التقط من نافضة عقب سيجارة من السجائر التي دخنتها في أثناء الجلسة، بقي منها الفلتر البرتقالي وعقب أبيض مضغوط، فتأملها طويلا، ثم أعادها إلى موضعها وسط مجموعة من الهاموش الهالك. وتضوع من النيل شذا مائي ذو نكهة أنثوية. وخطر له أن يتسلى بعد النجوم، ولكن أعوزته الهمة. إذا لم يكن في النجوم من يعنى برصد كوكبنا ودراسة أحوالنا الغريبة، فنحن ضائعون. وترى كيف يفسر الراصد مجلسنا الضاحك ما بين اجتماع شمله حتى تقوضه؟ سيقول ثمة تجمعات دقيقة تنفث غبارا مما يكثر في الغلاف الجوي للكواكب، وتصدر عنها أصوات مبهمة لا يمكن فهمها ما دمنا لم نصل بعد إلى معرفة أي فكرة عن تكوينها. ويزيد حجم التجمعات بين مرة وأخرى مما يدل على أنها تتكاثر بطريقة ما، ذاتية أو خارجية؛ ولذلك فمن غير المستحيل أن يوجد نوع من الحياة البدائية في ذلك الكوكب البارد، خلافا للرأي القائل باستحالة وجود حياة في غير الأجواء النارية. ومن العجيب أن هذه التجمعات الدقيقة تختفي لتعود من جديد. ويتكرر الحال على ذلك المنوال دون هدف واضح، مما يرجح معه الرأي القائل بعدم وجود حياة بالمعنى الصحيح على الأقل. وحسر الجلباب عن ساقيه المشعرتين، وضحك عاليا ليرى الراصد ويسمع. وقال بل لنا حياة وقد أوغلنا في الفهم حتى أدركنا ألا معنى لها، وسوف نوغل أكثر فأكثر، ولا أحد يستطيع التكهن بما سيكون، ولن نكون أدهش من يوليوس قيصر إذ تدهمه الحسناء الخالدة بارزة من البساط المنطوي، ويسأل القائد الذاهل: من الفتاة؟
فتجيب ممتلئة ثقة بجمالها: كليوباترا ملكة مصر.
7
اعتمد سور الشرفة بساعديه رانيا إلى الغروب الهادئ، والنسيم يلاطفه نافذا من طوق جلبابه، حاملا إليه فيما يحمل من شذا الماء والنبات صوت عم عبده وهو يؤم المصلين غير بعيد من العوامة. ومذاق القهوة السادة ما زال يجري مع ريقه، أما خياله فلم يتخلص بعد من ابن طولون الذي ساح بعض الوقت - قبيل القيلولة - في عصره. في الفترة القصيرة التي تلي احتساء القهوة وتسبق الرحلة، يتوقع عادة أن يقع شيء ما فيعابثه حزن غامض لغير ما سبب، ولكن هزة خفيفة رقصت بالعوامة، فتساءل عن القادم المبكر، وغادر موقفه إلى الصالة عندما ظهرت من وراء البارافان سمارة بهجت. اقتربت منه باسمة وهو ينظر إليها بدهشة حتى تصافحا. اعتذرت عن قدومها المبكر، فرحب بها مسرورا بحق، ومضت إلى الشرفة بحماس كأنما تتصل بالنيل اتصالا مباشرا لأول مرة، وجالت في نعاس الغروب بعين جذلة، وتأملت طويلا أشجار الأكاسيا أندوزا بأزهارها الملونة بعصير من الحمرة والبنفسج. وتحولت إليه فتبادلا النظر بحب استطلاع من ناحيتها، وقليل من الارتباك من ناحيته. ثم دعاها إلى الجلوس، ولكنها ذهبت أولا إلى المكتبة إلى يسار الداخل، فجرت على الأرفف بنظرات مستطلعة، ثم عادت فاتخذت مجلسا إلى جانب مجلسه الذي يتوسط الهلال. وجلس بدوره، ثم رحب مرة أخرى بزيارتها السعيدة المبكرة بعد غيبة أسبوع. وقارن بين ملابسها البسيطة المكونة من قميص أبيض وجونيلا رمادية، وبين جلبابه الأبيض، وقال لنفسه لعله لأسباب تتعلق بمهنتها أو بجديتها أن طوق القميص لا ينحسر عن شيء من مشارف ثدييها كالأخريات. وإذا بها تسأله: أكنت متزوجا وأبا حقا؟
وقبل أن يجيب اعتذرت بنبرة متراجعة عن تطفلها قائلة إنه خيل إليها مرة أن علي السيد ذكر ذلك في معرض حديث عن أصدقائه. وأجاب بإحناءة من رأسه، ولما رأى مزيدا من التطلع في عينيها العسليتين الجميلتين قال: وأنا طالب ريفي وحيد بالقاهرة، وماتت الأم وطفلتها في شهر واحد بمرض واحد.
ثم استطرد في بساطة موضوعية: كان ذلك منذ عشرين عاما.
وتذكر قصة الذبابة والعنكبوت، وتذكر بضيق أنه لم يكد يبدأ الرحلة بعد، وأشفق من أن يتلقى كلمة رثاء، ولكنها أعربت عن مشاعرها بصمت غير قصير، ثم التفتت نحو المكتبة وقالت: وقيل لي: إنك تدمن التاريخ والثقافة، ولكنك فيما أعلم لا تكتب؟
رفع حاجبيه العريضين المتناسبين مع صفحة وجهه الطويلة العريضة الشاحبة، وبدا مستنكرا أو هازئا فابتسمت، وتساءلت: لم إذن انقطعت عن دراستك؟ - لم أوفق للنجاح، ثم انقطعت عني الموارد؛ فتوظفت في وزارة الصحة بوساطة طبيب من أساتذتي السابقين. - لعل العمل لا يناسبك؟ - لست آسفا على شيء.
ونظر في ساعة يده، ثم صب قليلا من الكحول من قارورة على الفحم وأشعله بعود ثقاب، ثم حمل المجمرة إلى عتبة الشرفة، ولكنها عادت تسأل: ألا تشعر بالوحدة، أو بأنه لا يجوز أن ...
فقاطعها ضاحكا: لا وقت عندي لذلك.
ناپیژندل شوی مخ