فيه، الفائز بجزيل الذخر وسنيِّ الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطِلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ (١).
ولقد كان الصحابةُ في عهد رسول الله ﷺ يفهمون القرآن بسليقتهم العربية، وإن التبسَ عليهم فهمُ آيةٍ رجعوا إلى رسول الله ﷺ فبينها لهم، ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله ﷺ استنباطَه، ما نبّه إلى معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم، قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]، فصارَ الكتاب أصلًا، والسنُّةُ له بيانًا، واستنباطُ العلماء له إيضاحًا وتبيانًا (٢).
وكان من البدهي أن تَجِدَّ قضايا لم يسبق لها مثيلٌ في عهد النبي ﷺ، فكان القرآن للصحابة ملاذًا لهم لاستنباط الأحكام الشرعية للقضايا الجديدة، فيُجمعون على رأي فيها، وقلما يختلفون عند التعارض، كاختلافهم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجُها، أهي وضع الحَمْل، أم مُضِيُّ أربعة أشهر وعشر، أم أبعدُ الأجلين منهما؟ حيث قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، وقال تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، فكانت هذه الأحوال على قِلَّتها بدايةَ الخلاف الفقهي في فهم آيات الأحكام.
فلما كان عهد الأئمة الأربعة، واتَّخذ كل إمام أصولًا لاستنباط الأحكام في مذهبه، وكثرت الأحداث، وتشعبت المسائل، ازدادت وجوه الاختلاف في فهم بعض الآيات لتفاوت وجوه الدلالة فيها، دون تعصب لمذهب، بل
_________
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١/ ٢٦).
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (١/ ٢).
مقدمة / 12