فطفق مأجوج يتكلم: مرت أدهار ودولة الرجماء وعلى رأسها صاحب الجبروت الرئيس بعلزبول تمني الشعب الجهنمي باحتلال الأرض، أو امتلاك الملكوت البشري، واستعباد بني الإنسان بحيث يكون لكل شيطان عبد من الناس يأتمر بأمره ويخدم مشيئته، وإلى الآن لم يتحقق شيء من هذه الأمنية، وكان أنه كلما شبت ثورة أو حرب قلتم إن النصر لنا صار قريبا، وإننا صرنا على أبواب الملكوت البشري، فكانت تنتهي الحرب، وإذا أبواب ذلك الملكوت مقفلة في وجوهنا، فلا نستطيع أن ندخل ملكوت الإنسان فاتحين، ثم أبرقت البروق، وأرعدت الرعود إنذارا بشبوب حرب عظمى لا تبقي ولا تذر، وقلتم هذه آخرة الحروب التي تسقط فيها دولة الإنسان، وتتدمر مملكته، فندخلها ونبني مملكتنا على أنقاضها، ولكن انتهت هذه الحرب الشعواء، ومملكة الإنسان لا تزال قائمة، والإنسان يشتغل في تنظيمها من جديد لتغدو أرسخ بناء وأكمل سعادة له، فهذه الحرب العظمى التي منيتمونا بالنصر فيها كانت منتهى الفشل لنا، لا يزال باب الملكوت البشري موصدا في وجوهنا.
فقال بعلزبول: لا أنكر أننا حتى الآن لم نفتح الملكوت البشري فتحا مبينا بحيث نستطيع أن ندخله طغمات، ولكن هل تنكر يا جناب الرجيم مأجوج أن ألوفا وربوات من الشياطين تسربوا أفرادا إلى هذا الملكوت، وتغلغلوا بين أفراده وأسراته وفئاته وطبقاته؛ لكي يفسدوا ويعيثوا وينقبوا في أسس ذلك الملكوت؟ - هذا التغلغل حادث منذ القديم، ولكنه لم يدك ذلك الملكوت، فما هو إلا مهاجرة بطيئة من جهنم إلى الأرض، والمهاجرون لا يزالون غرباء يخزيهم الناس ويطردونهم مهانين، فنحن لا نرضى بفتح باب المهاجرة، بل نريد فتحا مبينا ونصرا كاملا وامتلاكا تاما للملكوت. - إن ذلك الملكوت مؤيد بقوة عظمى، فلا يسهل فتحه ما لم تصبح جميع قلوب بني الإنسان محتلة بالشياطين، ونحن لا نألو جهدا في الوصول إلى هذه الغاية. - مرت أحقاب وأنتم تدعون هذه الدعوى، فأي جهد بذلتم في هذا السبيل؟! - لو حضرتم مؤتمرنا منذ بدء انعقاده، وسمعتم مجمل تقارير رجال الدولة لعلمتم أننا فعلنا أكثر مما يلوح في بالكم. - لقد حضرت المؤتمر من أوله، وسمعت تقارير البعض فما توسمت منها إلا تقرير أعمال تمهيدية، فكأننا في أول المهمة، وقد تنقضي أدهار ونبقى حيث نحن. إلى الآن لم تفعلوا الفعل الحاسم؛ لذلك نريد إنشاء حكومة جديدة تنتقل من دور التمهيد إلى دور البت.
عند ذلك انبرى ذو البهاء أرجنتوس وقال: استأذن سيدتنا ذات الدهاء وسيدنا ذا الجبروت وزملائي أن أجاوب الأخ مأجوج، وأشرح له الأعمال المجيدة التي عملناها، وأبرهن له أننا تجاوزنا دور التمهيد من زمان، وأننا في دور العمل الناجز، وأن حرب البشر العظمى لم تنته بفشلنا كما يتوهم، بل انتهت بفاتحة دور النصر لنا. إن جهادنا الماضي أفضى إلى تلك الحرب الشعواء التي زعزعت ملكوت الإنسان، وأصبحنا الآن في دور تهديم جدران ذلك الملكوت جدارا جدارا ونقض أحجاره حجرا حجرا؛ لكي يسهل بعد ذلك كشف الأساس الذي نبني عليه دولتنا، لقد فعلنا كثيرا يا سيدي مأجوج، بل فتحنا ذلك الملكوت، ونحن على أهبة أن نبني ملكوتنا فيه، حتى متى تم بناؤه دخلنا إليه باحتفال عظيم، جيوش الحرب تفتح أولا والأمة تدخل بعد الفتح آمنة.
فقال مأجوج: ويحك! هل تحسب إنشاء جمعية الأمم التي ستكون أساسا لاتحاد الشعب هدما لملكوت الإنسان؟! هل تحسب تنبه طبقات الشعوب لحقوقها من حيث الحرية والمساواة زعزعة لأركان ذلك الملكوت؟! هل تحسب نهضة العوام لتنظيم الأمور الاقتصادية على قاعدة الاشتراكية تهديما لجدران ذلك الملكوت؟! - مهلا، مهلا، وتؤدة يا عزيزي مأجوج، دعني أشرح لك مقدمات النصر واحدة واحدة إلى أن نبلغ إلى هذه الظاهرات الاجتماعية، وحينئذ ترى ظاهرات هدم ذلك الملكوت. - ماذا عساك أن تشرح لنا أعظم من شرح ذات الدهاء وشروح ذوي الحنكة وذوي الصولة وذوي الفن، مما لم نر فيه إلا دعوى التمهيد للجهاد في سبيل الفتح، حتى صرنا نرى النصر أبعد عنا من الفرج عن اليائس ومن الحقيقة عن الحالم. - بل سأريك نصرنا قاب قوسين أو أدنى. - كيف تريني النصر وأنتم إلى الآن لم ترونا الجهاد الذي لا بد منه مقدمة للنصر؟! - أما أنا فقد جعلت النصر مقدمة للجهاد. - وي وي، لماذا الجهاد إذا كان النصر قد تم؟! - لم أقل أنه قد تم، بل جعلته هدفا للجهاد، فهو في حكم الواقع حتما، فقل معي: «النصر تم». - أراك تهيئ الإسطبل قبل أن يولد الحصان. - أي نعم، لو لم أبن الإسطبل لما ولد الحصان المطهم.
فقهقه مأجوج في إبان حماسته ونزقه وقال: أرنا الإسطبل لنرى المطهم الذي فيه. - بل أريك المطهم وقد ابتلع الإسطبل. - زه، زه، أنى كان لك صنع المعجزات يا ذا البهاء أرجنتوس؟ حتى ما تتباطأ عن قيادتنا في موكب النصر إذا كان في وسعك أن تأتي بهذا العجب العجاب، إن من يستطيع فعل المستحيلات يستطيع أن يغزو لا الأرض فقط، بل السموات أيضا. - وهو ما فعلت يا عزيزي مأجوج.
فحملق فيه مأجوج مشدوها ثم قال: أراك ثورا يكسر قرنيه نطاحا للصخرة وهو يحسب الصخرة تتكسر، أرى كأنك الزمان يجري في الفضاء، وهو يتوهم أنه يطوي في أذياله رحاب الفضاء، أو كأنك البيضة تظن أنها خلفت فرخا، وهي لا تدري أنها نتجت من فرخة. - بل أنا الشيطان الذي يخلق آلهة لبني الإنسان. - ويحك لا تزد . نكاد نخشى أن تزلزل الأرضين والسموات، وتدكها دكا فوق رءوسنا، فتردم بأنقاضها جهنم «حاسب». - لا تخف، إني عملت عمل الحارث الذي يقلب الأرض بطنا على ظهر، إني لرافع جهنم من تحت الأرض إلى فوقها. - حتى ما «الفشار» قل ماذا فعلت إن كنت لم تجن بعد. - أبدلت إلها بإله للبشر، خلقت لهم إلها براقا يأخذ بالألباب والأبصار، فما إن لمع لعيونهم حتى صرفوا قلوبهم وألبابهم عن خالقهم، وسجدوا لهذا الإله الجديد، وطفقوا يتفانون في عبادته. - أمن العدم خلقته؟ - بل من طين الأرض استخلصته وصنعته تمثالا بديعا. - أظنك نفخت فيه نسمة الحياة. - بل نفثت فيه سما زعافا، فظاهره بهاء وجمال، وباطنه شقاء ثم اضمحلال. - وهل له يسبحون ويمجدون؟ - وهل لغير المال يسبح أهل الأرض الآن؟
فصاح بعلزبول: مرحى مرحى يا أرجنتوس. إن إله المال رب الأجيال وسيد الآجال والقابض على أزمة الآمال.
فقال مأجوج: لبئس إلها خلقت يا أرجنتوس، إله يسعد الناس على الأرض ولا يحرمهم سعادة السماء، فأنت هدام دولة الزبانية وباني مملكة البشر. - بل هو يحرمهم سعادة الدارين معا، فعبادتهم له اقتتال في تنازع ذراته. - أما أفنوه بتنازع ذراته حتى الآن؟ - يفنون هم ويبقى هو. - مهما كان براقا جذابا فما هو إلا مادة ترابية، ولا قوة للتراب؛ إذن لا سلطة له عليهم.
فهز أرجنتوس رأسه مصرا وقال: بل هو إله قدير على كل شيء يا عزيزي مأجوج وحاضر في كل مكان، فحيثما ظهر كان صاحب السؤدد الذي تخضع لسلطانه الجبابرة، وتخر لصولته الجموع. - كفى إطنابا بصولة إلهك هذا الذي اخترعت، فقد رأيناه في أشد الأزمات أضعف من خنفسة، يوم حبس جمال باشا السفاح القمح عن لبنان كان الرغيف أعظم قيمة وأسمى شأنا من مثل وزنه ذهبا. - لأن جمالا جرد صفة المال من الذهب وجعله صفة للقمح، صار القمح مالا يتضرع إليه الجياع. - إذن، مالك هذا الذي تؤلهه ليس إلا صنما أصم أبكم لا عقل له ولا إرادة، فلا تأثير له على حرية البشر، بل هم يجردونه من صفات الألوهية متى أرادوا، وينسبون هذه الصفات لغيره متى شاءوا.
فعاد أرجنتوس يهز رأسه اعتدادا واعتزازا وقال: بل هو الإرادة المطلقة التي تسير الأنام، وما كان جمال السفاح إلا أداة في يد هذا الإله ينفذ إرادته.
ناپیژندل شوی مخ