د د نوي شعر انقلاب له بودلیر نه تر اوسني عصر پورې (لومړۍ برخه): زده کړه
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
ژانرونه
وكلمة الواقع تستحق منا وقفة قصيرة، فلم يكن الشعر في وقت من الأوقات مجرد وصف أو نقل أو محاكاة بالمعنى الذي أراده أرسطو. لقد كان على الدوام قوة مبدعة خلاقة. وهو يبدع ويخلق من ناحيتين؛ إنه يبدع أو «يصنع» أشياء لم تكن موجودة من قبل (وكلمة الشعر باشتقاقها اليوناني تفيد معنى الصنعة والصنع). وهو يبدع كذلك بالمعنى الأعمق لهذه الكلمة عندما يصقل العنصر الخلاق الكامن في التجربة نفسها ويسمو به. فليست التجربة هي الانطباعات والإحساسات والمدركات التي نتلقاها من العالم الخارجي، بل هي إضفاء المعنى عليها، ولهذا فإن الشعر هو أهم من يصنع معنى التجربة، إنه إذا شئنا أن نستخدم لغة أرسطو يحقق في الفعل أجزاء جديدة من التجربة الموجودة بالقوة. ولعل هذا هو السر في غربة الشعراء الدائمة في مجتمعاتهم. إنهم أول ضحايا الشك واليأس؛ لأنهم يعيدون خلق التجربة أو يعطونها معنى جديدا لا يرضي سائر الناس الذين يقنعون بالحياة في ظل تجربة حدد غيرهم معناها من قبل.
ولكن ماذا يحدث لو امتد الشك في حقيقة الأشياء إلى مجال التجربة والوجدان الذي يخلق فيه ومنه الشعر نفسه؟ ماذا يحدث لو أصاب هذا الشك قيمة العالم الواقعي؟ هنالك لا يكون أمام دفعة الخلق الشعري إلا أن تلتمس ملجأ لها في عالم داخلي صغير خاص بها يحتفظ بقيمه التي فقدها الواقع الخارجي. هنالك يصنع الشاعر عالما في العالم كما يوجد لغة في اللغة. (وربما كانت قصة الشعر الغربي الحديث من عصر النهضة إلى الوقت الراهن هي قصة اكتشاف الباطن واستعمار الأعماق). هكذا انطلق المغامرون من أرضهم المجدبة وراحوا يعرضون على العالم كنوزا لم يتوقعها. فهل يكون رجوعهم إلى الواقع أقرب إلى حنين الجنس المهزوم؟ وهل ينتهي بعودة الابن الضال إلى صدر الأب؟
6 •••
الشعر إذن في صميمه غناء، لحن يعيد للعالم انسجامه وتوازنه، صياغة جديدة لمصيره ومعناه، لأخلاقه وقوانينه، لشريعته وسياسته. هذا هو المثل الذي جاهد الشعراء في كل العصور لتحقيقه. والأسطورة الإغريقية القديمة التي تروى في هذا المعنى غير بعيدة عن الأذهان؛ فقد قيل إن شاعرا ركب مع جماعة من البحارة الغلاظ في سفينتهم، وتوهم البحارة من هيئته وصمته أنه يحمل معه كنزا ثمينا فعزموا على قتله، وأعلنوه بالحكم فرضي به، ولكنه طلب منهم أن يمهلوه ريثما ينشد أغنيته. وتناول قيثارته وأخذ يوقع عليها لحنا رائعا جذب الدلفين - صديق الغناء والإنسان - فطفا على وجه الماء ليستمع إليه. ولم يكد الشاعر ينتهي من أغنيته حتى ألقى بنفسه على ظهر الحيوان الصديق. •••
ليست الأغنية هي سبيل الإنقاذ وإعطاء معنى جديد للعالم الذي فقد معناه أو إعادته إلى المعنى المفقود فحسب، بل هي كذلك تعبير عن مغامرة الحقيقة وسط محيط التجربة الإنسانية المضطرب غير المتناهي. هنالك يصبح «الخلق الجديد» هو الهدف الذي يحلم الشاعر ببلوغ شاطئه البعيد.
ويحكي «رلكه» قصة أخرى عن قارب يمخر عباب بحر متلاطم الأمواج، ويحاول الملاحون أن ينقذوا القارب فيجدفوا بإيقاع رتيب. ويتكاثف الظلام وتشتد الأمواج وما من علامة تشير إلى بر الأمان وفجأة يطلق رجل كسول عقيرته بالغناء، وبينما يبذل الملاحون جهدهم اليائس لمقاومة الأمواج تحاول أغنيته أن تقاوم يأسهم. إنهم يريدون السيطرة على العنصر الثائر القريب منهم، وصوت الشاعر يريد أن يربط القارب بالغاية البعيدة ويشيع الأمل في النفوس بقربها منهم أو على الأقل بأن جهدهم لن يضيع
7
ويعقب «رلكه» على هذه الحكاية فيقول: لست أدري لماذا ولا كيف حدث لي هذا؟ ولكنني أدركت فجأة موقف الشاعر، وعرفت مكانه ووظيفته في هذا العصر. لا بأس أن ينكر عليه الناس كل مكان آخر، ما خلا هذا المكان. هنا ينبغي عليهم أن يتحملوه؛ أي لا يضنوا عليه بمغامرة البحث عن الشاطئ المجهول، ومرافقة الملاحين التائهين بالنشيد والغناء، وإرسال سحابة هادئة من المعاني والرموز فوق رحلة المصير المظلم المخوف. وليس المراد بهذا كله أن الخلاص - خلاص الشعر والعالم - مرهون بوجود عدد من البلابل والقبرات والعصافير! صحيح أن الصوت العذب سيظل محبوبا ومطلوبا على الدوام. ولكن الشعر ليس هو المعادل الإنساني لغناء البلابل والطيور، إنه شيء أكبر من هذا؛ إنه فيرجيل ودانتي، وجوته وهولدرلين، وشكسبير وإليوت، والمتنبي والمعري، وحافظ والخيام، وإليوت ولوركا وأنجارتي وتراكل، والسياب وأدونيس والبياتي وصلاح عبد الصبور، هو هؤلاء، وهو كذلك تحديد لحالة الإنسان وكشف لها بطريقته الخاصة التي ستظل دائما - حتى في أكثر الأشعار تعقيدا وغموضا - هي طريقة اللحن والغناء.
كلمة أخيرة
حاولت السطور السابقة أن تصف الشعر الحديث وتبين أهم الخصائص المشتركة في بنائه وأسلوبه. وطبيعي أن الشعراء يختلفون فيما بينهم من حيث الخيال واللغة والاستعارة والرؤية، بل من حيث الوضوح والغموض، والقوة والضعف، والأصالة والسخف. لكنهم يتفقون على كل حال فيما يتفق فيه الفن الحديث في نصف القرن الأخير، أعني في البعد عن الواقع المألوف، واختيار اللغة الجسورة المتميزة التي تختص بكل منهم. وطبيعي أن يحتفظ كل شاعر بخصائصه الفردية، ولكنني أرجو أن تساعد الصفحات السابقة على تمييز الغث من الثمين والثرثرة من الأصالة، كما أرجو أن تمكن القارئ من التفرقة بين الذين يجددون عن عمد وافتعال ليوصفوا بأنهم طليعيون فيكون تجديدهم عبثا وسخفا، وبين الذين يجددون لأنهم لا بد أن يجددوا، أعني لأنهم مدفوعون بالضرورة الخالدة التي لولاها ما وجد فن ولا شعر حقيقي.
ناپیژندل شوی مخ