معصيته، أو لا؟ لأنك تعظمه فتخافه، تحبه فتطلبه.
فالعبادة مبنية على هذين الأساسين: الحب، والتعظيم، وأما شرط قبولها فهما: الإخلاص، والمتابعة.
كلمة (من تعبَّد) عامة في كل من تعبد لله ﷿ من هذه الأمة ومن غيرها، أو بس من هذه الأمة؟ من هذه الأمة ومن غيرها؛ ولهذا قال النبي ﵊ في قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قال: «إِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» (٥)، حتى الملائكة، حتى الجن، حتى أتباع الأنبياء السابقين يدخلون في هذا، فهي من أعم ما يكون؛ كلمة (ومن تعبَّد).
لكن هل يدخل فيها الأصحاب -أصحاب النبي ﷺ وآله المؤمنون؟
الطلبة: (...).
الشيخ: يدخلون؟
الطلبة: (...).
الشيخ: هذا مبني على خلاف بين العلماء؛ هل إذا عطفنا العام على الخاص يكون الخاص داخلًا في العام أو خارجًا منه بالتخصيص؟ في هذا قولان لأهل العلم؛ فمنهم من يقول: إنه داخل فيه -يعني: العموم- يشمله، ومنهم من قال: إن ذكره بخاصته يدل على أنه غير مراد.
وهذا الخلاف قد يترتب عليه بعض المسائل الحكمية، لكن من قال: إنه يدخل في العموم قال: إنه يكون الخاص مذكورًا كم مرة؟ مرتين؛ مرة بالخصوص، ومرة بالعموم.
طالب: قلنا: وأصحابه كل من اجتمع به، وقلنا: ولو لم يجتمع به ولو مرة؟
الشيخ: لا، قلنا: وإن لم يره، ما قلنا: وإن لم يجتمع به، قلنا: إن اجتمع به ولم يره هل يكون صحابيًّا؟
الطالب: (...).
الشيخ: (...).
ثم قال المؤلف: (أما بعد: فهذا مختصر في الفقه) (أما بعد) هذه كلمة يؤتى بها عند الدخول في الموضوع الذي يقصد يؤتى بـ (أما بعد).
1 / 8
وأما قول بعضهم: كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، فهذا غير صحيح؛ لأنه دائمًا الأساليب تتنقل؛ ينتقل العلماء من أسلوب إلى آخر، ولا يأتون بـ (أما بعد)، ولكن نقول: يؤتى بها عند الدخول في صلب الموضوع الذي من أجله قدمت الخطبة مثلًا.
(أما بعد) أما إعرابها، فإعرابها من أعجب ما يكون؛ قلنا لكم: إن إعرابها هو أن نقول: (أما) نائبة عن شرط وفعل شرط، والتقدير: مهما يكن من شيء بعد ذلك فهذا مختصر، فيكون هنا (أما) بمعنى: مهما يكن من شيء، و(بعد) ظرف متعلق بـ (يكن) المحذوفة مع شرطها، مبني على الضم في محل نصب؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه، وهذه الظروف - (بعد) وأخواتها- إذا حذف المضاف إليه ونوي معناه بنيت على الضم، كما في قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: ٤].
(أما بعد: فهذا مختصر في الفقه) (مختصر) مفتعل، فهو اسم مفعول.
والمختصر قال العلماء: ما قلَّ لفظه وكثُر معناه؛ أي: أن لفظه قليل، لكن معناه كثير.
وقوله: (في الفقه) الفقه لغةً: الفهم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وهذا النفي صحيح؛ يعني: ما نفقه تسبيحهم؟ نعم.
﴿قَالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ [هود: ٩١] يعني: ما نفهم، هذا النفي صحيح؟ يظهر أنه ليس بصحيح، ولكنه جحد.
إذن الفقه في اللغة: الفهم.
1 / 9
وفي الشرع بس (...) قال: أحسن نقول: في الاصطلاح، إن قلنا: في الشرع فنقول: إن الفقه: معرفة أحكام الله العقدية والعملية، هذا شرعًا؛ لأن الفقه في الشرع ما هو خاص بأفعال المكلفين أو بالأحكام العملية، بل يشمل حتى الأحكام العقدية؛ العقيدة، حتى إن أهل العلم يقولون: إن علم العقيدة هو الفقه الأكبر والأشرف، وهذا حق؛ لأنك لا تتعبد للمعبود إلا بعد معرفة توحيده بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وإلا كيف تتعبد لمجهول؟ ! هذا غير ممكن؛ ولذلك الأساس الأول هو التوحيد، وحقًّا أن يسمى بالفقه الأكبر.
لكن مراد المؤلف هنا في الفقه: الفقه الاصطلاحي، ما هو الفقه الاصطلاحي؟ يقول العلماء: إنه معرفة الأحكام العملية بأدلتها التفصيلية.
قولنا: (معرفة) أو نقول: علم الأحكام، أيهما أحسن؟
طالب: معرفة.
الشيخ: معرفة، السبب؟
طالب: لأننا قلنا: المعرفة يدخل فيها الظن والعلم.
الشيخ: نعم، والفقه إما علم، وإما ظن، ما كل مسائل الفقه علمية، قطعًا فيها كثير من المسائل ظنية، وهذا كثير في المسائل الاجتهادية ما وصل فيها الإنسان إلى درجة اليقين، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ولهذا نعبِّر بـ (معرفة) ولا نعبر بـ (علم)؛ لكي يتناول أيش؟ العلم، ويش بعد؟ والظن؛ لأن مسائل الفقه علمية، أيش بعد؟ وظنية.
الفقه: معرفة الأحكام العملية، (العملية) احترازًا من الأحكام العقدية، فهذا لا يدخل في الاصطلاح، وإن كان يدخل في الشرع.
وقولنا: (بأدلتها التفصيلية) احترازًا من أيش؟ من أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه ما تعرف الفقه بأدلته التفصيلية، ولكن تعرف قواعد عامة، وربما تأتي بالمسألة التفصيلية للتمثيل فقط.
وعلم من قولنا: (معرفة الأحكام العملية بأدلتها) أن المقلد ليس فقيهًا؛ لأيش؟ ما عرفها بأدلتها، غاية ما هنالك أنه يقلدها كما في الكتاب فقط، فالمقلد ليس فقيهًا، وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أن المقلد ليس من العلماء.
1 / 10
وبهذا نعرف أهمية معرفة الدليل، وأن طالب العلم يجب عليه أن يتلقى المسائل بدلائلها، حتى يكون جامعًا بين العلم الحقيقي، وهذا هو الذي ينجيه عند الله ﷿؛ لأن الله سيقول له يوم القيامة: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ﴾ [القصص: ٦٥] (...) ماذا أجبتم المؤلف الفلاني والمؤلف الفلاني؟ ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾.
إذن فلا بد أن نعرف ماذا قالت الرسل، ولكن التقليد عند الضرورة جائز؛ لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، وإلى أين نذهب إذا كنا لا نستطيع أن نعرف الحق بدليله؟ فلا بد لنا أن نسأل؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن التقليد بمنزلة أكل الميتة، متى يجوز؟ للضرورة، ومع عدم الضرورة لا يجوز، إذا كان الإنسان يستطيع أن يعرف الحكم بدليله ما يحتاج يقلد.
إذن الفقه صار له ثلاثة تعريفات: لغوي، وشرعي، واصطلاحي، اللغوي ويش معناه؟
الطلبة: الفهم.
الشيخ: الفهم. إذن الفقه له ثلاثة اصطلاحات: لغة، وشرع، واصطلاح؛ ففي اللغة: الفهم، وفي الشرع: معرفة الأحكام الشرعية العقدية والعملية، وأما الاصطلاح فهو: معرفة الأحكام العملية بأدلتها التفصيلية.
يقول: (مختصر في الفقه من مقنع) (من مقنع) جار ومجرور، صفة لـ (مختصر)، (من مقنع الإمام الموفق أبي محمد) (مقنع) اسم الكتاب اسمه المقنع.
وقوله: (الإمام الموفق) هذا من باب التساهل بعض الشيء؛ لأن الموفق ليس كالإمام أحمد، أو الشافعي، أو أبي حنيفة، أو مالك، لكنه إمام مقيد؛ يعني: له من ينصر أقواله ويأخذ بها، فيكون إمامًا بهذا الاعتبار، أما الإمامة التي كالإمام أحمد بن حنبل وما أشبهه فإنه لم يصل إلى هذه الدرجة.
1 / 11
وقد كثر في الوقت الأخير إطلاق الإمام عند الناس؛ إمام، إمام، إمام، حتى إنه يمكن من أدنى أهل العلم يسمونه إمامًا، وهذا أمر لو كان لا يتعدى اللفظ لكان هينًا، لكنه يتعدى إلى المعنى؛ إذ إنني إذا رأيت هذا يوصف بالإمام تكون أقواله عندي قدوة مع أنه لا يستحق.
وهذا كقولهم الآن في كل من قتل ظلمًا: إنه شهيد، وهذا حرام، لا يجوز أن يشهد لكل شخص بعينه؛ ولهذا بوب البخاري ﵀ على هذه المسألة بقوله: (باب لا يقول: فلان شهيد)، وعمر بن الخطاب ﵁ نهى عن ذلك (٦).
قد يكون الشهيد ربما أنه مُوقِر بعيره من الغلول وأنت تقول: شهيد، والشهادة محلها القلب، كما قال النبي ﵊: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ» (٧)، أو «بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ» (٨).
ولو أننا سوغنا لأنفسنا هذا لسوغنا لهذا الرجل الذي مات على الإيمان أن نقول: نشهد أنه في الجنة؛ لأنه مؤمن، وكل مؤمن فهو في الجنة، وهذا ما يجوز.
فالمهم أن بعض الناس الآن ما يحسبون مثل هذه الأمور، لا يحسبون لها حسابها، ولا يعلمون أو يغفلون عن أنه ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، وأنه سيحاسب على كل لفظة، نعم تقول: من قتل مظلومًا فهو شهيد، صح، من قتل بهدم أو غرق فهو شهيد، من قتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فهو شهيد، أما أن تشهد على شخص بعينه فكلَّا.
(الإمام الموفق) (الموفق) هذه اسم مفعول، يراد به اتصافه بهذه الصفة ولَّا هو اسم أو لقب؟ نقول: نعم، هو لقب لهذا الرجل العالم ﵀.
(والمقنع) كتاب متوسط يذكر فيه القولين، والروايتين، والوجهين في مذهب الإمام أحمد، ولكن بدون ذكر الأدلة أو التعليل، اللهم إلا نادرًا.
1 / 12
وله كتاب فوقه اسمه الكافي يذكر القولين، أو الروايتين، أو الوجهين في مذهب الإمام أحمد، أو الاحتمالين أيضًا، ولكنه يذكر الأدلة والتعليل، إلا أنه ما يخرج عن مذهب الإمام أحمد.
وله كتاب فوق ذلك وهو المغني، فقه مقارن؛ يذكر القولين، والروايتين عن الإمام أحمد وعن غيره من أهل العلم من السلف والخلف.
وله كتاب مختصر اسمه العمدة في الفقه، مختصر على قول واحد، لكنه ﵀ يذكر الأدلة مع الأحكام، ويجمع بين الأمرين.
ولهذا قيل فيه:
كَفَى النَّاسَ بِالْكَافِي وَأَقْنَعَ طَالِبًا
بِمُقَنِعِ فِقْهٍ عَنْ كِتَابٍ مُطَوَّلِ
وَأَغْنَى بِمُغْنِي الْفِقْهِ مَنْ كَانَ بَاحِثًا
وَعُمْدَتُهُ مَنْ يَعْتَمِدْهَا يُحَصِّلِ
أربعة كتب لهذا الرجل ﵀.
(أبي محمد) ويش اسمه؟ اسمه عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، هو عندي يقول: توفي سنة ٦٢٠ ﵀، كم يكون له؟ أسقط ٦٢٠ من ١٤٠٦، سبع مئة سنة وست وثمانين، الآن نحن ندرِّس أولاد علمه أو لا؟ هذا المختصر بالنسبة للفقه كالولد، والمقنع كالأم، فنحن ندرِّس الآن في الحقيقة ولد ابنه أو لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: (...) كما قلت لكم سابقًا: على قولين، ومعنى (على قولين) أنه أكثر من قول؛ لأنه قد يأتي في المسألة بثلاثة أقوال أو أكثر.
وقوله: (على قول واحد) يعني: ما يأتي بأكثر من قول؛ وذلك من أجل الاختصار وعدم تشتيت ذهن الطالب؛ لأن الطالب المبتدئ إذا أتيت له بأقوال شتته، وصار ما يمسك شيئًا، فالأحسن للطالب المبتدئ ألَّا يطالب إلا قولًا واحدًا حتى يرسخ في ذهنه، ثم بعد ذلك يمرَّن على معرفة القولين وعلى بيان الراجح من المرجوح.
قال: (وهو الراجح في مذهب أحمد) الراجح؛ يعني: من القولين، وقد لا يكون في المسألة إلا قول واحد، وحينئذٍ يكون هذا الكتاب المختصر موافقًا للكتاب المختصر منه الأصل.
وقوله: (الراجح في مذهب أحمد).
1 / 13
المذْهَب في اللغة: اسم لمكان الذهاب، أو زمانه، أو هو الذهاب نفسه؛ يعني: أنه يصلح أن يكون مصدرًا نونيًّا، أو اسم مكان، أو اسم زمان.
لكنه في الاصطلاح: مذهب الشخص؛ ما قاله المجتهد بدليل ومات قائلًا به، هذا المذهب، فإذا قيل مذهب أحمد، مذهب الشافعي، مذهب مالك، فمعناه؟ ما قاله بدليل ومات عليه، فلو تغير رأيه، فأي القولين مذهبه؟ القول الأخير هو مذهبه.
وقوله: (ما قاله المجتهد) خرج به ما قاله المقلد؛ لأن المقلد لا مذهب له، وليس عنده علم، المقلد قال ابن عبد البر: إنه بإجماع العلماء ليس من العلماء؛ ولهذا قال ابن القيم في النونية:
الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْهُدَى بِدَلِيلِهِ
مَا ذَاكَ وَالتَّقْلِيدُ يَسْتَوِيَانِ
صدق، هل يستوي من يعرف الهدى بدليله من شخص لا يعرفه؟ لا يستويان، بل قال بعض الشعراء:
لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَهِيمَةٍ
تَنْقَادُ بَيْنَ دَعَاثِرٍ وَجَنَادِلِ
ولكن مع ذلك التقليدُ يجوز للضرورة بنص القرآن، من لا يستطع أن يصل إلى العلم بنفسه ففرضه التقليد، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، وأحيانًا تلمُّ بالإنسان مسألة ما يتمكن من مراجعة الأصول حتى يعرف الدليل فيها، فحينئذٍ ليس له إلا أن يقلد؛ للضرورة، أما إذا كان يستطيع بنفسه أن يعرف الحق بدليله فهذا هو الواجب عليه.
يقول: (مذهب الإمام أحمد) أحمد بن حنبل الشيباني، إمام أهل السنة، إمام أهل الحديث، إمام أهل الفقه ﵀؛ فهو إمام أهل السنة في العقائد والتوحيد، وقد جرى عليه من المحن في ذات الله ﷿ ما نرجو له به رفعة الدرجات وتكفير السيئات.
1 / 14
وقد علم أنه لم يصمد أمام المأمون وأعوانه من المحرِّفين لكلام الله إلا هو ونفر قليل يعدون بالأصابع، لكن هو ﵀ أشدهم، وهو رحمه الله تعالى أوثق من غيره عند العامة؛ ولهذا كان الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد في خلق القرآن؟ إلا أنه ﵀ صمم على أن يقول: إن القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق، حتى إنهم يضربونه بالسياط فيغشى عليه، ويجرونه بالبغال في الأسواق؛ لأنه قال كلمة الحق، يريدون منه أن يقول كلمة الباطل، لكنه صمم؛ ولهذا ماذا أثابه الله عليه؟ أثابه أن جعله إمامًا، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤]، يوقنون أن العاقبة للمتقين وللصابرين لا سيما على أمر يتعلق بالدين؛ ولذلك كان إمام أهل السنة بلا منازع.
هذا الإمام ﵀ مع كونه إمامًا في الحديث كما يعرفه من يقرأ المسند، كان أيضًا إمامًا في التوحيد وفي العقيدة، وكان إمامًا في الفقه أيضًا، وشوف -سبحان الله العظيم- كيف جعل الله له هؤلاء الأتباع الذين خدموا كلامه أعظم خدمة بعد خدمة كلام الله ورسوله، ومع ذلك ما ألف إلا كتبًا يسيرة، لكن كلماته تكتب وتحفظ، حتى صار منها مذهب مستقل.
واعلم أن قول العلماء: مذهب فلان، يراد به أمران: المذهب الشخصي، والمذهب الاصطلاحي.
والغالب عند المتأخرين إذا قالوا: هذا مذهب أحمد، أو مذهب الشافعي، أو ما أشبه ذلك، الغالب أنه المذهب الاصطلاحي، حتى إن الإمام نفسه قد يقول بخلاف ما يسمى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه.
فهنا (في مذهب أحمد) مرادها: المذهب الاصطلاحي، لا المذهب الشخصي.
(وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع) (وربما حذفت منه) من أين؟ من المقنع.
1 / 15
(مسائل) جمع (مسألة)، والمسألة: ما يستدل له في العلم؛ يعني: ما يبرهن عنه في العلم والدين ويطلب له الدليل يسمى: مسألة؛ ولهذا قالوا: إن العلم مسائل ودلائل، والدلائل سمعية وعقلية؛ فإن كانت بنص من كتاب أو سنة أو إجماع فهي سمعية، وإن كانت بقياس فهي عقلية.
فإذن العلم كله حتى أصول الدين العقائد مسائل ودلائل؛ أحكام ودلائل تثبت هذه المسائل، الدلائل قلنا: إنها سمعية وعقلية، فالسمعية: الكتاب والسنة والإجماع، والعقلية: القياس وما يقتضيه النظر.
(مسائل نادرة الوقوع) يعني: قليلة الوقوع؛ لأن المسائل النادرة ما ينبغي أن الإنسان أن يشغل نفسه بها، مثل من يشغلون أنفسهم بمسائل الألغاز، كثير من الناس يكون له شغف بالمسائل النادرة جدًّا اللي يمكن ما تقع، كمسائل الألغاز علشان كما قالت العامة: خالف ترتاح، لكن المسائل النادرة ما لها داعٍ تكتب، المسائل النادرة إذا وقعت يسهِّل الله حلها، لكن كثيرة الوقوع هي المهمة.
ولهذا قال المؤلف: (وزدت ما على مثله يُعتمَد) (زدت ما) (ما) هذه اسم موصول بمعنى (الذي)، صلتها قوله: (يعتمد)، و(على مثله) متعلق بـ (يُعتمَد)، يعني: زدت ما يعتمد على مثله، لكن قدمه للتجانس؛ تجانس السجع.
(وزدت ما على مثله يعتمد) يعني: زدت من المسائل أشياء مهمة يعتمد عليها.
إذن فهذا الكتاب صنيعه بالنسبة للمقنع اشتمل على ثلاثة أمور:
أولًا: الاقتصار على قول واحد (...).
ثانيًا: حذف المسائل النادرة.
ثالثًا: (٩)
زيادة ما يعتمد على مثله من المسائل الهامة.
1 / 16
وهذا من خير ما (...) عبارة الوجيز وإذا هي نفس كلام المؤلف، صاحب الوجيز متقدم على هذا؛ فإما أن يكون هذا من باب الاتفاق؛ لأنه أحيانًا تكون عبارة هذا الرجل المتأخر كعبارة المتقدم من غير أن يطلع عليها، لكن اتفاقا، وقد يكون أن المؤلف يستعين بكتاب الوجيز، لكن الظاهر لي -والله أعلم- أنه من باب الاتفاق؛ لأن المؤلف ليس هينًا، عالم من أجلاء العلماء، وإذا أردت أن تعرف مقدار علمه فانظر إلى كتابه الإقناع، كتاب الإقناع تجد أن الرجل مع كونه واسع الاطِّلاع في المذهب، له أيضًا اختيارات وترجيحات، وكثيرًا ما يميل إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
طالب: (...)؟
الشيخ: والله نسيت من مؤلفه الآن ما يحضرني، لكنه ذكره صاحب الإنصاف.
قال المؤلف ﵀: (إذ الهمم قد قصرت) (إذ) حرف تعليل، و(الهمم) مبتدأ، والجملة (قد قصرت) خبره.
(الهمم) جمع (همة)، وهي: الإرادة الجازمة، وقد يراد بالهمة ما دون الإرادة الجازمة، وهي شاملة لهذا وهذا.
همم الناس منذ زمن المؤلف ﵀ في القرن الثامن أو التاسع قد قصرت، والآن أقصر وأقصر، أو الله أعلم.
وقوله: (إذ الهمم قد قصرت) هذه الجملة تعليل لقوله: (مختصر)، و(حذفت) يعني: اختصرته، وحذفت هذا؛ لأن الهمم قد قصرت، الهمم قصرت في زمنه.
أيضًا مع قصور الهمم هناك صوارف، فليس هناك مقتضي، المقتضي ضعف، ويش المقتضي؟ الهمة ضعفت، وهناك أيضًا صوارف؛ ولهذا قال: (والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت) فإذا ضَعُفَ أو قصر الباعث وقوي الصارف يتم الشيء ولَّا لا؟ ما يتم الشيء.
وقوله: (الأسباب) جمع (سبب)، وهو في اللغة: ما يتوصل به إلى المطلوب، وهو المراد هنا، المراد به السبب اللغوي ما هو الاصطلاحي.
1 / 17
(المثبطة) المفترة للهمم، (قد كثُرت) وهذا في زمنه كثيرة، وفي زماننا أكثر وأكثر وأكثر، ونحن وبعضكم أيضًا أدرك زمن ليس ببعيد أن الأسباب المثبطة عن العلم قليلة، (...) الأسباب المثبطة عن العلم والإقبال كثيرة داخلية في نفس بيت الإنسان، وفي نفس بلده، وفي نفس حكومته، وخارجية أيضًا، فهي كحجر ألقيته في الماء، الدائرة تكون صغيرة، ثم تتسع وتكون دوائر، الآن في الحقيقة الأسباب المثبطة قد أحاطت بالإنسان من قرب ومن بعد.
ولكن مع ذلك ما دام الإنسان يشعر بأنه في جهاد، وأنه كلما قوي الصارف ودافعه الإنسان، ينال بذلك أجرين؛ أجر العمل، وأجر دفع المقاوم؛ ولهذا أخبر النبي ﵊: أن أيام الصَّبر للعامل فيهن أجر خمسين من الصَّحابة (١٠)؛ لأن هناك أسبابًا مثبطة كثيرة وصارفة.
فأنت إذا استعنت بالله ﷿، وقاومت هذه الصوارف والأسباب المانعة أعانك الله ﷿، وجعل لك قوة تدفع بها وتندفع، لكن إذا أعرضت فهذه هي المصيبة.
والذنوب من أكبر العوارض؛ ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة: ٤٩] ما هو بكل الذنوب، وهذا دليل على أن تولي الإنسان عن الذكر هذا أسبابه الذنوب، فمع الاستغفار والتوبة إلى الله ﷿ وصدق النية مع الله ييسر الله لك الأمر.
1 / 18
رأيت بعض العلماء استنبط من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥، ١٠٦] أنه ينبغي للإنسان إذا نزلت به حادثة، سواء إفتاء أو حكم قضاء أن يكثر من الاستغفار؛ لأن الله قال: ﴿لِتَحْكُمَ﴾، ثم قال: ﴿وَاسْتَغْفِرِ﴾، وهذا ليس ببعيد؛ لأن الذنوب تمنع من رؤية الحق؛ ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤]، نسأل الله أن يغفر لنا ولكم.
قال: (ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل) ويش هو الحجم؟ حجم الشيء يعني: جسمه وملمسه، وما أشبه ذلك، (مع صغر حجمه حوى) (حوى) أي: جمع، (ما يغني عن التطويل)؛ لأنه جامع الكتاب، وهو أجمع من كتاب الشيخ مرعي ﵀ وهو دليل الطالب، ودليل الطالب في الترتيب أحسن من هذا؛ لأنه يذكر الشروط والأركان والواجبات، لكنه بالنسبة للمسائل هذا أكثر بكثير؛ يعني ذاك يمكن ثلثين هذا في المسائل، إنما ذاك صحيح مفصل ومبين؛ ولهذا كان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ﵀ قد حفظ متن الدليل وتفقه به، لكنه مع ذلك كان يشير على طلابه بهذا، ولا يدرسنا إلا هذا الكتاب؛ لأنه يقول: إنه أجمع، وشرح الشيخ منصور ﵀ البهوتي عليه أحسن من شروح دليل الطالب.
قال: (ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا، ونعم الوكيل) قوله: (لا حول ولا قوة) هذه نافية للجنس، ولا أدري هل تذكرون أن في إعرابها أوجهًا؟ من يعلمنا بها؟
(...) (حول) و(قوة) ثلاثة أوجه: البناء على الفتح، والنصب، والرفع، ولكن ابن مالك () يقول:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إِنْ رَفَعْتَ أَوَّلًا لَا تَنْصِبَا
1 / 19
ولكن الأول يجوز فيه وجهان فقط، النصب ليس بصحيح، ما هو جائز، إما البناء على الفتح، وإلَّا الرفع، أما الثاني فيجوز فيه ثلاثة أوجه، لكن إن رفعت فلا تنصب.
وجه ذلك؟ أما الأول إذا بنيناه على الفتح فمعناه أننا أعملنا (لا)، كم يجوز في الثاني؟ يجوز البناء على الفتح على الإعمال، والنصب عطفًا على محل اسم (لا)، والرفع على الإلغاء، أو عطفًا على محل (لا) واسمها.
أما إذا رفعنا (لا حولٌ) إحنا رفعناها على أنها مبتدأ، وجعلناها ملغاة. والثاني يجوز فيها وجهان: الإعمال؛ لمباشرة (لا) لها، والإلغاء.
هذا إعرابها، لكن ما معناها؟ (لا حول ولا قوة إلا بالله) ويش معناها؟
الحول معناها: التحول وتغيير الأمر، التحول من شيء إلى شيء، فهي حول بمعنى تحول، والقوة معروفة: صفة يستطيع بها القوي أن يفعل بدون ضعف.
وقوله: (إلا بالله) الباء هنا للإعانة، فحينئذٍ يكون الحول والقوة بالنسبة لنا ليس لنا حول ولا قوة إلا بإعانة الله ﷿، بدونه لا نستطيع.
يمكن أن يجوز وجه -لكنه ضعيف- أن نجعل الباء بمعنى (في)؛ يعني: ما أحد له حول وقوة سوى الله، يكون المعنى الحول المطلق والقوة المطلقة لا تكون إلا في الله ﷿، لكن الأول أصح؛ وذلك لأن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله كلمة استعانة، يقولها الإنسان حينما يستعين الله ﷿، وحينئذٍ يكون المعنى الثاني، المعنى: لا حول لي أنا؛ يعني: ما أستطيع التحول من شيء إلى شيء، ولا قوة لي على ذلك إلا بمن؟ إلا بالله ﷾.
إذن كأن المؤلف ﵀ استعان بهذه الجملة الله ﷿ أن ييسر له الأمر، وهذا يدل على أن هذه الخطبة قبل تأليف الكتاب، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: لكنه يُشْكِل على هذا: أن المؤلف قال في أول الكلام: (أما بعد: فهذا مختصر) (هذا) والإشارة حسية تكون إلى شيء موجود، كيف يقول: هذا مختصر، ثم نقول: إن هذا الخطبة سابقة على التأليف؟
1 / 20