47

هذه الوقائع تصحيح بين لدعوى العصبيات الجنسية يرشد العقل البشري إلى الصواب في مسألة من أخطر المسائل العالمية، ذات الأثر المتشعب إلى كل زاوية من زوايا العالم، وكل علاقة من علاقات بني الإنسان.

نعم، هي تصحيح للعقل البشري يأتي في أوانه وليس قصارى الأمر فيها أنها دفاع عن العرب أو تبرئة لهم من أقاويل دعاة العصبية المستعمرين والشعوبيين والمرددين لأصداء الغابر المهجور.

والرأي الجلي في هذه الدعاوى العصبية إذن أنها من قبيل «الإشاعات» التي تروجها المصالح إلى حين، ولكن هل هي إشاعات تبتدئ وتنتهي حول النزاع على المصالح ومفاخر الأنساب؟ وهل نفهم من بطلان الدعاوى العنصرية أن عناصر السلالات تتساوى في ملكات العقول ومزايا الأخلاق؟

إن من يقول بذلك ينقض الواقع الشاهد في الحاضر كما ينقض الواقع الذي حفظته التواريخ، فلا نكران لاختلاف الأمم في التفكير والسلوك، وإنما ينكر الباحث المنصف أن يعزى هذا الاختلاف إلى أسباب أصيلة ينفرد بها عنصر من عناصر البشر دون سائرها، وينصف الأجناس جميعا حين يعزو كل مزية إلى أسبابها الطبيعية التي تتأثر بها كل أمة تعرضت لمؤثراتها، ولا يقصر مزية من المزايا على قوم يحتكرونها في جميع الأحوال.

والمثلان البارزان اللذان يذكران في معرض التمييز بين الخصائص الجنسية كفيلان بإبراز هذه الحقيقة في نصابها الذي يستقر عليه البحث عن مزايا العقول والأخلاق بين جميع الشعوب.

هذان المثلان هما مثل اليونان واليهود: أولهما يضربونه بطلب بالعلم، وثانيهما يضربونه بطلب المال.

فعندهم أن اليونان قد امتازوا بحب المعرفة حبا للمعرفة؛ لأنهم نموذج العقل الأوروبي المطبوع على الفهم وحب الاستطلاع، وأن اليهود قد امتازوا بالمهارة الاقتصادية فلا يضارعهم فيها شعب من شعوب العالم منذ عهد بعيد.

والواقع أن شعوب العالم العريقة قد طلبت المعرفة كما طلبها اليونان، ولكن الشعوب التي عاشت في أودية الأنهار الكبار - كما تقدم - قامت فيها الكهانة القوية إلى جانب الدولة القوية؛ فتحولت المعرفة إلى الكهانة، وأحاط بمعارفها ما لا بد أن يحيط بها من أسرار الكهانة وقيود التقاليد، وهكذا حدث في القارة الأوروبية نفسها يوم قامت فيها السلطة الدينية القوية، وحجرت على المفكرين أن يتعرضوا لمباحث المعرفة في أصول الأشياء وحقائق الوجود.

والواقع أن اليهود لا يفوقون غيرهم في القدرة على تحصيل المال، وقد تسابقوا بميدان واحد في وادي النيل مع الأرمن واليونان والجاليات الشرقية فلم يسبقوها في تحصيل الثروة، ولا في تنويع مواردها، ولعلهم - لولا تضامنهم في بلاد العالم التي ينتشرون فيها - يرجعون إلى ما وراء الصفوف الأولى في المهارة الاقتصادية وفي تدبير المال على الإجمال؛ فلا احتكار لمزية قومية بغير سبب، ولا فرق بين الأمم إذا تشابهت الأسباب.

وأمة العرب بين هذه الأمم لم تقصر ولن تقصر عن أمة سابقة في مضمارها حيث تتهيأ لها أسباب العلم وتتمهد لها السبل إلى الغاية، ولن تقف هذه الغاية دون أمد من الآماد. •••

ناپیژندل شوی مخ