زموږ کلتور د عصر سره مخامخ
ثقافتنا في مواجهة العصر
ژانرونه
5
يستهل الشهرستاني كتابه «الملل والنحل» (القرن الثاني عشر الميلادي) بفقرة يوضح فيها منهجه في عرض المذاهب الفكرية التي ينوي عرضها، فيقول: إن هنالك طريقتين في الترتيب؛ الأولى أن نتخذ من المسائل أصولا، ثم نورد في كل مسألة مختلف الطوائف والرجال الذين تحدثوا فيها فنقارن بينهم، والثانية أن نتخذ من الرجال والمؤلفين أصولا، ثم نورد مذاهبهم في مختلف المسائل، ثم يقول إنه اختار لنفسه الطريقة الثانية.
وأراني أميل إلى الجمع بين الطريقتين، بحيث تكمل إحداهما الأخرى؛ فلقد أسلفت القول - بناء على الطريقة الثانية - إن رجال الثقافة العربية الحديثة ينقسمون طوائف ثلاثا في مواقفهم من العصر وقضاياه: فطائفة منها رفضت العصر ولاذت بالتراث وحده، كمن تطرفوا في وجوب الأخذ بمبادئ الشريعة في تنظيم الحياة، وكمن تناولوا الفكر بمثل ما تناوله مصطفى صادق الرافعي، وطائفة ثانية قبلت العصر بحذافيره؛ فإذا تعارض مع أحوال التراث العربي رفضوا التراث، مثل فرح أنطون، وسلامة موسى، وسعيد عقل، وأما الطائفة الثالثة؛ فهي التي صنعت لنا ثقافتنا العصرية؛ لأنها هي التي زودت نفسها بكلا الزادين: الثقافة العربية الأصيلة، وثقافة عصرنا، وأخرجت منهما مزيجا، هو الذي نطلق عليه بحق «الثقافة العربية الحديثة»، وفي مقدمة هؤلاء: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، وسائر من سار على هذا النهج القويم.
وعلى أساس هذه الطائفة الثالثة وحدها، نطبق أول المنهجين اللذين ذكرهما الشهرستاني، وهو المنهج الذي يتخذ من «المسائل» أصولا له؛ فما علينا إلا أن نعرض لأمهات القضايا التي جذبت انتباهنا وأثارت اهتمامنا من مشكلات العصر؛ لنرى كيف عالجها رجال الطائفة الثالثة هؤلاء، فنعلم أنهم في معالجتهم لها، كانوا عربا وكانوا معاصرين في آن معا؛ فقد كانوا عربا بما حافظوا عليه في أنفسهم من أسس هي نفسها الأسس التي قام عليها البناء الثقافي العربي منذ قديم، وكانوا معاصرين بمادة الموضوعات التي تناولوها.
وأولى القضايا هي قضية العلم، وما استتبعه من تقنية وصناعة؛ فمهما تكن لعصرنا هذا من خصائص تميزه، فهو عصر العلم التقني بلا نزاع، وما كان أحد منا ليتردد في قبول هذا العلم النظري، من حيث نتائجه، ولا من حيث تطبيقاته، وكيف له أن يتردد في حقائق من شأنها أن تقلب وجه الحياة المادية نحو الأصح والأمتع والأيسر؟! بل إننا على مدار الخمسين عاما الأخيرة، استطعنا أن نحول التعليم في مدارسنا وجامعاتنا، من تعليم كان أقله علما وأكثره مواد إنسانية، إلى تعليم أصبح أكثره علما وأقله تلك المواد الإنسانية - كما يسمونها.
إلى هنا ولا إشكال، ولكن ذلك كله - عند النظر الفاحص - لا يعدو السطح الظاهر إلى الباطن الخبيء، إن أخذنا العلم من حيث نتائجه وطرق تطبيقه في أجهزة نستخدمها في البيوت وفي المصانع؛ لم يجاوز هذه القشرة العملية الظاهرة بحيث يتغلغل إلى الداخل فيغير من وجهة النظر؛ وذلك لأننا أخذنا الثمرة ولم نأخذ الشجرة بجذورها، أخذنا النهاية ولم نأخذ المنهج الذي أدى إليها، والنظرة التي تضمنتها؛ فالعلم العصري ينطوي على أسس ليست هي الأسس التي عرفناها في بنائنا الثقافي العربي، فكان لا بد لنا من أحد أمرين: إما أن نرفض البناء الجديد كله أسسا وجدرانا، وبذلك نعزل أنفسنا عن العصر عزلا تاما، وإما أن نقبله أسسا وجدرانا كذلك، وبذلك نخرج على نظرتنا ذات الطابع المتميز، وكان هذان الموقفان هما بالفعل موقف الطائفتين الأولى والثانية على التتابع، من الطوائف الثلاث التي ذكرناها، لكن فاجأتنا الطائفة الثالثة - التي هي العمود الفقري للثقافة العربية الحديثة - بموقف وسط، فيه مرونة برغم ما فيه من مفارقة منطقية؛ وذلك أن أصحابها قبلوا العلم ورفضوا الأسس التي ينطوي عليها، كأنما هم قبلوا الجدران المقامة ورفضوا الركائز التي أقيمت عليها هذه الجدران، ولا عليهم أن يقال لهم إن ذلك لا يتسق مع الصورة المنطقية الشكلية، ما داموا قد وجدوا في هذا الموقف ما يريح الأنفس ويحل الإشكال.
وذلك أنك لا تستطيع أخذ العلم النظري الحديث، دون أن تفطن إلى أنه قد انبنى على تغيير في وجهة النظر، نقل الإنسان من البحث عن «أسباب» الظواهر، إلى البحث عن «قوانينها»، وقد كان البحث التقليدي عن الأسباب، ثم عن أسباب الأسباب، وهلم جرا، ينتهي بالفلاسفة دائما إلى ما كانوا يسمونه «بالعلة الأولى»، أو السبب الأول، وكانت هذه العلة الأولى - في تصورهم - لا تكتفي بذاتها إلا إذا كان من طبيعتها أن تحرك سواها، لكنها هي نفسها ساكنة وثابتة، والقول بالعلة الأولى يتفق مع الإيمان الديني بوجود الله، وهو إيمان رأينا أنه يقع في الصميم من البناء الثقافي العربي على طول العصور، فإذا جاءت النظرة العلمية اليوم واستغنت عن الأسباب في تسلسلها، وقنعت بالصيغ الرياضية التي تؤلف مجموعة القوانين العلمية، فقد انحصرت في «الطبيعة» ذاتها؛ كيف تتفاعل عناصرها، وعلى أي القوانين تسير؟ وطرحت من حسابها سؤالين كان لهما فيما مضى كل الخطر: ما الذي أحدث ...؟ وإلى أي غاية ...؟
ها هنا يقع الحرج للمثقف العربي الذي لا يجد بدا من مسايرة العصر في علمه وتقنياته وتطبيقاته، وها هنا أيضا وجد رجال الطائفة الثالثة التي أشرنا إليها، الشجاعة والمهارة معا ليعلنوا حكمهم بأن «العلم وحده لا يكفي» وعند هذه النقطة يكمن أعمق جذر في مواجهة الثقافة العربية الحديثة للعصر؛ فليس منا واحد لم يحس في نفسه القلق الشديد إذا طولب ببتر الطرفين من مجال النظر: طرف القوة التي أحدثت، وطرف الغاية التي من أجلها أحدثت؟ وفي يقيني أنه حتى أولئك الذين أرادوا أن يكونوا علميين تجريبيين بكل ما تقتضيه وجهة النظر الجديدة؛ لم يستطيعوا مصالحة أنفسهم، وبقي القلق في ضمائرهم يؤرقها، إذن فهذه هي نظرتنا التي تريحنا، وهي أن نضيف إلى عالم الشهادة غيبا مستورا، وإذا كان عالم الشهادة بحاجة إلى مشاهدة وتجربة لإدراكه، فالغيب إدراكه يبنى على إيمان.
ولك بعد ذلك أن تطالع ما كتبه أعلام الثقافة العربية الحديثة من هذه الزاوية، لتجد صحائفهم مليئة بهذا التطلع الذي يجاوزون به المادة، دون أن يتنكروا للعلم المؤسس على هذه المادة وطبيعتها؛ إيمانا منهم بأن التعلق بما وراء المادة، إضافة تنفع الإنسان ولا تنقص من العلم شيئا، ويكفينا هنا مثالان أو ثلاثة، نسوقها من هؤلاء الأعلام:
كان طه حسين عقلانيا خالصا، على نهج العلم والعلماء، حين أصدر كتابه عن «الأدب الجاهلي» سنة 1926م، حتى ظن الناس أنه قد ذهب مع عقلانية العصر إلى المدى الذي ينسيه روح الثقافة العربية، حتى إذا ما أقبل على الناس عام 1933م، أصدر لهم طه حسين رائعته الأدبية «على هامش السيرة» وفي مقدمة هذا الكتاب، يقول: «أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون، يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه؛ وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها .. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل».
ناپیژندل شوی مخ