الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ فَقَط، لأَنهم جَمِيعًا متفقون على أَن الحَدِيث حجَّة شَرْعِيَّة ملزمة، وَأَن الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ أَي بِالْقِيَاسِ حجَّة شَرْعِيَّة فِيمَا لَا نَص فِيهِ.
بَين أهل الرَّأْي وَأهل الحَدِيث:
وَمعنى هَذَا الانقسام وَسبب هَذِه التَّسْمِيَة أَن فُقَهَاء الْعرَاق أَمْعَنُوا النّظر فِي مَقَاصِد الشَّرْع وَفِي الأسس الَّتِي بني عَلَيْهَا التشريع، فاقتنعوا بِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعْقُول مَعْنَاهَا ومقصود بهَا تَحْقِيق مصَالح النَّاس، وبأنها تعتمد على مبادئ وَاحِدَة ترمي إِلَى غَايَة وَاحِدَة، وَهِي لهَذَا لَا بُد أَن تكون متسقة، لَا تعَارض وَلَا تبَاين بَين نصوصها وأحكامها، وعَلى هَذَا الأساس يفهمون النُّصُوص، ويرجحون نصًّا على نَص، ويستنبطون فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَلَو أدّى استنباطهم على هَذَا الأساس إِلَى صرف نَص عَن ظَاهره أَو ترك نَص إِلَى آخر؛ وهم من أجل هَذَا لَا يتحرجون من التَّوَسُّع فِي الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، ويجعلون لَهُ مجالًا فِي أَكثر بحوثهم التشريعية.
وَهُنَاكَ فُقَهَاء عنوا بِحِفْظ الحَدِيث وفتاوى الصَّحَابَة، واجتمعوا فِي تشريعهم إِلَى فهم هَذِه الْآثَار حَسْبَمَا تدل عَلَيْهِ عبارتها، وَكَانُوا من أجل هَذَا يتحرجون من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، وَلَا يلجئون إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة القصوى، وأغلب هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء كَانُوا من أهل الْحجاز. وَرُبمَا كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أهل الْحجاز لم يشعروا بضرورة الاستزادة من فقه الرَّأْي، لِأَن مشكلات مجتمعهم الَّتِي يواجهونها لم تتبدل بِالْقدرِ نَفسه الَّذِي واجهه أهل الْعرَاق مِمَّا دفعهم إِلَى الاستزادة من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ.
وَلَقَد اتهمهم مخالفوهم بِأَنَّهُم لَا ينظرُونَ فِي علل الْأَحْكَام، فَإِذا وجدوا مَا فَهموا من النَّص لَا يتَّفق مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعقل لم يبالوا بِهَذَا، وَقَالُوا: هُوَ النَّص، واتهموهم بالجمود والسطحية وَعدم فهم روح الشَّرِيعَة ومقاصدها الْعَامَّة، حَتَّى غلبوا أَحَادِيث ضَعِيفَة أَو مرجوحة على النُّصُوص القرآنية الْعَامَّة الَّتِي أكدت على مصَالح الْعباد، وَكَانَت أهدافها تسْعَى للمحافظة على الكليات الْخمس: الدَّين وَالنَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال، بل
1 / 16