أحمد الله فاطر السماوات والأرض ففضل بعض مفطورة على بعض علوا منه تعالى للمفضلين شكره، وإحسانا للمفضولين ما ازداد في ذلك من أمره ليزيد الشاكرين في الآخرة شكرهم من تفضيله، وليذيق المفضولين لسخط إن كان منهم في ذلك من تنكيله: ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله وفعلا فعله بالمفضولين عن عدله.
يقول الله جل ثناؤه وتباركت بقدسه أسماؤه " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " 1.
وقال " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون " 2 ويقول تعالى: " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم " 3.
ويقول تبارك وتعالى " أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا " 4.
ويقول سبحانه " أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون " 5
مخ ۳۷
وقال تعالى: " ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " 6 وقال تبارك وتعالى: " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " 7.
ويقول سبحانه: " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " 8.
والحمد لله رب العالمين الذي جعلنا من أبناء المرسلين 9 الذين وصفهم بصفوة تفضيل المفضلين ونستعين مفدى الخيرات وولي كل حسنة من الحسنات على واجب شكره وكريم أثره فيما ابتدأ به من فضله وخص به من ولاة رسله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فعليه توكلنا وهو رب العرش الكريم..
(وبعد) 10 سألت سترك الله عن الإمامة، ووجوبها، وما الدليل إن كانت واجبة على ملتمس مطلوبها؟
فأما وجوب الإمامة ودليله فوحي كتاب الله عز وجل وتنزيله فاسمع لسنته في الذين خلوا من قبلك وتفهم تتقدم لوائها عن الله تعلم. فإنه يقول عز وجل ونحمده فيما نزل من محكم كتابه: " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " 11
مخ ۳۸
ويقول تعالى: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " 12. هذا يرحمك الله لكي تعتبر بمنزل ما به في أشباه حكمه في الأمم واستنانه ثم أخبر تعالى عما جعل من الإمامة في بني إسرائيل، قبل أن ينقل ما نقل منها إلى ولد إسماعيل (عليه السلام) فقال: " ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " 13.
وقال سبحانه ما أنور بيانه فيما ترك من قصص خليله إبراهيم (عليه السلام)، وما خصه الله به في الإمامة من التقديم، وما كان من دعاء إبراهيم (عليه السلام) وطلبه 14 لإبقائها من بعده في ذريته " إني جاعلك للناس إماما. قال ومن ذريتي " 15.
قال تبارك وتعالى " لا ينال عهدي الظالمين " 16 خبرا منه سبحانه أن عهده فيها إنما هو للمتقين منهم فلم يزل ذلك مصرفا بينهم. لم يخرجه الله تعالى منهم بعد وضعه له فيهم، وإنعامه له عليهم حتى كان أسر مصيره في الرسالة ما صار إلى إمام الهدى محمد - صلوات الله عليه وآله - فكان خاتم النبيين، ومفتاح الأئمة المهتدين.
ثم قال تعالى بعد هذا كله دلالة على " أن محمدا وارث خليله ": " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " 17
مخ ۳۹
فكان محمد الوارث من إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - للنبوة 18 والنبي - عليه السلام - حاز ما كان من إبراهيم وإسماعيل من الدعوة، إذ يقولان - صلوات الله عليهما -: " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم " 19.
وأبين دليل، وأنور تنزيل في وجوب الإمامة وما يجب منها على الأمة قول الله تبارك وتعالى:
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) 20 فأمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر مع ما أمر به من طاعته وطاعة الرسول، ولا يأمر تبارك وتعالى إلا بمعلوم غير مجهول، مع ما لا أعلم فيه بين الرواة فرقة وما لا أحسب كافرا ذامها عليه بتفقه من حديث الرسول - عليه السلام - في أن: " من مات لا إمام له مات ميتة جاهلية " 21 فكل هذا دليل على وجوب الإمامة وعقدها، وما في ذلك للأمة بعد رسولها - صلى الله عليه وآله وسلم - من رشدها مع ما يجمع جميع الأمم على
مخ ۴۰
اختلاف مللها وعقولها، وما هي عليه من الفرقة البعيدة في أجناسها وأصولها في تقديمها لمن يؤمن منها، وبدت محو ودمار للأعداء عنها، ويحوط حزمها عليها وينفذ حكم المصلحة فيها ويكف سرق قوتها عن ضعيفها، وعزى حكم قسط التدبير فيها في شريفها ووضيعها، استصلاحا منها بذلك للدنيا، والتماسا به لما فيه لها من التقيا فكيف يرحمك الله لطلاب تضارب الأرباب، وحلول دار الخلد من الجنة، وملتمس حكم الكتاب والسنة؟ أيصلح أولادك أن يكونوا قوما بغير إمام 22؟ هيهات " إنا " 23 الله ذاكر لمنزل أحكام، فيمن إن كانوا قوما للحدود وما عهد الله إلى الأئمة فيها من العهود؟
من لحد الفاسق والفاسقة؟
ولحكم الله في السارق والسارقة؟
من لقذاف المحصنات وتتبع إبراز المؤمنات؟
من لحكم التفصيل وإصابة خفي التأويل؟
من لهدى أهل الجهل والضلال والاحتجاج بحجج الله على أهل الإبطال؟
أما سمعت قول الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه:
" سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين
مخ ۴۱
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين 24 " مع جميع حكم الله فيها وفي غيرها، وما أمر به في أحكامه وتقيدها، فهذا في وجوب الإمامة.
هكذا وكفى من اتصف ولم يف بهذا مع حجج كثيرة تركت تكلفها، وألقيت إليك منها جملها، كراهية للإكثار، واكتفاء بالاختصار، مع آخر لا بد من ذكر معترض عدومها، وكلف تبيين ما أستتر من خفي عمومها.
فافهم لسد مذكورها، واسمع لذكر منشودها بأذن واعية من واع، وادعها دعاية انتفاع.
(تهيئة الكون) 25 إعلم أن هذا العالم وما فيه إما أن يكون شيد من أحكم الحاكمين، وأن يكون لواحد لا لاثنين، فإذا ثبت أن ما وجد من العالم وتدبيره، وما بني عليه من حكم تهيئته وتقديره، لواحد حي حكيم علي، ليس له ضد ينافيه، ولا ند يماثله فيكافيه، ولا له آفة تضره، ولا ضرورة تضطره إلى ما أحدث وصنع من بدائعه واصطنع جل ثناؤه من صنيعه عن أمرين ولشيئين.
مخ ۴۲
أحدهما: الاعتبار فيما بدا، وحكمه في ماضي إرادته فيما أنشأ.
والأمر الثاني: فإحكام تدبير منشأه، وتبليغه غاية مداه، بإحداث ما لا يكون بلوغ المدى للآية، وما يريد الحكيم من إبقاء المنشأ بأسنانه من مواد الأغذية، وحوط المنشأ من كل مفنية.
ثم يكون ذلك في لطف مدخله، وحوط فرعه من الفساد وأصله على قدر حكمة تدبير المدبر، واقتدار قدرة العليم المقدر، فلا يمكن في حكمه التدبير، ولا تدبير ذي العلم القدير، أن يزيد كون لقائه إلا مع خلقه، المقيم إبقائه من مادة الغذاء وتركيب التي للاغتذاء من الأفواه والأوعية، وبسط الأيدي العبدية لاستحالة بقاء الحمقى مع عدم ما به للبقاء، واستنكار دوام دائم، أو توهم قوام قائم، جعلهما الله لا يدومان إلا بمديمهما، ولا يقومان طرفة عين إلا بمقيمهما، ثم يقطع المديم المقيم لهما عنهما وهو مريد مع قطعه بدوامهما لما في ذلك من الجهل الذي تعالى الله عنه، وخطأ التدبير الذي بعد سبحانه منه، كنحو ما خلق من حيوان للإنسان الذي خلقه، لا يبقى إلا عادة الغذاء، وجعل غذاه لا يكون إلا بتجرد الأرض والماء وبما فطر سبحانه من حرارة النار والهواء، وبما جعل من فصول السنة الأربعة، وجعل السنة لا تكون إلا بشهورها المجتمع، وجعل الشهور لا تتم إلا بأيامها ولياليها، وما قدرها الله عليه من تواليها، وجعل الأيام لا تتم إلا بساعات أزمانها، والأزمان لا تتم إلا بحركة الأفلاك ودورانها.
(الليل والنهار) 26
مخ ۴۳
ثم فصل تعالى الليل من النهار وفرق برحمته بين الظلم والأنوار، لتمام ما أراد من إبقاء المدبر ولينتشر في النهار كل منتشر في ابتغاء حاجاته، وليسكن في الليل من فتراته، ولم يجعل الليل والنهار سرمدا، ولم يعر منهما من خلقه إلا مخلدا، فقال سبحانه " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون " 27 فجعل الليل والنهار نعمة منه.
(فصول السنة) 28
مخ ۴۴
ثم قسم تبارك وتعالى السنة فجعلها أربعة أزمانا، وفننها للبقاء إفنانا، من شتاء وصيف وربيع وخريف.
(الغذاء) ثم قدر في كل فن مع كل زمن من الأغذية ضربا يابسا فيه، ورطبا لا يصلح في غيره ولا يتم إلا بتدبيره، وجعل هذه الأزمنة عمودا لتناسل الحيوان وعلة لبقائهم إلى ما قدر لهم من الأزمان، ثم دخل الحيوان ضروبا، وجعل أغذيته شعوبا.
فمنهم الناس المغتذون بطيب الأغذية، ومنهم الطير والدواب وفنون الأشياء الحية المكتفية بأثقال الغذاء، وتيسير مؤونة الاغتذاء.
(بناء الناس) 29 بنى الناس على خلاف بنية المسخر لهم من الحيوان، وبانوا منهم بفضيلة الفكر ونطق البيان، فدبروا أغذية معايشهم بالفضيلة واستعانوا في ذلك بتصرف الحيلة، وكفى ذلك غيرهم من الحيوان.
ولولا ذلك لما بقوا ساعة من زمان، فكل مذكور من أجناس البهائم المسخرة لمنافع بني آدم فمبني على الأمور مما ذكرنا من فضيلتهم عاجزا عما جعل الله لهم من متصرف جبلتهم.
(تأديب الله لبني آدم بتأديب آباءهم) وكذلك كانوا بنو آدم في بدء مولدهم، في عجزهم عن نيل منافع غذائهم ورشدهم، وجهلهم لمصلحهم من مفسدهم.
مخ ۴۵
فلو كان الناس إذ ابتدأوا وعندما فطروا وأنشئوا، لم يجعل لهم ولا فيهم من يعدوهم، ويقوم عليهم لهلكوا ولم يبقوا وقت يوم واحد، لما يحتاجون إليه في النفاس وعند المولد من تلفيف الولدان خرقها، وتسوية أعضاء خلقها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل لهم في الابتداء آباء قاموا بكفاية المصلحة والغذاء في العلم بمصلحتهم غير حلهم 30، فغذوهم برأفة الأبوة، وبضي التربية في مولدهم إلى بلوغ قوة الرجال ، والاستغناء بنهاية الكمال.
ولا بد لهذه الآباء التي قامت على الأبناء من أن تكون في المبتدأ وعند أول المنشأ من الجهالة في نيل ما لأبنائهم من حاجة إلى تربية آبائها؟ ولا بد كيفما ارتفع الكلام في هذا المعنى من أبناء يقوم عليها آباؤها، وأيا كانوا كذلك في الأصل، إذا ابتدئ إنشاءها في مثل حد أبنائها من جهلها، وقلة اكتفائها حتى يعود ذلك إلى أب واحد منه كان مبتدأ النسل والتوالد.
ولا بد للأب الأول من أن يكون أدبه وتعليمه على خلاف أدب من يكون بعده، إذ لا أب له ولا يكون أدبه وتعليمه إلا من الله أو من بعض من يؤدبه ويعلمه تعليمه إلا من الله أو من بعض من يؤدبه ويعلمه من خلق الله (31)، فإن كان من مخلوق أخذ أدبه، فلا يخلوا ذلك من أن يكون الله أو غيره أدبه.
وكيفما أرتفع الكلام في هذا المعنى فلابد من أن يعود إلى أن خلق ابتداء أدبه من قبل الله للأول الندى ولابد للأب أو الذي هو أصل التناسل من أن يكون مؤدبا معلما للجوامع من معرفة جهات المضار والمنافع، مخلوقا على الفهم وقبول
مخ ۴۶
أدب المعلم، ليتم بذلك من فهمه نفع تعليم معلمه، فيقوم على نفسه وعلى من معه من ولده في الأخذ لهم بأدبه، وعقاب مذنبهم بذنبه، وثواب محسنهم بإحسانه وتوفيق كل على ضره ونفعه، كي يتم بذلك ما أريد لهم من البقاء، وعنهم من أضر مدة الفناء.
(ثلاث طبقات يمر بها الإنسان) كذلك هم في الخلق مخرون؟ في طبق بعد طبق مصروفون من مدة بقائهم من طبقات ثلاث إلى حين فنائهم لا يخلون منها، ولا منصرف لهم عنها.
أما الأولى منها: فطبقة التربية.
وأما الثانية: فطبقة اعتمال الأغذية.
والثالث: فاكتساب الحسنة والسيئة.
فهم في أولى طبقاتهم مكتفون بالآباء وفي الثانية مستغنون عنهم بالأكفياء مؤدبون على المعرفة بحد الأغذية والبذور، والفرق بين الضار والنافع فيها من الأمور والثالثة فمحتاجون ما كانوا فيها، وعند أول مصيرهم إلينا إلى مرشد ودليل، ذي عقاب وتنكيل، ليكون ما أريد بهم من البقاء، وجلبوا له من عمارة الدنيا وذلك عند بلوغ قوة الاحتلام، وحركة شهوة ملامسة الأنام، لما بني عليه الناس من شهوة النساء، لما في ذلك من زيادة النسل والنماء، وكل ذلك من اعتمال الأغذية وما خص به الإنسان من الشهوة في البنية.
(حد الحدود ومكافأة المثيب ومجازاة المذنب) ولا بد فيه وفي الدلالة عليه من مرشد معرف، ومحدد موقف، لأنه لو ترك الناس في الغذاء وما ركبوا عليه من شهوة النساء، بغير حد معروف، لا فرض عزم موصوف، لم يكن أحد بمعتمله.
مخ ۴۷
وما ملكه الله من أهله أولى عند المكابرة من أحد بدا، ولما فرق بين سيد وعبد، ولو كان ذلك كذلك، لصير به إلى الفناء والمهالك، ولما أنسل ولا اغتذى ضعيف مع قوي، ولا سلم رشيد من الخلق مع غوي، ولبطلت الأشياء وفسدت الدنيا ولكنه جل ثناؤه وتباركت بقدسه أسماؤه جعل للناس في البدء والدا (32)، وحد لهم به في الأشياء حدا أدبهم جميعا عليه، ونهاهم عن المخالفة له فيه، ثم جعل للمتأدبين فيه بأدبه ثوابا، وعلى المخالفين إذ ما نهاهم عنه عقابا (33).
فكان كل إنسان أولى بمتعلمه، واثق بما ملكه الله من أهله فلو تركوا فيه بغير إبانه دليل، أو كانوا خلوا في خلاف له من التنكيل، لوثب بعضهم فيه على بعض، ولفنى أكثر من في الأرض، لما يقع في ذلك من الحروب واغتصاب النساء والنهوب، ولكان في ذلك لو كان من الفساد في معرفة الأب الرحيم والأولاد ما يقطع بعاطف الرحمة، وما جعله الله سببا للنسل والتربية، إذ لا يعرف والد ولدا ولكن وضع للنكاح في ذلك حدا بين كنهه ومداه، ونهى كل امرئ أن يتعداه ليعرف كل إنسان ولده فيغذوه بعطفه، وفي عطفه رأفة الأبوة عليه، فلا يخفوه ولا يعدوه وذلك ليتم ما أريد بالناس من التناسل والبقاء إلى غاية ما قدر لهم ودبر من الانتهاء.
وإذا كان الناس على ما ذكرنا مأمورين في الغذاء، ومحدودة لهم وعليهم الحدود في مناكحة النساء، لم يكن لهم أن يتناسلوا من ذلك شيئا رفيعا كان منه أو دنيئا إلا على ما جعل الله لهم، وقدر حكمه بينهم، وإذا كان كذلك، وحكم الله فيه ما حكم به من ذلك، لم ينل طالب منهم مطلوبة، ولم يدرك محب فيه محبوبه إلا
مخ ۴۸
بشديد معاناة وعسير مأساة من العلاج والاعتمال، وحركة كسب الأموال التي بها يوصل إلى مطلوب الغنى والسبيل إلى مناكحة النساء، ثم ليس لهم تناول معتمل ولا حركة في عمل عليهم أو حكم بخلافه فيهم.
ثم إذا صاروا إلى النكاح على ما أمروا به إلى الحد ما لبثوا أن يصيروا إلى عيال وولد يحتاجون لهم إلى أقوات التغذية، وأنواع ضروب متاع التربية، مع حاجتهم للأولاد والأنفس إلى ما يحصنهم من الحر والبرد من الملبس، وما يستر عورات النساء والرجال وما يظلهم من شعائر للإكثار، وما يحتاجون إليه من اتخاذ الأبنية، وما لا بد لهم من أمتعة للأقبية وكل ذلك من حوائج الإنسان يدخل فيه معهم أشد التنافس لما يعم جميعهم من الحاجة إليه لظاهر ما لهم من المنافع فيه فلابد في كله وجميع ضروب معتملة من أن يقاموا فيه على حد معلوم، فلا يلزمه فيه فرض حكم معزوم، وإلا اقتتلوا عليه وتواثبوا وتناهبوا فيه واغتصبوا، أو فتنوا فلم يبقوا، وصاروا إلى خلاف ما له خلقوا.
ولما كانوا إلى ما ذكرنا مضطرين، وفي أصل الفطرة عليه مفطورين، تفرقوا في أنواع الصناعات واحتالوا للملبس بضروب الساعات، فلم يكن لهم عند ذلك بد في البدء الأول من معلم يقوم عليهم، يبين لهم أقدار مواقع مصالح ذلك فيهم ليتعاملوا بها وعليها، ويصيروا إلى مصالحهم فيها وإلا فسدوا. وفتنوا وهلكوا ولم يبقوا.
(شروط العلم) ثم لا بد لمعلمهم وولي أدب تعليمهم من أن يكون عالما بجهات منافع الأشياء، مأمونا عليهم في الدين والدنيا، لأنه إن كان على غير ذلك كان مثلهم يسئ ويجهل في الأمور جهلهم، ثم لا يكون مع هذا يجب عليهم أتباعه، وهول ما تقدم من أمره واستماعه، مع ما يدعوهم إليه من الكف عن كثير مما يحبون ويأمرهم به من الدخول في كثير مما يكرهون، إلا بأن يكون لهم في خلافه مخوفا
مخ ۴۹
بعقاب، وفي الانتهاء إلى معهود أمره موجبا لثواب، وذلك لئلا يكون أن ينقادوا له حتى يؤدبهم ويقبلوا قوله إلا باقتراف درجة العاصي والمطيع، وتباين مكان المحسن عنده والمسئ.
وذلك فيما لا يدخله تعرف، ولا يفرق بينه مفرق، إلا من حيث قلنا، وعلى ما مثلنا، ولا يكون مخوفا العاصي بعقابه، ولا داعيا المطيعين إلى ثوابه، إلا بدلائل إعلام ببينة، بفرق بين المدعي منزلته وبينه، ولا يجوز أن تكون علامة مما يقدر على مثلها، فلا يؤمن على فعلها، وممكن نيلها لمدعي منزلته ظلما وعدوانا وفسقا وطغيانا، ولا تكون للدلالة عليها، وشاهد عليهم للإبانة فيها إلا من الله لا يحدث غير الله خلقها، ولا يحسن من هي عليه بدلالة بخلقها وكانت من الله كغيرها من دلائله في ضوء منبرها، وإسفار نور مبينها، وإقامتها من الأئمة بعينها وانقطاع عدد المعتلين على الله في رفضها بعقد، وكان فيهم لما نص من علم دلائل قربتها.
(إرسال الرسل والنبيين) وكذلك فعل الله بالرسل - صلوات الله عليها - وأوصاهم وأثابهم عن غيرهم بنور دلائله وضيائها ثم فرق كل ملبوه من الرسل والأوصياء ومن حدث بعدهم من خلفاء الأنبياء في علم الدلائل والحجج، بقدر ما لهم عند الله من الدرج.
(آيات وعجائب الرسل) فجعل دلائل المرسلين وشاهد أعلام النبيين أكبر بيانا وأقوى سلطانا وأفلح في الحجة للمستنكرين، وأقطع لأخاليل غدر المعتدين فكان من ذلك عجائب موسى - صلى الله عليه - في فلق الله له ولمن كان معه كان معه البحر ليبصرهم إلى ما كان من قبل ذلك من عجيب آياته وما أرى المضرين من فعلاته في الضفادع والقمل والدم وما يعظم قدر مبلغه قدر مبلغه عن كل معظم.
وعجائب عيسى - صلى الله عليه - التي كانت تصل في أصغرها للأحلام من إحيائه الموتى وإبرائه للكمة والبرصاء، وإيتائه لهم بما يأكلون وما يدخرون
مخ ۵۰
وإخباره لهم عن كثير مما يضمرون، ثم آيات محمد - صلى الله عليه - وما نزل من حكمة وحيه إليه، التي لم يقو لمكافاته فيها من أضداده ضد، ولم يكن لحكيم منصف عند سماعها من قبولها بدمع عجيب آياته في الشجر وإجابته (34) وما كان من شأن الشاة المسمومة (35)، وإنبائه سرائر الغيوب (36) المكتومة، وإطعامه في سعة كف لأكثر من ألف وألف (37).
مخ ۵۱
(الأوصياء والأئمة وما في علي عليه السلام) فبانت الرسل - صلوات الله عليها - من الأوصياء ما جعل الله من هذه الدلائل لهم وفيهم وبانت للأوصياء من الأئمة ما خصها الله من التسمية وعلما يعرف لها عند رسلها من المنزلة وما كانت الرسل تليها به أقوال التفضلة كنحو ما جاء في علي - عليه السلام (38) - عن الرسول.
مخ ۵۲
- صلى الله عليه وسلم - وما كان من أقواله المشهورة المعلومة منه كقوله:
" من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه " (39).
وكقوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت قاضي ديني ومنجز وعدي " (40) مع ما يكون عند الأوصياء من علمه بحوادث
مخ ۵۵
الأشياء وما يلقون بعد الأنبياء من شدائد كل كيد ودول كل جبار عنيد، أمرا خاصا من الأنبياء لمن خلفهم بعدهم من الأوصياء، كنحو ما ألقى الله تعالى إلى الرسول من اصطفائه علي واختياره وتناول المرادي (41) له فيما تناوله به من حيلة واغتراره وخبره عن طلحة (42) والزبير (43) وعائشة (44) ومعاوية (45) وما كان ينادي به في خطبه
مخ ۵۶
من دولة بني أمية وما كان يخبر به من عجيب الأنباء، ويقص على الناس من قصص الأنبياء وما كان به بائنا ولغيره فيه مباينا من بأس الإقدام في القتال ومنازلة مشاهير الأبطال، التي كان بعد عليها إقدام المقدمين، ويهاب اصطلاء نارها كثير من خيار المسلمين مع تأول أوليائه فيه لكثير من آي القرآن، مع التي لا
مخ ۵۹
يشك في سبقه إلى الله فيها بالإيمان، والله يقول جل ثناؤه وتباركت بقدسه أسماؤه:
" والسابقون السابقون أولئك المقربون " (46).
فكفى بهذه الآية لو لم يكن معها غيرها وبما بين عنه من وحي كتاب الله تنزيلها على الوحي دليلا، وفي الدلالة عليه تنزيلا.
فكيف بكثير الدلائل عليه؟ ودواعي شواهد الوصية إليه من قوله جل ثناؤه:
" لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير " (47) مع كثير آيات القرآن ودلائل وحي الفرقان من تفضيله له بمثالة للأقران وسبقه إلى الله بكرامة الإيمان، مع التي كان بها نسيج وحده، وفيها مباينا لجميع من كان معه في حده من جمة أعوان العلم، ومعرفة أديان الأمم، وفضل بيان اللسان، ومعرفة أسرار القرآن، وهذه خاصة من حالاته، أحد أعلام الإمام بعده ودلالته التي لا توجد، وإن جهد ملتمسها، ولا يقتبس إلا من الإمام مقتبسها.
فجعل الله جل ثناؤه وتباركت بقدسه أسماؤه ما قدمنا ذكره وأثبتنا في الحجة أمره من خاص دلائل الأوصياء، كرامة خصهم بها بعد الأنبياء وأبانهم بها من الأئمة، واحتج بها لهم على الأمة، ثم أبان للأئمة من بعدهم، ودل للأمة فيهم على رشدهم بدليلين مثبتين، وعلمين مصيبين، لا يحتملان لبس تغليط، ولا زيغ شبهة تخليط، لا يطيق خلعهما بعد، ولا يحسن خلفهما محسن، ولي ذلك منهما وفيهما.
فمظهر دلالة صنعه عليها الله رب العالمين وخالق جميع المحدثين، وهما ما لا يدفعه عن الله دافع، ولا ينتحل صبغة مع الله فيما بين من القرابة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم - وما جعل من احتمال كمال الحكمة فيمن الإمامة فيه وحد الحكمة وحقيقة تأوليها درك فائق للأحكام كلها، فاسمع لقول الله - جل ثناؤه -
مخ ۶۰