زموږ کلتور د عصر سره مخامخ
ثقافتنا في مواجهة العصر
ژانرونه
هذه الأفعى .. كيف تسللت؟!
هل أنسى تلك الساعة الباكرة من ذلك الصباح الصيفي الجميل، في يوم من شهر يونيو سنة 1931م، عندما نزلنا - شقيقي وأنا - في محطة اللد بفلسطين الحبيبة، نستبدل فيها قطارا بقطار، قاصدين إلى القدس؛ لنراها لأول مرة؟ هل أنسى تلك الساعة الباكرة من ذلك الصباح الصيفي الجميل، ولم تكن الشمس قد ظهرت بعد في الأفق، إلا طلائع من نورها سبقت لتنشر في الفضاء ضوءا رماديا هو أحب أضواء السماء إلى نفسي، وكان الهواء رطبا ينعش الوجوه بلمسته الرقيقة، ولم يكن على رصيف المحطة أحد في انتظار القطار - سوانا - إلا رجل يرتدي سروالا قصيرا، يبلغ إلى ما فوق ركبتيه، وقميصا فيه جيبان على الصدر منتفخان. كان معنا حقيبة وضعناها على أرض الرصيف، ولم يكن مع الرجل شيء، أخذنا نحن نذرع الرصيف بخطوة وئيدة، جيئة وذهابا، وأخذ الرجل كذلك يذرعه في اتجاه مضاد لاتجاهنا، فكنا نلتقي معه عند نقطة يختلف وضعها كل مرة، لاختلاف السرعتين، نحن في ذهابنا وهو في جيئته؛ فننظر إليه بأعين مرتابة، وينظر إلينا بعين تحملق في شر وسوء! حتى وقف ذات مرة عند حقيبتنا، فوقفنا، وبادرناه بتحية الصباح بالإنجليزية؛ إذ حسبناه من القوم، لأن سمته من سمتهم، فأجاب التحية في عبوس يشيع القشعريرة في البدن، وبدأت بسؤاله: بريطاني أنت، أليس كذلك؟ فأجاب: لا، فسألته: وماذا تكون قوميتك إذن؟ فأجاب: يهودي، فقلت في دهشة السذاجة البريئة: إنني لم أسألك ما عقيدتك في الدين، بل سألتك ما قوميتك؟ وهنا قال: نعم، يهوديتي هي قوميتي ... تبادلت مع شقيقي نظرات التعجب، وصمتنا وصمت، وجاء القطار، فاتخذنا منه مكاننا إلى القدس.
ولم نكد نخلو إلى أنفسنا في القطار، حتى تبادلنا السؤال والجواب فيما رمى إليه الرجل بقوله إن يهوديته هي قوميته، ولكن هل كان في علمنا عندئذ ما يلقي لنا الضوء؟ كان قد مضى على فراغنا من الدراسة عام، وكان كلانا ممن يتابعون ما يصدره المفكرون والأدباء، حتى ليمكن القول إننا كنا عندئذ خير مثال يضرب للمتعلم المثقف العليم بما يدور به الفكر في بلدنا على الأقل، ومع ذلك فلم يكن لنا من الدراية ما يكفي أن ندرك أبعاد هذا التوحيد الذي زعمه الرجل بين قوميته ويهوديته؛ ذلك لأننا لم نكن نعلم بما يكفينا أن نلم بما كان يجري على أرض فلسطين، ولست إلى هذا اليوم أدري، أكان التقصير منا أم كان من رجال الفكر والأدب؟
ونزلنا بالقدس في فندق متواضع، ولم نكد نضع حقيبتنا في الغرفة، حتى خرجنا، إلى أين؟ لماذا لا نجلس قليلا في هذا المقهى المقابل للفندق وهو يعج بالناس؟ إن ذكرى اللحظة ما زالت ماثلة في عيني ومسمعي: الضوء ساطع، الظل عميق، فالفواصل حادة بين الظل والنور؛ المكان متفجر بالصوت، فالباعة يعلنون عن بضاعتهم، ورواد المقهى يخبطون على المناضد، ويتصايحون، وقوة الحياة بادية. جلسنا، ولعلنا قد أثرنا حب السؤال في بعض المشاهدين، عمن نكون؛ لأن مشيتنا المترددة، ونظراتنا المتطلعة، ووقفتنا المتسائلة، كلها تعلن أننا قد هبطنا الدار لتونا، فما هي إلا أن قدم شاب وسيم إلينا نفسه، نسيت الآن اسمه، لكنه كان - فيما أذكر - قريب التخرج من دراسة القانون، وكان يشتغل بالمحاماة، واستأذن وجلس، فما فرح أحد بلقاء أحد كما فرحنا به وفرح بنا! وكان أول ما نطق به من سؤال: ما أنباء «القضية» في مصر؟ «قضية»؟! وتبادلت مع شقيقي نظرة تستفهم المعنى؛ أية «قضية» تعني يا صديقي؟ هنا أعاد علينا الشاب ذكر «القضية»، ولكن في حرارة المتحمس هذه المرة؛ «قضية العروبة أعني، قضية الوطن العربي ما أعنيه، قضية هذه الأرض الطاهرة فلسطين، التي تكاد تذهب نهب الناهبين، هي بعض ما أسأل عنه ... ما أنباء ذلك كله في مصر؟» فكيف أنسى ما اعتراني من خجل، وما وثب إلى ذهني فورا - ولم أعلنه - بما يربط حديث هذا الشاب المتحمس، بعبارة ذلك المتغطرس في محطة اللد، الذي ربط بين قوميته ويهوديته؟
وطفق الشاب الصديق الجديد يحكي ويحكي ويحكي، وأخذنا نحن ننصت لنتعلم، ولتضطرب قلوبنا لما علمناه؛ إذن فها هنا النكبة نازلة بالعرب وبالعروبة ونحن في عمى وفي صمم؟! إنه لم يكن قد مضى - حينئذ - إلا عام واحد على ضحايا حادث البراق؛ وما حادث البراق؟ هو الحادث المفجع الذي كان أشعل أول ثورة دامية في فلسطين سنة 1928م. والبراق عند المسلمين هو حائط المبكى عند اليهود، وأراد اليهود أن يستولوا عليه بعد أن كان في قبضة المسلمين، فثار المسلمون، وامتدت ثورتهم من القدس إلى سائر مدن البلاد وقراها، حتى لقد اضطرت حكومة الانتداب البريطاني إلى استخدام القوة لقمع الثورة، وصدرت أحكام بالسجن على ثمانمائة عربي، أحكام بالإعدام على عشرين؛ منهم ثلاثة نفذ فيهم الحكم من عام واحد من تلك الجلسة التي جلسناها نحن في المقهى بالقدس، نستمع إلى زميلنا الشاب يشرح لنا الأحداث، وهم الثلاثة الذين خلدهم الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته «الثلاثاء الحمراء»؛ لأن إعدام هؤلاء الشهداء الثلاثة قد وقع يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر يونيو سنة 1930م. ومضى الزميل الشاب يروي كيف وضع الانتداب البريطاني أمورا خطيرة في أيدي اليهود، مكنتهم من النكاية بالعرب، والعبث بحقوقهم.
فبدر من أحدنا سؤال بريء: وما شأن اليهود في هذه الأرض العربية؟ فكان لا بد للراوية أن يروي القصة من بدايتها.
إنها رواية تروى بين قصص المستعمرين؛ لأنها رواية عن مستعمر لم يميزه عن سائر المستعمرين في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أنه أشدهم جبنا، وأخسهم نذالة؛ ففي القرن التاسع عشر شب في قلوب الأوربيين سعار منهوم تجاه أفريقيا وآسيا، كل يريد أن يلتهم من الذبيحة قبضة؛ تسابق البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي والبرتغالي، تسابقوا إلى الغنائم، فللأسبق الظفر؛ لأن الغنيمة بغير صاحب قوي يحميها .. فدبت في نفس الصهيوني عندئذ فكرة، لماذا لا يكون بين المستعمرين مستعمرا، وتلفت في أرض الغنائم، ووقع بصره على فلسطين العربية؛ إذن لتكن هذه نصيبي.
لكن سائر المستعمرين وراءهم حكومات تئويك وتئويهم أيها الصهيوني، ألست بريطانيا مع البريطانيين، أو فرنسيا مع الفرنسيين؟ لا، لا، إنني بريطاني وزيادة، وفرنسي وزيادة، والزيادة هي أني من آل صهيون؛ فإذا كان سائر المستعمرين يخططون لأنفسهم أن يدخلوا هذه الأرض أو تلك ليقيموا بين أهلها مستغلين لهم ولها، فهدفي أنا الصهيوني هو استعمار من لون فريد؛ لأنني سأحول الأرض المستعمرة وطنا؛ ولما لم تكن الأرض التي اخترتها لاستعماري الفريد أرضا خلاء، بل هي مأهولة بسكانها، تحتم أن يلحق بالخطة الاستعمارية خطة فرعية، هي أن أحل مكانهم، وأسكن بيوتهم، وليذهبوا ما شاءت لهم الأقدار أن يذهبوا.
هكذا بذرت البذرة الأولى في رأس الصهيوني، فلكي نزداد فهما للرواية بكل فصولها؛ فلنفهم الصهيونية على أنها حركة استعمارية نشأت مع بقية الحركات الاستعمارية الأوربية في وقت واحد، وإن اختلفت الدوافع والأهداف، فإذا كان المستعمرون الآخرون يريدون ثراء وتجارة وتسلطا، فالصهيوني في استعماره يريد وطنا يحوله فيما بعد إلى دولة، ولاحظ أنني أقول «يحوله فيما بعد»، لأنه بادئ ذي بدء لم يجرؤ أن ينطق ولو مرة واحدة على الملأ بأنه يريد فلسطين العربية ليجعل منها «دولة» يهودية؛ لأنه خشي المقاومة؛ فاكتفى في البداية بقوله إنه يريد فلسطين العربية «وطنا» له، فها هنا تقل المقاومة؛ لأن الوطن الواحد قد يسعه ويسع الأكثرية العربية، كما يكون البلد الواحد في سائر أقطار الأرض «وطنا» للأقلية والأكثرية على السواء؛ أما إذا أعلنت أقلية ما، في أرض ما، بأنها تريد أن تجعل من نفسها «دولة» فعندئذ تكون المقاومة. وأدرك المستعمر الصهيوني ذلك، فلم يعلن نيته عن «الدولة»، واكتفى برغبته في «وطن».
ولماذا وردت على الصهيوني عندئذ فكرة «الوطن» هذه؛ ألم يكن بالفعل قائما في وطن؟ ألم يكن مواطنا في بلد ما؛ في إنجلترا أو في ألمانيا أو في فرنسا، أو في أية داهية تبتلعه من وجه الأرض وتخفيه؟ لا، إنه أراد أن ينفرد وحده بحركة استعمارية تميزه، ولما كانت الموجة الاستعمارية التي عمت أوروبا في القرن التاسع عشر، قد صحبتها موجة شقيقة لها، هي موجة التعصب القومي، فلم يكن بد أمام الصهيوني - حتى تكون محاكاته كاملة وتامة - أن يقرن استعماره هو الآخر بجانب قومي، فكيف يكون ذلك إلا أن يجعل الأرض التي اختارها ليستعمرها وطنا قوميا له في الوقت نفسه، وبهذا تتم له العناصر كلها: استعمار وقومية معا؟! ولما كان لكل «قوم» ذوي «قومية» حدود جغرافية، فليجعل هو حدود قوميته عنصرا وديانة، فتكون قوميته هي يهوديته، كما قال لنا اليهودي المتعجرف في محطة اللد.
ناپیژندل شوی مخ