على أننا لو أنصفنا أنفسنا لعلمنا أن الإدراك لم يقع على كثير مما نزعم أننا ندركه، وأنه موصول بما تمليه النفس من الآمال والرغائب.
ولو أننا تعرفنا الصواب من حيث ينبغي ذلك لحمدنا مغبة البحث بعد هذه الأجيال الطوال، ولكن صرف الناس عن ذلك أنهم أخذوا المادة مأخذ العنصر الأشرف، فصاروا يتعرفون حالاتها، وسبب ذلك أنهم خرجوا إلى الوجود وهم يجهلونه، فلفتت أنظارهم المادة ومناظر أعضائها، فاختطفت بهجتها النواظر واجتذبت القلوب، فكانوا كلما بحثوا عن شيء أو نظروا إلى أمر أتبعوا خواطرهم ما وراء ذلك، من الربح المادي والفائدة التي زعموا أنها كفيلة بتهذيب حياتهم وتنظيمها.
ولكن للبحث طريقا أشرف غاية، وهو أن ينظر المفكر إلى ما وراء ذلك من الصلة التي تجعل بينه وبين الخلق الحميد سببا يكون مصدره النفس، ولا يستقيم ذلك إلا إذا نظرنا نظرا صادقا في تاريخ النفس، وأحوالها وأطوارها، وما يصدر عنها من الإحساسات التي تملأ صحيفة العمر أقوالا وأعمالا، ثم نأخذ من هذه ما هو كفيل بتهذيب نظام الحياة.
فمن تلك العواطف التي يجب أن نعرف تأثيرها في الحياة وننتفع بذلك عاطفة إجلال العظيم الجليل الحسن من أمور الحياة، التي تكفل تهذيب نظام الحكومة، ونظام الأهل ونظام الصداقة، ونظام الحب، ونظام العلم ونظام العمل، وغيرها مما يتشعب منها ويتصل بها.
وتذكر الآن معاني تلك العاطفة وهيئاتها التي تتلبس بها، ومنازلها من النفس ومآخذها من القلب، فإن لها من اللباس وهي في صدر الشاعر غير ما لها وهي في صدر الحكيم؛ لأن كل واحد ينظر إليها، ومن وراء ذلك شيء يعين وجهة النظر.
إن حب الحسن الطيب آخذ من قلب الشاعر مأخذا بليغا؛ لأنه ممتزج بيقينه، والنابغة الحكيم لا يرى اليقين إلا فيما كان مصدره الرغبة في الحق، والعالم المهذب لا يرى استقامة إلا بما كان مرجعه إلى توقير الحميد من الخلق والجليل من الأمر، فإذا أخرجنا هذه المعاني من أزيائها ازددنا يقينا في أن المثل الأعلى جماع تلك المعاني؛ لأن الحب والإجلال والتوقير هي المعاني التي تضمرها مراتب العبادة، ولكن العظمة والحق والحسن أشياء مقرونة في قرن. فإذا نظرنا إلى الوجود علمنا أن كل أجزائه أزياء لتلك القوى الخفية التي ملؤها الحق والحسن والعظمة، والتي لا نشعر بها إلا من حيث اتصالها بالحواس والإحساسات.
بين الأمر الحسن الجليل وبين القلب صلة أصلها تلك النغمة التي يحدثها وقوع القلب على ذلك الأمر، وهذه الصلة تختلف باختلاف العوامل التي تدفع القلب إليه.
وليست تلك الصلة إلا ذلك الشعور الذي يدعونه حبا وتوقيرا أو إجلالا أو عبادة، وإنما هذه المعاني مراتب من مراتبه تختلف باختلاف العوامل التي تميل بالقلب إلى الأمر الجليل. فإذا كانت الصلة شريفة السبب عالية النسب كان ذلك الشعور خليقا بأن يدعى بما هو أكثر دلالة على الفناء في شخص المعبود.
ولا تحسب أن مظاهر الروح تختفي في عصر من العصور، فلم يكتمها أن ذاعت المذاهب التي تفسر الكون تفسيرا ماديا، كأنما الكون لعبة في يد الفلاسفة، يحلها ويربطها الواحد منهم لابنه ويريه خفاياها وسر تركيبها وصنعها، فإن هؤلاء الفلاسفة قد رفعوا شأن المادة وبينوا أن لها نظاما وسننا، وأن العقل البشري مظهر من مظاهرها ونتيجة من نتائجها، وهذا صواب، ولكنه لا ينفي عنها وحدة وروحا، وقد فاتهم أن العقائد وغيرها من مظاهر الروح التي تغري المرء بالسمو إلى مراتب المثل الأعلى سنة أيضا من سننها، وأن طموح النفس إلى الجميل والجليل وكفاحها في سبيل ذلك المثل مظهر من مظاهر سنة النشوء والرقي. فمن الناس اليوم من يتخذ الاشتراكية عقيدة، ومنهم من يتخذ التهذيب وتكميل الفرد دينا، والسبب في ذلك أن النفس لا بد أن تبلغ الرضا بما يستنبطه العقل من معاني الحياة وأسبابها، وإن استعصى ذلك، ولا بد أن تصيب مخرجا لها ومجالا لقواها في الحياة.
الصيف
ناپیژندل شوی مخ