The Appropriate Description of Legal Rulings
الوصف المناسب لشرع الحكم
خپرندوی
عمادة البحث العلمي،بالجامعة الإسلامية
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤١٥هـ
د خپرونکي ځای
بالمدينة المنورة
ژانرونه
الوصف المناسب لشرع الحكم
تأليف الدكتور أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الكريم المنان المتفضل على عباده بعظيم الآلاء، وجزيل الإحسان جلت نعمه عن العد والإحصاء ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تحْصُوهَا﴾ ١، فكان من أعظم نعمه على عباده أن هدى المؤمنين به إلى الإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، من ختمت برسالته الرسالات، وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل عليه، فكانوا سادة الدنيا، وأئمة الهدى.
وبعد: فلما خص الله سبحانه محمدًا ﷺ بأن جعل رسالته خاتمة الشرائع، جعلها صالحة لكل زمان ومكان، مبنية على نصوص، وأصول وقواعد، لطفًا بالعباد، وتيسيرًا لهم في معرفة الحلال والحرام، شاملة لكل ما جد من الوقائع التي لم تكن، فيتعرف العلماء حكمها بطريق الاجتهاد الوافي بتفاصيل أحكام الوقائع، لأن نصوص الكتاب والسنة محصورة متناهية، ومواقع الإجماع معدودة منقولة فهي متناهية أيضًا، والوقائع لا نهاية لها، وهي لا تخلو عن حكم الله تعالى متلقى عن قاعدة من قواعد الشرع، والأصل الذي يفي بحكم جميع الوقائع وهو القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر، والاستدلال، والقياس إنما يكون بالعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والعلة لها طرق تعرفها، فكان من المناسب أن أختار أهم تلك الطرق التي بها يعرف حكم الوقائع المستجدة موضوعًا لرسالتي، فاخترت أن يكون موضوعها هو: "الوصف المناسب لشرع الحكم".
سبب اختياري لهذا الموضوع:
أما سبب اختياري لهذا الموضوع، فهو أنني لما أنجزت دراسة مرحلة الماجستير بقسم الدراسات العليا الإسلامية بكلية الشريعة بمكة المكرمة، فرع جامعة الملك عبد العزيز آنذاك، كان علي أن أختار موضوعًا أكتب فيه لأنال درجة "الدكتوراه" في أصول الفقه.
_________
١ سورة إبراهيم، آية: ٣٤.
1 / 5
وحيث أن القياس من أهم أدلة الأحكام الشرعية لسعته وشموله لكل الوقائع التي تجد، وأن القياس كما أسلفت إنما يكون بالعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والعلة وإن كانت لها طرق، فأهم طرقها وأشملها للأحكام إنما هو الوصف المناسب لشرع الحكم، والموضوع وإن كان صعبًا في ذاته، لسعته وترامي أطرافه، والبحث فيه يتطلب من الباحث أن يكون متعمقًا في الأصول، عالمًا بجوانب الاتفاق والاختلاف في القياس، والعلة وطرقها، ومقاصد الشرع، فإن رغبتي في دراسة الفن دفعتني إلى الكتابة فيه، لا سيما وقد رأيت من مشايخي التشجيع على اختياري للموضوع، مما شجعني على المضي فيه.
وكيف لا، والموضوع عظيم القدر، إذ به يعرف حكم الله تعالى فيما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة ولا نقل إجماع.
لذا رأيت صلاحية الموضوع للبحث، وشرعت فيه راجيًا من الله أن يعينني على إنجازه، وأن يجعله عملًا صالحًا، وأن يهديني سواء السبيل، فهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 / 6
خطة البحث
وقد سلكت طريقة في البحث رأيت أنها توصل إلى الغاية التي أردت، وهي أنني أستعرض آراء العلماء وأدلتهم، وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات عن الاعتراضات مع مناقشتها، وترجيح ما ظهر لي رجحانه بالدليل كلما رأيت ذلك مناسبًا، وربما تركت الترجيح إذا لم يظهر لي وجه الرجحان.
وقسمت البحث إلى: تمهيد وثلاثة أبواب، وخاتمة.
أما التمهيد: فهو يشتمل على الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تعريف القياس، وبيان المراد بالأصل عند الأصوليين.
الفصل الثاني: في تعريف العلة، وأقوال العلماء في تعليل أفعال الله تعالى.
الفصل الثالث: في شروط العلة، ويتضمن البحوث الآتية:
الأول: في الشروط المتفق عليها، بأن تكون وصفًا ظاهرًا، منضبطًا، مناسبًاَ.
الثاني: في الشروط المختلف فيها، وهي:
تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي.
التعليل بالوصف المركب.
التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط.
تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي.
التعليل بالعلة القاصرة.
تعليل الحكم بعلتين فأكثر.
تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة.
تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه.
1 / 7
عود العلة على الأصل بالإبطال.
ويشترط في العلة أن لا تعود على الأصل بالإبطال.
شروط أخرى اشترطها البعض.
الفصل الرابع: فيما قبل الوصف المناسب من مسالك العلة، وتحته مباحث وهي:
الأول: تعريف المسالك، وبيان الطريقة التي اخترت أن أسلكها.
الثاني: مبحث النص، وألفاظه.
الثالث: مبحث الظاهر، وألفاظه.
الرابع: مبحث الإيماء تعريفه، وأنواعه.
تنبيه: ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني اضطررت إلى تأخير تعريف المناسب عن المناسبة الآتية، لكونه مشتقًا منها، فأخرته إلى الباب الأول، وهو:
الباب الأول: وهو في المناسبة، وتعريف المناسب، وفيه الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تعريف المناسبة.
الفصل الثاني: في إقامة الدليل على اعتبارها.
الفصل الثالث: في تعريف المناسب.
الباب الثاني: في تقسيمات المناسب، وفيه الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة، وهو ينقسم إلى: حقيقي، وإقناعي.
والحقيقي ينقسم إلى: ديني، ودنيوي.
والدنيوي ينقسم إلى: ضروري، وحاجي، وتحسيني.
الفصل الثاني: في تقسيمه باعتبار إفضائه إلى المقصود، وذلك بأن يكون حصول المقصود يقينًا، أو ظنًا، أو يتساوى الحصول
1 / 11
وعدمه، أو يكون الحصول أرجح، أو يكون فائتًا بالكلية.
الفصل الثالث: في تقسيمه بالنظر إلى اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له.
الباب الثالث: في المناسب والمرسل، وفيه الفصول الآتية:
الفصل الأول: في تعريفه، وبيان محل الخلاف والوفاق فيه.
الفصل الثاني: في بيان مذاهب العلماء فيه.
الفصل الثالث: في بيان أدلة الإمام مالك فيما ذهب إليه من القول بالمناسب المرسل، ومناقشتها.
الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد في الأخذ به.
الفصل الخامس: في ذكر أدلة مذهب القاضي، ومن وافقه، ومناقشتها.
الفصل السادس: في أدلة مذهب الإمام الشافعي، وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل.
الفصل السابع: في بيان رأي الإمام أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المرسل.
الفصل الثامن: في رأي الغزالي، وبيان وجه ما ذهب إليه من القول بالمرسل إذا كانت المصلحة ضرورية، قطعية، كلية.
الفصل التاسع: في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع، ومناقشتها.
فصل: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها، أو راجحة، أو لا تنخرم؟
خاتمة: في بعض نتائج البحث التي توصلت إليها.
هذا ... وإنني قد رأيت أن أتخذ طريقة أرمز بها للتحويل على المراجع اختصارًا، وهي إنني في التحويل على المرجع لبيان الجزء والصفحة أستعمل الرمز الآتي وهو: "الأحكام للآمدي ٣/١٨٦" مثلًاَ، للاختصار، وإذا كنت نقلت عن الكتاب مخطوطًا ومطبوعًا، أشير للمخطوط بحرف "خ"، والمطبوع بحرف "ط"،
1 / 12
وإذا كان نقلي عن المطبوع فقط، فقد رأيت أن أؤخر بيان الطبعة إلى ذكره في المراجع.
هذه هي عناصر البحث التي بحثتها، وطريقة البحث التي سلكتها فأرجو أن أكون قد وفقت، وساهمت بعملي هذا في ناحية من نواحي شريعتنا الغراء، فإن كنت قد وفقت فمن الله، وإن كنت قد أخطأت فمني، وأرجو الله المغفرة والتوفيق لصالح العمل، وأن يجعل عملي هذا وسيلة إلى مرضاته، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
1 / 13
تمهيد
...
الفصل الأول: في تعريف القياس
القياس في اللغة: القياس، والقيس مصدران لقاس، يقال: قاسه بغيره وعليه، يقيسه قيسًا وقياسًا، واقتاسه إذا قدره عل مثاله١. وقسته - بضم القاف - أقوسه قوسًا، وهو من ذوات الواو والياء٢.
وللأصوليين في حكاية معني القياس اللغوي ثلاثة آراء:
الأول: أنه حقيقة في التقدير، أي في معرفة قدر الشيء بالآخر، كما تقول: قست الأرض بالقصبة، وقست الثوب بالذراع، أي قدرته به٣. وإلى هذا ذهب الأسنوي٤، تبعًا للآمدي٥.
فالمناسبة على هذا القول بين المعنى اللغوي، وبين المعنى الاصطلاحي - الآتي بيانه - إنما هي استعمال اسم الملزوم في اللازم، وقد أشار إلى ذلك الأسنوي بقوله: "إن التقدير يستدعي التسوية، فالتقدير يستلزم شيئين ينسب أحدهما إلى الآخر بالمساواة، وبالنظر إلى هذا - أعني المساواة - عبر الأصوليوين عن مطلوبهم بالقياس"٦.
_________
١ انظر القاموس ٢/٢٥٣، لسان العرب ٦/١٨٧، تاج العروس ٤/٢٢٧، المصباح المنير ٢/١٨١.
٢ انظر صحاح الجوهري ٢/١٨١، لسان العرب ٦/١٨٧.
٣ مجاز مرسل في المساواة علاقته الملزومية، واللازمية.
٤ هو: أبو محمد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي القرشي الأموي الأسنوي، الشافعي الفقيه، الأصولي النحوي، المتكلم، برع في كل علم، وخاصة الأصول والعربية، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، له مؤلفات منها في الأصول نهاية السول شرح منهاج الوصول للبيضاوي، ولد سنة ٧٠٤هـ، وتوفي سنة ٧٧٢هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصولين ٢/١٨٦.
٥ هو: علي بن علي بن سالم التغلبي، د الملقب بسيف الدين الآمدي، المكنى بأبي الحسن، الفقيه، الأصولي، المتكلم، ولد سنة ٥٥١هـ، له مؤلفات منها الأحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، ومنتهى السول في الأصول أيضًا، وغيرهما، توفي سنة ٦٣١. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين ٢/٥٧ - ٥٨.
٦ انظر: نهاية السول شرح منهاج الأصول مع منهاج العقول ٣/٢، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣/١٦٧.
1 / 10
وقد اعترض على هذا القول بأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة على المجاز، لأن المجاز خلاف الأصل، إذ يحتاج في دلالته إلى قرينة، والحقيقة لا تحتاج، وما لا يحتاج في دلالته أولى مما يحتاج١.
الثاني: أنه مشترك اشتراكًا لفظيًا بين كل من:
- التقدير، نحو قست الثوب بالذراع.
- والمساواة، كما في قولك فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه.
- والمجموع المركب منهما، تحو قست النعل بالنعل، أي قدرته به فساواه، وهو ظاهر كلام العضد٢، كما فهمه سعد الدين التفتازاني٣ في حاشيته أخذًا من تمثيل العضد بالأمثلة الثلاثة، حيث قال السعد: "تمثيله بالأمثلة الثلاثة مشعر بأن المراد أنه قد يكون بهما جميعًا، وقد يكون للتقدير فقط، أو للمساواة فقط"٤، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد اعترض على هذا القول بأمرين:
الأول: أن الاشتراك٥ خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد الوضع.
الثاني: أنه يحتاج في دلالته على المراد منه إلى قرينة، لأنه مشترك بين معنيين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، وحمل اللفظ على أحد المعنيين أو المعاني بدون
_________
١ انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق ﵀ على القياس.
٢ هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الأيحي الملقب بعضد الدين، العلامة الشافعي، الأصولي، المتكلم، الأديب، له مؤلفات في فنون مختلفة منها في أصول الفقه شرحه لمختصر الحاجب، توفي سنة ٧٥٦هـ. انظر الفتح المبين ٢/١٦٦.
٣ هو: سعد الدين بن مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الشافعي الأصولي، المتكلم، المبلاغي، له مؤلفات كثيرة في علوم شتى، منها في أصول الفقه التلويح في كشف حقائق التنقيح، وحاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، ولد سنة ٧١٢هـ وتوفي سنة ٧٩١هـ. انظر الفتح المبين في طبقات الأصوليين ٢/٢٠٦.
٤ انظر حاشية السعد على العضد ٢/٢٠٤.
٥ الاشتراك هو اتحاد اللفظ مع تعدد الوضع كما في العين، فإنها للباصرة، والجارية، والذهب، كما تطلق على ذات الشيء، وكالقرء للطهر والحيض، وهذا هو الاشتراك اللفظي. انظر: حاشية الباجوري على السلم ص٤٠، وآداب البحث والمناظرة للشيخ محمد أمين - القسم الأول ص١٩.
1 / 14
قرينة تعينه تحكم، وما لا يحتاج أولى مما يحتاج، وهو كونه مشتركًا معنويًا١.
الثالث: أنه مشترك معنوي، وهو كلي تحته فردان:
أحدهما: استعلام القدر أي معرفة قدر الشيء، نحو قست الثوب بالذراع.
الثاني: التسوية، ولو كانت معنوية نحو فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه، واستعماله في أحدهما لا بخصوصه حقيقة لا مجاز، وإلى هذا ذهب الأكثر، كما في تحرير الكمال بن الهمام٢، وقد نصره شارحه٣ بأن التواطؤ٤ مقدم على الاشتراك اللفظي والمجاز إذا أمكن، وقد أمكن٥. وهذا الرأي هو الراجح لسلامته من الاعتراضات.
بم يتعدى لفظ القياس؟
يرى بعض الأصوليين أن القياس وإن وردت تعديته بالباء في اللغة، كما في قول الشاعر:
خف يا كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس بكا
_________
١ انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
٢ هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، المشهور بابن الهمام، الفقيه الحنفي، الأصولي، النحوي، قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، له مؤلفات كثيرة منها في أصول الفقه التحرير، ولد سنة ٧٩٠هـ وتو في سنة ٨٦١هـ. انظر الفتح المبين ٣/٣٦.
٣ هو: شمس الدين محمد بن محمد بن الحسين الحلبي، المعروف بابن أمير الحاج، الحنفي الأصولي، له مؤلفات منها: التقرير والتحبير شرح التحرير في أصول الفقه، توفي سنة ٨٧٩هـ بحلب، انظر الفتح المبين ٣/٤٧.
٤ هو كون المعنى الواحد مستويًا في أفراده من غير اختلاف، أو تفاوت فيها كما في الإنسان، فإن حقيقة الإنسانية والناطقية مستوية في جميع الأفراد، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة على مطلق الماهية، بخلاف التشاكك، فإن المعنى الواحد ليس مستويًا في أفراده، بل مختلف ومتفاوت فيها كما في النور، فإنه في الشمس أقوى منه في غيرها. انظر آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص١٩، وحاشية الباجوري على متن السلم ص٤٠.
٥ انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير ٣/١١٧، ط الأولى، المنيرية.
1 / 15
فإن المستعمل منه في الشرع إنما يتعدى بعلى، لتضمنه معنى البناء والحمل، فإن انتقال الصلة من الأصل إنما يكون للتضمين١.
ولا يخالف هذا ما تقدم عن أهل اللغة من أنه يتعدى بالباء وبعلى، حتى يقال: لا حاجة إلى التضمين، إذ هو في اصطلاح المتشرعة لا تطرد تعديته إلا بعلى، وليس هو الأصل في تعدية القياس٢.
القياس في اصطلاح الأصوليين:
اختلف الأصوليون أولًا في إمكان حد القياس، فقال إمام الحرمين٣: "يتعذر الحد٤ الحقيقي لقياس، لاشتماله على حقائق مختلفة: كالحكم، فإنه قديم، والفرع والأصل، فإنهما حديثان، والجامع فإنه علة، وكل ما قيل في تعريفه فإنه رسوم"٥.
_________
١ هو أشراب كلمة معنى أخرى لتتعدى تعديتها.
٢ انظر: حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع ٢/٢٣٩، نهاية السول مع منهاج العقول ٣/٣، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
٣ هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، المكنى بأبي المعالي، المعروف بإمام الحرمين، لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي بهما، الفقيه، الأصولي النظار، الأديب، له مؤلفات منها البرهان في أصول الفقه، وقد طبع، والورقات وهي أيضًا في أصول الفقه، وله غيرهما، توفي ﵀ سنة ٥٤٥هـ. انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي ٧/١٨٩ - ١٩٠، الفتح المبين في طبقات الأصوليين ١/٢٦٠ - ٢٦٢.
٤ الحد في اللغة: المنع، وفي اصطلاح المناطقة هو ما كان بالذاتيات، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس والفصل القريبين كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.
انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص٧٣، وضوابطه المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص٥٩ - ٦٠.
٥ والرسم هو ما كان بالذاتيات والعرضيات معًا، أو بالعرضيات فقط، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس القريب والخاصة كتعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك، والناقص ما كان بالخاصة فقط، أو بها مع الجنس البعيد، كتعريف الإنسان بأنه كاتب، أو جسم كاتب.
انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص٧٣ - ٧٤ للدكتور عوض الله حجازي، وضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص٦١ فيما بعدها للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة.
1 / 16
ووافقه ابن المنير١ شارحه على تعذر الحد، لكن العلة عنده في ذلك كونه نسبة وإضافة، وهي عدمية، والعدم لا يتركب من الجنس٢ والفصل٣ الحقيقيين الوجوديين٤.
وقال الجمهور: يمكن حده "ولعل مرادهم أنه يحد حدًا اسميًا٥، فإنه من الأمور الاصطلاحية الاعتبارية التي تكون حقائقها على حسب الاصطلاح والاعتبار، ولا يمكن أن يحد حدًا حقيقيًا، وبذلك يصح لك الحكم بأن هذا الخلاف لفظي"٦.
واختلفوا ثانيًا في تعريفه، فعرفه بعضهم بتعريفات غير مرضية، وعرفه البعض الآخر بتعريفات مختارة.
ولما لم يكن من موضوعي استقصاء جميع التعاريف التي عرف بها، فقد رأيت أن أكتفي بإيراد بعض التعاريف التي لم ترض مع بيان وجه الرد، دون التعرض إلى
_________
١ هو: أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار بن أبي بكر بن علي المكنى بأبي العباس، الملقب بناصر الدين، المعروف بابن المنير، الاسكندري الفقيه، المالكي، الأصولي المتكلم، النظار، المفسر الأديب، الشاعر الخطيب، الكاتب المقرئ المحدث، المولود سنة ٦٢٠هـ تولى القضاء والتدريس ونظارة الأوقاف والخطابة، قيل عنه إنه كان فخر مصر عامة، والإسكندرية خاصة، له مؤلفات في التفسير وغيره، توفي بالإسكندرية سنة ٦٨٣هـ.
انظر: الديباج المذهب ١/٢٤٣ - ٢٤٦، وشجرة النور الزكية ١/١٨٨، والفتح المبين في طبقات الأصوليين ٢/٨٤ - ٨٥، ذكر الزركشي في مقدمة البحر المحيط أنه شرح البرهان، والله أعلم.
٢ هو ما صدق في جواب ما هو على كثيرين مختلفة حقائقهم كالحيوان، فإنه يصدق في جواب ما هو على كثيرين ... الخ، كما لو قيل: الإنسان والفرس والحمار ما هو صلح أن يقال في جواب ذلك حيوان، أي المذكور حيوان، والمراد بكثيرين ما يشمل اثنين فأكثر. انظر حاشية الباجوري على السلم ص٣٧.
٣ هو ما صدق في جواب أي شيء في ذاته كالناطق، فإنه يصدق في جواب ذلك كما يقال: مميزًا للإنسان أي شيء هو في ذاته؟ فيقال: ناطق. حاشية الباجوري على السلم ص٣٧.
٤ انظر: البحر المحيط للزركشي ٣/٢، بعد عنوان القياس - خ -، البرهان ٢/٢٠٧ - خ -.
٥ هو التعريف لماهية متخيلة في الذهن، ولا يعلم لها أفراد موجودة في الخارج، سواء كان لها وجود في الواقع أم لا، كتعريف العنقاء بأنه طائر طويل العنق، يصطاد الصبيان وصغار البقر.
انظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة للشيخ عبد الرحمن حبنكة ص٣٩٣.
٦ انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول ١/١٣ - ١٤.
1 / 17
شرحها، خشية الوقوع في التطويل الممل، ثم أتبع ذلك بالتعاريف المختارة، مع شرحها وبيان ما ورد عليها، والإجابة عند قدر المستطاع.
أمثلة من التعاريف التي لم يرتضها الأصوليون للقياس:
منها: قول بعضهم "القياس إصابة الحق"، وهو منقوض بإصابة الحق بالنص والإجماع١.
ومنها: قول بعضهم أنه "بذل الجهد في استخراج الحق"، وهو باطل باستخراج الحق بالنص والظاهر، والإجماع٢.
ومنها: قول بعضهم هو "التشبيه"، ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات - كالألوان والطعوم ونحوها - قياسًا شرعيًاَ، إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين، وليس كذلك٣.
ومنها قول بعضهم، القياس هو "الدليل الموصل إلى الحق"، وهو باطل بالنص٤، والإجماع٥.
_________
١ انظر: البرهان لإمام الحرمين ٢/٧٤٧ - ط -، الأحكام للآمدي ٣/١٦٧ - ١٦٨.
٢ انظر: الرهان ٢/٧٤٨ - ط -، البحر المحيط ٣/٢ بعد عنوان القياس - خ.
٣ انظر الأحكام للآمدي ٣/١٦٨.
٤ أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه حديث "كان رسول الله ﷺ يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص"، أي رفع السير إلى غايته. وفي اصطلاح الأصوليين: اللفظ الدال على معنى واحد دلالة قطعية، وهو مقابل للظاهر عندهم. انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي ص٣٦ - ٣٧.
٥ لغة الاتفاق والعزم، وفي الاصطلاح الشرعي اتفاق المجتهدين من أمة محمد ﷺ بعد وفاته على أمر من أمور الدين في عصر من العصور، قال صاحب المراقي:
وهو الاتفاق من مجتهدي.. الأمة من بعد وفاة أحمد.. وأطلقن في العصر.
انظر: نشر البنود ٢/٨٠.
1 / 18
ومنها: قول بعضهم هو "العلم الواقع بالمعلوم عن نظر"، وهو أيضًا باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص، والإجماع١.
وقال أبو هاشم٢: "إنه حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه علي"، وهو باطل من وجهين:
الأول: أنه غير جامع، لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم، ممتنع لذاته، فإنه ليس بشيء٣ على الراجح.
الثاني: أن حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع، فلا يكون قياسًا، وإن كان بجامع، فيكون قياسًا، وليس في لفظه ما يدل على الجامع، فكان لفظه عامًا للقياس، ولما ليس بقياس، فيكون غير مانع.
وقال القاضي عبد الجبار٤: "إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من
_________
١ انظر: الأحكام للآمدي ٣/١٦٨ - ١٦٩.
٢ هو: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان ﵁، الجبائي، المعتزلي، كان رأسًا في الكلام، له آراء خاصة في علم الكلام والأصول، له مؤلفات كثيرة منها كتاب الاجتهاد، ولد سنة ٢٧٧هـ وتوفي سنة ٣٢١هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين ١/١٧٢.
٣ هل المعدوم شيء؟ يرى الأشاعرة أن الشيء لا يشمل المعدوم إن كان ممتنعًا اتفاقًا، وكذا إن كان ممكنًا. انظر: نهاية السول ٣/ ٤ - ٥.
والذي نقل عن سيبويه أن الشيء اسم لما يصح أن يعلم، سواء كان معدومًا أو موجودًا، محالًا أو مستقيمًا. ونقل عن جار الله الزمخشري نحوه.
وعزاه صاحب النبراس لبعض المعتزلة، وقال: إنه الذي يفهم من شرحي المقاصد والمواقف وحواشيه، ثم قال: إنهم لا يقولون إن المحال شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، ويقولون إن المعدوم الممكن شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، وإنهم قد خالفوا في المعدوم الممكن الأشاعرة الذين ذهبوا إلى أنه ليس بثابت في نفسه كالممتنع، قال: ولعل مراد الأسنوي في قوله الشيء لا يشمل المعدوم ... الخ، أن الشيء بمعنى الثابت في نفسه لا يشمل المعدوم، وليس مراده أن لفظ الشيء لا يطلق على المعدوم، ولذا أتى بلفظ يشمل دون لفظ يطلق، انظر: نبراس العقول ١/٢٠، وشرح المواقف ص١٠٣.
٤ هو: أحمد بن خليل الهمداني، إمام المعتزلة في وقته، الأصولي المتكلم، له مؤلفات كثيرة منها العمد في أصول الفقه، والمغني، وغيرهما، اختلف في وفاته فقيل: سنة ٤١٥هـ، وقيل: سنة ٤١٦هـ.
انظر: القاضي عبد الجبار للكتور عبد الكريم عثمان، طبع دار الكتب العربية للطباعة والنشر - بيروت، الأعلام للزركلي ٤/٤٧.
1 / 19
الشبه، وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول"١.
التعريفات المختارة هي:
١ - تعريف ابن الحاجب٢.
٢ - تعريف البيضاوي٣.
٣ - تعريف ابن السبكي٤.
التعريف الأول: قال ابن الحاجب: "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"٥.
شرح التعريف: المساواة من النسب التي لا تعقل، ولا تتحقق إلا بين متعدد، فالمساواة المماثلة، وهي كالجنس يشمل كل مساواة، كمساواة فرع لأصل، أو فرع لفرع، أو فعل لفعل، أو ذات لذات.
فقوله فرع، قيد خرج به مساواة ذات لذات كمساواة زيد لعمرو، وأصل قيد خرج به مساواة فرع لفرع، كمساواة الأرز للذرة في الربا، وكلاهما فرع عن
_________
١ انظر: الأحكام للآمدي ٣/١٦٩، والمعتمد لأبي الحسين ٢/٦٩٧.
٢ هو: أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر، المشهور بابن الحاجب، المالكي الفقيه الأصولي، النحوي، أثنى عليه العلماء ثناء كثيرًا، له مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة، منها في أصول الفقه منتهى السول والأمل، ومختصر المنتهى، ولد سنة ٥٧٠هـ ومات سنة ٦٤٦هـ. انظر: الفتح المبين ٢/٦٥، الأعلام للزركلي ٤/٣٧٤.
٣ هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، الملقب بناصر الدين، المكنى بأبي الخير، المعروف بالقاضي، المفسر المحدث الفقيه الأصولي المتكلم، الإمام، له مؤلفات عديدة منها: منهاج الوصول في علم الأصول في أصول الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح المنتخب في أصول الفقه، توفي سنة ٦٨٥هـ. انظر: فتح المبين ٢/٨٨.
٤ هو: قاضي القضاة، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الفقيه، الشافعي، الأصولي المؤرخ، له مصنفات عديدة منها: جمع الجوامع، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح منهاج الوصول للبيضاوي. ولد سنة ٧٢٧هـ وتوفي سنة ٧٧١هـ. انظر: الفتح المبين ٢/١٨٤.
٥ انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد ٢/٢٠٤.
1 / 20
أصل هو البر. وقوله في علة حكمه قيد خرج به ما كان الاشتراك فيه لدلالة نص أو إجماع١.
والمراد بالفرع محل لم ينص أو يجمع على حكمه، وبالأصل محل نص أو أجمع على حكمه، وبالعلة الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على حكمة صالحة؛ لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وسيأتي لهذا زيادة بيان في محله إن شاء الله تعالى.
وهذا التعريف قد تضمن أركان القياس، وهي: الأصل والفرع، والعلة، والحكم، الآتي بيانها إن شاء الله تعالى.
الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها:
الاعتراض الأول: أن المساواة هنا وردت مطلقة، لم تقيد بما في نفس الأمر، أو بنظر المجتهد، والأول فردها الكامل، فإذا أطلقت انصرفت إليه، فالقياس على هذا ما كانت فيه مساواة في نفس الأمر، فما لا مساواة فيه في نفس الأمر فليس بقياس، مع أنه قياس.
فالتعريف غير جامع، لعدم شموله للقياس الفاسد، فكان عليه أن يزيد "في نظر المجتهد" ليعم الصحيح والفاسد.
وقد أجاب عنه الكمال بن الهمام وشارحه بما ملخصه أن محل القيد بنظر المجتهد إنما يلزم المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب، لأن المساواة عندهم لما لم تكن إلا المساواة في نظره، كان الإطلاق لها كقيد مخرج للأفراد، إذ يفيد الإطلاق التقييد بما في نفس الأمر، وافق نظره أولًا، حتى كأنه قيل: مساواة في نفس الأمر، ولا مساواة عندهم في نفس الأمر أصلًا، بل في نظر المجتهد، فكان قيدًا مخرجًا لجميع أفراد المحدود، فلا يصدق الحد على شيء منها، فكان باطلًا٢.
والأصوليون هنا بين مخطئة ومصوبة:
_________
١ انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق - على القياس.
٢ انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير ٣/١١٨.
1 / 21
أما المخطئة فيرون أن المصيب واحد لا بعينه، فالقياس الصحيح عندهم ما كان بحسب الواقع ونفس الأمر، فما لم يكن كذلك فليس بصحيح، وما ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، لا يرون أنه محكوم بصحته إلى زمن ظهور غلطه، بل مما كان فاسدًا، وتبين فساده.
وأما المصوبة الذين يرون أن كل مجتهد مصيب، فالقياس الصحيح عندهم هو "ما حصلت في المساواة في نظر المجتهد، سواء ثبتت في نفس الأمر، أم لا، حتى لو ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، فإنه لا يقدح في صحته عندهم، بل ذلك انقطاع لحكمه لدليل صحيح آخر حدث، وكان قبل حدوثه، القياس الأول صحيحًا، وإن زالت صحته"١. فإذا رجع عنه المجتهد سمي حينئذ قياسًا فاسدًا.
والحاصل أن القياس المرجوع عنه يعمل به قبل الرجوع عنه باتفاق الجميع، وبعد الرجوع عنه لا يعمل به اتفاقًا، وإنما الخلاف بين المخطئة، والمصوبة في أن القياس المرجوع عنه إذا ظهر فساده هل كان قبل ذلك يسمى صحيحًا، وإليه ذهب المصوبة أو كان يسمى فاسدًا، وإليه ذهب المخطئة، فالخلاف في التسمية٢.
الاعتراض الثاني: قيل: هذا التعريف غير جامع؛ لأنه لا يشمل الأقيسة الآتية:
١ - قياس الدلالة: وهو ما جمع فيه بلازم العلة، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة المشتدة، وهي لازمة للعلة التي هي الإسكار، أو بحكمها، كقطع الجماعة بالواحد قياسًا على قتلهم به بجامع وجوب الدية عليهم، وهو حكم العلة التي هي حصول القطع منهم خطأ في الصورة الأولى، وكذا القتل في الثانية.
_________
١ انظر: العضد على مختصر ابن الحاجب ٢/٢٠٥، مكتبة الكليات الأزهرية.
٢ انظر تفاصيله في مختصر ابن الحاجب وشرحه وحاشية السعد ٢/٢٠٥، وحاشية العطار على المحلى ٢/٢٤٠، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
1 / 22
٢ - القياس في معنى الأصل: وهو الجمع بين الفرع والأصل بإلغاء الفارق، كقولك الأمة كالعبد في سراية العتق بجامع أن لا فارق.
٣ - قياس الشبه: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بوصف شبهي١، كالصلاة مثلًا في قولك: الجلسة الأولى في الصلاة، كالجلسة الثانية صورة، فتجب وجوبها.
٤ - قياس العكس: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بنقيض العلة ونقيض الحكم، كقول الحنفي لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لما كان شرطًا له بالنذر، لكنه وجب بالنذر، فيجب عند الإطلاق، قياسًا على الصلاة، فإنها لم تجب عند الإطلاق لم تجب بالنذر.
فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطًا له، فحكم الفرع نقيض حكم الأصل، كما افترقا في العلة، إذ هي في الأصل أن الصلاة ليست شرطًا للاعتكاف بالنذر، وهي لا توجد في الصوم، لأنه واجب بالنذر٢.
_________
١ قال القاضي: هو الوصف الذي لا يناسب لذاته، ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب من جنس الحكم القريب، مثاله قولنا: الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا تزال به النجاسة كالدهن، فإن قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسبًا في ذاته، لكنه مستلزم للمناسب؛ لأن عدم بناء القنطرة عليه يؤذن بأنه قليل، والقلة وصف مناسب، لعدم مشروعية التطهير به، لأن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما التكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولنا: لا تبنى القنطرة على جنسه غير مناسب، ولكنه مستلزم للمناسب.
وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة، فإنه يسقط الأمر به ويتوجه إلى التيمم، وقد يكون الشبه في الحكم كما في العبد المقتول، فإنه متردد بين النفسية والمالية، فيلحق بأيهما أقوى شبهًا.
انظر: شرح تنقيح الفصول ص٣٩٤.
٢ انظر: المحصول ٢/٢١، من القسم الثاني من المطبوع، والمختصر مع شرحه وحاشية السعد ٢/٢٠٥، ونهاية السول ٣/٧، وحاشية العطار ٢/٢٤٠.
1 / 23
أجابوا عن الاعتراضات - بخروج الأقيسة المذكورة - إجمالًا بأن التعريف المذكور إنما هو لقياس العلة، لأن اسم القياس يطلق عليه بدون قيد، فهو حقيقة فيه، وأما المذكورات، فإطلاق اسم القياس عليها مجاز، لأنه لا يطلق عليها إلا مقيدًا، فيقال: قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل ... الخ، ولزوم القيد إمارة المجاز١.
وأما تفصيلًا، فإنه يجاب: "عن قياس الدلالة بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بين الأصل والفرع بغير العلة، بل بها وإن لم يصرح بها اكتفاء بما يتضمنها، وكذا يقال في القياس الذي في معنى الأصل.
وعن قياس الشبه وحده بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بغير العلة، فإن المراد بالعلة مطلق المعرف، فيشمل الوصف الشبهي، بل والطردي٢
_________
١ انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد ٢/٢٠٥، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.
٢ الطرد في اللغة مصدر بمعنى الإبعاد، يقال: طردته طردًا من باب قتل، وأطرده السلطان عن البلد أخرجه منه، وطردت الخلاف في المسألة طردًا أجريته كأنه مأخوذ من المطاردة، وهو الإجراء للسباق، ويقال: أطردت الأمر اطرادًا اتبعت بعضه بعضًا، واطرد الماء كذلك.
انظر المصباح ٢/١٧.
ولعل هذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي الآتي، ولذا قال الأسنوي في نهاية السول ٣/٧٣: "الطرد مصدر بمعنى الإطراد".
وأما في الاصطلاح فهو: مقارنة الوصف الذي لا يناسب ولا يستلزم المناسسب للحكم في جميع الصور، ما عدا صورة المتنازع فيها، وهي صورة الفرع الذي يراد ثبوت الحكم له، لوجود ذلك الوصف فيه بناء على أن ذلك الوصف الطردي علة لذلك الحكم، مثاله قولك: الخل لا تبنى على جنسه القنطرة، فلا تزال به النجاسة كالدهن.
قال الشربيني: "ولا يمكن فيه العكس بأن يكون إذا بنيت القنطرة عليه نفسه يطهر، لأنه خلاف المعهود له عن الشارع، قال: فهذا هو الفرق بينه وبين الدوران، فإن الدوران تحقيقه هو أن يوجد الحكم إذا وجدت العلة في محل، وينتفى بانتفائها في ذلك المحل بعينه، كالحرمة عند الإسكار في الخمر وعدمها عند عدمه فيه بعينه، وهذا هو المعهود له من الشارع".
انظر: تقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار ٢/٣٣٦ - ٣٣٧.
قال الإمام في المحصول ٢/٣٠٥ من القسم الثاني المطبوع: "ومنهم من بالغ وقال مهما رأينا الحكم حاصلًا مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية"ا. هـ
فعلى هذا يكون للطرد تعريفان: الأول: مقارنة الوصف للحكم في جميع الصور. والثاني: مقارنته له في صورة واحدة، والثاني أعم من الأول، وأما حكمه فقد اختلف العلماء في حجيته:
أما القائلون بعدم حجية الدوران، فيقولون: إن الطرد ليس بحجة بطريق أولى، وإلى هذا ذهب الآمدي وابن الحاجب.
والقائلون بحجية الدوران اختلفوا في حجية الطرد على أربعة مذاهب:
الأول: إنه غير حجة مطلقًا أي على التفسيرين، وهذا هو المختار.
قال الزركشي في البحر: والمعتبرون من النظار على أن التمسك به باطل، لأنه من باب الهذيان.
وقال إمام الحرمين: وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم الله ﷿ به.
ونقله الكيا عن الأكثرين من الأصوليين.
ونقله القاضي أبو الطيب عن المحصلين من أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال القاضي حسين فيما نقله عنه البغوي في تعليقه عنه: لا يجوز أن يدان الله به.
قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة ودليلًا على صحة العلية حشوية أهل القياس، وقال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء.
الثاني: هو حجة مطلقة أي على التفسيرين، وهذا ضعيف ولم أعثر على القائل بذلك.
الثالث: هو حجة بالتفسير الأول دون الثاني، ونقله في البحر عن طوائف من الحنفية، وهو غريب، ومال إليه الرازي، وجزم به البيضاوي.
قال ابن السمعاني: "وحكاه الشيخ في التبصرة عن الصيرفي".
وقال الزركشي: "وهذا فيه نظر، فإن ذلك في الإطراد الذي هو الدوران".
وقال القاضي أبو الطيب: "ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة في العراق فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم، ويقولون إنها قد صحت، كقولهم في مسّ الذكر آلة الحرث فلا ينقض الوضوء كما إذا مسّ الفدان، وفي الفرج إنه طويل مشقوق فأشبه البوق، وفي السعي بين الصفا والمروة إنه سعي بين جبلين فلا يكون ركنًا في الحج، كالسعي بين أي جبلين، ولا يشك عاقل في أن هذا سخف" اهـ
الرابع: ما ذهب إليه الكرخي، وهو إنه مقبول جدلًا، ولا يسوغ التعويل عليه عملًا، ولا الفتوى به، وهذا القول ضعيف، بل متناقض كما قال إمام الحرمين. والله أعلم.
انظر: البحر المحيط ٣/١٦٩ فما بعدها، نهاية السول مع منهاج العقول ٣/٧٣، ونبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول ١/٣٧٧، وتعليق الدكتور طه جابر فياض على المحصول ٢/٣١٣ فما بعدها من القسم الثاني من المطبوع.
1 / 24
عند من يجوزه"١.
وأما قياس العكس فيجاب عنه بأنا لا نسلم بأنه غير جامع له، فإن الذي سميتموه قياس العكس، إنما هو تلازم والقياس لبيان الملازمة، لأن المستدل
_________
١ انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول ١/٣٤.
1 / 25
يقول: لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، لم يكن واجبًا بالنذر، فيكون شرطًا لصحة الاعتكاف عند الإطلاق، كالصلاة، فإنها لما لم تكن شرطًا في الاعتكاف لم تجب بالنذر.
فعلى فرض عدم وجوب الصوم عند الإطلاق لم يجب بالنذر، فالمساواة حاصلة بين الصلاة والصوم في عدم الوجوب بالنذر، وإن لم تكن حاصلة في نفس الأمر.
فالأصل في هذا القياس هو الصلاة، والفرع فيه الصوم، والعلة الجامعة بينهما هي عدم اشتراط كل منهما في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، والحكم الثابت في الأصل والفرع هو عدم الوجوب بالنذر، فهذا هو عين الملازمة، والممثالة حاصلة على سبيل الفرص والتقدير١.
وقد أجيب عنه بأجوبة أخرى تركتها، لأنني رأيت في الجواب الأول عن كل الأقيسة الخارجة على التعريف، وفي هذا عن قياس العكس خاصة ما فيه الكفاية، والله تعالى أعلم.
الاعتراض الثالث: هذا التعريف يلزم عليه الدور، وذلك أن "الأصل" هو المقيس عليه و"الفرع" هو المقيس، وقد وقعا جزئين في التعريف.
فبهذا الاعتبار يتوقف القياس عليهما، إذا لا يتصور المحدود إلا بعد تصور الحد، ولا يمكن تصور الحد إلا بعد تصور كل جزء من أجزائه، وباعتبارهما مشتقين من القياس يتوقفان عليه، لأن المشتق فيه المشتق منه وزيادة، فيكون القياس جزءًا منه، ومعرفة الكل متوقفة على معرفة أجزائه، فهما متوقفان على القياس، فتوقف كل منهما على الآخر، وهذا دور، وهو باطل.
_________
١ انظر: نهاية السول ٣/٧، والمحصول ص٢٧٦ - خ -، والعضد على المختصر٢/٢٠٦، وأصول الفقه لأبي النور زهير ٤/١٥.
1 / 26