د ملتونو د پرمختګ نفسياتي سننونه
السنن النفسية لتطور الأمم
ژانرونه
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
المقدمة
الباب الأول: صفات العروق النفسية
1 - روح العروق
2 - حدود تغير أخلاق العروق
3 - نظام مراتب العروق النفسي
4 - تفاوت الأفراد والعروق التدريجي
5 - تكوين العروق التاريخية
الباب الثاني: كيف تتجلى الأخلاق النفسية للعروق في مختلف عناصر الحضارات
ناپیژندل شوی مخ
1 - عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة
2 - كيف تتحول النظم والديانات واللغات
3 - كيف تتحول الفنون
الباب الثالث: اشتقاق تاريخ الأمم من أخلاقها
1 - كيف تشتق النظم من روح الأمة
2 - تطبيق المبادئ السابقة على البحث المقارن في تطور الولايات المتحدة بأمريكة والجمهوريات الإسبانية الأمريكية
3 - كيف يؤدي تغيير روح العروق إلى تغيير تطور الأمم التاريخي
الباب الرابع: كيف تتغير أخلاق العروق النفسية
1 - شأن الأفكار في حياة الأمم
2 - شأن المعتقدات الدينية في تطور الحضارات
ناپیژندل شوی مخ
3 - شأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم
الباب الخامس: انحلال أخلاق العروق وانحطاطها
1 - كيف تذوي الحضارات وتنطفئ
2 - خلاصات عامة
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
المقدمة
الباب الأول: صفات العروق النفسية
1 - روح العروق
2 - حدود تغير أخلاق العروق
ناپیژندل شوی مخ
3 - نظام مراتب العروق النفسي
4 - تفاوت الأفراد والعروق التدريجي
5 - تكوين العروق التاريخية
الباب الثاني: كيف تتجلى الأخلاق النفسية للعروق في مختلف عناصر الحضارات
1 - عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة
2 - كيف تتحول النظم والديانات واللغات
3 - كيف تتحول الفنون
الباب الثالث: اشتقاق تاريخ الأمم من أخلاقها
1 - كيف تشتق النظم من روح الأمة
2 - تطبيق المبادئ السابقة على البحث المقارن في تطور الولايات المتحدة بأمريكة والجمهوريات الإسبانية الأمريكية
ناپیژندل شوی مخ
3 - كيف يؤدي تغيير روح العروق إلى تغيير تطور الأمم التاريخي
الباب الرابع: كيف تتغير أخلاق العروق النفسية
1 - شأن الأفكار في حياة الأمم
2 - شأن المعتقدات الدينية في تطور الحضارات
3 - شأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم
الباب الخامس: انحلال أخلاق العروق وانحطاطها
1 - كيف تذوي الحضارات وتنطفئ
2 - خلاصات عامة
السنن النفسية لتطور الأمم
السنن النفسية لتطور الأمم
ناپیژندل شوی مخ
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
يسيح الفيلسوف الاجتماعي غوستاف لوبون في الأرض كثيرا فيضع في سنة 1884 كتابه الخالد «حضارة العرب»، ويضع في سنة 1887 كتابه الخالد «حضارات الهند»، وفي سنة 1889 يعززهما بثالث ، يعززهما بكتاب «الحضارات الأولى»، ونترجم السفرين الأولين اللذين هما أهم من السفر الثالث، ومن السفر الثالث هذا ننقل إلى العربية الجزء الخاص باليهود، وهو أطرف أجزائه.
وفي تأليف تلك الكتب يعتمد لوبون على ما لاحظ في رحلاته وترصد، ومن تلك الكتب، على الخصوص، يستنبط ما بدا له من سنن الاجتماع فيضع في سنة 1894 كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم»، ويضع في سنة 1895 كتاب «روح الجماعات»، وفي كلا الكتابين يتحرر لوبون من جميع المذاهب الاجتماعية فينتهي إلى نتائج مخالفة لما ألفه العلماء من المبادئ والآراء، فيعد، بحق، مجددا في علم النفس وعلم الاجتماع، إماما موجها فيهما.
وعالج لوبون جميع الموضوعات التي تناولها بالبحث في كتبه ببراعة ودقة فوصل إلى حقائق رائعة، وامتاز لوبون في ذلك بمعرفته للإنسان وتعبيره عما يوحي به العقل والذوق السليم من المناحي، وظهر لوبون في كل ما كتب عبقريا مبتكرا حر الفكر مستقلا لبقا إلى الغاية؛ ولذلك كان من الصواب أن قيل: «لا جدال في أن لوبون أعظم عالم نفسي فرنسي في الزمن الحاضر بما تذرع به من صبر، وما اتفق له من بصيرة نفذ بها روح العصر».
وفي كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» بحث لوبون في صفات العروق النفسية وتغير أخلاقها ومراتبها، وفي تفاوت الأفراد والعروق، وفي تكوين العروق التاريخية، وفي كون عناصر الحضارة مظهرا خارجيا لروح الأمة، وفي تحول النظم والمعتقدات والفنون، وفي تأثير المبادئ في حياة الأمم، وفي تأثير الديانات في تطور الحضارات، وفي شأن العظماء في تاريخ الأمم، وفي ذوي الحضارات وانطفائها.
ويغدو مبدأ تساوي الأفراد والعروق الذي بشر به فلاسفة القرن الثامن عشر من العقائد الثابتة لدى أكثر شعوب أوربة على الخصوص، ويبلغ هذا المبدأ من النفوذ والتأثير في هذه الشعوب ما قلب به العالم الغربي رأسا على عقب، وعلى هذا المبدأ تقوم نظريات الاشتراكية، وعلى ما دل عليه العلم الحديث من وهن في ذلك المبدأ لم يجرؤ أحد على مناهضته سوى قليل من العلماء، ولاح لوبون على رأس هؤلاء؛ فبين في كتابه «السنن النفسية لتطور الأمم» أن الحضارات كلما تقدمت تفاوتت الشعوب والأفراد، وأن البشرية تسير إلى التفاوت لا إلى المساواة، ومما وجده لوبون أن العروق تختلف فيما بينها بما تشتمل عليه من صفوة الرجال، وأن الحضارات تؤدي إلى تفاوت الأفراد بالتدريج من الناحية الذهنية، وأن الأمم كلما تقدمت في ميدان الحضارة تفاوت الجنسان فيها بنسبة هذا التقدم.
ناپیژندل شوی مخ
وكتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» عظيم الشأن، وهو لهذا العظم اتفق له من الأثر البالغ في أقطاب السياسة ما رأوا معه اتخاذه خير رفيق لهم، حتى إن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، ثيودور روزڨلت، كان يستصحبه في حله وترحاله؛ مستلهما إياه في سياسته؛ كما صرح بذلك غير مرة.
وأروع كتب لوبون الاجتماعية هو ما وضعه قبل الحرب العالمية الأولى، وما وضعه لوبون بعد تلك الحرب اعتمد فيه على مؤلفاته السابقة مكررا ما جاء فيها من المبادئ والنظريات على العموم، وقد نقلنا إلى العربية معظم تلك المؤلفات، ولا سيما «حضارة العرب، وحضارات الهند، واليهود في تاريخ الحضارات الأولى، وروح التربية، وحياة الحقائق ...»، فرأينا أن نتم عملنا فنترجم كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» وكتاب «روح الجماعات» أيضا، وهذا ما قمنا به فعلا؛ فبذلك نكون قد أدخلنا إلى المكتبة العربية أمهات كتب لوبون؛ التاريخية، والاجتماعية، والنفسية.
وكان لوبون قد وضع كتاب «الإنسان والمجتمعات وتاريخهما وأصولهما» في مجلدين قبل سياحاته العظيمة وقبل تأليفه كتاب «حضارة العرب» وغيره من تلك الكتب، فاستند في كتب الحضارات تلك إلى بعض القواعد المقررة في ذلك الكتاب، وقد كنا راغبين في ترجمة ذلك الكتاب أيضا لو لم نر أن لوبون غير كثيرا من آرائه وأفكاره فيه بعد رحلاته تلك، وعند تأليفه للكتب التي نقلناها، وفي هذه الكتب المترجمة - ومنها كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» على الخصوص - تجد عرضا وتلخيصا لما في كتاب «الإنسان والمجتمعات» ذلك من مبادئ معدلة، فلا اضطرار إلى ترجمته إذن.
وفي سنة 1913 يترجم المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» هذا بعنوان «سر تطور الأمم»، والموضوعات الاجتماعية كانت في ذلك الحين، كما هي الآن، غير مطروقة كثيرا، ونقابل بين الأصل الفرنسي وتلك الترجمة فنجد أن زغلول باشا، وإن بذل جهدا مشكورا في المحافظة على المعاني، لم تخل ترجمته تلك من التجوز والعجمة والغموض، فلذلك، ولنفاذ ما طبعه زغلول باشا من نسخ ترجمته، ولما وجدت من ضرورة ترجمة كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» ترجمة تتساوق هي وما ترجمته من كتب لوبون في السنين الأخيرة على الخصوص معتمدا على النص الفرنسي الأخير الذي توفي لوبون معولا عليه - نقلت هذا الكتاب النفيس على الوجه الذي أعرضه به على القراء، والله الموفق.
نابلس
مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
تطبيق ما جاء في هذا الكتاب من المبادئ على بعض حوادث الحرب الأوربية
نشر هذا الكتاب للمرة الأولى منذ عشرين سنة، ولم تنله يد التغيير قط في تلك الأثناء، وكانت غايته تعيين بعض السنن النفسية لتطور الأمم.
وما كان ليفترض حينئذ أن انقلابا عالميا سيجيء مصدقا لما اشتمل عليه هذا الكتاب من السنن التي استنبطها فيلسوف من عقدة التاريخ.
وتدل تلك السنن على أن عددا قليلا من العوامل النفسية الثابتة يسيطر على حياة الأمم فضلا عن سيطرة بعض المؤثرات التي هي وليدة تقدم الحضارة، ويرى من خلال الزمان والمكان تأثير تلك السنن في كل زمان ومكان، وكان لتلك السنن الأثر البالغ في قيام أعظم الدول، وسقوط هذه الدول.
ناپیژندل شوی مخ
ولم تكن القوى النفسية التي لها ذلك التأثير الكبير صادرة عن العقل، وهذه القوى هي التي تسيطر على جميع العقول، وفي الكتب وحدها تجد أن المعقول يقود التاريخ.
وإذ كانت علل ما يملأ حياة الأمم من اصطراع غريبة عن العقل فإنك ترى أن أي تقدم في العلم لا يلطف ضراوته، وعلى ما تبصر من نمو العقل باتساع أفق المعرفة تجد المشاعر والأوهام والشهوات التي سيرت الناس منذ دور الكهوف الأولى ظلت ثابتة كما هي، فالحق أنه لا دور للحقد والحب والحرص والطمع والعجب.
والأمم - وهي لا كبير تأثير للعقل فيها - مسيرة بأخلاق عرقها؛ أي بمجموع المشاعر والاحتياجات والعادات والرغبات التي هي دعائم روحها الأساسية، وتمن هذه الروح القومية على الأمم بثبات دائم مع تقلبات الحوادث على الدوام.
وهنا نلمس سر التاريخ، وهنا نلمس القوى الخفية التي توجه مجراه.
والعرق بالحقيقة هو الذي يعين الوجه الذي تسير به الأمم بفعل الحوادث وتقلبات البيئة.
وتهيمن روح العروق على مقادير الأمم حين تسيطر على النظم والقوانين وعلى عزائم الطغاة.
وتعين معرفة روح العروق على حل ألغاز التاريخ، وتخبرنا معرفة روح العرق بأسباب العظمة والانحطاط، وبالعلة في نماذج أمم وعجز أمم عن ذلك، والعرق هو حجر الزاوية الذي يقوم عليه توازن الأمم، والعرق هو الذي يعين الحد النفسي لطموح الفاتحين ولما يبتدعونه من أخيلة العظمة والتصدر. •••
وشأن العرق يرسخ في حياة الأمم رسوخا عظيما على الدوام، فلا يجوز جهله، وعلى ما تراه من بيان الكتب الدينية القديمة لقوة هذا الشأن تبصر الثوريين الغافلين عن الماضي يجادلون في هذه القوة.
بيد أن على من يرغب في اكتناه مبدأ العرق أن يعرف ما أسفر عنه علم الحياة الحديث من الاكتشافات.
ويكفي الاصطراع الأوربي لإثبات خطأ النظريين الذين يحاولون إنكار روح العروق، ومصدر هذا الاصطراع الرئيس بالحقيقة هو ادعاء إحدى الأمم بالصدارة لما افترضته من خصال عرقها فاعتقدت أنها مدعوة إلى السيطرة على العالم، ومن أسباب هذا الاصطراع أيضا ما كان من الحقد الموروث المفرق بين أمم مختلفة الأصول؛ كالنمسويين والصرب والروس على الخصوص.
ناپیژندل شوی مخ
وينشأ ذلك الاصطراع، بوجه خاص، عن الأوهام التي نبتت في روح مؤرخي الألمان ومؤلفيهم بفعل تصورهم لمبدأ العرق تصورا خاطئا.
ووقع ذلك التصور في زمن كان نقص المعارف الأنتروپولوجية فيه يؤدي إلى الظن بأن بعض العروق في أوربة ظل خالصا من شائبة الاختلاط مع تعاقب القرون.
ولو لم تظل الأفكار التي نشأت عن النظريات الوهمية قائمة بعد نقض هذه النظريات ما وجدت خطأ كهذا باقيا في أيامنا، والحق أن ما أدت إليه الأنتروپولوجية الدقيقة من ملاحظات يثبت عدم وجود عروق خالصة لدى الأمم المتمدنة.
أجل، لا يزال كثير من البقاع في إفريقية وآسية مشتملا على عروق خالصة، غير أن أوربة لا تحتوي سوى ما سميته بالعروق التاريخية، وهذه العروق التاريخية هي وليدة انصهارات مختلفة نشأت عن مصادفات الهجرة والفتوح، وإذا كانت صفات هذه العروق النفسية الموروثة قد غدت كثيرة الثبات فلأن حواصل مثل تلك الانصهارات قد خضعت في قرون كثيرة لحياة جامعة منطوية على نظم مشتركة، وعلى مصالح مشتركة بوجه خاص.
وإذ تكررت مؤثرات كتلك منذ الدور الذي تخلصت فيه الأمم من مغازي الفتح، فانتهت إلى الوحدة السياسية، فإنها أوجبت حدوث أخلاق العروق الحاضرة، واليوم قد توطدت هذه الأخلاق لدى معظم الأمم، وإن لم يرجع زمن ظهورها إلى أجيال ما قبل التاريخ.
وإذ إن صفات العروق النفسية متباينة أشد التباين فإنها تتأثر تأثرا مختلفا بفعل المؤثرات الواحدة، وفي الغالب ينشأ عن ذلك عدم تفاهم مطلق، وبدا عدم التفاهم هذا منذ أدت سهولة الصلات السريعة إلى تماس الأمم.
وكانت النتيجة الأولى لهذا التقارب هي إظهار الفروق النفسية التي تفصل بين الأمم وما ينشأ عن ذلك من تباين في إدراك الأمور.
وأتت الحرب الأوربية بدليل آخر على درجة ما يمكن أن يكون من تباين نفسي بين أمم ذات حضارة واحدة في الظاهر صاحبة أفكار متقابلة منذ طويل زمن حائزة لبعض المصالح المتماثلة.
وتلك الأمم غير متعارفة بالحقيقة، وليست حكوماتها أحسن معرفة لها من ذلك مع ما يزودها به من المعلومات سفراؤها وملحقوها العسكريون ووثائقها الكثيرة.
وكانت ألمانية تجهل روح إنكلترة، ولم يكن جهل فرنسة لروح ألمانية أقل من ذلك، وخفيت نفسية سكان البلقان على معظم السياسيين الأوربيين، فاقترف هؤلاء السياسيون أفدح الأغاليط لما كان من تفسيرهم لتلك النفسية بأفكارهم التي هي أفكار رجال متمدنين، فلروح العروق من الحدود ما يتعذر اقتحامه.
ناپیژندل شوی مخ
وعدم الإدراك ذلك لأنه يسود ما بين مختلف الأمم من صلات، ونحن لأننا نود أن نحكم في أمر تلك الأمم بمشاعرنا وأفكارنا الشخصية، كان من الصعب أن يبصر سير الأمم الأجنبية وسادتها في حال ما، ولنا في الحرب الأوربية عدة أمثلة؛ ومنها أن ما لدى أولياء الأمور بألمانية من غفلة نفسية أدى إلى تأليب بلاد كإنكلترة وإيطالية عليها ظانين أن هذه البلاد مما يجب أن يعتمد على صداقته أو حياده.
وما كان لروح التوتون (الألمان) النفعية أن تبصر أن احترام إمضاء المعاهدات، الذي هو أساس جميع الحياة التجارية بإنكلترة، مما يوجب قيام هذه الأمة المسالمة ضد ألمانية، وأن اضطرار بلجيكة الضعيفة إلى الدفاع عن نفسها يحملها على الوقوف في وجه قاهرها القوي.
وعدم إدراك مثل هذا تجلى فينا أيضا؛ فقد نسينا ما قد يكون لروح الأموات من السلطان الهائل على الأحياء، فاعترانا الدهش من صولة تلك الجيوش الهمجية التي حرقت المدن والآثار بدم بارد، وقتلت السكان العزل من السلاح بدم بارد، وما كان الألمان في ذلك إلا مكررين أعمال أجدادهم في ذلك. نعم، لاح أن الحضارة ألانت طبائع الألمان، بيد أن ما كان منسيا من القسوة في أيام السلم، لتعذر إبدائه، لم يزل، فظل التراث سليما. •••
ومن الطبيعي أن تظل المعضلة التي أثارها اختلاف العروق وما ينجم عنه من نفور باقيين بعد الحرب، فيكون أشد المصاعب في المستقبل تعديل زمر الأمم المتحاربة في جميع أوربة، ولا سيما بلاد البلقان.
وتبدو صعوبة تلك المعضلة عند النظر إلى وحدة الدين واللغة والمصالح بأشد مما قد تبدو في قيام القومية على العرق وإن كان على وجه أبسط من ذلك في هذه الحال، ومما يؤسف عليه في أمر دوام السلم الأوربية القادمة أن كان من النادر اجتماع هذه العناصر الأربعة في أمة واحدة.
وسيظل تباين العروق، لطويل زمن، مصدر اصطراع بين الأمم الناقصة التمدن على الخصوص، كأمم البلقان التي لم يسطع شيء أن يسكن أحقادها المتأصلة.
ولا يؤثر الزمان في تباين العروق إلا بأقصى البطوء، وإذا لاح أحيانا تغير أمة فإن بعض الأحوال لا يلبث أن يكشف أن هذه التغيرات لم تكن في غير الظاهر، وأنها لم تتناول غير ما في الشخصية من النواحي الثانوية.
ولا تكفي تقلبات البيئة ولا الفتوح لتغيير روح الشعب، ولا يمكن تحول الشعب إلا بالتوالد المكرر، وما كانت الأرض ولا النظم ولا الديانة لتغير روح العرق.
على أن التوالد لا يكون مؤثرا إلا إذا وقع بين أمم ذات نفسية متقاربة، ولا يكون التوالد إلا مضرا بين أمم ذات نفسية شديدة الاختلاف، ولا يكون لتزاوج البيض والسود والهندوس والپوروج (أصحاب الجلود الحمر) نتيجة سوى انحلال ما في حصائل هذا التزاوج من عناصر الثبات النفسي الموروث، وذلك من غير إحداث ما يقوم مقامها، وتظل قيادة الأمم المولدة؛ كأمم المكسيك، وأمم الجمهوريات الإسپانية الأمريكية، أمرا متعذرا؛ لأنها مولدة فقط، وقد أثبتت التجربة أن أي نظام أو تربية لم يقدر على إخراج هذه الأمم من الفوضى. •••
قلنا آنفا إن من أسباب الحرب الأوربية الرئيسة هو ما تسرب في أدمغة الألمان بالتدريج من الفكر القائل إن الألمان قوم عالون أعدوا لفتح العالم.
ناپیژندل شوی مخ
وإني، حين درست في أحد فصول هذا الكتاب أمر انتشار الأفكار وتأثيرها في حياة الأمم، بينت كيف أن الفكر لا يعتم أن يكون ذا سلطان على طبقات الأمة العميقة فيغدو كالسيل المنهمر بعد أن يلازم المنطقة النظرية المتحولة للرأي الصرف، وهنالك لا يستطيع الزعماء الذين أبدوه أن يسدوا مجراه، والزعماء هم الذين يأتون بناحية الفكر المجردة، والجماعة هي التي تحول الفكر إلى أعمال.
وبذلك الجهاز قام اعتقاد ألمانية الحديثة بأفضليتها كما قامت عبادتها للقوة، وما انفكت كتيبة من الأساتذة والفلاسفة والكتاب والجمعيات الوطنية تنشر في ألمانية مثل الصدارة الأعلى والتعطش إلى الفتح منذ خمسين سنة.
وببطء، ولكن مع قوة، نفذت تلك النظريات في روح الشعب الألماني فلم تنشب أن صارت من العقائد ذات المسحة الدينية، وما فتئت ألمانية تبدو قانعة بأن الله دعاها إلى تجديد العالم واستغلاله.
نما ذلك المعتقد، واتفق له من القدرة ما شهر الإمبرطور به الحرب في زمن لو نظر فيه إلى أن أسطوله أدنى من أسطول إنكلترة لرأى عدم استعداده لها، ولوجد أن الانتظار خير من الإقدام عليها لا ريب. •••
وأظهرت الحوادث الحاضرة صواب كثير من المبادئ الأخرى المعروضة في هذا الكتاب؛ ومن ذلك أنني حين درست ما تم في القرون القديمة من مختلف الفتوح، ولا سيما فتح الرومان لبلاد اليونان، سألت عن استطاعة بعض الملكات المتوسطة، إذا ما تصرف فيه مثل عال قوي، أن يمنح إحدى الأمم قدرة على تقويض حضارات رفيعة عندما يكون نمو هذه الحضارات الذهني قد أبطل صفات الخلق.
والمستقبل سيخبرنا بقدرة ألمانية على تحقيق تلك السنة التاريخية التي وردها كثير من البلدان القديمة كمصر وفارس واليونان وإيطالية، إلخ.
أجل، إنك لا تجد خلفاء للعظماء الذين شرفت بهم ألمانية فيما مضى، بيد أن ألمانية علمت نظام المراتب، وأنها عرفت أن تنتفع بجميع قواها مهما صغرت، وأنها استطاعت بفضل نظامها الحربي الشديد أن تجعل من نقع أبنائها المتوسطين كتلة هائلة مهددة لسلم العالم.
وفي المستقبل ستكون معضلة الحياة لدى الأمم ذات الحضارات الرفيعة أن تنضد فوق ثقافتها الذهنية تربية للخلق صارمة وتدريبا للإرادة على الخصوص، تينك القوتين القادرتين على ضمان استقلال الأمم.
ومما قلته غير مرة في هذا الكتاب، وفي كتب لاحقة أخرى، أن قوة الأمم بأخلاقها لا بذكائها، والذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، والأخلاق تعلم السير ومكافحة ضروب الاعتداء بنجاح. •••
ومن ركام خفي موروث تتكون صفات الخلق التي يتألف من مجموعها ما للأمة من روح قومية، ومن هذه الصفات تتركب مجموعة ثابتة من المشاعر والتقاليد والمعتقدات مشترعة في غضون الأجيال لضرورات تخضع لها حياة كل أمة.
ناپیژندل شوی مخ
ويتطلب بناء الروح القومية عدة قرون على العموم، وإذا ما رسخت الروح القومية ظلت في مأمن من كل مس طويل زمن، وقد حبط عمل الثورة الفرنسية الكبرى في تغيير روح فرنسة على ما تذرعت به هذه الثورة من أقسى الوسائل، فلم تعتم مؤثرات الماضي أن بدت ثانية فأدت إلى أكثر من رجعة بعد دور الانقلابات.
وحوادث مهمة كهذه تترك بعض الأثر في روح الأمة لا ريب، غير أن التحولات لا تكون عميقة إلا بفعل تقلبات البيئة.
وقد ألمعت إلى سبب ذلك في هذا الكتاب بأن ذكرت وجود عناصر ثانوية بجانب جهاز روح العرق الأساسي توجب ظهور شخصيات جديدة، ولنا في الثورة الفرنسية وفي الحرب الأوربية أمثلة كثيرة على ذلك.
وفي هذه الحرب ظهر تحول الشخصيات ذلك واضحا إلى الغاية، وبدا ذلك التحول في فرنسة بغتة؛ ففيها صرت تبصر أقسى الثوريين قد غدا من ذوي الحمية الوطنية، وفيها صرت تبصر أشد الناس وجلا قد غدا من ذوي الإقدام، وفيها صرت تبصر الأحزاب المتناحرة قد جمع بينها فكر عام.
وما كان التحول أقل عمقا من ذلك في إنكلترة، وإن كان أكثر تؤدة؛ فقد عدلت إنكلترة التي هي أشد تمسكا بالتقاليد عن كل نفرة من الحياة العسكرية، ونسيت منازعها إلى الحرية متخذة روحا جديدة ملائمة لمقتضيات الساعة، والحق أن ملاءمة أحوال العيش المفاجئة لا تكون إلا وئيدة في أمة استقرت روحها بعوامل موروثة كررت زمنا طويلا على معنى واحد.
أجل، يمنح ذلك الثبات في الروح القومية الأمة قوة عظيمة، ولكنه قد يصبح شؤما عليها إذا ما استقر كثيرا فيها، فالأمم التي لا تقدر على ملاءمة مقتضيات العيش الجديدة تنحط لعدم المرونة.
ومن الطبيعي أن تتضمن الملاءمة اكتساب أفكار جديدة ومشاعر جديدة، ومن ثم طبائع جديدة، والتحولات التي تنشأ على هذا الوجه لا تدوم إلا إذا ثبتت ما دامت وليدة تقلبات البيئة، وكل يعلم درجة انزواء الشخصيات التي صدرت عن تلك الرواية الثورية الفاجعة، فلما هدأت تلك الزوبعة لم يلبث أولئك الذين نعتتهم الأسطورة بالجبابرة؛ لما اقترفوا من أقسى أعمال القتل؛ نصرا لغرضهم، أن عادوا من أبناء الطبقة الوسطى المسالمين، والتجار الهادئين، والموظفين الوادعين، وبدوا أول من دهش من التحول الذي طرأ على روحهم.
ومما لا مراء فيه أن تحول الشخصيات الذي أدت إليه الحرب الأوربية سيكون ذا نتائج أكثر دواما من ذلك لمس جميع المصالح في الحاضر وتهديدها في المستقبل، وسيكون التهديد القادم هذا عاملا قويا في تحويل روح كثير من الأجيال.
وسيظل التهديد قائما زمنا طويلا لا ريب، وستكرر الحروب بين الأمم ذات الروح والأماني والاحتياجات المتباينة حتما، وستعقب المنافسات الاقتصادية المنازعات الحربية في المستقبل مناوبة.
وقد بدت ضرورات جديدة فتجب ملاءمتها؛ خشية الزوال.
ناپیژندل شوی مخ
وهل يدوم بعد السلم ما فرضته الحرب من الاتحاد؟ وهل يغلق إلى الأبد دور الانقسامات السياسية والدينية المقدر؟ وهل نرى ظهور الأحقاد الفظيعة التي أوجبها المتفيهقون المشؤومون المضحون بمصلحة الوطن في سبيل مآربهم الشخصية؟ إن إلغاء المنازعات الداخلية هو شرط أساسي لحياتنا القومية، ونحن نكون عاجزين عن مقاتلة أعدائنا في الخارج إذا ما وجب علينا أن نقاتل أعداءنا في الداخل.
وإذا ما وازنت خصائل عرقنا مساوئه قرر اتجاهه مصيره، ولا حياة لنا بغير محالفات متينة في الخارج وسلم ثابتة في الداخل، وما ينبغي لمجتمع لا يتمتع بالسلم الداخلية أن يعيش طويل زمن، وارجع البصر إلى أغارقة القرون القديمة فإلى بولونيي الزمن الحديث تجد الأمم التي لم تعرف أن تكف عن انقساماتها قد غرقت في العبودية، وأضاعت حتى حقها في أن تكون ذات تاريخ.
مايو 1916
المقدمة
مبادئ المساواة في الزمن الحاضر وعوامل التاريخ النفسية
تقوم حضارة كل أمة على عدد قليل من المبادئ الأساسية، ومن هذه المبادئ تشتق نظمها وآدابها وفنونها، وهذه المبادئ تتكون ببطء كبير كما أنها تزول ببطء كبير، وهي إذا غدت من الأغاليط الواضحة لدى أصحاب النفوس المثقفة منذ زمن طويل ظلت عند الجماعات من الحقائق التي لا جدال فيها، واستمرت على عملها في أعمق طبقات الأمم، والمبدأ الجديد، وإن صعب فرضه، لا يقل فرضه هذا صعوبة عن القضاء على مبدأ قديم، فالبشر يتشبثون تشبثا قاطعا بالمبادئ الميتة والآلهة الميتة على الدوام.
ولم يكد يمر قرن ونصف قرن على الزمن الذي قذف العالم فيه بمبدأ المساواة بين الأفراد والشعوب فلاسفة جاهلون كل الجهل لتاريخ الإنسان الفطري واختلاف مزاجه النفسي وسنن الوراثة.
وقد انجذبت الجماعات إلى ذلك المبدأ كثيرا فلم يلبث أن رسخ في نفوسها وآتى أكله؛ أي إنه زعزع أسس المجتمعات القديمة وأدى إلى أشد الثورات هولا، ورمى العالم الغربي في سلسلة من الاضطرابات العنيفة التي تستحيل معرفة مداها .
ومما لا ريب فيه أن بعض الفروق التي تفصل بين الأفراد والعروق كانت من الوضوح بحيث لا تحتمل الجدل الجدي، ولكنه اعتقد بسهولة أن هذه الفروق هي وليدة اختلاف في التربية، وأن الناس يولدون متساوين صالحين، وأن النظم هي التي أفسدتهم، ولذلك بدا الدواء بسيطا، وهو أن تجدد النظم ويمنح الناس تعليما واحدا، وهكذا لم تعتم النظم والتعليم أن صارا ترياق الديموقراطيات الحديثة ووسيلة معالجة التفاوت المناقض للمبادئ الخالدة التي هي آخر الآلهة في الزمن الحاضر.
وقد تقدم العلم بالحقيقة فأثبت فساد نظريات المساواة وأنه لا يمكن ملء الهوة النفسية التي أوجدها الماضي بين الأفراد والعروق إلا بتراكم الوراثة البطيء إلى الغاية، ومما دلنا عليه علم النفس الحديث بجانب دروس التجربة القاسية هو أن النظم والتربية التي تلائم بعض الأفراد والأمم تكون بالغة الضرر لأفراد آخرين وأمم أخرى، وليس مما يقدر عليه الفلاسفة أن يبطلوا مبادئ سرت في العالم إذا ما قالوا بفسادها، فالفكر يتبع سيره المخرب، ولا شيء يعوق مجراه، وهو في ذلك كالنهر الزاخر الذي لا يحبسه سد.
ناپیژندل شوی مخ
ومبدأ مساواة الناس الوهمي ذلك هو الذي قلب الدنيا، وأحدث في أوربة ثورة عظيمة، وأوقع أمريكة في حرب الانفصال الدامية، وساق جميع المستعمرات الفرنسية إلى حال محزنة من الانحطاط، ولا تجد عالما نفسيا ولا سائحا ولا رجلا سياسيا على شيء من الثقافة لا يعلم خطأ ذلك المبدأ، وقليل من هؤلاء من يجرؤ على مكافحته مع ذلك.
ويداوم مبدأ المساواة على نموه، وهو لا يزال بعيدا من دخوله دور الأفول، وباسم هذا المبدأ تزعم الاشتراكية - التي تعبد معظم أمم الغرب عما قليل كما يظهر - أنها تنشر ألوية السعادة بين هذه الأمم، وباسم هذا المبدأ أيضا تطالب المرأة بمثل حقوق الرجل وبمثل تعليمه، غافلة عن الفروق النفسية العميقة التي تفصلها عنه، والمرأة إذا ما كتب لها النصر في ذلك جعلت من الأوربي بدويا؛ لا منزل له ولا أسرة.
ولا تبالي الأمم بما أسفرت عنه مبادئ المساواة من الانقلابات السياسية والاجتماعية مطلقا ، كما أنها لا تبالي بما تتمخض عنه هذه المبادئ من نتائج أشد خطرا من تلك، واليوم غدت الحياة السياسية لرجل الدولة من القصر بحيث لا يبالي هذا الرجل بها أكثر من مبالاة الأمم تلك، على أن الرأي العام صار صاحب السيادة، فأصبح من المتعذر عدم اتباعه.
وليس لأهمية الفكر الاجتماعية مقياس حقيقي غير ما يكون له من السلطان على النفوس، وليس لدرجة ما في الفكر من الصواب أو الخطأ نفع إلا من الناحية الفلسفية، والفكر الصائب أو الخاطئ، إذا ما اكتسب في الجماعات طور المشاعر، وجب أن يخضع بالتتابع لجميع النتائج التي تصدر عنه.
إذن، يسار إلى تحقيق خيال المساواة الحديث بطريق التعليم والنظم، ونحن، حين نزعم تقويم ما في سنن الطبيعة من جور بفضل التعليم والنظم، نحاول أن نصب في قالب واحد أدمغة زنوج المارتينيك والغوادلوپ والسنغال، وأدمغة عرب الجزائر، وأدمغة سكان آسية، ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الخيال أمر متعذر، ولكن التجربة وحدها هي التي تكشف عما في الأوهام من خطر، والعقل يبدو عاجزا عن تحويل عقائد الناس على الدوام.
وغاية هذا الكتاب هي وصف الأخلاق النفسية التي تتألف منها روح العروق، وبيان كيفية اشتقاق تاريخ الأمة وحضارتها من هذه الأخلاق، ونحن؛ إذ ندع الجزئيات جانبا، أو لا نلجأ إليها إلا عند الضرورة، تسويغا للمبادئ المعروضة، نبحث في تكوين العروق التاريخية ومزاجها النفسي؛ أي في العروق المصنوعة التي تكونت منذ أزمنة ما قبل التاريخ بفعل مصادفات الفتوح أو بفعل الهجرة أو بفعل التحولات السياسية، ونسعى في إثبات صدور تاريخها عن ذلك المزاج النفسي، وسنحاول اكتشاف سير الأفراد والأمم نحو المساواة، أو ميل الأفراد والأمم إلى التفاوت مقدارا فمقدارا، وسنرى بعد ذلك: هل تكون العناصر، التي تتألف منها الحضارة؛ أي: الفنون والنظم والمعتقدات، مظاهر مباشرة لروح العروق، وأن هذه العناصر لا تستطيع أن تنتقل من أمة إلى أخرى لهذا السبب؟ ثم نختم كتابنا بأن نسعى في تعيين الضرورة التي تذوي بها الحضارات وتنطفئ، وقد أسهبت في إيضاح هذه المسائل في كتبي عن حضارات الشرق؛ فلا أصنع في هذا الكتاب غير إجمالها.
وأوضح انطباع اتفق لي من سياحاتي البعيدة في مختلف البلدان هو أن لكل أمة مزاجا نفسيا ثابتا ثبات صفاتها التشريحية، فتشتق منه مشاعرها وأفكارها ونظمها ومعتقداتها وفنونها، ومما اعتقده توكڨيل وغيره من المفكرين المشهورين وجود سبب تطور الأمم في نظمها، وتراني أرى العكس فأرجو أن أثبت أن للنظم في تطور الحضارات تأثيرا ضعيفا إلى الغاية، فالنظم معلولات في الغالب، وهي قلما تكون عللا.
ولا مراء في أن هنالك عوامل مختلفة تعين تاريخ الأمم، وأن التاريخ مملوء بأحوال خاصة وبعوارض كانت وكان من الممكن ألا تكون، بيد أنه يوجد بجانب هذه المصادفات وهذه الأحوال العارضة سنن عظيمة ثابتة توجه سير كل حضارة، وأكثر هذه السنن شمولا وأشدها قسرا هو ما يصدر عن مزاج العروق النفسي، وما حياة الأمة ونظمها ومعتقداتها وفنونها إلا لحمة ظاهرة لروحها الخفية، وما على الأمة التي تود تحويل نظمها ومعتقداتها وفنونها إلا أن تحول روحها في بدء الأمر، وما على الأمة التي ترغب في دخول حضارة إلا أن تدخل إلى هذه الحضارة روحها أيضا، وليس هذا ما يعلمه التاريخ لا ريب، غير أننا سنثبت بسهولة أن التاريخ يكون قد خدع بظواهر باطلة حينما يسجل مزاعم مخالفة لهذا.
وقد حاول المصلحون الذين تعاقبوا منذ قرن أن يبدلوا كل شيء؛ أي أن يبدلوا الآلهة والأرض والناس، وهم لم يستطيعوا صنع شيء فيما أثبته الزمان من الأخلاق المتأصلة في روح العروق.
ويخالف مبدأ الفروق الثابتة التي تفصل بين الأشخاص مبادئ الاشتراكيين المعاصرين مخالفة تامة، وليس مما تستطيعه معارف العلم أن تحمل رسل العقيدة الحديثة على ترك الأوهام، وما جهود هؤلاء الرسل إلا وجه جديد لما تشنه البشرية من حرب صليبية لنيل السعادة: لنيل كنز هسپريد الذي ما فتئت الأمم تبحث عنه منذ فجر التاريخ، وربما لم تكن أوهام المساواه أقل قيمة من الأوهام القديمة التي سيرتنا فيما مضى لو لم تصطدم بصخرة التفاوت الطبيعي المنيعة، والتفاوت مع الهرم والموت جزء من المظالم الظاهرة التي ترى الطبيعة مملوءة بها فلا بد للإنسان من معاناتها.
ناپیژندل شوی مخ
الباب الأول
صفات العروق النفسية
الفصل الأول
روح العروق
يستند الطبعيون في تقسيمهم للأنواع إلى مشاهدتهم بعض الصفات التشريحية التي تظهر منتظمة ثابتة بالوراثة، واليوم نعلم أن هذه الصفات تتحول بتبدلات غير محسوسة تتراكم وراثة، ولكننا إذا نظرنا إلى الأزمنة التاريخية القصيرة وحدها أمكننا أن نقول إن الأنواع لا تتغير.
وحين طبقت مناهج الطبيعيين في التقسيم على الإنسان أظهرت لنا أمثلة متمايزة، وهي حين استندت إلى الصفات التشريحية الواضحة، كلون البشرة وشكل الجمجمة وحجمها، أمكنها أن تقرر اشتمال الجنس البشري على أنواع مختلفة متغايرة إلى الغاية متباينة الأصول على ما يحتمل، ويرى العلماء المحافظون على التقاليد الدينية أن هذه الأنواع هي العروق فقط، ولكن الأمر هو - كما قيل بحق - «أن الزنجي والقفقاسي، إذا كانا من فصيلة الحلزون، يقرر علماء الحيوان بالإجماع أنهما نوعان مختلفان لا يمكن أن يولدا من زوجين افترقا عنهما بالتدريج».
ولا تحتمل تلك الصفات التشريحية، ولا سيما التي يمكن أن تنالها يد التحليل، غير تقسيمات عامة موجزة، ولا يظهر اختلافها إلا في الأنواع البشرية البادية التباين؛ كالبيض والزنوج والصفر مثلا، غير أن هنالك أمما كثيرة التشابه من الناحية الجثمانية شديدة الاختلاف في شعورها وسيرها؛ ومن ثم في حضاراتها ومعتقداتها وفنونها، أفيمكن أن ينظم الإسپاني والإنكليزي والعربي في زمرة واحدة؟ ألا تبدو الفروق النفسية بينهم لكل ذي عينين؟ ألا تقرأ هذه الفروق في كل صفحة من تاريخهم؟
وقد أريد - عند عدم الاختلاف في الصفات التشريحية - أن يستند في تقسيم بعض الشعوب إلى عناصر مختلفة كاللغات والمعتقدات والزمر السياسية إلخ، بيد أن تقسيمات كهذه مما لا يقف أمام سلطان البحث.
وما عجز التشريح واللغات والبيئة والزمر السياسية عن تقديمه من عناصر التقسيم عرضه علينا علم النفس، وعلم النفس هذا يدل على أنه يوجد خلف نظم كل أمة وفنونها ومعتقداتها وانقلاباتها السياسية ما يصدر عنه تطور هذه الأمة من صفات خلقية وذهنية، ومن مجموع هذه الصفات يتألف ما يسمى روح العرق.
ولكل عرق مزاج نفسي ثابت ثبات بنيته التشريحية، ولا نرى ما يدعو إلى الشك في وجود نسب بين المزاج النفسي وتركيب الدماغ، ولكن العلم لم يبلغ من التقدم ما يكتنه به هذا التركيب؛ ولذلك يتعذر علينا اتخاذه أساسا للبحث، وهذا إلى أن معرفة ذلك التركيب لا تغير شيئا من وصف المزاج النفسي الذي يشتق منه فتبديه لنا المشاهدة.
ناپیژندل شوی مخ
والصفات الخلقية والذهنية التي يتألف من اقترانها روح الشعب هي عنوان لخلاصة ماضيه وتراث أجداده وعوامل سيره، وفي بعض الأحيان تلوح تلك الصفات أول وهلة كثيرة التقلب لدى أفراد العرق الواحد، غير أن البحث الدقيق يدل على اتصاف معظم أفراد هذا العرق في كل وقت بصفات نفسية مشتركة ثابتة ثبات الصفات التشريحية التي تتخذ في تقسيم الأنواع، والصفات النفسية كالصفات التشريحية تنتقل بالوراثة انتقالا منتظما مستمرا.
ويتألف من اجتماع تلك العناصر النفسية التي تشاهد لدى جميع أفراد العرق ما نرى من الصواب تسميته بالخلق القومي، ومن مجموع تلك العناصر يتكون المثال المتوسط الذي نتمكن به من تعريف الشعب، ونحن إذا ما أخذنا، اتفاقا، ألف فرنسي أو ألف إنكليزي أو ألف صيني، فإننا نجد بينهم اختلافا كبيرا، ومع ذلك نراهم حائزين، بما ورثوه عن عرقهم، صفات مشتركة يمكن أن يستعان بها لتكوين مثال فرنسي أو إنكليزي أو صيني مماثل للمثال الخيالي الذي يعرضه العالم الطبيعي عندما يصف الكلب أو الفرس وصفا عاما، وإذا ما طبق مثل هذا الوصف على أجناس الكلب أو الفرس فإنه لا يشتمل على غير الصفات المشتركة بين هذه الأجناس، لا على الصفات التي يتميز بها كل جنس من هذه الأجناس.
والمثال المتوسط للعرق، الذي هو شيء من الكبر ومن التجانس لهذا السبب، يكون من الوضوح بحيث يستقر بنفس الباحث من فوره.
ونحن إذا زرنا شعبا غريبا أبصرنا أن الصفات الوحيدة التي يمكن أن تقف نظرنا هي الصفات المشتركة بين جميع سكان البلد المطاف فيه لتكرارها باستمرار، ونحن تفوتنا الفروق الفردية فيه لتكرارها القليل ، ونحن، فضلا عن تمييزنا الإنكليزي أو الإيطالي أو الإسپاني عند أول نظرة، لا نلبث أن نعزو إلى هؤلاء بعض الصفات الخلقية والذهنية التي هي عين الصفات الأساسية المذكورة آنفا، ونحن نرى الإنكليزي أو الغسكوني أو النورمندي أو الفلامندي من مثال حسن الاستقرار بذهننا فيمكننا وصفه بسهولة، وهذا الوصف يكون ناقصا في الغالب غير صحيح في بعض الأحيان عند تطبيقه على الشخص المنفرد، وهو يكون تاما عند تطبيقه على معظم أفراد عرق من تلك العروق، وما يكون في ذهننا من جهد لاشعوري لتعيين المثال الجثماني والنفسي في أمة ما هو في جوهره عين المنهاج الذي يقسم العالم الطبيعي به الأنواع.
ولذلك التماثل في المزاج النفسي عند معظم أفراد العرق الواحد أسباب فزيولوجية بسيطة جدا، وبيان الأمر أن كل إنسان لا يمثل بالحقيقة ثمرة آبائه القريبين فقط، بل يمثل ثمرة عرقه أيضا؛ أي جميع سلسلة أجداده. وقد أحصى العالم الاقتصادي مسيو شيسون مقدار ما يجري في عروق كل فرنسي من الدماء فوجد أنه دم عشرين مليونا من معاصري سنة 1000؛ ناظرا إلى اشتمال كل قرن على ثلاثة أجيال، ومن قوله: «إن سكان كل ناحية أو كل إقليم يشتركون في أجدادهم بحكم الضرورة إذن، وإن أولئك السكان من طينة واحدة وذوو طابع واحد، وإنهم صائرون، دائما، إلى المثال المتوسط بفعل تلك السلسلة الطويلة الثقيلة التي لم يكونوا غير حلقاتها الأخيرة، فنحن أبناء آبائنا وعرقنا معا، وليس الشعور وحده هو الذي يجعل لنا من الوطن أما ثانية، بل الخواص الجثمانية والوراثة تؤدي إلى ذلك أيضا.»
والمؤثرات التي يخضع لها الفرد وتوجه سيره ثلاثة أنواع؛ فالنوع الأول، وهو أهمها لا ريب، هو تأثير الأجداد، والنوع الثاني هو تأثير الآباء القريبين، والنوع الثالث، وهو الذي يعتقد أنه أقوى العوامل مع أنه أضعفها على العموم، هو تأثير البيئات، وإذا عدوت الانقلابات المفاجئة العميقة التي تحدث في المحيط وجدت البيئات، وما تنطوي عليه من مختلف المؤثرات الفزياوية والأدبية التي يخضع الإنسان لها ما دام حيا ولا سيما في إبان تربيته، لا تؤدي إلى غير تغيير ضئيل، والبيئات لا تؤثر بالحقيقة إلا عندما تركمها الوراثة في صعيد واحد زمنا طويلا.
والإنسان، مهما كان صنعه، ممثل عرقه في كل وقت وقبل كل أمر إذن، ويتألف روح العرق من اجتماع ما يأتي به أفراد البلد الواحد من الأفكار والمشاعر حين يولدون، وهذه الروح، وإن كانت خفية في جوهرها، ظاهرة كثيرا في آثارها، وهي تسيطر على تطور الأمة بالحقيقة.
ويمكن تشبيه العرق بمجموع الخليات التي يتألف منها ذو الحياة، ووجه الشبه هو أن حياة مليارات الخليات هذه قصيرة جدا، وأن حياة الجسم الذي يتكون من اجتماعها طويلة إلى الغاية إذا ما قيست بتلك الحياة، وأن لتلك الخليات حياة شخصية وحياة مشتركة في الجسم الذي يتركب منها، وأن لكل فرد في العرق الواحد أيضا حياة قصيرة جدا وحياة مشتركة طويلة إلى الغاية، فهذه الحياة الطويلة هي حياة العرق الذي ولد منه ذلك الفرد فيساعد على دوامه، وهو تابع له على الدوام.
إذن، يجب عد العرق موجودا دائما محررا من الزمان، ولا يتركب هذا الموجود الدائم من الأفراد الأحياء الذين يتألف منهم في زمن معين فقط، بل يتركب أيضا من سلسلة الأموات الذين كانوا أجدادا له، ولا بد من الامتداد إلى العرق في الماضي وفي المستقبل معا لإدراك معناه الحقيقي، وإذ كان الأموات أكثر من الأحياء بما لا يحصى فإنهم أقوى من الأحياء بما لا يحصى، والأموات يسيطرون على دائرة اللاشعور الواسعة؛ تلك المنطقة الخفية التي يصدر عنها جميع مظاهر الذكاء والأخلاق، والشعب مسير بأمواته أكثر مما بأحيائه، وبالأموات وحدهم يقوم العرق، والأموات في القرن بعد القرن هم الذين أوجدوا أفكارنا ومشاعرنا، ومن ثم جميع عوامل سيرنا، والأجيال الغابرة تفرض علينا أفكارها فضلا عن مزاجها الجثماني، والأموات وحدهم هم سادة الأحياء بلا جدال، ونحن نحمل وزر خطايا الأموات ونقتطف ثمرة فضائلهم.
ولا يتطلب تكوين مزاج الأمة النفسي مثلما يتطلبه تكوين أنواع الحيوان من العصور الجيولوجية الطويلة التي لا يحصى لها عد، ومع ذلك فهو يحتاج إلى زمن غير قليل؛ فقد اقتضى إحداث ما تتألف منه روح عرقنا من المشاعر والأفكار انقضاء أكثر من عشرة قرون مع ضعف ما انتهى إليه عرقنا من ذلك حتى الآن،
ناپیژندل شوی مخ
1
ومن المحتمل أن كان عمل ثورتنا الكبرى المهم هو تعجيل هذا التكوين بالقضاء تقريبا على ما كانت فرنسة مجزأة بينه من القوميات الصغيرة؛ كالپيكار والفلامان والبورغون والغسكون والبريتان والپروڨنسيين إلخ. وهيهات أن يكون هذا التوحيد قد تم؛ وذلك لكثرة العروق التي تتألف منها، والتي تؤدي بحكم الطبيعة إلى أفكار ومشاعر مختلفة أشد الاختلاف، فترانا نظل ضحية الانقسامات التي لا تعرفها الأمم الأكثر تجانسا منا؛ كالإنكليز مثلا، ولدى الإنكليز تبصر السكسوني والنورمندي والبريطاني القديم قد انتهوا بالتمازج إلى تأليف مثال كثير التجانس متماثل السير، ولم يلبث الإنكليز بفضل هذا الامتزاج أن اكتسبوا الأسس الجوهرية الثلاثة لروح الأمة؛ وهي: وحدة المشاعر، ووحدة المصالح، ووحدة العقائد، والأمة إذا ما بلغت ذلك اتفق جميع أبنائها بالغريزة على جميع المسائل المهمة، وعاد لا يبدو فيها كبير شقاق.
ووحدة المشاعر والأفكار والمعتقدات والمصالح، التي هي وليدة رواسب بطيئة موروثة، تمنح مزاج الأمة النفسي تجانسا وثباتا عظيمين، وهي تمن على هذه الأمة بقوة كبيرة، وفيها سر عظمة رومة في القرون القديمة وعظمة إنكلترة في أيامنا، وإذا ما غابت الروح القومية انحلت الأمة، وكانت خاتمة شأن رومة يوم أضاعت تلك الروح.
وتلك الشبكة من المشاعر والأفكار والتقاليد والمعتقدات الموروثة التي تتألف منها روح الزمرة قد وجدت، دائما، لدى جميع الأمم على درجات متفاوتة لا ريب، غير أن نموها التدريجي وقع بأقصى البطوء، ولم تشمل روح الزمرة جميع سكان البلد إلا مؤخرا بعد أن كانت مقصورة على الأسرة في البداءة، فامتدت بالتدريج إلى القرية، فإلى المدينة، فإلى الإقليم، وهنالك، فقط، ظهرت فكرة الوطن وفق ما ندركها به اليوم، وهي لم تغد ممكنة إلا بعد أن تكونت الروح القومية، وما ارتقى الأغارقة قط إلى ما فوق فكرة المدينة، وقد ظلت مدنهم متحاربة، على الدوام؛ لأن بعضها كان أجنبيا عن بعض في الحقيقة، ولم تعرف الهند غير وحدة القرية منذ ألفي سنة، فتجد في هذا سر خضوعها باستمرار لسادة من الأجانب الذين انهارت دولهم الموقتة بسهولة كالتي قامت بها.
وفكرة المدينة، وإن كانت بالغة الضعف من الناحية العسكرية كوطن محض، بالغة القدرة من حيث تقدم الحضارة. وروح المدينة، وإن كانت أصغر من روح الوطن، أكثر إنتاجا منها في بعض الأحيان، وقد أثبتت لنا أثينة في القرون القديمة وفلورنسة والبندقية في القرون الوسطى درجة ما يمكن أن تصل إليه زمر الناس الصغرى في ميدان الحضارة.
وإذا حدث أن قضت المدن الصغيرة أو الأقاليم الصغيرة حياة مستقلة زمنا طويلا فإنها لا تعتم أن تحوز روحا تبلغ من الثبات ما يتعذر معه تقريبا أن تمتزج بروح المدن والأقاليم المجاورة فتؤلف روحا قومية، وإذا أمكن حدوث امتزاج مثل هذا؛ أي حينما لا تكون العناصر المتقابلة كثيرة الاختلاف، فإن ذلك لا يكون من عمل يوم واحد، بل من عمل القرون، ولا بد من ظهور رجال من طراز ريشليو وبسمارك لينجزوا مثل هذا العمل، وهم لا يتمونه إلا بعد أن يكون قد نضج منذ زمن طويل، وقد يتفق لبلد، كإيطالية، أن يصير دولة واحدة بغتة بفعل بعض العوامل الشاذة، ولكن من الخطأ أن يعتقد أن ذلك البلد ينال بهذا روحا قومية، وأنت إذا أبصرت الپيمونتي والصقلي والبندقي والروماني إلخ، في إيطالية، فإنك لا تبصر الإيطالي فيها.
ومهما يكن أمر العرق الذي يبحث فيه اليوم، وسواء أكان هذا العرق متجانسا أم غير متجانس، فإنه يجب أن يعد عرقا مصنوعا على الدوام، لا عرقا طبيعيا ما دام قد تمدن ودخل ميدان التاريخ منذ زمن طويل، واليوم لا تجد العروق الطبيعة إلا عند الهمج، وعند الهمج وحدهم تستطيع أن تبصر أمما خالصة من كل اختلاط، وأما معظم العروق المتمدنة فعروق تاريخية.
ولا نشغل أنفسنا الآن بأصول العروق، وليس من المهم أن تكون العروق قد كونتها الطبيعة أو كونها التاريخ، وإنما الذي يهمنا هو أخلاق هذه العروق التي تمت في ماض طويل ، وهذه الأخلاق إذ أمسكت في قرون بفعل أحوال عيش واحدة، وهذه الأخلاق إذ تراكمت بالوراثة، اكتسبت مع الزمن ثباتا وعينت مثال كل أمة.
هوامش
الفصل الثاني
ناپیژندل شوی مخ
حدود تغير أخلاق العروق
دراسة تطور الحضارات بدقة هي التي نبصر بها وحدها ثبات مزاج العروق النفسي، والذي يظهر أول وهلة هو أن القاعدة العامة في التغير لا في الثبات، والحق أن تاريخ الأمم يحفز إلى افتراضنا أن روح هذه الأمم تخضع أحيانا لتحولات سريعة جدا عميقة إلى الغاية، أفلا يلوح في ذلك التاريخ فرق عظيم بين أخلاق الإنكليزي أيام كرومويل وأخلاقه في الوقت الحاضر مثلا؟ ألا يبدو الإيطالي المعاصر الحذر الفطن مختلفا أشد الاختلاف عن الإيطالي المندفع المفترس الذي يدلنا عليه بنڨنوتوسليني في مذكراته؟ وإذا لم نذهب بعيدا فاقتصرنا على فرنسة جاز لنا أن نقول: ما أكثر ما اعتور الأخلاق فيها من تغيرات ظاهرة في قليل قرون، بل في سنين! وأي المؤرخين لم يسجل ما في أخلاقها القومية من فروق بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر؟ أفلا يخيل إلى الناظر وجود عالم بين أخلاق رجال العهد الغلاظ، وأخلاق عبيد ناپليون الودعاء؟ هؤلاء هم أولئك، وقد بدا تغيرهم تغيرا تاما في بضع سنين.
ونحن، لكي نوضح أسباب هذه التغيرات، نذكر قبل كل شيء أن النوع النفسي هو كالنوع التشريحي مؤلف من عدد قليل من الصفات الأساسية الثابتة التي تتجمع حولها صفات ثانوية متغيرة متحولة، وذلك كالمربي الذي يحول بنية الحيوان الظاهرة، والبستاني الذي يغير منظر النبات؛ فلا يتبين ذلك من ليس له إلمام بالأمر، مع أن المربي والبستاني لم يؤثرا في غير الصفات الثانوية لذلك الحيوان وذلك النبات، والصفات الأساسية تميل، دائما، إلى الظهور ثانية في كل جيل جديد على الرغم من كل حيلة.
وللمزاج النفسي كذلك صفات أساسية ثابتة كصفات الأنواع التشريحية، غير أن للمزاج النفسي صفات ثانوية سهلة التغير أيضا، وهذه الصفات الثانوية هي التي يمكن البيئات والأحوال والتربية وما إليها من مختلف العوامل أن تغيرها بسهولة.
وكذلك يجب أن يذكر الأمر الجوهري القائل إن المزاج النفسي لكل واحد منا يشتمل على بعض الممكنات الخلقية التي لا تهيئ الأحوال لها فرصة الظهور في كل وقت، فإذا ما حدثت هذه الأحوال ظهرت في الحال شخصية جديدة موقتة، وذلك ما تمكن ملاحظته في أدوار الأزمات الدينية والسياسية الكبيرة من تحولات خلقية عرضية كالتي يخيل بها تحول الطبائع والأفكار والسلوك وكل شيء، ويكون كل شيء قد تحول في الحقيقة كما يتحول بغتة وجه البحيرة الهادئة الذي تثيره العاصفة، ومن النادر أن يدوم هذا الاضطراب زمنا طويلا.
ولتلك الممكنات الخلقية التي تحققت بفعل بعض الحوادث الاستثنائية يبدو لنا صانعو الأزمات الدينية والسياسية الكبري من جوهر أعلى من جوهرنا، وأنهم نوع من العمالقة وأننا أبناؤهم المنحلون، ولم يكن أولئك إلا رجالا مثلنا مع ذلك، ولم يكن أولئك إلا أناسا قد أثارت الأحوال ما فيهم من الممكنات الخلقية الخفية في كل واحد منا. انظروا مثلا إلى «جبابرة العهد» الذين وقفوا أمام أوربة المدججة بالسلاح وكانوا يرسلون خصومهم إلى المقصلة لأقل معارضة، انظروا إلى هؤلاء الجبابرة الذين كانوا في الأساس من أبناء الطبقة الوسطى الصالحين المسالمين، من أولئك الذين يحتمل في الأوقات العادية أن ينقطعوا إلى دراستهم أو ينزووا في غرفتهم أو يلزموا مكتبهم فيقضوا حياة هدوء واعتزال، فهم لما وقع من الحوادث الخارقة للعادة التي هزت في دماغهم بعض الخليات المعطلة في الأيام العادية برزوا بتلك الوجوه الهائلة التي لا يدرك أمرها الخلف، ولو ظهر روبسپير بعد مئة سنة لكان قاضيا نزيها من قضاة الصلح محبا لقسيسه، ولو ظهر فوكيه تنڨيل بعد مئة سنة لكان قاضيا للتحقيق متصفا بأكثر مما في زملائه من الغلظة والغطرسة الملازمتين لأبناء مهنته، ولكن مع تقدير لغيرته في تعقب المجرمين، ولو ظهر سان جوست بعد مئة سنة لبدا معلما ماهرا من معلمي المدارس، ولصار محل احترام رؤسائه، ولغدا فخورا بأوسمة الأكاديمية التي كان لا بد له من نيلها في نهاية الأمر، ومما يؤيد صحة هذه الافتراضات بما فيه الكفاية ما صنعه ناپليون من وحوش الهول الذين لم يبق لهم من الوقت ما يضرب بعضهم فيه رقاب بعض؛ فقد أصبح معظم هؤلاء من رؤساء الدواوين والجباة والقضاة والمديرين؛ وذلك لأن الأمواج التي أثارتها العاصفة - وهي التي تكلمنا عنها آنفا - كانت قد هدأت، ولأن البحيرة المضطربة عاد إليها وجهها الهادئ.
ويسهل عليك أن تجد صورا جديدة لأخلاق العرق الأساسية حتى في أشد الأدوار اضطرابا وأغربها تغييرا للشخصيات، وهل كان النظام المركزي الاستبدادي المتحكم الذي جاء به يعاقبتنا الأشداء يختلف بالحقيقة عن النظام المركزي الاستبدادي المتحكم الذي قالت به الملكية في خمسة عشر قرنا، فأصلته في النفوس تأصيلا عميقا؟ وخلف جميع ثورات الأمم اللاتينية يعود إلى الظهور، على الدوام، ذلك النظام العنيد، ذلك الاحتياج المتأصل إلى الخضوع؛ وذلك لما فيه من إجمال لغرائز العرق اللاتيني، ولم يكن ما اتفق لبوناپارت من مجد الفتوح وحده هو الذي جعله سيدا، وبوناپارت حينما حول الجمهورية إلى دكتاتورية كانت غرائز العرق الموروثة تتجلى كل يوم بأشد مما هي عليه، ولو لم يظهر هذا الضابط العبقري لكفى لذلك أي مغامر كان، وتمضي خمسون سنة فلم يكن على وارث اسمه إلا أن يري نفسه لينال أصوات أمة تعبة من الحرية متعطشة إلى العبودية، وليس برومير (الشهر الثاني من السنة الجمهورية) هو الذي صنع ناپليون، بل روح العرق الذي أخذ يركع تحت قدمه الحديدية.
1
وإذا كان تأثير البيئات في الإنسان يظهر كبيرا؛ فلما للبيئات من فعل في العناصر الثانوية المؤقتة أو في ممكنات الخلق التي تكلمنا عنها، وفي الحقيقة لا تكون التغييرات عميقة، وبيان ذلك أن أكثر الناس دعة إذا ما عضه الجوع بلغ من القسوة ما يدفعه إلى اقتراف جميع الجرائم، حتى إلى افتراس نظيره في بعض الأحيان، أفيقال، والحالة هذه، إن خلقه الأصلي قد تغير؟
وإذا حدث أن مقتضيات الحضارة حفزت أناسا إلى أقصى الغنى وما يوجبه الغنى من المتاعب حتما، وأنها أوجدت في أناس آخرين احتياجات عظيمة من غير أن تجعل لهم وسائل لقضائها، فإن الذي ينجم عن هذا هو استياء وقلق عام يؤثران في السير ويثيران انقلابات من كل نوع، بيد أن أخلاق العرق الأساسية تتجلى في ذلك الاستياء وفي هذه الانقلابات، ومن هذا القبيل ما كان من تمزق إنكليز الولايات المتحدة في حربهم الأهلية، وإبدائهم في ذلك من العناد والنشاط العظيم مثل ما يبدونه اليوم في شيد المدن والجامعات والمصانع، فخلق أولئك لم يتغير في ذلك، وإنما الذي تغير هو الموضوعات التي طبق عليها ذلك الخلق.
ناپیژندل شوی مخ
ونحن، حين نبحث بالتتابع في مختلف العوامل التي تؤثر في مزاج الأمم النفسي، نرى أن هذه العوامل تمس نواحي الخلق الثانوية الموقتة دائما، لا عناصره الأساسية، أو أنها لا تمس هذه العناصر إلا بعد ركام وراثي بطيء.
ولا نستنتج مما تقدم أن صفات الأمم النفسية لا تتغير، بل نستنتج فقط أن هذه الصفات ذات ثبات كالصفات التشريحية، ولهذا الثبات تتغير روح العروق في غضون القرون رويدا رويدا.
هوامش
الفصل الثالث
نظام مراتب العروق النفسي
إذا ما درسنا في كتاب تاريخ طبيعي أسس تقسيم الأنواع وجدنا من فورنا أن الصفات الثابتة الأساسية التي يعين بها كل نوع هي قليلة جدا، فتكفي بضعة أسطر لعدها.
وعلة ذلك هو أن العالم الطبيعي لا يبالي بغير الصفات الثابتة، غير ناظر إلى الصفات المؤقتة، مع أن الصفات الأساسية تجر سلسلة من الصفات الأخرى وراءها حتما.
وقل مثل ذلك عن الصفات النفسية للعروق، ونحن إذا سلكنا سبيل التفصيل وجدنا ما لا يحصيه عد من الاختلافات الدقيقة بين أمة وأخرى وبين شخص وآخر، ولكننا إذا نظرنا إلى الصفات الأساسية وحدها لم نر غير عدد قليل منها في كل أمة، والأمثلة فقط - والأمثلة هي ما نأتي به عما قليل - هي التي تدلنا بوضوح على تأثير هذه الصفات الأساسية القليلة في حياة الأمم.
ولا يمكن عرض تقسيم نفسي للعروق إلا بالبحث المفصل في روح مختلف الأمم، وهذا وحده يتطلب عدة مجلدات، وتراني أقتصر لذلك على بيان خطوطها الكبيرة.
وإني، حين أنظر إلى ما في العروق البشرية من الصفات النفسية العامة فقط، أرى إمكان تقسيم هذه العروق إلى أربعة أقسام؛ وهي: العروق الابتدائية، والعروق الدنيا، والعروق الوسطى، والعروق العليا.
ناپیژندل شوی مخ
والعروق الابتدائية هي التي لا تجد فيها أي أثر للثقافة، وهي التي ظلت في الدور القريب من الحيوانية والذي جاوزه أهل عصر الحجر المنحوت من أجدادنا، ومن العروق الابتدائية في الوقت الحاضر نذكر الفيوجيين والأستراليين.
وترى فوق العروق الابتدائية العروق الدنيا التي يعد الزنوج عنوانا لها على الخصوص، وفي هذه العروق تجد بصيص حضارة، وبصيص حضارة فقط، وهذه العروق لم تجاوز قط وجوه الحضارة الغليظة، وإن ورثت حضارات راقية بفعل المصادفة، كما اتفق لأهل سان دومنغ.
ونذكر من العروق الوسطى الصينيين واليابانيين والمغول والأمم السامية، فالعرب والآشوريون والمغول والصينيون واليابانيون أبدعوا نماذج حضارات راقية لم يجاوزها غير الأوربيين.
ويجب أن تذكر الأمم الهندية الأوربية بين العروق العليا على الخصوص، وهذه الأمم هي التي أثبتت قدرتها على الاختراعات العظيمة في الفنون والعلوم والصناعة؛ سواء أفي عصر اليونان والرومان القديم، أم في الأزمنة الحديثة، ولهذه العروق ترى الحضارة مدينة بما انتهت إليه اليوم من المستوى العالي، ومن أيدي هذه العروق خرج البخار والكهرباء، وأقل هذه العروق ارتقاء، كالهندوس على الخصوص، قد بلغ في الفنون والآداب والفلسفة درجة لم يصل إليها المغول والصينيون والساميون قط.
وليس من الممكن خلط ما بين الأقسام الأربعة المذكورة؛ فالهوة النفسية التي تفصل بعضها عن بعض تظل واضحة، والصعوبة كل الصعوبة في تقسيم تلك الأقسام إلى أقسام أخرى ثانوية. أجل، إن الإنكليزي والإسپاني والروسي من الأمم العليا، وترى الفروق بين هؤلاء عظيمة جدا مع ذلك.
ويجب لتعيين تلك الفروق أن يؤخذ كل شعب على حدة، وأن توصف أخلاقه، وهذا ما سنفعله بعد قليل في أمر شعبين فنطبق عليهما منهاجنا مثبتين أهمية نتائجه.
والآن لا نستطيع أن نفعل غير الإشارة باختصار إلى طبيعة العناصر الرئيسة النفسية التي نتمكن بها من التفريق بين العروق.
ولا احتياج إلى الذهاب إلى الهمج الخلص لنجد العروق الابتدائية والدنيا ما دامت الطبقات الأوربية السفلى تعدل الفطريين، والذي يشاهد لدى تلك العروق على الدوام هو عجزها عن التعقل؛ أي عجزها عن أن تضم في دماغها الأفكار التي أسفرت عنها الأحاسيس الماضية - أو الألفاظ التي تدل على هذه الأفكار - إلى الأفكار التي هي وليدة الأحاسيس الحاضرة؛ وذلك للمقابلة بين الأفكارين، ولتبين ما بينهما من تشابه واختلاف، وعن هذا العجز عن التعقل تنشأ سرعة تصديق عظيمة وفقدان تام لروح النقد، وفي الإنسان الراقي تجد العكس، وفي الإنسان الراقي تجد قدرة عظيمة على ضم بعض الأفكار إلى بعض، وعلى استخراج النتائج منها، وفي الإنسان الراقي تجد ملكة النقد وروح الدقة ناميتين إلى الغاية.
وكذلك تتصف العروق الابتدائية والدنيا بضعف الانتباه وضعف التأمل إلى أقصى حد، وبنمو ملكة التقليد وبعادة استخراج النتائج العامة الفاسدة من الأحوال الخاصة، وبالعجز عن ملاحظة ما يؤدي إليه الترصد من النتائج المفيدة، وبالعجز عن استنباط هذه النتائج، وبتقلب كبير في الأخلاق، وبغفلة عظيمة، ووحي الساعة الحاضرة هو دليل هذه العروق، وهي - كعيسو (العيص) الذي هو مثال الرجل الابتدائي - تبيع مختارة حقها في البكرية القادمة في مقابل صحن حاضر من العدس، وإذا ما عارض الإنسان عاجله بآجله وكان ذا هدف فسار وراءه بثبات، فإنه يكون قد بلغ شأوا بعيدا من الرقي.
ومن شأن العجز عن البصر بالنتائج البعيدة للأعمال، ومن شأن العطل من كل دليل إلا دليل الساعة الحاضرة، أن يكون الفرد، والعرق أيضا، محكوما عليهما بالبقاء في طور منخفض جدا، والأمم، كلما عرفت أن تضبط غرائزها؛ أي كلما اكتسبت عزما، أي كلما استطاعت أن تسيطر على نفسها، تكون قد أدركت أهمية النظام وضرورة التضحية بالنفس في سبيل مثل عال والارتقاء إلى الحضارة، ولو وجب تقدير مستوى الأمم الاجتماعي في التاريخ بمقياس وحيد لكانت درجة قابلية تلك الأمم للسيطرة على اندفاعاتها اللاتنبهية هي ذلك القياس كما أرى، والرومان في القرون القديمة، والإنكليز والأمريكيون في الزمن الحديث، هم عنوان الأمم التي اتفقت لها تلك الصفة الى أبعد حد؛ وفي هذه الصفة تجد سر عظمة هذه الأمم.
ناپیژندل شوی مخ