فقالت جوكوندا بسخط: هذا هذيان شرير. - عفوا وحلما يا ذات الجلالة، إذن لماذا تحاولون أن تحصلوا على سعادة الآخرة من غير أن تتركوا ملذات الدنيا وتقمعوا شهواتكم؟ - دعوى باطلة بلا دليل. - عجبا يا ذات الجلالة! لا أظنك تجهلين أنكم تتنافسون في ادخار حطام الدنيا، وكثيرون منكم قد ادخروا منها ما لا تفنيه دهور الخلود، كأنهم يجهلون أنهم سيموتون عاجلا، تتهالكون في سبيل الادخار بغية أن تتزودوا من ملذات الدنيا للآخرة، كأنكم تخافون أن تجوعوا في السماء. - أستغفر الله، في السماء من النعيم ما لا يبقي في النفس من حاجة إلى ملذات الدنيا الدنيئة. - ولكنكم لا تشبعون من ملذات الدنيا فتبتغون أن تنقلوها معكم. - هذا كلام فارغ، لا يستطيع الإنسان أن ينقل معه ذرة من حطام الدنيا إلى الآخرة. - يستحيل يا سيدتي أن تكون هذه عقيدة الإنسان وهو يتصرف بعكسها، لو كان يعتقد أن بين الدنيا والآخرة بابا هو الموت، وأنه لا يستطيع أن يجتاز هذا الباب وهو مثقل بحطام الدنيا لما كان يقاتل أخاه الإنسان من أجل هذه الحطام، ألا تقتتلون في سبيل ادخارها؟ - لا أنكر أن بيننا دنيويين يتنازعون الثراء اقتتالا، وأما الأتقياء الصالحون فيزدرون تلك الحطام ويتطلعون إلى النعيم السماوي.
فقالت فينوموس ضاحكة: ليتك يا ذات الجلالة تزورين معبد القديسة جوكوندا العجائبية؛ لكي تري ماذا فيه من كنوز، أحطام دنيوية هي أم نعم سماوية؟! وهو أقل المعابد والصوامع والمناسك كنوزا، ليتك تشاهدين كنوز الإكليروس من تيجان وصلبان وطيلسان في مدينة يسوع ومدينة خلفائه، وليتك تطلعين على دفاتر الأملاك من متاع وعقار ومال؛ لكي تعلمي كم هو نصيب طغمات الصالحين منها، وقد انتقلوا إلى الآخرة ومعهم صكوك امتلاكها إلى اليوم وغدا، فهم في السماء كما كانوا على الأرض من ذوي الأملاك في السماء وفي الأرض. - تبا هذا تجديف لا أطيق سماعه. - عذرا يا مولاتي، أكف عما لا تطيقين سماعه، وإنما أرجو أن تسمحي لي باستفهام واحد. - استفهمي بلا تجديف. - قلت إن الحياة الزمنية إنما هي استعداد للحياة الأبدية، فكيف يكون هذا الاستعداد؟ - بالتعبد لله. - السموات تحدث بمجد الله والأفلاك تسبحه، فبماذا يمتاز تعبدكم؟ - ليس التعبد بالتسبيح والتمجيد فقط، بل بالصلاة والصوم أيضا. - حسن، ليتك يا ذات القداسة تفحصين قلوب المصلين الصائمين؟ - لماذا؟ - لكي تري أن أنجح برامج من برامج الكيد والدس والختل والخداع هو الذي يفكر به المتعبدون في أثناء الصلاة والصوم. - لا يقبل الله صلاة وصياما إذا كانا ستارين للخداع. - إذن لم يبق شيء من التعبد لله غير تسبيح السموات وتمجيد الأفلاك. - وطاعة الإنسان وصايا الله أيضا. - تعنين وصايا الله العشر التي لولاها لما وجدت الخطيئة على الأرض؟
فوجفت جوكوندا فرقا، وقالت: ما هذا التجديف يا هذه؟ لو لم يخطئ الإنسان لما وضع الله له وصاياه العشر لكي يردعه بها عن المعصية. - سلي فيلسوف اللاهوت بولس الرسول ينبئك أنه لولا الوصية لما وجدت الخطيئة. - مستحيل، القديس بولس عني بقوله ذاك أن الله عالم أن الإنسان سيخطئ، فحذره من الخطأ بوصاياه العشر التي إذا لم يطعها جلب على نفسه الشقاء في الدارين معا. - أشكر لك تفسيرك كلام الرسول، فلنر هل فهم الناس تلك الوصايا كما عني بها الله؟ وهل أطاعوها كما نص عليها؟ أولها: «أنا الرب إلهك لا يكن لك إله غيري.»
فقالت جوكوندا: لا إله غيره تعالى.
فقالت فينوموس على الفور: لا إله غيره في كل مكان إلا ...
فقاطعتها جوكوندا قائلة: إلا في جهنم طبعا. - لا لا، لا إله غيره حتى في جهنم، وإنما لا إله غيره إلا على الأرض؛ حيث توجد آلهة أخرى سواه. - ويحك! الأرض ملأى معابد لله لا لسواه. - بل إلى جانبها معابد لإله آخر أضخم وأفخم منها، فهجر الناس تلك إلى هذه.
فقالت جوكوندا متذكرة تقرير أرجنتوس: فهمت، تعنين معابد المال التي بناها الداهية أرجنتوس على الأرض، ولكن عباد هذه هم الأشرار الدهاة الذين لا حظ لهم في السماء. - وعباد معابد الله أشد دهاء من هؤلاء؛ لأنهم يخدعون الله والناس. - ويلكم! إن ينبوع الخداع في جهنمكم؛ ولذلك يشدد الله العذاب لكم. - كلا يا سيدتي، لا لزوم عندنا للخداع حتى ولا لمعصية وصية من وصايا الله البتة. - عجبا! من هو إلهكم؟! - لا إله إلا الله وحده خالق الكون هيولى وأرواحا. - ألا تحلفون؟ - لسنا مضطرين إلى الكذب لكي نؤيد كذبنا بالقسم بالله، كلامنا النعم نعم، واللا لا. - غريب، ألا تسرقون؟ - ليس عندنا مال يسرق، وليس لأحد منا حاجة بمتاع لكي يسرقه، كل شيء عندنا مشاع للجميع. - عجيب! ألا تقتلون؟ - ليست لنا مطامع نتنازعها لكي نقتتل لأجلها. - ألا تزنون؟ - لا! ما هو الزنى؟ - عجبا! ألا تعرفين ما هي رذيلة الزنى؟ - ماذا تعنون بها؟ - نعني بها أن يقترن الرجل بامرأة ليست زوجة له أو زوجة رجل آخر، وأن تحب المرأة غير رجلها أو بعل امرأة أخرى. - إذا كان هذا ما تعنونه فهو فضيلة. - ويحك يا هذه! الزنى فضيلة! - لا! لست أعني أن الزنى فضيلة، بل إن هذا الذي تعنونه ليس زنى! - لله من هذا البهتان! إذن ما هو الزنى؟! - إن استئثار الرجل بامرأة لا تحبه بل تحب سواه لهو الزنى، واستئثار المرأة برجل لا يحبها بل يحب سواها لهو الزنى أيضا! لذلك لا زنى عندنا؛ لأنه لا رجل يستأثر بامرأة لا تحبه، ولا امرأة تستأثر برجل لا يحبها! - ويلك! تسوغين الحب المشاع! - لا، بل أكرر لك القول السابق أن الحب قاعدة الزواج، فنحن لا أنتم طائعون وصايا الله! لا شيء البتة عندنا من الآثام والمعاصي التي عندكم! - يا لله! إنك تصورين لي جهنم كالسماء.
فقالت فينوموس باسمة: أي نعم! هي نسخة من السماء، ولكنها مقلوبة كما لو كنت ترين السماء من كوة عدسة التصوير الشمسي!
وبقيت جوكوندا مبهوتة برهة إلى أن قالت: إذا كان أمركم كذلك، فأبشرك أن رحمة الله بكم أقرب إليكم من قاب قوسين. - أستغرب أن تكون رحمة الله على مقربة منا هكذا ولا نقتنصها، في حين أيدينا طويلة تمتد إلى قلوب البشر على الأرض، فأين هي؟ - لم تروها؛ لأن شركم كغبار الحرب يحجبها عن أبصاركم. - نعقد هدنة ساعة لكي يصفو الجو فهل نرى رحمة الله، أم نراها سرابا، كلما تقدمنا إليه ابتعد عنا! - لا تكفي الهدنة، بل يجب أن تكون توبة أبدية عن كل شر، فترون حينئذ رحمة الله في منال يدكم مهما كانت يدكم قصيرة. - لا نستطيع أن نفرط بتوبة كهذه بلا ضمانة؛ لئلا نخسر المعركة بيننا وبين البشر، ولا نحصل على الرحمة!
فقالت جوكوندا متحرية: ضمانة! ماذا تعنين بالضمانة؟ - أعني ضمانة الرحمة لقاء التوبة؛ هل تبيعين سلعة إذا كنت غير واثقة من قبض الثمن؟ - طبعا لا! - ونحن لا نبيع توبة ما لم نقبض رحمة حالا. - العادة أن يستلم الشاري البضاعة، ثم يدفع الثمن ولو بعد حين. - وإذا كان البائع قليل الثقة طلب ضمانة، فنحن نطلب ضمانة أننا ننال رحمة الله حتما بعد تقديم التوبة إليه.
ناپیژندل شوی مخ