استقبل الطريق مفيقا لأول مرة. بباطن بعيد كل البعد عن السلطنة والخيال والضحك. وامتد الشارع أمامه طويلا تكتنفه الأشجار السامقة من الجانبين، تتدانى أعاليها على مرمى البصر كجبين مقطب. ولأول مرة يرى العوامات والذهبيات الراسية على امتداد الشاطئ المرصع بحدائقها المتشابهة والمتباينة.
العجب أن لكل عوامة شخصيتها ولونها وشبابها أو كهولتها، ووجوها آدمية تتراءى في نوافذها. وأعجب ما رأى نخلة محملة بالبلح الأصفر، وما كان يصدق أنه توجد على الشاطئ نخلة واحدة، وثمة عديد من الأشجار مختلفة الأحجام والأشكال والأزهار لا يدري عن أسمائها أو خواصها شيئا.
ومرت به قافلة من الجمال يقودها رجل، فتساءل من أين أتت وإلى أين تذهب، وداخله شعور كاليقين بأنها تزحف في ضيق مفعم بالتوتر والألم. وقرأ على باب عوامة لافتة تعلن عن «دور مفروش للإيجار». ها هي شقة خالية، وها هي امرأة لا بأس بشكلها وعمرها، تنظر نحوه من الدور الأعلى، ولن يستطيع الخيال أن يحصي الاحتمالات الممكن أن يصادفها ساكن جديد أعزب، ولكن كيف يمكن أن ينطوي نهار المفيق؟ واعترضه جذع شجرة فاستوقفه لضخامته وغلظه، فرفع عينيه إلى الغصون المنتشرة في الهواء كقبة هائلة مغروسة الهامة في سحابات الصباح الشفافة الدانية، ثم رجع إلى الجذع المعمر هابطا إلى جذور كالحة متفرعة عن أصله، وضاربة في أرض الطور كأنما تنشب فيه أظافرها في اندفاعة متوترة غاصة بالتحدي والألم. وهاك رقعة من اللحاء الخارجي قد تآكلت كاشفة عن طبقة من اللحاء الداخلي، ذات لون أصفر باهت، على هيئة بوابة قوطية استوت أمامه بطول قامته، داعية إياه للدخول. وقال إن طول عمر الشجرة - وحده - يكفي لإقناع من لا يريد أن يقتنع بأن النبات كائن لا عقل له. ومضى وهو يمعن النظر فيما حوله، ومتسائلا في غرابة: ترى ألون الوجود أحمر أو أنه أصفر؟ وهل لحاء الشجر كجلد ميت؟ ولكن متى رأيت جلدا ميتا؟! وثبت له أن شيئا ما في الطريق يعترضه متحديا معاندا مثيرا للألم. وتذكر بغتة أنه لم يحلق ذقنه، وأنه لم ينس ذلك قط وهو مسطول، وأن ذلك سيزيد من تعقيد الأمور. وسأله صوت عن الساعة فلم يعن بإجابته ولم يلتفت نحوه، وسار متثاقلا حتى لوح له بائع الجرائد بصحف الصباح فمضى عنه في غير مبالاة.
إنه لم يقرأ جريدة منذ دهر طويل، ولا يعرف من الأحداث إلا ما تلوكه ألسنة المساطيل في هذيانها الأبدي. من الوزراء وما السياسة وكيف تسير الأمور؟ انظر يا سيدي، ما دمت تسير في طريق شبه خال دون أن يهاجمك قاطع طريق، ما دام عم عبده يجيئك بالغبارة كل مساء، ما دام الحليب متوفرا في الفريجيدير، فالأمور تسير حتما سيرا حسنا. أما آلام الإفاقة، وحوادث السيارات، وأحاديث الليل المغلقة، فلم يعرف بعد على من تقع مسئولية حلها.
وذهب إلى الإدارة مبكرا، وما كاد يستقر على كرسيه الخشبي حتى اجتاحته رغبة لا تقاوم في النوم، فطرح رأسه على المكتب وغاب في سبات عميق. ودعاه زملاؤه إلى مناقشة عن لائحة العقوبات، فقال لهم إن خير ما تصلح به الحكومة هو لائحة الوصايا العشر وبخاصة بند السرقة وبند الزنا. وغادر الحجرة إلى القرية فأحاط به غلمان الصبا ورموه بالتراب، فانقض عليهم رافعا يده بحجر ولكن عديلة قبضت عليها، وقالت له أنا زوجتك فلا تضربني، فسألها عن البنت فقالت إنها سبقت إلى جنة الخلد، وإنها تدور على الخالدين بالماء العذب. وفرح جدا وقال لها إن عمرا طويلا انقضى وهو يحاول عبثا أن يتذكر ذلك، وإن طريق الجنة محفوف بأشجار الجازورينا ويتعذر السير فيه ليلا، ولكن السيارة تقطعه في ثوان مرهقة بالرعب. ويصرخ الإنسان، ولكن صوته ينحبس في حنجرته ولا يسمعه أحد، فطارت في الهواء، ثم سقطت فوق غصن شجرة، فقال بعجب: إذن هو أنت. فقالت: كيف لم تعرف. فقال: إنه الليل يقطر سوادا، ولا يرى فيه شيء، ويتكلم كثيرا بلا جدوى. فقالت: خبرني عما تريد. فقال: أريد ما فتشت عنه في كل مكان، ولكن ها هو قادم على هيئة سحابة داجنة، وعما قليل ستمطر السماء مطرة واحدة، ولكنها تكفي لبل ريق المنصهر المعذب. ثم مد نحوها ذراعه، ولكنه لمح عم عبده قادما من أقصى الطريق راكضا وهو يملأ الفضاء، فركبه خوف بلا سبب، فودعها بسرعة وانطلق يعدو بكل قوته لا يتوقف ولا يلتفت، غير أنه شعر طيلة الوقت بالعجوز وهو يوشك أن يطبق عليه. وبلغ العوامة فاندفع فوق الصقالة، ثم أغلق الباب وراءه، ووجد لدهشته المجلس مكتملا، والإخوان يتضاحكون كعادتهم فعانقهم وهو لا يصدق، وقال لهم لقد حلمت حلما مزعجا، فسأله رجب عما رأى، فقال رأيت مجلسنا في سيارتك وأنت تدفعنا بجنون فصدمنا رجلا فطار في الهواء فضحكوا طويلا، وقال له مصطفى أحكم اللحاف حولك عند النوم، فتأوه قائلا اسطلوني، فقدمت له سمارة الجوزة وهي تقوم على خدمتها، فجذب منها نفسا طويلا عميقا حتى دار رأسه، وجعل يضحك منها، ويقول ألم نقل لك، فنحت الجوزة جانبا وقامت فتمنطقت بالإشارب وراحت ترقص رقصة بلدية، فدعاهم إلى التصفيق، ولكنه لم يجد منهم أحدا، أجل لم يكن في العوامة من أحد سواهما ، فراح يصفق لها وحده، ثم ضمها بين ذراعيه وهو يقول لقد فتشت عنك في كل مكان، وسألت عنك عم عبده ... وعند ذاك تهاوت الضربات فوق الباب، وارتفع صوت عم عبده وهو يصيح افتح، فجرها من يدها إلى الفريجيدير واندسا فيها، ثم أغلق الباب. واشتدت الضربات حتى زلزل المكان، واستمر الزلزال حتى فتح عينيه فرأى زميله وهو يهزه قائلا: صح النوم!
دعك عينيه فقال الآخر: اذهب إلى المدير العام فإنه يريدك.
ونظر في الساعة فإذا بها تدور في العاشرة. قام مترنحا ثقيل القلب، فمضى إلى المرفق فغسل وجهه، ثم ذهب إلى مكتب المدير العام ومثل بين يديه. حدجه الرجل بنظرة باردة وقال: أحلام سعيدة!
فلم ينبس من الألم والقرف، فقال الرجل: رأيتك بعيني في سابع نومة وأنا مار أمام الإدارة. - أنا مريض. - كان يجب أن تطلب إجازة. - لم أشعر بالمرض إلا عند حضوري. - الحقيقة أنك مريض قديم ولا شفاء لك.
وجرفه غضب مفاجئ فهتف بخشونة! - لا! - أنت تخاطبني بهذه اللهجة! - قلت إني مريض فلا تهزأ مني. - لقد جننت ما في ذلك شك.
فصرخ بصوت كالرعد: لا! - يا مجنون، ها هي عاقبة الإدمان! - احفظ لسانك أحسن لك!
ناپیژندل شوی مخ