مقدمة المترجم
تمهيد
1 - الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
2 - الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
3 - الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص
ثبت بالمصطلحات
مقدمة المترجم
تمهيد
1 - الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
2 - الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
3 - الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص
ثبت بالمصطلحات
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
تأليف
إيمانويل كانت
تقديم وترجمة
عبد الغفار مكاوي
مراجعة
عبد الرحمن بدوي
مقدمة المترجم
يعد تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ثمرة ناضجة من ثمار المرحلة النقدية في فلسفة كانت. ظهر الكتاب في عام 1785م في ريجا
Riga
لدى الناشر يوهان فريدريش هارتكنوخ
J. F. Hartknoch ؛ أي بعد ظهور الطبعة الأولى من كتابه الرئيسي «نقد العقل الخالص»
1
بأربع سنوات، وقبل طبعته الثانية بعامين، ولكن كانت كان قد اكتسب الفكرة الأساسية في مذهبه الأخلاقي منذ عام 1770م، وهو العام الحاسم في نشأة فكره النقدي كله، والذي ظهرت فيه رسالته اللاتينية «صورة ومبادئ العالم الحسي والعالم العقلي» متضمنة لنظريته في الزمان والمكان كصورتين قبليتين من صور الحساسية كما سنراها فيما بعد في عمله الرئيسي، ممهدة للطريق النقدي الذي سيشغل الفلسفة الحديثة من بعده إلى يومنا هذا. كان هذا العام هو عام الكشف الخطير، الذي سيؤدي إلى ثورة في العلوم العقلية، تشبه الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس في علم الفلك؛ ثورة في منهج «الفكر الإنساني»، بدأت من «نقد العقل الخالص» وامتدت إلى جميع العلوم، فهدمت صرح الميتافيزيقا السائدة في عصره، ووضعت مكانها بناء محكما متماسكا، وأرست أسس أخلاق جديدة. نمت هذه الأخلاق مع نظرية المعرفة في وقت واحد، وامتدت بجذورها في أرض النقد؛ بحيث يكون من الخطأ البالغ أن نحاول الفصل بينهما، أو أن نبحث أحدهما بمعزل عن الآخر.
استطاع كانت في هذا الكتاب لأول مرة أن يدعم أفكاره عن الأمر الأخلاقي المطلق، وأن يعرض الخطوط الرئيسية للأخلاق النقدية، وأن يمهد بذلك خير تمهيد لكتابه الرئيسي في الأخلاق، ونعني به «نقد العقل العملي » الذي سيظهر في عام 1788م. كان كانت حريصا على أن يبسط مذهبه الأخلاقي للقارئ العادي، فأراد أن يجعل من كتابنا هذا شبيها بكتابه «مقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصبح علما» الذي نشره قبله بعامين، وأراد به أن يوضح لعامة القراء ما استعصى عليهم فهمه من «نقد العقل الخالص» (وكم أحزنه أن يسيء الناس استقباله وفهمه حزنا كاد يخيب أمله!) ولكن النجاح الشعبي الذي عقد عليه الآمال لم يتحقق بكليته؛ فإن الفصل الأول الذي يبدأ فيه من «المعرفة العقلية الشائعة بالأخلاق» قد صادف قبولا لدى القراء؛ إذ عرف كانت كيف يعالج هنا أفكارا ومشكلات يتعرض لها كل إنسان في كل يوم ويحاول أن يحدد موقفه منها، كما عرف كيف يستشهد لما يقول بأمثلة مستقاة من الحياة اليومية التي نحياها جميعا. فلما انتقل إلى الفصل الثاني وحاول أن يدعم بعض أفكاره الفلسفية دعما فلسفيا، شق على بعض القراء أن يتابعوه، ووجدوا في لغته المعقدة عناء أي عناء. حتى إذا وصل إلى الفصل الثالث والأخير، وحاول أن يضع يد القارئ على لب مذهبه الأخلاقي، ونعني به فكرة الحرية، استبد اليأس بأغلب القراء، وأحسوا كأنهم يسيرون في غرفة معتمة كما كان «جوته» يقول كلما قرأ شيئا لكانت! إنهم ليقرءون ويقرءون، دون أن يفهموا ما يقصده الفيلسوف. كان عليهم إما أن يستسلموا لليأس من فهمه، وذلك ما فعله الكثيرون، أو يعكفوا على دراسته دراسة شاقة صارمة قد تمتد لسنوات طويلة، والقليلون هم الذين واتتهم الشجاعة والصبر على ذلك، وفي مقدمتهم الشاعر العظيم شيللر (1757-1804م). لقد كانت الصعوبة التي وجدها القراء - وما يزالون يجدونها ويتنهدون منها حتى اليوم في فهم كانت - هي النتيجة الطبيعية للحياة الصلبة النادرة التي عاشها الفيلسوف، ولأربعة عشر عاما طويلة عاشها يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، بين جدران عالمه النقدي، يصحو وينام وهو يسأل نفسه أسئلة كهذه: كيف تصبح القضايا التركيبية القبلية ممكنة؟ كيف أستطيع أن أجمع بين عنصرين متنافرين كالمحسوس والمعقول؟ كيف أوفق بين عالم الطبيعة الذي تسيطر عليه الضرورة، وبين عالم الأخلاق الذي تسوده الحرية؟ كيف يضع العقل قوانين العالم، وماذا يستطيع أن يعرف، وما هي الحدود التي عليه أن يقف عندها فلا يتعداها؟ ما الذي يجب علي أن أفعله وأي أمل أستطيع أن آمله؟ ... إلخ حتى تنتهي هذه الأسئلة جميعا إلى سؤال الأسئلة وتصب فيه: ما هو الإنسان؟
عالم كما نرى غريب على معظم الناس، لا عجب أن ينفر منه رجل الشارع، كما ينفر منه المنطقي والديالكتيكي والميتافيزيقي السادر في ضباب أحلامه، ولا عجب أيضا أن يخرج كانت منه إلى الناس وقد تكون فكره العبقري، وتشكل أسلوبه بالصورة التي نعرفها اليوم، والتي نحاول أن نقترب منها، فيختلف نصيبنا من الإخفاق والتوفيق.
لا تقوم الأفكار الأساسية للأخلاق عند كانت كما يذهب البعض خطأ، على أساس قبلي بحت سابق لكل تجربة إنسانية؛ فلا يصح هنا أن نخلط أول المذهب بآخره، ومقدمته بنتائجه. لقد كان وهو يضع هذا الكتاب دائم التفكير فيما تقدمه له التجربة، دائم الاشتغال بالعلوم التجريبية بوجه عام، متصلا اتصالا لا ينقطع بالحياة اليومية وبما يسميه بالعقل الإنساني الشائع المشترك. لقد وصل عن طريق التجربة إلى أن الأفكار الأساسية في الأخلاق، مثلها في ذلك مثل القوانين الطبيعية بوجه عام والمسلمات التي يفترضها كل كائن عاقل عند كل تجربة يمارسها، إذا أراد أن يصل إلى معرفة من أي نوع، إنما نجد أصلها ومستقرها في العقل، ولا تأتي من التجربة بأية حال من الأحوال. وإذن فنحن بصدد معارف قبلية سابقة على كل تجربة، ولكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن كانت وهو يضع مذهبه في الأخلاق كان يضع الوجود العيني الواقعي بجانبيه، الإنسان والطبيعة، نصب عينيه دائما، وأن ميدان التجربة وكل تجربة ممكنة على وجه الإجمال لم يغب عن باله أبدا. غير أنه في عرضه لمذهبه لا يقدم لنا الحالة الفردية ولا الموقف الجزئي، بل يحرص على أن يقدم لنا الطابع النموذجي العام في شكل تجريدي. إنه يسير على عكس جوته الذي يبدأ من العيان والمشاهدة، من الفرد والموقف الجزئي ليترك لقارئه أن يستخلص بنفسه العام النموذجي؛ ذلك أن المهمة التي يلقيها كانت على عاتق قارئه أشد عسرا، فهو يطالبه باستخلاص الخاص من العام، والفردي من المجرد، وإن كان الخاص والفردي هما النقطة التي انطلقت منها تأملاته.
2 •••
هل من العسير علينا حقا أن نتصور أن الأصل في الأفكار الأساسية في الأخلاق، وفي مقدمتها الأمر الأخلاقي المطلق، هو العقل الخالص نفسه؟ إن الإنسان منا ليس في حاجة إلى بحث طويل يدله على أن هناك نوعين من المعارف، تلك التي نستمدها من التجربة؛ فهي لهذا السبب معارف عرضية جزئية تحتمل التعدد والاستثناء، وتلك التي تنبع من العقل؛ فهي لهذا السبب معارف ضرورية مطلقة شاملة. من هذه الأخيرة نذكر معارفنا الرياضية، ومعارفنا في العلوم الطبيعية، التي تتيح لنا قوانينها الضرورية العامة أن نتنبأ بما يحدث في الكون الأكبر والكون الأصغر، في المجرات الهائلة وفي جزئيات المادة المتناهية في الصغر، ومعرفتنا بالأمر الأخلاقي الذي يصلح لكل إنسان في كل زمان ومكان؛ لأنه قانون عقلي مطلق، يصدر في أوامره عن العقل، مستقلا عن كل تجربة.
إننا نعيش بأشخاصنا في عالمين مختلفين؛ فنحن بإحساساتنا ودوافعنا وميولنا ننتمي إلى العالم الحسي ونخضع للقوانين الطبيعية التي تتحكم فيه، ونحن بعقولنا وحدها أعضاء في العالم المعقول، مواطنون في مملكة نيرة نبيلة يسميها كانت بمملكة الغايات في ذاتها. إن «جوته» يعطينا المفتاح الذي نفهم به هذه الازدواجية المؤكدة عند كانت حيث يقول على لسان فاوست:
نفسان آه! تسكنان صدري،
تود الواحدة لو تنفصل عن الأخرى:
إحداهما، في لذة الحب العارمة،
تتشبث أعضاؤها المتصلبة بالعالم،
والأخرى ترتفع في كبرياء من التراب،
إلى نعيم الجدود الأعلين.
فاوست، الجزء الأول
يقول الأمر الأخلاقي المطلق: «افعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ تشريع عام.» أو بعبارة أدق بحيث تريد لها أن تصبح قانونا عاما لجميع الناس. كما يقول في صيغة أخرى: «افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائما، وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة.» هنا تصبح المشكلة العسيرة، ألا وهي كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنا؛ فالتجربة لا تستطيع أن تقدم لنا مثالا واحدا يؤكد أن الأمر الأخلاقي يمكن أن يرد فيها في صورته الخالصة. وليس هناك مثال تجريبي ينهض دليلا على صحة الأمر الأخلاقي كما تنهض التجربة السليمة دليلا على صحة القانون الطبيعي وضرورته في كل الأحوال. ومع ذلك فنحن نستطيع أن نفسر كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنا إذا تعمقنا النظر في هذه الازدواجية التي يتميز بها وجودنا والتي تحدثنا عنها الآن؛ أعني إذا انتقلنا خطوة من التجربة إلى الميتافيزيقا - لا الميتافيزيقا التقليدية، بل الميتافيزيقا التي شيدها كانت مذهبا عقليا على أساس نقدي سليم - فلم نبدأ من التجربة، بل من تصور الإنسان لطبيعته من حيث هو كائن عاقل؛ فالعالم بالنسبة لهذا الكائن العاقل وحدة تجمع في شخصه بين عالم الطبيعة وعالم العقل (هذا الموقف نابع من تمييز المثالية الترنسندنتالية عند كانت بين الظاهرة والشيء في ذاته، ومن النزعة الغالبة عليه في التوفيق بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي)؛ فهناك العالم الحسي الذي ننتمي إليه باعتبارنا كائنات حسية تحددها القوانين الطبيعية كما تحدد الأشياء والظواهر من حولنا. وهناك من ناحية أخرى العالم المعقول الذي ننتمي إليه كذلك، ولكننا نقوم بتحديد أنفسنا ونشرع قوانين أفعالنا ونعتبر أحرارا بمقدار خضوعنا لهذه القوانين؛ فليست الحرية إلا هذا الخضوع الإرادي للقوانين، أو التحديد الذاتي
Selbstbestimmung
على حد تعبير كانت. والإنسان حر بقدر ما يخضع للقانون الذي يضعه هو نفسه لنفسه. ومن ثم كانت فكرة الحرية التي أستمدها من العقل والتي تجعلني عضوا في العالم المعقول هي الشرط الوحيد الذي يجعل الأمر الأخلاقي المطلق ممكنا.
ولكن كيف لي أن أطيع هذا الأمر الصارم المطلق، وكيف أخضع «لينبغي» و«يجب» القاسيتين، وأطرح كل ميولي ودوافعي، وأغض النظر عن كل منفعة قد تترتب على فعلي بينما أنا في نفس الوقت كائن حسي كما أنا كائن عاقل؟ إن الجواب الوحيد على ذلك هو في الحقيقة التي تقول إنني أنا الذي أشرع لنفسي هذا القانون، وإنني أنا الذي أحدد نفسي في كل فعل أقدم عليه، وإن الاحترام الذي أحمله للقانون الذي أشرعه لنفسي هو وحده الذي يجعلني أنفذ بالفعل ما يأمر به الأمر الأخلاقي المطلق بالعقل. إنني أعصب عيني عن كل جزاء يمكن أن يترتب عليه، وأزهد في كل منفعة قد تأتيني منه، وألغي كل رغبة أو أمل قد يتحقق من ورائه، ولا أقدم على الفعل إلا لأنني أجد أنه فعل صحيح وحق في ذاته، وأنه يتفق مع قاعدة سلوكي التي استقيتها من العقل الخالص ورفعتها بذلك إلى مستوى القانون الضروري المطلق. هناك أصل إلى الحد الذي ليس للإنسان أن يتعداه؛ فليس لي أن أسأل عن ماهية هذا الأمر الأخلاقي؛ لأنني لن أعرف عنه شيئا. إن كانت سيقول لي عندئذ - في نغمة لا تخلو من الحزن والمرارة وإن نبعت من معرفة عميقة بحدود الإنسان وإدراك أليم لتناهيه - إنك لن تفهم من الأمر الأخلاقي في نهاية المطاف إلا أنه لا سبيل إلى فهمه ...
بقيت كلمة أخيرة عن تصور الواجب؛ فمن المعروف أن الشاعر العظيم فريدريش شيللر كان في مقدمة من تأثروا تأثرا شديدا بمذهب كانت الأخلاقي، وأنه استطاع في كتاباته الفلسفية بعد ذلك أن يضع نظرية في الأخلاق تختلف في بعض ملامحها عن نظرية كانت.
ففي مقالة شيللر الشهيرة «عن الرقة والكرامة
über Anmut und Würde » نجده يأخذ على «الحكيم العالمي»، مع كل ما يحمله له من إعجاب وتقدير، ما في فكرة الواجب عنده من صلابة وقسوة. يقول شيللر:
إن فكرة الواجب في فلسفة كانت الأخلاقية تتميز بصلابة تفزع منها جميع العواطف الرقيقة، وقد تغري ضعاف الفهم في سهولة على أن يبحثوا عن الكمال الأخلاقي في زهد الرهبان.
والحق أن كلمة «الصلابة» تنطبق على مذهب كانت في الواجب تمام الانطباق؛ فنحن نحس بغير قليل من الصلابة في هذا الصوت الصارم الرهيب الذي يدعونا إلى أن نتخلى عن عواطفنا وميولنا وإحساساتنا ولا نطيع إلا أمره البارد المطلق القاسي. ونحن نحس بغير قليل من الصلابة في فعل «يجب» الذي يأمرنا بأن نؤدي الفعل دون أن ننتظر جزاء نجنيه من ورائه، لا بل دون أن نمني النفس بأدنى نصيب من السعادة. ومع ذلك فينبغي علينا إنصافا للحكيم العالمي كما يسميه شيللر بحق ألا نغفل هذا النبل النادر الرفيع الذي يجلل هامة الإنسان حين يخضع للقانون الأخلاقي لمجرد أنه قانون نبع من عقله الخالص، ولا أن ننكر ما يشعر به بلا شك من الرضا والارتياح في الوفاء بمثل هذا الواجب. ولا بد هنا من أن نفرق بين الواجب كما نفهمه اليوم ونقصد به في الغالب نوعا من الجبر يفرض علينا من الخارج، ويرزح على كواهلنا كأنه عبء ثقيل بغيض، وبين الواجب كما يفهمه كانت؛ فأنا حين أؤدي واجبي لا أخضع في رأي كانت لقوة خارجية أيا كان سلطانها، وإنما أفعل الفعل بما يتفق مع قانون وضعته لنفسي بنفسي، ولا أخضع له إلا لأنني أنا الذي شرعته لنفسي. وليس في ذلك شيء من التعسف أو الفوضى؛ لأن هذا القانون لن يستحق اسم القانون حتى يكون «حكما تركيبيا قبليا» على حد تعبير كانت، يصدر عن العقل الخالص وعن العقل الخالص وحده. وقد كان شيللر من أوائل الذين عرفوا بإحساسهم المثالي النبيل ما في فكرة الواجب الكانتية من صدق وعمق. ولعل أجمل تعبير عن ذلك ما يقوله لصديقه كورنر
Körner
في رسالة له بتاريخ 18 فبراير 1793م: «لا شك أنه ما من إنسان فان نطق بكلمة أعظم من هذه الكلمة التي يقولها كانت، والتي تعبر عن مضمون فلسفته كلها: «حدد نفسك بنفسك».» •••
عندما مات كانت في اليوم الثاني عشر من فبراير 1804م، بعد أن همست شفتاه بالكلمة التي لا يجد الحكيم خيرا منها ليختم بها حياته: «حسن
Es ist gut »، أعلنت مدينة كونجسبرج التي لم يكد يغادرها طوال حياته الخصبة المنتظمة الحداد العام وحمله أهلها إلى مقره الأخير في كاتدرائية المدينة. هناك نقشوا على قبره بحروف من ذهب هذه العبارة الشهيرة التي وردت في ختام نقد العقل العملي: «شيئان يملآن الوجدان بإعجاب وإجلال يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوق والقانون الأخلاقي في صدري.»
فإذا أفلح هذا الكتاب - في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى الأخلاق - في أن يعيد للأمر الأخلاقي شيئا من جلاله ورهبته، فحسب مؤلفه العظيم أن يكون جزاؤه من قراء العربية هذه الجزء.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة، يوليو 1963م
ملحوظة:
رجعت في ترجمة النص إلى نشرة أكاديمية العلوم الملكية البروسية في برلين،
1
في المجلد الرابع من الأعمال الكاملة لكانت، مطبعة جورج ريمر 1911، من صفحة 383 إلى صفحة 463، كما قارنته بالنص الذي تولى نشره ومراجعته على الطبعات الأخرى تيودور فالنتينر في سلسة ركلام المشهورة، شتوتجارت 1955م، وهي الطبعة التي استفدت منها كثيرا في كتابة مقدمة الطبعة العربية. ورجعت إلى الترجمة الفرنسية
2
التي قام بها فيكتور دلبوس المنشورة في باريس، مكتبة ديلاجراف، 1951م، واستعنت بها في استجلاء بعض غوامض النص الأصلي، كما اعتمدت على الهوامش الممتازة التي أضافها المترجم الفرنسي اعتمادا كبيرا.
هذا ويجد القارئ هوامش المترجم في أرقام مسلسلة، أما هوامش كانت الأصلية فيجدها مشارا إليها بعلامة (رقم الهامش ⋆ )، أما تعليقات المترجم على كانت فيجدها مشارا إليها بعلامة ( ⋆ ). وقد رأى المترجم أن يزيد على الجملة الألمانية كلمة أو كلمات أراد بها أن يوضح النص أو يربط العبارات الكانتية الطويلة الأنفاس، ووضعها بين أقواس كبيرة [] دون أن يخل بالحرفية الدقيقة في الترجمة، ما سمح بذلك الأسلوب العربي. أما زيادات كانت على النص فيجدها القارئ داخل النص بين ().
3
تمهيد
كانت الفلسفة اليونانية القديمة تقسم نفسها إلى علوم ثلاثة: الطبيعة، والأخلاق، والمنطق. هذا التقسيم
1
يلائم طبيعة الأشياء ملاءمة تامة، وليس في وسع المرء أن يحسن فيه شيئا، اللهم إلا أن يضيف إليه المبدأ الذي أقيم على أساسه، لكي يطمئن من ناحية على أنه تقسيم واف، ولكي يستطيع من ناحية أخرى أن يحدد فروعه الضرورية تحديدا سليما.
كل معرفة عقلية إما أن تكون مادية وتتناول بالبحث موضوعا ما، أو صورية وتتناول صورة الفهم والعقل نفسه والقواعد العامة للفكر على وجه الإطلاق فحسب، دون تفرقة بين الموضوعات. الفلسفة الصورية تسمى المنطق،
2
أما الفلسفة المادية، وهي التي تتناول بالبحث موضوعات بعينها والقوانين التي تخضع لها هذه الموضوعات، فهي تنقسم بدورها إلى قسمين؛ إذ إن هذه القوانين إما أن تكون قوانين للطبيعة أو قوانين للحرية. ويسمى العلم الذي يعالج الأولى بالفيزيقا، والذي يعالج الأخرى بالأخلاق، وقد يسمي البعض ذلك العلم نظرية الطبيعة ويطلق على هذا اسم نظرية الأخلاق.
لا يمكن المنطق أن يحتوي على جزء تجريبي؛ أعني أنه لا يمكن أن يحتوي على جزء تقوم فيه القوانين العامة والضرورية للفكر على أسس هي نفسها مستمدة من التجربة، وإلا لما كان منطقا؛ أي معيارا للفهم أو للعقل يصلح أن يطبق على كل فكر كما ينبغي البرهنة عليه، وعلى العكس من ذلك يمكن لكل من الحكمة الطبيعية والحكمة الأخلاقية أن تشتمل على جزء تجريبي؛ ذلك لأن تلك الحكمة لا بد لها أن تحدد قوانين الطبيعة بوصفها موضوعا للتجربة، ولأن على هذه أن تحدد قوانين إرادة الإنسان، من حيث إنه ينفعل بالطبيعة الأولى، بما هي قوانين يحدث كل شيء طبقا لها، والثانية بما هي قوانين ينبغي لكل شيء أن يحدث بما يتفق معها، مع ذكر الظروف التي يتسبب عنها في أغلب الأحيان ألا يتم ذلك.
نستطيع أن نسمي كل فلسفة تقوم على أسس من التجربة فلسفة مادية، وكل فلسفة تأخذ نظرياتها عن مبادئ قبلية
3
فلسفة خالصة.
4
هذه الأخيرة، حين تكون صورية فحسب تسمى «منطقا»، فإن كانت مقصورة على موضوعات بعينها من موضوعات الفهم، فتسمى عندئذ «بالميتافيزيقا».
5
على هذا النحو تتكون فكرة ميتافيزيقا مزدوجة: «ميتافيزيقا الطبيعة»، و«ميتافيزيقا الأخلاق». وهكذا يكون للفيزيقا جانبها التجريبي، بالإضافة إلى الجانب العقلي، ومثل ذلك الأخلاق، وإن كان من الممكن هنا أن يسمى الجانب التجريبي خاصة بالأنثروبولوجيا العلمية،
6
والجانب العقلي باسم الأخلاق.
لقد كسبت الحرف، والصناعات اليدوية، والفنون عن طريق تقسيم العمل، فلم يعد واحد بمفرده يقوم بعمل كل شيء، بل اختص كل بعمل معين يختلف في طريقة أدائه عن غيره من الأعمال اختلافا ملحوظا، وذلك لكي يتسنى له أن يصل به إلى أعظم حظ من الكمال وأن يتمه في سهولة ويسر. وحينما يدعي كل إنسان أنه رب ألف صنعة وصنعة، هنالك تكون الصنائع على حال من الفوضى لا مزيد عليها.
ولكن إذا صح أنه لا يخلو من فائدة أن نسأل: إن لم يكن على الفلسفة الخالصة بجميع أقسامها أن تبحث عن رجلها المقتدر، وإن لم يكن من الخير لصناعة العلم بجميع أحوالها أن يحذر هؤلاء الذين اعتادوا أن يمزجوا ما هو تجريبي بما هو عقلي بما يتفق ومزاج الجمهور على حسب مقادير ونسب مجهولة لهم هم أنفسهم ممن يلقبون أنفسهم بالمفكرين المستقلين وغيرهم ممن يعدون القسم العقلي وحده ويسمون أنفسهم بالمفكرين المتأملين؛ أقول أن يحذر هؤلاء وأولئك من أن يقوموا بممارسة عملين في وقت واحد، يختلف كل منهما عن صاحبه في طريقة تناوله اختلافا بينا، ويتطلب كل منهما ممن يقوم به موهبة من نوع خاص، ولا يؤدي الجمع بينهما في شخص واحد إلا إلى إخراج العاجزين، إذا صح هذا، فإنني أكتفي بأن أتساءل: ألا تتطلب طبيعة العلم التفرقة بعناية بين جزئه العملي وبين جزئه العقلي، وأن نقدم للفزياء (التجريبية) بميتافيزيقا الطبيعة وأن نسبق الأنثروبولوجيا العملية بميتافيزيقا الأخلاق بحيث ينقى كلاهما من كل عنصر تجريبي لكي نعرف مقدار ما يستطيع العقل الخالص في كلتا الحالتين أن يحققه ومن أي المنابع يستمد هو نفسه تعليمه القبلي هذا، يستوي في ذلك أن يقوم بهذه المهمة الأخيرة جميع معلمي الأخلاق (الذين يحملون اسم الفرقة) أو أن يقوم بها بعضهم ممن يشعرون أنهم أكفاء له.
ولما كنت أوجه عنايتي هنا إلى حكمة الأخلاق بوجه خاص، فإنني أحدد السؤال الذي طرحته من قبل على هذا النحو: أليس من صواب الرأي أن من أشد الأمور ضرورة إعداد فلسفة أخلاقية خالصة، نقية نقاء تاما من كل ما يمكن أن يكون تجريبيا ومن كل ما يتصل بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) بسبب؛ ذلك أن ضرورة وجود مثل هذه الفلسفة أمر يتضح بذاته من الفكرة المعتادة التي لدينا عن الواجب وعن القوانين الأخلاقية. إن كل إنسان لا بد أن يسلم بأن قانونا يراد له أن يكون قانونا أخلاقيا؛ أعني قاعدة التزام، لا بد أن يحمل طابع الضرورة المطلقة، وأن الوصية التي تقول: ينبغي عليك ألا تكذب؛ لا يمكن أن تكون صلاحيتها مقصورة على بني الإنسان وحدهم بحيث لا يكون لغيرهم من الكائنات العاقلة بها شأن، وهكذا الأمر مع كل القوانين الأخلاقية الأخرى، وفضلا عن هذا فإن قاعدة الإلزام هنا لا ينبغي أن تلتمس في طبيعة الإنسان ولا في ظروف العالم الذي وضع فيه، بل إنه لا بد من البحث عنها بطريقة قبلية في تصورات العقل الخالص وحدها، وإن كل التعاليم (الأخلاقية) الأخرى التي تقوم على مبادئ التجربة البحتة، بل تلك التي تعد بوجه من الوجوه تعاليم عامة، حيثما ارتكزت على قاعدة تجريبية، ولو كان ذلك في أقل أجزائها، وقد يكون أحد الدوافع التي دفعت إليها. نقول إن مثل هذه التعاليم قد نستطيع أن نسميه قاعدة للسلوك العملي، ولكننا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نطلق عليه اسم القانون الأخلاقي.
وهكذا تمتاز القوانين الخلقية - بما في ذلك المبادئ التي تقوم عليها بين كل المعارف العملية - من كل ما سواها مما يشتمل على أي عنصر تجريبي، لا من حيث الجوهر فحسب، بل إن كل فلسفة أخلاقية تستند استنادا تاما على الجزء الخالص منها، وعند تطبيقها على الإنسان فإنها لا تستعير أقل نصيب من المعرفة به [أي من الأنثروبولوجيا] بل تعطيه، بوصفه كائنا عاقلا، قوانين قبلية، تتطلب بالطبع من خلال التجربة ملكة حكم حادة، لكي يمكن من ناحية تمييز الحالات التي يستطاع تطبيقها عليه، ولكي يتيسر من ناحية أخرى أن تجد سبيلها إلى إرادة الإنسان وأن تؤثر الأثر المؤدي إلى ممارستها؛ ذلك أن الإنسان، وهو الكائن الذي ينفعل بالكثير من النزعات، يقوى حقا على إدراك فكرة عقل عملي خالص، ولكنه لا يستطيع بسهولة أن يجعلها تؤثر على مجرى حياته تأثيرا فعالا.
وإذن فإن ميتافيزيقا الأخلاق ضرورية ضرورة لا غنى عنها، لا عن دافع من دوافع التأمل المجرد فحسب يستهدف البحث في مصدر القواعد الأخلاقية الموجودة في عقلنا وجودا قبليا، بل لأن الأخلاق نفسها لا تفتأ تتعرض لألوان من الفساد لا حصر لها، ما بقيت مفتقرة إلى ذلك المقياس والمعيار الأعلى الذي لا بد منه للحكم عليها حكما صحيحا؛ ذلك لأن كل ما ينبغي له أن يكون خيرا من الناحية الأخلاقية لا يكفي فيه أن يكون «مطابقا» للقانون الخلقي، بل لا بد له كذلك أن يحدث «من أجله»، وإلا كان هذا التطابق من قبيل الصدفة وكان تطابقا فاسدا؛ ذلك لأن القاعدة غير الأخلاقية قد تتولد عنها من حين إلى آخر أفعال مطابقة للقانون، ولكنها لا تنتج في أغلب الأحيان غير أفعال منافية للقانون الخلقي. أما والقانون الخلقي في نقائه وأصالته (وعلى هذين يعول في السلوك العملي) لا يمكن البحث عنه في غير فلسفة نقية خالصة، فلا بد لهذه الميتافيزيقا أن تسبقه وتتقدم عليه، وبغيرها لن يقوم لفلسفة أخلاقية وجود، بل إن الفلسفة التي تخلط تلك المبادئ الخالصة بالمبادئ التجريبية لا تستحق أن تسمى فلسفة (ذلك لأن الفلسفة تتميز من المعرفة العقلية الشائعة بأنها تعرض ما تتصوره هذه مختلطا على هيئة علم مستقل بذاته) ولا تستحق حتى أن تسمى فلسفة أخلاقية؛ لأنها بهذا الخلط إنما تفسد نقاء الأخلاق وتتعارض مع الهدف الذي تريد هي نفسها تحقيقه.
ولا يحسبن أحد أن ما نطالب به ها هنا قد ذكر من قبل في المقدمة التي وضعها فولف
Wolff
7
الشهير لفلسفته الأخلاقية؛ أعني لما سماه بالحكمة العملية العامة، وأننا هنا لا نطرق حقلا جديدا.
ذلك أنه لما كان المقصود منها أن تكون فلسفة عملية عامة، فإنها لم تضع الإرادة من أي نوع كانت موضع البحث؛ كأن تكون هذه الإرادة على سبيل المثال إرادة من ذلك النوع الذي يتعين دون أية دوافع تجريبية عن طريق مبادئ قبلية بحتة، وهو ما يمكن أن نسميه بالإرادة الخالصة، بل لقد وضعت فعل الإرادة بوجه عام موضع النظر بما في ذلك كل الأفعال والشروط التي تضاف إليه بحسب هذا المفهوم العام. وهكذا تختلف [هذه الفلسفة العملية العامة] عن ميتافيزيقا الأخلاق اختلاف المنطق العام عن الفلسفة المتعالية؛ فالأولى تختص بأفعال وقواعد الفكر «على الإطلاق»، أما الثانية فبالأفعال والقواعد «الخاصة» بالفكر «الخالص» وحده؛ أعني به ذلك الفكر الذي يمكن أن تعرف الموضوعات من خلاله معرفة قبلية بحتة.
ذلك أن من واجبات ميتافيزيقا الأخلاق أن تتناول بالبحث فكرة ومبادئ إرادة «خالصة» ممكنة، لا أن تتناول أفعال وشروط فعل الإرادة الإنسانية بوجه عام، وهي التي يمكن أن يستقى الجانب الأكبر منها من علم النفس. ولا ينهض حجة على ما أؤكده أن الفلسفة العملية العامة تتناول كذلك بالبحث (وإن تكن مخطئة في ذلك) القوانين الأخلاقية والواجب؛ ذلك أن أصحاب ذلك العلم يبقون على إخلاصهم في هذه الناحية أيضا للفكرة التي لديهم عنه، إنهم لا يميزون الدوافع التي لا يمكن تصورها إلا عن طريق العقل وبطريقة قبلية بحتة، وهي الدوافع الأخلاقية حقا، من تلك الدوافع التجريبية التي يرتفع بها الفهم، عن طريق المقارنة وحدها بين التجارب، إلى مستوى التصورات عامة، بل ينظرون إليها، بغير أن يلقوا بالا إلى الفروق الموجودة بين مصادرها، على حسب مقاديرها الكبرى أو الصغرى فحسب (وذلك بوصفها جميعا متشابهة في النوع) ويكونون بذلك تصورهم عن «الالتزام»؛ ذلك التصور الذي لا يمكن أن يقال عنه إنه أخلاقي وإن لم يطلب بطبيعته إلا في فلسفة لا تتعرض لمصدر جميع التصورات العملية الممكنة على الإطلاق بالحكم ولا تقرر شيئا عما إذا كانت هذه التصورات توجد بطريقة قبلية أو بطريقة بعدية.
ولما كان في عزمي أن أضع في يوم من الأيام ميتافيزيقا للأخلاق، فإنني أقدم لها بهذا البحث في أصولها. حقا إنه لا يوجد ثمة بحث آخر في أصول ميتافيزيقا الأخلاق إلا نقد العقل العملي الخالص، على نحو ما كان النقد الذي قدمناه للعقل النظري الخالص مبحثا في أصول الميتافيزيقا.
8
غير أن ذلك النقد لا يعادل في ضرورته القصوى هذا النقد الأخير ؛ ذلك لأن العقل الإنساني في مجال الأخلاق، حتى عند أقل الناس حظا من الفهم، يمكن أن يصل في سهولة ويسر إلى درجة عالية من الصواب والإسهاب، بينما هو على العكس من ذلك في الاستعمال النظري الخالص ديالكتيكي
9 (جدلي) بحت. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنني أتطلب بالضرورة من نقد العقل العملي الخالص، إذا ما أريد له أن يكون نقدا كاملا، أن يكون من المستطاع التعبير عن وحدته مع العقل النظري في مبدأ واحد مشترك؛ ذلك أنه لا يمكن أن يكون في نهاية المطاف غير عقل واحد بالذات، لا بد من التمييز فيه بين عقل نظري وآخر عملي عند التطبيق فحسب. وما كان في استطاعتي أن أصل به إلى مثل هذا التمام بغير أن أضيف إليه تأملات أخرى من نوع مختلف عما ذكرته تمام الاختلاف وبغير أن أوقع القارئ في الارتباك. ولكي أتلافى ذلك لجأت إلى تسمية مبحثي «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» بدلا من تسميته بنقد العقل العملي الخالص.
ولما كانت ميتافيزيقا الأخلاق، بغض النظر عن عنوانها المثير للفزع، قادرة من ناحية ثالثة على التمتع بنصيب كبير من الشعبية والملاءمة للفهم العام؛ فقد وجدت من الخير أن أفصل هذا التمهيد للأصول عنها، وذلك لكي يتسنى لي فيما بعد أن أضيف ما دق من مسائلها وما لم يكن بد من التعرض له فيها، إلى المذاهب والآراء التي تستعصي على الفهم.
هذا الكتاب في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق لا يزيد عن كونه محاولة للبحث عن المبدأ الأعلى للأخلاق وتثبيت دعائمه، وهي محاولة تكفي في الهدف المقصود منها لأن تكون عملا متكاملا يمكن الفصل بينه وبين كل مبحث آخر في الأخلاق.
حقا إن مزاعمي التي أسوقها عن هذه المسألة الرئيسية الهامة التي لم يقدر لها حتى الآن أن تعالج معالجة مرضية سوف يتكشف صوابها وتنال حظا كبيرا من التأييد بفضل تطبيق هذا المبدأ الأخلاقي نفسه على المذهب كله وبفضل ما فيها من البساطة التي تتجلى في جميع أجزائها، غير أنني وجدت أن من الواجب علي أن أتخلى عن هذه المزية، التي قد لا تكون في حقيقة الأمر إلا تعبيرا عن الأثرة أكثر من أن تكون دليلا على النفع العام؛ ذلك لأن البساطة التي يطبق بها المبدأ واليسر الذي قد يبدو فيه لا ينهضان دليلا قويا على صحته، بل إنهما قد يوقظان نوعا من التحيز يمنع المرء من أن يمتحنه امتحانا دقيقا من أجل ذاته، وبغض النظر عن نتائجه.
لقد اتبعت في هذا الكتاب منهجا رأيت أنه أنسب المناهج حين يسير الإنسان من المعرفة المشتركة إلى تحديد مبدئها الأعلى بطريقة تحليلية، وحين يعود فيسير بطريقة تركيبية من امتحان هذا المبدأ ومصادره إلى المعرفة العامة التي سيتم تطبيقه عليها،
10
وهكذا انقسم الكتاب إلى هذه الأقسام:
القسم الأول:
الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية.
القسم الثاني:
الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق.
القسم الثالث:
الخطوة الأخيرة من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص.
القسم الأول
الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
من بين الأمور التي يمكن تصورها في هذا العالم، أو خارجه، لا يوجد شيء يمكن عده خيرا على وجه الإطلاق ودون قيد، اللهم إلا شيء واحد، هو: الإرادة الخيرة.
فالفهم، والذكاء، وملكة الحكم
1
وما سواها من مواهب العقل، أيا كان الاسم الذي تتسمى به، أو الشجاعة والتصميم والإصرار على الهدف بوصفها من خصائص المزاج، هي كلها بلا ريب خصائص خيرة خليقة بأن يطمح إليها الإنسان، غير أن هذه الهبات الطبيعية قد تكون سيئة بالغة السوء والضرر إذا لم تكن الإرادة التي عليها أن تستخدمها والتي يطلق على أخص خواصها من أجل هذا السبب اسم «الطبع»
2 [أو الخلق] - إرادة خيرة. ومثل هذا القول ينطبق على هبات الحظ؛ فالقوة، والغنى، والشرف، بل الصحة نفسها والهناء والرضا عن الحال، مما درجنا على تسميته «بالسعادة»، قد يتولد عنها الاعتزاز بالنفس الذي قد ينحرف في أغلب الأحيان فيصير غرورا واختيالا، هذا إن لم تكن ثمة إرادة خيرة تصلح من أثرها على الوجدان وتوجهها نحو غايات وأهداف عامة وتصحح مبدأ السلوك كله، وما بنا حاجة إلى القول بأن الشاهد العاقل غير المتحيز لا يمكن بأية حال أن ترضى نفسه برؤية كائن يتقلب في أعطاف النعيم وقد تعطل عن كل إرادة نقية خيرة. وهكذا يبدو أن الإرادة الخيرة هي الشرط الذي لا غنى عنه لكي يكون الإنسان خليقا بالسعادة.
3
هناك بعض الخصائص التي تسند هذه الإرادة الخيرة وقد تساعد على تيسير عملها مساعدة فعالة، ولكنها مع ذلك لا تحتوي في ذاتها على أية قيمة مطلقة، بل تفترض دائما وجود إرادة أخرى طيبة (سابقة عليها) مما يحد من التقدير العالي الذي نحمله لها بحق في أنفسنا ويجعل من المتعذر علينا أن ننظر إليها نظرتنا إلى إرادة خيرة مطلقة؛ فالاعتدال في العواطف والانفعالات، والسيطرة على النفس، والمقدرة على التدبر المتزن ليست خيرة من كثير من الوجوه فحسب، بل إنها تكون فيما يبدو جزءا من القيمة الباطنة (أو الذاتية) للشخص، غير أنه ينقصها الكثير لكي نعدها خيرة دون تحفظ (وإن كان الأقدمون قد أثنوا عليها ثناء لا مزيد عليه)؛ ذلك لأنها إذا لم تستند إلى المبادئ التي تقدم عليها الإرادة الطيبة فقد يستفحل شرها، وإن دم الشرير البارد لا يجعله أشد خطورة فحسب، بل إنه ليزيد مباشرة من بشاعته في أعيننا أكثر مما كنا سنحكم لو أنه تجرد عنها.
إن الإرادة الخيرة لا تكون خيرة بما تحدثه من أثر أو تحرزه من نجاح، لا ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده؛ أعني أنها خيرة في ذاتها، وأنها إذا نظر إليها في ذاتها فلا بد لنا - بلا وجه للمقارنة - أن نقدرها تقديرا يرتفع بها درجات عن كل ما من شأنه أن يتحقق بوساطتها لمصلحة ميل من الميول أيا كان، لا بل لمصلحة كل الميول مجتمعة. وإذا ما شاءت نقمة الأقدار أو تقتير طبيعة تتسم بصفات الحموات أن تسلب هذه الإرادة كل قدرة على تحقيق أهدافها، وإذا ما عجزت برغم أشق الجهود التي تبذلها عن إدراك أي شيء، ولم يبق إلا الإرادة الخيرة وحدها (لا أريد بهذا بالطبع أن تبقى مجرد رغبة فحسب، بل أقصد أن تكون حشدا لجميع الوسائل الممكنة في طاقتنا) فسوف تلمع بذاتها لمعان الجوهرة، مثل شيء يحتفظ في نفسه بكل قيمته؛ فلا المنفعة تستطيع أن تضيف إلى هذه القيمة شيئا، ولا العقم يمكنه أن ينقص منها في شيء. ولن تزيد المنفعة على أن تكون التغليفة التي تيسر تداول الجوهرة بين الناس، أو تلفت إليها أنظار من لم يعرفوها بعد معرفة كافية، لا لكي توصي بها العارفين أو تحدد قيمة ثمنها.
في هذه الفكرة وحدها عن القيمة المطلقة للإرادة، ودون أن تحسب حساب المنفعة في تقديرنا لها؛ أقول إن في هذه الفكرة نوعا من الغرابة يثير بالضرورة وبالرغم عن التقابل التام بينها وبين الحس المشترك، لونا من الشبهة التي قد تدعو إلى الظن بأنها لا ترتكز إلا على وهم متعال، وأن الطبيعة ربما أسيء فهم قصدها من جعل العقل حاكما على الإرادة. من أجل هذا نريد أن نفحص هذه الفكرة من وجهة النظر هذه.
نحن نسلم، عند النظر إلى التكوين الطبيعي لكائن عضوي، أعني لكائن أعد للحياة، بمبدأ أساسي مؤداه أنه ما من عضو فيه جعل للوفاء بغاية من الغايات إلا وكان أنسب الأعضاء لتحقيق هذه الغاية وأكثرها ملاءمة لها؛ فلو كان الهدف الأساسي الذي تقصد إليه الطبيعة من كائن ذي عقل وذي إرادة أن توفر له «البقاء والهناء» وبالجملة «السعادة»، لكانت قد أساءت الاختيار إذ جعلت عقل هذا المخلوق أداة لتنفيذ غرضها؛ ذلك لأن جميع الأعمال التي ينبغي على هذا الكائن الحي أن يؤديها لتحقيق هذا الغرض وكذلك قاعدة سلوكه بتمامها كانت ترسمها له غريزته على وجه أدق، وذلك الغرض كان سيتحقق بطريقة أضمن مما كان يعجز عنه العقل لو أنه حاول ذلك، ولو أن هذا المخلوق وهب العقل لما نفعه في شيء إلا في نسج تأملات تدور حول الاستعدادات الطبيعية التي وفقه الحظ إليها، والإعجاب بها وتهنئة نفسه بما رزق منها والتعبير عن شكره للعلة التي أنعمت عليه بها، لا في إخضاع ملكة الاشتهاء والرغبة لديه لتلك القيادة الضعيفة المضللة والانحراف بالطبيعة عن قصدها وغايتها، وبالجملة فإنها تكون قد اتخذت الحيطة لتمنع العقل من أن يسير في طريق الاستخدام العملي أو يتجاسر فيحاول، ببصيرته الكلية، أن يضع خطة السعادة والوسائل المؤدية إليها ولعهدت بهما جميعا إلى الغريزة وحدها.
والواقع أننا نجد أنه كلما انصرف العقل المستنير إلى تحصيل المتعة في الحياة والسعادة، ابتعد الإنسان عن الرضا الحقيقي. وهذا هو السبب في أن كثيرا من الناس، وبالأخص أولئك الذين حصلوا أكبر قدر من التجربة في ممارسة العقل - هذا إذا توافر لديهم من الإخلاص مما يجعلهم يعترفون بذلك - يتولد لديهم قدر معين من الميزولوجيا،
4
أعني من كراهية العقل؛ ذلك لأنهم بعد أن يحسبوا حساب كل المزايا التي حصلوها، لا أقول من وراء اكتشاف كل فنون الترف الشائع، بل كذلك من العلوم نفسها (التي تبدو لهم في نهاية المطاف وكأنها ترف ذهني) يجدون في حقيقة الأمر أنهم إنما حملوا أنفسهم من التعب والشقاء أضعاف ما جنوه من السعادة، وأنهم يشعرون نحو هذه الفئة الغالبة من الناس، التي تسلم قيادها إلى الغريزة الطبيعية وحدها ولا تسمح للعقل بأن يؤثر تأثيرا كبيرا على ما تأتي وما تدع من أفعال، بلون من الحسد يزيد بكثير عما تضمره لها من تحقير. وهكذا ينبغي علينا أن نعترف بأن حكم أولئك الذين يكفكفون من غلواء المدائح التي تمجد المزايا التي يتعين على العقل أن يحصلها لنا فيما يتعلق بالسعادة والرضا في الحياة، لا بل يضعون من شأنها حتى تصير أقل من لا شيء، لا يصدرون في ذلك عن طبع ساخط بالعناية التي تحكم الكون، بل إن هذا الحكم الذي يذهبون إليه إنما يقوم في حقيقته على فكرة أن الغاية من وجوده أشد اختلافا وأسمى نبلا، وأن العقل إنما يهدف في الحقيقة إلى هذه الغاية خاصة لا إلى تحقيق السعادة، وأن على الإنسان بالتالي أن يخضع في معظم الأحيان مآربه الشخصية لهذه الغاية بوصفها الشرط الأسمى.
5
ولما كان العقل لا يصلح صلاحية كافية لقيادة الإرادة قيادة رشيدة إلى ما تسعى إليه من موضوعات وإلى إرضاء جميع حاجاتنا (التي يعمل هو نفسه على الإكثار منها) وكانت الغريزة الطبيعية المفطورة أقدر منه على تحقيق هذا الغرض، ولما كنا قد أوتينا العقل ملكة عملية، أعني ملكة عليها أن تؤثر أثرها على «الإرادة»؛ فإن مصيره الحق ينبغي أن يتجه إلى بعث إرادة خيرة فينا لا تكون وسيلة لتحقيق غاية من الغايات، بل تكون إرادة خيرة في ذاتها. من أجل هذا كان وجود العقل أمرا تقتضيه الضرورة المطلقة، بينما سارت الطبيعة في كل مجال وزعت فيه استعداداتها الفطرية وفق الغايات التي تسعى إلى تحقيقها. قد لا تكون هذه الإرادة هي الخير الأوحد ولا الخير كله، ولكن ينبغي أن تكون بالضرورة الخير الأسمى والشرط الذي يتوقف عليه كل خير آخر، بما في ذلك النزوع إلى السعادة. في هذه الحالة يكون مما يتفق مع الحكمة التي تتجلى في الطبيعة ما نستطيع أن نلاحظه من أن ثقافة العقل، التي لا غنى عنها لتحقيق الغاية الأولى المطلقة، تحد من وجوه كثيرة من تحقيق الغاية الثانية، المشروطة دائما، ألا وهي السعادة، في هذه الحياة على الأقل، بل لقد ينتهي بها الأمر إلى أن تحيلها إلى لا شيء. والطبيعة في هذا لا تسير سيرها دون غاية؛ ذلك لأن العقل الذي يعرف أن هدفه العملي الأسمى هو إقامة إرادة خيرة، إنما يحس عند بلوغ هذا الهدف بنوع من الرضا الذي يناسب طبيعته، وهو الرضا الذي ينبع عن تحقيق غرض لا يعينه إلا العقل نفسه، وإن ارتبط ذلك بشيء من الضرر الذي يلحق أغراض النوازع النفسية.
ومن أجل أن نتناول تصور الإرادة الخيرة الجديرة في حد ذاتها بأسمى درجة من التقدير، والخيرة بغض النظر عن أي هدف أو غاية تناولا وافيا، على نحو ما نجده كامنا في الفهم الطبيعي السليم، لا يحتاج إلى أن يعلم بل إلى أن يبصر به تبصيرا هينا، هذا التصور الذي يحتل في تقديرنا للقيمة الكاملة لأفعالنا أرفع مكان دائما والذي يكون الشرط الذي لا غنى عنه لكل ما عداه؛ أقول إننا قبل أن نتناوله تناولا وافيا سنفحص تصور الواجب الذي ينطوي على تصور إرادة خيرة وإن اقترن هذا بتحديدات وعوائق ذاتية معينة، نخطئ كثيرا إن قلنا إنها تحجبه أو تشوه منه؛ إذ إنها تتيح له في الحقيقة عن طريق المضاهاة (بينه وبينها) أن يكشف عن نفسه ويتجلى في تمام روعته وصفائه.
6
أدع هنا جانبا كل أفعال السلوك التي عرف عنها أنها منافية للواجب وإن جاز اعتبارها من وجهة النظر هذه أو تلك أفعالا نافعة؛ ذلك لأننا لا نملك على الإطلاق أن نسأل إن كانت قد صدرت عن شعور بالواجب، ما دامت تخالفه مخالفة صريحة. كذلك أدع جانبا الأفعال التي تطابق الواجب مطابقة حقة، ولكن لا يشعر الناس نحوها «بأي ميل» مباشر وإن كانوا يقبلون مع ذلك على ممارستها مدفوعين بميل آخر؛ ذلك أن من السهل علينا في هذه الحالة أن نتبين إن كانت الأفعال المطابقة للواجب قد تمت عن شعور بالواجب أو عن حرص أناني على المصلحة، ولكن سيصعب علينا كثيرا أن نلاحظ هذا الفارق حين يكون الفعل مطابقا للواجب وحين يميل الشخص إليه إلى جانب ذلك ميلا مباشرا.
7
مثال ذلك أنه مما يتفق مع الواجب ألا يرفع التاجر من السعر على عميله غير المجرب، وإن التاجر الفطن ليتحاشى ذلك بالفعل حيثما راج سوق البيع والشراء، بل إنه ليحافظ على سعر ثابت عام للجميع حتى ليستطيع الطفل أن يشتري لديه بنفس الأسعار التي يشتري بها أي إنسان آخر. وإذن فالإنسان هنا يعامله «بأمانة»، غير أن هذه المعاملة الأمينة لا تكفي على الإطلاق لكي تجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بأن التاجر قد صدر في مسلكه هذا عن إيمان بالواجب وبمبادئ الأمانة. إن مصلحته قد اقتضت ذلك. ولا يستطيع الإنسان في هذا المقام أن يفترض أنه كان يحمل في نفسه ميلا مباشرا نحو عملائه، بحيث جعلته هذه العاطفة التي يحس بها نحوهم لا يفضل واحدا منهم على الآخر في السعر. وإذن فلم يصدر هذا السلوك لا عن واجب ولا عن ميل مباشر، بل كان الباعث عليه هو المصلحة الذاتية وحدها.
وعلى العكس من ذلك، فإن محافظة الإنسان على حياته واجب، وهي بالإضافة إلى هذا أمر يشعر كل واحد منا نحوه بميل مباشر. بيد أن الحرص القلق الذي يخالج معظم الناس على حياتهم لا ينطوي على قيمة ذاتية، والمسلمة التي يقوم عليها لا تحتوي على أي مضمون أخلاقي. إنهم يحافظون حقا على حياتهم «بما يتفق مع الواجب»، ولكنهم لا يفعلون ذلك عن شعور «بالواجب». وعلى العكس من ذلك حين تسلب المنغصات والسخط اليائس كل طعم للحياة، وحين يحس التعيس ذو النفس القوية بالغضب على القدر الذي قسم له أكثر من إحساسه بالهزيمة أو الهوان، فيتمنى لنفسه الموت ويحافظ مع ذلك على الحياة دون أن يحبها، لا عن ميل أو جزع، عندئذ تكون مسلمته ذات مضمون أخلاقي.
الإحسان، حيثما استطاع الإنسان، واجب، وهنالك بعض النفوس التي بلغ بها العطف مبلغا يجعلها تجد المتعة الباطنة في إشاعة السرور حولها واللذة في رضا الغير، طالما كان فعلا من أفعالها، دون أن يدفعها إلى ذلك دافع من غرور أو أثرة. غير أنني أزعم أن مثل هذا الفعل، مع مطابقته للواجب واستحقاقه للثناء، لا ينطوي على قيمة أخلاقية حقيقية، بل يرافق ميولا أخرى ويلازمها، مثال ذلك الميل إلى الشرف الذي إذا أسعده الحظ فصادف ما يتفق في الواقع مع المصلحة العامة ومع الواجب ومع ما يكون بالتالي مجلبة للشرف، فقد استحق الثناء والتشجيع وإن لم يستحق الاحترام والتقدير؛ ذلك أن المسلمة ينقصها المضمون الأخلاقي؛ أعني أن تؤدى هذه الأفعال لا عن ميل بل عن شعور «بالواجب». فإذا فرضنا أن وجدان صديق بني الإنسان هذا لفعته سحب الهموم الذاتية التي تقضي على كل مشاركة وجدانية في أقدار الآخرين، وأنه لا يزال قادرا على تقديم الخير لغيره من المعذبين، وأنه قد شغل بشقائه الشخصي فلم يعد شقاء الآخرين يحرك فيه جارحة، وأنه على هذه الحال التي لا يؤثر عليه فيها ميل يستطيع أن ينزع نفسه من هذا الجمود المميت وأن يؤدي الفعل عن شعور بالواجب فحسب، مجردا عن كل ميل، عندئذ فقط تكون لهذا الفعل قيمته الأخلاقية الأصيلة، بل إنني أزيد على هذا فأقول لو أن الطبيعة وضعت في قلب هذا الإنسان أو ذاك قليلا من المشاركة الوجدانية، ولو كان (وهو الإنسان الأمين) بارد المزاج عديم الاكتراث لآلام غيره من الناس، ربما لأنه هو نفسه قد رزق من الصبر والعزم والثبات ما يواجه به آلامه وما يجعله يفترض وجودها عند غيره من الناس أو على مطالبته بأن يكون لديه مثلها؛ أقول إذا شاءت الطبيعة ألا تجعل مثل هذا الإنسان (الذي لن يكون أسوأ إنتاجها) صديقا محبا للبشر، فهل يعدم مثل هذا الإنسان أن يجد في نفسه المصدر الذي يجعله يعطي نفسه قيمة أعلى بكثير من القيمة التي يمكن أن تكون لمزاج خير بطبيعته؟ بلى! إن القيمة التي نخلعها على الشخصية (الطبع)، وهي القيمة الأخلاقية التي لا يضارعها في سموها قيمة أخرى، تظهر على وجه الخصوص في هذا المجال؛ أعني أن يحسن الإنسان لا عن ميل بل عن شعور بالواجب.
إن تأمين الإنسان لسعادته الذاتية واجب (على الأقل بطريق غير مباشر)؛ ذلك لأن عدم رضا المرء عن حاله، وتزاحم الهموم العديدة عليه، ومعيشته وسط حاجات لم يتم إشباعها قد تكون إغراء قويا له على أن يدوس على واجباته، ولكننا حتى لو صرفنا النظر في هذا المقام عن فكرة الواجب، فسنجد أن الناس جميعا يتملكهم نزوع باطن بالغ القوة نحو السعادة؛ ذلك لأن جميع النزعات تتحد في هذه الفكرة بالذات [أي فكرة السعادة] وحدة كلية. غير أن القاعدة التي توصي بالسعادة تكون في أغلب الأحيان بحيث تلحق ضررا كبيرا ببعض الميول، وبحيث لا يستطيع الإنسان أن يكون لنفسه تصورا محددا ومؤكدا عن المجموع الذي يتألف من إشباع هذه الميول، وهو ما يطلق عليه اسم السعادة؛ ولهذا فليس من العجيب في شيء أن نجد ميلا فريدا محددا بالإضافة إل ما يعد به والوقت الذي ينتظر أن يتم إشباعه فيه، يقع تحت سيطرة فكرة مذبذبة، وأن نجد امرءا ذواقة على سبيل المثال، يقبل بمحض اختياره على الاستمتاع بطعام يستطعمه كما يختار الألم الذي سيترتب عليه من ورائه؛ لأنه في حسابه هنا على الأقل لم يشأ أن يضيع على نفسه متعة اللحظة الراهنة انتظارا لأمل ربما يكون خاطئا عن السعادة التي تكمن في الصحة، ولكن إذا كان الميل العام للسعادة في هذه الحالة أيضا لم يحدد إرادته إذا كانت الصحة لم تبلغ من الأهمية في اعتباره مبلغا يجعله بداخلها بالضرورة في حسابه، فسيبقى في هذه الحالة، كما في كل حالة سواها، قانون يأمره بالعمل على تحصيل سعادته، لا عن ميل، بل عن إحساس بالواجب، وها هنا فحسب تكون لمسلكه قيمة أخلاقية حقة.
بهذا المعنى ينبغي علينا بلا نزاع أن نفهم مواضع الكتاب المقدس التي وصى الإنسان فيها بمحبة جاره، حتى لو كان هذا الجار عدوا لنا؛ ذلك لأن الحب بوصفه ميلا لا يمكن أن يوصى به، أما الإحساس عن إحساس بالواجب المحض، حين لا يكون ثمة ميل على الإطلاق يدفعنا إلى الإقدام عليه، لا بل حين يصدنا عنه نفور طبيعي غلاب، إنما هو حب عملي لا حب انفعالي باثولوجي
8
يقوم على الإرادة لا على نوازع الحساسية، ويستند على مبادئ السلوك لا على مشاركة عاطفية مفرطة، ذلك الحب وحده هو الذي يمكن أن يوصى به.
9
القضية الثانية تقول: الفعل الذي يتم عن إحساس بالواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من «الهدف» الذي يرجى بلوغه من ورائه، بل من المسلمة التي تقرر القيام به وفقا لها، فهي إذن لا تتوقف على واقعية موضوع الفعل، بل تعتمد فحسب على مبدأ الإرادة الذي حدث الفعل بمقتضاه، بصرف النظر عن كل موضوعات الاشتهاء. ويتضح مما تقدم أن الأهداف التي يمكن أن تكون لدينا عند القيام بأفعالنا والآثار التي تنجم عنها، بوصفها غايات ودوافع محركة للإرادة ، لا تستطيع أن تعطي هذه الأفعال أية قيمة مطلقة أو قيمة أخلاقية. أين يمكن إذن أن توجد هذه القيمة، إن لم توجد في الإرادة من حيث علاقتها بالأثر المرجو من وراء تلك الأفعال؟ إن هذه القيمة لا يمكن أن توجد إلا في مبدأ الإرادة بغض النظر عن الغايات التي قد تتحقق عن طريق مثل ذلك الفعل؛ ذلك لأن الإرادة تقع موقعا وسطا بين مبدئها القبلي، وهو شكلي، وبين البواعث البعدية الدافعة إليه، وهي مادية، وكأنها تقع على مفرق الطرق، ولما كان من اللازم أن تتحدد عن طريق شيء ما، فلا بد لها أن تحدد عن طريق المبدأ الشكلي للإرادة بوجه عام، حينما يحدث فعل عن واجب؛ إذ يكون قد نزع عنه كل مبدأ مادي.
أما القضية الثالثة، وهي بمثابة النتيجة المترتبة على القضيتين السالفتين، فأستطيع أن أعبر عنها على النحو التالي: «الواجب هو ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون». حقا إنني قد أجد لدي ميلا للموضوع، بوصفه أثرا من آثار الفعل الذي أنوي الإقدام عليه، ولكنني لن أحمل له احتراما، والسبب في ذلك أنه مجرد أثر للإرادة وليس نشاطا فعالا تقوم به. وبالمثل لا أستطيع أن أحمل للميل بوجه عام، سواء أكان صادرا عني أم عن غيري، أي احترام، وقصارى جهدي أن أحبذه في الحالة الأولى، بل قد أحبه في الحالة الثانية، أعني أنني قد أعده مما يعزز مصلحتي الخاصة. إن ما يرتبط بإرادتي كمبدأ لها فحسب، لا كأثر من آثارها أبدا، لا يخدم ميلي بل يسيطر عليه، أو يستبعد على الأقل من حسابها (أي الإرادة) عند الاختيار. وإذن فالقانون المجرد في ذاته هو وحده الذي يمكن أن يكون موضوعا للاحترام، وبالتالي أمرا أخلاقيا. فإذا كان على فعل من الأفعال تم بباعث من الواجب أن يستبعد كل أثر للعميل ومعه كل موضوع من موضوعات الإرادة فسوف لا يبقى شيء مما يمكن أن يحدد الإرادة إلا أن يكون من الناحية الموضوعية هو «القانون»، ومن الناحية الذاتية الاحترام الخالص لهذا القانون العملي ، وبالتالي لن يبقى إلا المسلمة
10 ⋆
التي تأمرني باتباع مثل هذا القانون، حتى لو أدى ذلك إلى التخلي عن جميع النزعات والميول التي أحملها في نفسي.
وهكذا فإن القيمة الأخلاقية للفعل لا تكمن في الأثر الذي ينتظر من ورائه، ولا في أي مبدأ من مبادئ الفعل يحتاج إلى استعارة الباعث عليه من هذا الأثر المنتظر؛ ذلك لأن جميع هذه الآثار المترتبة على الفعل (مثل رضا الإنسان على حاله، بل والعمل على إسعاد الغير) يمكن أيضا أن تنتج عن أسباب أخرى؛ بحيث لا يكون هناك حاجة إلى إرادة كائن حي عاقل، فيها وحدها انجد الخير الأسمى والخير المطلق. من أجل ذلك كان تمثل القانون في ذاته، وهو ما يتم بالطبع عند الكائن العاقل وحده، وجعل هذا التمثل، لا الأثر المتوقع، هو المبدأ المحدد للإرادة؛ أقول من أجل ذلك كان هذا التمثل وحده هو الذي يؤلف ذلك الخير السامي الذي نصفه بأنه أخلاقي، والذي نجده بالفعل حاضرا لدى الشخص الذي يعمل وفقا له ولا يصح لنا أن ننتظره أول ما ننتظر من الأثر الناتج عن فعله.
11 ⋆
ماذا عسى أن يكون هذا القانون الذي لا بد أن يحدد تمثلي له إرادتي، دون التفات إلى الأثر الناجم عنه كما يمكن تسمية هذه الإرادة بأنها خيرة على وجه الإطلاق، ودون أدنى تحفظ؟ لما كنت قد جردت الإرادة من كل الدوافع التي يمكن أن تنبثق فيها نتيجة لإطاعة قانون ما، فلن يتبقى غير الصورة القانونية العامة للأفعال على وجه الإجمال،
12
وهي وحدها التي ينبغي أن تكون مبدأ للإرادة، أي إنه ينبغي علي دائما أن أسلك السلوك الذي يمكنني من أن أريد أن تصبح مسلمتي قانونا كليا عاما. هنا نجد أن مجرد الاتفاق التام مع القانون بوجه عام (دون الاستناد إلى قانون محدد قائم على أفعال معينة) هو مبدأ الإرادة، وهو الذي ينبغي أن يكون مبدأ لها حتى لا يكون الواجب وهما باطلا وفكرة خرافية. إن العقل المشترك بين البشر، في تطبيقه لحكمه العملي، يوافق تمام الموافقة على ما تقدم قوله، ويجعل نصب عينيه دائما المبدأ الذي انتهينا من ذكره.
فلنلق على سبيل المثال هذا السؤال: ألا يجوز لي، حين يشتد الضيق، أن أعد وعدا بينما أبيت النية على عدم الوفاء به؟ إنني أفرق ها هنا في يسر بين المعنيين اللذين يمكن أن يحتملهما السؤال: أعني إن كان من الفطنة أو مما يتفق مع الواجب أن أعد وعدا كاذبا؟ قد يكون من الفطنة بغير نزاع أن ألجأ إلى ذلك في أكثر من مرة. بيد أنني سأجد أنه لا يكفي أن أخرج بنفسي من مأزق راهن بالالتجاء إلى هذه الوسيلة، بل إن علي أن أتدبر الرأي جيدا؛ فقد تسبب لي هذه الكذبة بعد ذلك مضايقات أشد وأعظم من تلك التي أحاول الخلاص منها الآن، ولما كانت النتائج، على الرغم من كل ما أزعمه لنفسي من «دهاء» لا يمكن التكهن بها بسهولة، وكان فقدي لثقة إنسان آخر قد يتجاوز في ضرره كل شر أحاول الآن أن أتحاشاه؛ أقول إن علي أن أسأل نفسي: أليس أبعد من ذلك فطنة أن أجعل مسلكي هنا وفقا لمسلمة عامة وأن أعود نفسي على ألا أبذل وعدا لا أنوي الوفاء به؟ غير أنه سرعان ما يتجلى لي ها هنا أن مثل هذه المسلمة إنما تقوم دائما على النتائج التي أخشى الوقوع فيها. على أن الصدق الذي يصدر عن شعور بالواجب يختلف اختلافا تاما عن الصدق الذي يصدر عن خوف من النتائج الضارة؛ فبينما يحتوي تصور الفعل في ذاته في الحالة الأولى على قانون لي، يكون علي في الحالة الثانية أن أتطلع في جهة أخرى لأتبين أي النتائج يمكن أن ترتبط بالفعل بالنسبة لي؛ ذلك لأنني إن حدت عن مبدأ الواجب، فإنني أكون بذلك قد أقدمت على شر لا مراء فيه أبدا، ولكنني إن خرجت على مسلمتي التي أصدر فيها عن فطنة فقد يعود علي ذلك في بعض الأحوال بفائدة كبيرة، وإن كان التزامي لها بالطبع أدعى إلى مزيد من الأمن والاطمئنان. إن أمضى الوسائل وأبعدها عن الخطأ لتعليم نفسي فيما يتعلق بالإجابة على هذا السؤال: هل الوعد الكاذب يتفق مع الواجب؟ هي أن أسأل نفسي: هل يرضيني أن تصبح مسلمتي (التي تجعلني أخرج من مأزق حرج باللجوء إلى وعد كاذب) قانونا عاما (ينطبق علي كما ينطبق على الآخرين)؟ وهل يمكنني أن أقول لنفسي: يستطيع كل امرئ أن يعد وعدا كاذبا حين يجد نفسه في مأزق لا يعرف وسيلة أخرى للخروج منه؟ إنني إن فعلت ذلك فسرعان ما أدرك أنني قد أريد الكذبة ولكنني لن أستطيع بحال أن أريد قانونا عاما يأمر بالكذب؛ ذلك لأن وجود مثل هذا القانون سيمتنع معه في الحقيقة وجود أي وعد من الوعود؛ إذ سيكون من العبث حينئذ أن أعلن عن إرادتي المتعلقة بأفعالي المقبلة لغيري مع الناس الذين لن يعتقدوا في صدق هذا الإعلان، أو الذين إن آمنوا به متسرعين فسوف يحاسبونني بنفس العملة في المستقبل، مما يترتب عليه أن تهدم مسلمتي نفسها بالضرورة، بمجرد أن يجعل منها قانون عام.
وإذن فالسؤال عما ينبغي علي أن أعمله، كيما يكون فعلي الإرادي خيرا من الوجهة الأخلاقية، لا يحتاج مني للإجابة عليه إلى إرهاف حسي بعيد المدى. يكفيني، وأنا العديم الخبرة عن مجرى الكون، العاجز عن مواجهة كل ما يقع فيه من أحداث، أن أسأل نفسي: هل تستطيع أن تريد لمسلمتك أن تصبح قانونا عاما؟ فإذا كان الجواب بالنفي فإن المسلمة تكون جديرة بأن تطرح جانبا، ولن يكون مرد ذلك في الحقيقة إلى ضرر قد ينجم عنها ويلحق بك أو بغيرك من الناس، بل لأنها لا تصلح أن تكون مبدأ يجد مكانه في تشريع عام ممكن، لكن العقل يجبرني على الاحترام المباشر لمثل هذا التشريع، وهو احترام قد «لا أدرك حقا» في هذه اللحظة علام يستند (وذلك موضوع يمكن الفيلسوف أن يبحثه)، ولكنني أفهم منه على الأقل أنه تقدير للقيمة التي تعلو علوا كبيرا عن قيمة كل ما يمتدحه الميل، وأن ضرورة أفعالي التي أقوم بها عن احترام «خالص» للقانون العملي هي ما يؤلف الواجب، وهو الذي لا بد لكل دافع من أن يفسح له المكان؛ لأنه شرط الإرادة الخيرة «في ذاتها»، التي ترتفع قيمتها فوق كل شيء.
بهذا نكون قد توصلنا في المعرفة الأخلاقية للعقل الإنساني المشترك
13
إلى مبدئها، وهو مبدأ لا تفكر فيه حقا في شكل كلي عام على حدة، وإن كانت تجعله في الواقع دائما نصب عينيها وتحتاج إليه قاعدة لأحكامها. ومن السهل علينا أن نبين كيف أنها بهذه البوصلة التي تضعها في يدها تستطيع في كل ما يعرض لها من حالات أن تميز تمييزا تاما بين ما هو خير وبين ما هو شر، بين ما يتفق مع الواجب وبين ما يتنافى معه، هذا إذا تمكنا - دون حاجة إلى أن نعلمها شيئا على الإطلاق - من توجيه انتباهها، كما فعل سقراط،
14
إلى مبدئها، وأن نبين أن الإنسان ليس في حاجة إلى علم ولا فلسفة لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل لكي يكون أمينا وخيرا، لا بل ليكون حكيما وفاضلا. ويستطيع المرء أن يفترض هنا سلفا أن المعرفة بما ينبغي على الإنسان أن يفعل وبما عليه بالتالي أن يعرف يجب أن تكون أمرا يخص كل إنسان، ولو كان من أعم عامتهم. وهنا لا يستطيع الإنسان أن يملك نفسه من الإعجاب إذ يرى كيف أن ملكه الحكم العملية في الفهم الإنساني المشترك تتقدم على ملكة الحكم النظري فيه؛ فحين يخاطر العقل العام في استخدامه لملكة الحكم الأخيرة وينأى بنفسه عن قوانين التجربة ومدركات الحواس فإنه يقع وقوعا ظاهريا في معميات وتناقضات مع نفسه، ويتردى على الأقل في عماء من البلبلة والغموض والاضطراب.
15
أما في المجال العملي، فإن ملكة الحكم تبدأ في إظهار مزاياها عندما يستبعد الفهم المشترك كل الدوافع الحسية من القوانين العملية، بل إنه [أي الفهم المشترك] سيعمد عندئذ إلى التدقيق في أحكامه، إما لأنه يريد أن يحاسب ضميره وبعض مطالبه فيبالغ في الحساب فيما يتعلق بما ينبغي أن يعد خيرا، وإما لأنه يريد أن يحدد قيمة الأفعال تحديدا تاما بما يعود عليه هو نفسه بالفائدة. وأهم من ذلك كله أنه يستطيع في الحالة الأخيرة أن يبث في نفسه الأمل بأنه سيوفق من ذلك إلى مثل ما قد يرجو الفيلسوف أن يوفق إليه، بل لقد يكون اطمئنانه من هذه الناحية أشد من اطمئنان الفيلسوف؛ ذلك لأن هذا الأخير لا يملك مبدأ آخر غير المبدأ الذي لديه، ولكنه قد يتعرض في سهولة إلى إفساد حكمه بمجموعة من الاعتبارات الغريبة التي لا تتصل بصميم الموضوع وإلى الزيغ به عن الاتجاه المستقيم. أليس أدنى للصواب إذن أن نقف في الأمور الأخلاقية عند حكم العقل المشترك وألا نلجأ إلى الفلسفة إلا في أقصى الحالات لنجعل نظام الأخلاق أتم وأوضح، ونبسط القواعد المتعلقة به بطريقة تجعلها أكثر صلاحية للاستعمال (وأكثر من ذلك صلاحية للمناقشة) لا لكي نحيد بالفهم الإنساني المشترك، حتى من وجهة النظر العملية، عن بساطته السعيدة، أو نسلك به عن طريق الفلسفة طريقا جديدا في البحث والتعليم؟
إن البراءة شيء رائع حقا، غير أنه مما يدعو للأسف أنها لا تحسن المحافظة على نفسها وأنها تتعرض بسهولة للمغريات؛ ولذلك كانت الحكمة نفسها - وهي التي تكمن فيما يأتي الإنسان وما يدع من أفعال أكثر مما تكمن في المعرفة - في حاجة إلى العلم، لا لكي تتزود منه، بل لكي تضمن لأوامرها الذيوع والاستمرار. إن الإنسان عندما يواجه كل أوامر الواجب التي يصورها له العقل جديرة بكل إكبار يحس في نفسه مقاومة شديدة تتمثل في حاجاته وميوله التي يتلخص إشباعها جميعا لديه في كلمة السعادة. ثم يصدر العقل أوامره في إصرار غير متنازل للنزعات عن شيء، وفي نفس الوقت بنوع من الإغضاء من شأن تلك المطامح المتهورة التي تبدو في ظاهرها مشروعة والتحقير منها (والتي لا يكاد يفلح أمر ما في إبطالها).
من ذلك «يتولد ديالكتيك طبيعي»، أو نزعة إلى مغالطة قوانين الواجب المحكمة بالباطل، والتشكيك في صلاحيتها أو على الأقل في نقائها وإحكامها، وجعلها ملائمة ما أمكن لرغباتنا وميولنا؛ أي إفسادها من أساسها والقضاء على كل ما لها من جدارة؛ الأمر الذي لا يستطيع العقل العملي في نهاية المطاف أن يحبذه.
وهكذا يدفع «العقل الإنساني المشترك»، لا عن حاجة إلى التأمل النظري (لا تعتريه أبدا ما بقي مكتفيا بكونه عقلا سليما) بل عن دوافع عملية بحتة، إلى الخروج من دائرته والسير خطوة في حقل «فلسفة عملية»، لكي يحصل هناك على معلومات وتوجيهات واضحة تتعلق بمصدر مبدئها وبالتحديد السليم لهذا المبدأ، ومعارضة المسلمات التي تقوم على الحاجة والميل، حتى يتيسر له أن ينتزع نفسه من المطامح المتعارضة التي تواجهه من كل الجانبين، ولا يخاطر بإضاعة كل المبادئ الأخلاقية الأصيلة عن طريق اشتراك المعنى
16
الذي يمكن أن يقع فيها بسهولة. وهكذا ينشأ في استعمال العقل العملي المشترك، عندما يهذب نفسه، ودون أن يلاحظ ذلك، «ديالكتيك» يجبره على أن يلتمس العون من الفلسفة، تماما كما يحدث له في الاستعمال النظري، ولن يتيسر له لا في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية أن يجد الراحة إن لم يجدها في نقد واف لعقلنا.
القسم الثاني
الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
إذا كنا حتى الآن قد استخلصنا تصورنا عن الواجب من الاستعمال المألوف لعقلنا العملي، فلا ينبغي أن نستنتج من ذلك أننا تناولناه تناول تصور تجريبي.
1
بل الأولى من ذلك أننا نلاقي، حين ننتبه إلى تجربة ما يأتيه الناس وما يدعون من ألوان السلوك، شكاوى كثيرة، وباعترافنا نحن عادلة، من أن المرء لا يستطيع أن يسوق أمثلة مؤكدة عن نية السلوك عن شعور بالواجب، وأنه إن تكن هناك بعض الأفعال التي تحدث بما يتفق وما يأمر به الواجب، فإن ذلك لا يمنع من الشك فيما إذا كانت قد حدثت حقا عن شعور بالواجب، وفيما إذا كانت تحتوي تبعا لذلك على قيمة أخلاقية.
2
ولذلك وجد في جميع الأزمان فلاسفة أنكروا حقيقة هذه النية في الأفعال الإنسانية إنكارا تاما ونسبوا كل شيء إلى الأثرة المتفاوتة الحدة، ولكن ذلك لم يجعلهم يرتابون في صحة التصور الأخلاقي، بل لقد تحدثوا والحزن يملؤ أفئدتهم عن ضعف الطبيعة البشرية وعدم صفائها، هذه الطبيعة البشرية التي تبلغ حقا من النبل مبلغا يجعلها تضع فكرة كهذه جديرة بالاحترام قاعدة ترتكز عليها، كما يجعلها في الوقت نفسه تبلغ من الضعف مبلغا يجعلها تعجز عن اتباعها، فلا تستعمل العقل، الذي كان ينبغي أن يشرع لها القوانين، إلا لكي يهتم بتحقيق ميولها، سواء أخذت هذه الميول مفردة، أو أخذت على أفضل تقدير في مجموعها، بالتقريب بين بعضها والبعض ما أمكن ذلك.
والواقع أنه يستحيل استحالة مطلقة أن نجد عن طريق التجربة وبيقين تام حالة واحدة قامت فيها مسلمة فعل من الأفعال متفق مع الواجب، على مبادئ أخلاقية وعلى تصور للواجب فحسب؛ فقد يتفق لنا حقا في بعض الأحيان، برغم الامتحان الأدق لأنفسنا، ألا نجد شيئا على الإطلاق كان يمكن أن يبلغ من القوة مبلغا يدفعنا معه إلى إتيان هذا الفعل الخير أو ذاك أو على الإقدام على هذه التضحية الكبيرة أو تلك دون أن يصدر عن المبدأ الأخلاقي للواجب. غير أننا لا نستطيع أن نستنتج من ذلك بما لا يدفع الشك أنه لم يكن هناك حقا دافع خفي من دوافع الأثرة، تستر تحت سراب تلك الفكرة وكان هو العلة الحقيقية التي عينت الإرادة وأننا نشاء إلا أن نملق أنفسنا بدافع أكثر نبلا ندعيه لأنفسنا زورا بينما نحن في الواقع لا نستطيع أبدا، لو امتحنا أنفسنا في سبيل ذلك أشق امتحان، أن نصل إلى الدوافع المستترة. ومرد ذلك إلى أننا حين نكون بصدد الكلام عن القيمة الأخلاقية، لا نهتم بالأفعال التي يراها الإنسان، بل بالمبادئ الباطنة التي قامت عليها والتي لا يمكن الإنسان أن يراها.
إن الذين يسخرون من الأخلاق كلها كما لو كانت محض خرافة نسجها الخيال الإنساني الذي يتجاوز حدود نفسه بالغرور، لا يمكن أن يسدي إليهم الإنسان خدمة أكثر موافقة لهواهم من التسليم لهم بأن تصورات الواجب (بمثل ما يحلو للإنسان، طلبا للراحة، أن يقنع نفسه بأن الأمر كذلك بالنسبة لسائر التصورات) يجب أن تستنبط من التجربة وحدها ؛ فبهذا الاعتراف يتيح لهم الإنسان نصرا محققا.
3
أريد أن أسلم، بدافع من المحبة للإنسان، أن معظم أفعالنا تتفق مع الواجب، غير أن الإنسان حين ينظر عن كثب إلى ما تنطوي عليه وما تهدف إليه، فإنه يصطدم في كل مكان بالنفس العزيزة التي تطل دائما برأسها وعليها تستند مقاصد هذه الأفعال، لا على الأمر الصارم للواجب، الذي كثيرا ما يتطلب من الإنسان إنكار الذات، ولا يحتاج المرء إلى أن يكون بالضرورة عدوا للفضيلة، بل يكتفي أن يكون مراقبا موضوعي النظرة،
4 ⋆
لا يأخذ الرغبة الجارفة إلى الخير من فوره مأخذ الخير الحقيقي؛ أقول لا يحتاج الإنسان إلى ذلك لكي يتسنى له (وبالأخص حين تتقدم به السن ويكتسب ملكة الحكم التي أنضجتها التجربة وزادت الملاحظة من حدتها) في لحظات معينة أن يراوده الشك فيما إذا كانت هناك بالفعل فضيلة حقة في هذا العالم. وهنا لا يستطيع شيء أن يقينا من السقطة التامة عن أفكارنا عن الواجب ويحفظ في نفوسنا الاحترام المتين لقانونه إن لم يكن ذلك هو الاقتناع الواضح بأنه، حتى لو لم توجد أبدا أفعال انبثقت من هذه المنابع الصافية، فإن الأمر هنا لا يدور بحال من الأحوال حول ما إذا كان هذا الفعل أو ذاك قد حدث، بل يتعلق بأن العقل بذاته، مستقلا عن كل الظواهر، يأمر بما ينبغي أن يحدث وأن هناك بالتالي أفعالا لعل العالم لم يضرب لها أدنى مثال حتى هذه اللحظة ولعله أن يشك كل الشك في إمكان القيام بها ويبني كل شيء على التجربة، ومع ذلك فهي أفعال أمر بها العقل أمرا لا رجعة فيه، وأن الوفاء الخالص في الصداقة على سبيل المثال أمر لا ينفك كل إنسان مطالبا به حتى لو لم يوجد على ظهر الأرض حتى الآن صديق وفي واحد؛ ذلك لأن هذا الواجب بما هو واجب على الإطلاق متضمن قبل كل تجربة في فكرة العقل الذي يحدد الإرادة عن طريق مبادئ أولية.
فإذا أضفنا إلى هذا أننا إذا أردنا ألا نجرد تصور الأخلاق من كل صدق ومن كل علاقة بموضوع من الموضوعات الممكنة، فإننا لا نستطيع أن ننازع في أن قانونه يبلغ في دلالته من الاتساع ما يحتم صلاحيته لا بالنسبة للناس وحدهم، بل بالنسبة لكل كائن عاقل على الإطلاق ولا تحت شروط عرضية وباستثناءات معينة فحسب، بل صلاحية ضرورية مطلقة، ومن هذا يتضح أنه ما من تجربة على الإطلاق يمكنها أن تسمح لنا حتى بمجرد استنتاج مثل هذه القوانين الضرورية؛ إذ بأي حق يمكننا أن نضع موضع الاحترام المطلق ونجعل قاعدة عامة لكل طبيعة عاقلة شيئا ربما لا يصح إلا تحت الشروط العرضية للإنسانية؟ وكيف يتسنى لنا أن نعد القوانين التي تحدد «إرادتنا»، قوانين لتحديد إرادة الكائن العاقل على الإطلاق، وألا نعدها قوانين صالحة لنا حتى تكون كذلك، إن كانت قوانين تجريبية فقط ولم تكن قوانين قبلية محضة تنبع عن عقل خالص ولكنه عملي؟
وليس في مقدور الإنسان فضلا عن ذلك أن يسيء إلى الأخلاق إساءة أبلغ من محاولة استخلاصها من أمثلة تجريبية؛ ذلك لأن كل مثل يقدم لي عنها ينبغي أن يحكم عليه هو نفسه قبل ذلك وفقا لمبادئ الأخلاق، لكي نتبين إن كان جديرا بأن يعد مثلا أصيلا؛ أعني أنموذجا، ولكن من المحال عليه أن يعطينا بادئ ذي بدء تصور الأخلاق. إن قديس الإنجيل نفسه ينبغي أن يقارن بالمثال الذي لدينا عن الكمال الخلقي قبل أن نصفه بأنه كذلك،
5
وفضلا عن ذلك فإنه يقول عن نفسه: كيف تدعونني (وأنا الذي ترونه) خيرا؟ لا أحد خير (أنموذج للخير) سوى الله الواحد (الذي لا ترونه). ولكن من أين لنا بتصور الله بوصفه الخير الأسمى؟
6
إنه لم يأتنا إلا من الفكرة التي يرسمها العقل قبليا عن الكمال الخلقي ويربطها بتصور إرادة حرة ربطا لا انفصام له. إن المحاكاة لا مكان لها في مجال الأخلاق، والأمثلة تفيد في الحفز والتشجيع فحسب؛ أي إنها تخرج إمكان القيام بتنفيذ ما يأمر به القانون من دائرة الشك، إنها تقرب للعيان ما تعبر عنه القاعدة العملية تعبيرا عاما ولكنها لا يمكن أن تبرر أبدا أن يطرح الأصل الحقيقي، الذي يستقر في العقل، جانبا ويهتدي المرء بالأمثلة.
فإذا صح القول بعدم وجود مبدأ أعلى أصيل للأخلاق يقوم بالضرورة على العقل الخالص وحده مستقلا عن كل تجربة؛ فإنني أعتقد أنه لن يكون هناك ما يدعو حتى للسؤال عما إذا كان من الخير أن نعرض هذه التصورات عرضا عاما (مجردا) على نحو ما هي موجودة قبليا مع جملة المبادئ المتصلة بها، على فرض أن المعرفة (الجديرة بهذه الكلمة) ينبغي أن تفترق عن المعرفة المشتركة وأن تحمل اسم المعرفة الفلسفية، ولكن يبدو أن هذا السؤال لا غنى عنه في زماننا هذا؛ ذلك لأننا إن جمعنا الأصوات لنعرف ما يقف منها في صف المعرفة العقلية الخالصة النقية من كل تجربة، وبالتالي ميتافيزيقا الآيين.
7 ⋆
وما يختار منها الفلسفة العملية الشعبية، فإننا سرعان ما نخمن أي الكفتين هي الراجحة في الميزان.
إن الهبوط إلى التصورات الشعبية أمر محمود حقا، إذا تيسر قبل ذلك أن نرتفع إلى مبادئ العقل الخالص ونبلغ من ذلك مبلغا يرضينا إرضاء تاما. ومعنى هذا أن «نؤسس» مذهب الأخلاق أولا على الميتافيزيقا فإذا رسخ بنيانها عمدنا بعد ذلك إلى تيسيرها بالتناول الشعبي. أما أن نسمح بذلك منذ البحث الأول، الذي تتوقف عليه صحة المبادئ، فأمر بالغ الخلف والاستحالة. إن الأمر لا يقتصر على أن هذه العملة لن تستطيع أن تزعم لنفسها شرف فلسفة شعبية حقيقية فحسب، وهو شرف نادر عزيز المنال؛ إذ ليس من الفن في شيء أن يكون الإنسان مفهوما لعامة الناس حين يضحي بكل عمق في التفكير، بل إنه لن ينتج عنها غير خليط يثير الاشمئزاز، خليط من الملاحظات التي التقطت باليمين والشمال ومن مبادئ أنصاف العقول، يرتع فيه أصحاب العقول الضحلة، وينعمون؛ لأنهم يحتاجون إليه في هذرهم اليومي، ولا يجد فيه ذوو البصيرة إلا الاضطراب الذي لا يملكون في سخطهم عليه وعجزهم مع ذلك عن حماية أنفسهم منه إلا أن يحولوا أعينهم عنه، وإذا كان هناك فلاسفة ينفذون بأبصارهم خلال هذا السراب الخادع، فإنهم لا يجدون مع ذلك من يصغى السمع إليهم إلا قليلا، حين يحذرون بعض الوقت من الشعبية المزعومة ويتبينون ألا يتسنى للإنسان أن يكون شعبيا بحق حتى يحصل أنظارا معينة ويصل إلى آراء محددة.
حسب الإنسان أن يتأمل المحاولات التي وضعت في الأخلاق وفقا لذلك الذوق المفضل، وسرعان ما سيجد القدر الخاص للطبيعة الإنسانية (وكذلك بين حين وآخر فكرة طبيعة عاقلة على الإجمال) توصف تارة بالكمال وتارة أخرى بالسعادة، وتسمى هنا عاطفة أخلاقية وهناك مخافة الله، من هذا شيء ومن ذلك شيء آخر، والكل في خليط عجيب، دون أن يخطر للإنسان أن يسأل نفسه إن كان عليه أن يبحث في المعرفة بالطبيعة الإنسانية (التي لا نستطيع أن نستمدها إلا من التجربة وحدها) عن مبادئ الأخلاق، وحين لا يجد أن الأمر كذلك، وأن هذه المبادئ قبلية بحتة، خالصة من كل عنصر تجريبي، وأنه لا يمكن أن نجدها أو نجد أقل جزء منها إلا في تصورات العقل الخالصة لا في أي موضع آخر، عندئذ لا يخطر له أن يصمم على أن يعزل هذا المبحث عزلا تاما بوصفه فلسفة عملية بحتة أو (إذا جاز لنا أن نستعمل اسما ساءت سمعته) بوصفه ميتافيزيقا
8 ⋆
أخلاق، فيصل بها، مستقلة بذاتها، إلى أقصى درجات تمامها وأن يسأل الجمهور، الذي يطالب بالتناول الشعبي، الصبر إلى نهاية هذه المهمة.
ولكن ميتافيزيقا الأخلاق هذه، المستقلة استقلالا تاما، والتي لا تختلط بالأنثروبولوجيا [بعلم الإنسان] ولا باللاهوت، لا بالفزياء ولا بما فوق الفزياء،
9
وأقل من ذلك اختلاطها بالخواص الخفية (التي يمكن أن نسميها تحت الفزيائية)؛ أقول إن هذه الميتافيزيقا ليست فحسب مقوما لا غنى عنه لكل معرفة نظرية للواجبات محددة تحديدا أكيدا، بل هي كذلك في الوقت نفسه أمر مرغوب فيه على أقصى درجة من الأهمية لأجل إتمام تعليماتها إتماما فعليا؛ ذلك لأن تصور الواجب والقانون الأخلاقي بوجه عام تصورا خالصا غير مختلط بأية إضافة غريبة عن عوامل الإثارة التجريبية، له على القلب الإنساني، عن طريق العقل وحده (الذي يدرك عندئذ لأول مرة أنه بذاته يمكن أيضا أن يكون عقلا عمليا) من الأثر ما يفوق في قوته كثيرا سائر الدوافع
10 ⋆
التي يمكن الإنسان أن يستمدها من حقل التجربة. إنه في وعيه بكرامته ليحتقر هذه الدوافع ويتمكن شيئا فشيئا من السيطرة عليها، وفي مقابل ذلك نجد أن مذهبا مختلطا في الأخلاق، يتألف من دوافع مختلفة من العواطف والميول وفي الوقت نفسه من تصورات عقلية، لا بد أن يجعل الوجدان يتذبذب بين دوافع لا تندرج تحت مبدأ من المبادئ قد يمكن بالمصادفة البحتة أن تؤدي إلى الخير وقد تقود في معظم الأحيان إلى الشر.
يتبين مما سبق بوضوح أن مقر جميع التصورات الأخلاقية ومصدرها قائمان بطريقة قبلية خالصة في العقل، سواء في ذلك العقل الإنساني المشترك والعقل التأملي المجرد الذي بلغ أقصى درجات التأمل والتجريد،
11
وأنه لا يمكن استخلاصها [أي التصورات الأخلاقية] من أية معرفة تجريبية هي لهذا السبب معرفة عارضة، وأن في صفاء منشئها تكمن جدارتها التي تجعلها صالحة لأن تكون أسمى المبادئ العملية التي نهتدي بهديها، وأننا في كل مرة نضيف إليها عنصرا تجريبيا إنما نسلبها بالمقدار نفسه أثرها الأصيل ونجرد الأفعال من قيمتها المطلقة، وأن الأمر لا يقتصر على أن يكون ضرورة قصوى تتطلبها الناحية النظرية فحسب، حين نكون بصدد التأمل المجرد، بل إن من أهم الأمور من الناحية العملية أن تستقي تصوراتها وقوانينها من منبع العقل الخالص، وأن نقدمها نقية خالصة غير مختلطة بشيء، بل نزيد على ذلك فنحدد مدى هذه المعرفة العقلية العملية التي هي مع ذلك معرفة خالصة، أي كل طاقة العقل العملي،
12
وأن نتحاشى بذلك أن نجعل المبادئ متوقفة على الطبيعة الخاصة للعقل الإنساني،
13
وذلك بقدر ما تسمح به الفلسفة التأملية، وما قد تجد في بعض الأحيان أنه أمر ضروري لا غنى عنه، [وأن نجعل في اعتبارنا] أنه لما كان ينبغي للقوانين الأخلاقية أن تكون صالحة لكل كائن عاقل على الإطلاق، فإن من الواجب أن نستنبط من التصور «الكلي» للكائن العاقل بوجه عام ، وأن نجعل كل أخلاق تكون في حاجة إلى علم الأنثروبولوجيا لتطبيقها على بني الإنسان، أول ما نجعلها مستقلة عن هذا العلم الأخير استقلالا تاما، على أساس أنها فلسفة خالصة؛ أي ميتافيزيقا (الأمر الذي يسهل صنعه في هذا النوع من المعرفة النقية من كل خليط نقاء تاما) موقنين ونحن نفعل ذلك أن من العبث، إذا لم تكن لدينا مثل هذه الميتافيزيقا، لا أقول أن نحدد على وجه الدقة للحكم التأملي العنصر الأخلاقي للواجب في كل ما يطابق الواجب، بل إنه سيكون من المستحيل، حتى في مجال الاستعمال العملي الشائع المشترك، وبالأخص فيما يتصل بالتعليمات الخلقية، أن نؤسس الأخلاق على مبادئها الحقة ونوجد بذلك طبائع أخلاقية خالصة ونبثها في الضمائر لتحفزها على السعي إلى أقصى خير ممكن في هذا العالم.
بيد أنه لكي نخطو في هذا البحث لا من الحكم الأخلاقي المشترك (الذي يستحق هنا كل نقد) إلى الحكم الفلسفي، كما حدث في موضع آخر من هذا الكتاب،
14
بل من فلسفة شعبية، لا تتجاوز في سيرها النقطة التي تستطيع أن تصل إليها بالتلمس مستعينة بالأمثلة، إلى الميتافيزيقا (التي لا تدع شيئا تجريبيا يوقفها عن سيرها والتي تستطيع في كل الأحوال؛ إذ يكون من واجبها أن تحصر كل ما يندرج تحت المعرفة العقلية من هذا النوع، أن تصعد إلى المثل،
15
هناك حيث تتخلى الأمثلة [التجريبية] نفسها عنا) أقول إن علينا لكي نخطو في هذا البحث خطوات طبيعية أن نتتبع الملكة العملية للعقل ابتداء من القواعد العامة التي تحددها، إلى النقطة التي ينبثق عندها تصور الواجب منها وأن نعرض للحديث عنها عرضا واضحا.
كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين. الكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين؛ أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى هو الكائن الذي يملك «الإرادة» لذلك. ولما كان «العقل» مطلوبا لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة سوى عقل عملي، وإذا كان العقل بغير نزاع هو الذي يعين الإرادة، فإن الأفعال التي تصدر عن مثل هذا الكائن ، والتي تعرف من الناحية الموضوعية بأنها ضرورية، هي كذلك من الناحية الذاتية أفعال ضرورية؛ أي إن الإرادة ملكة اختيار ذلك «الفعل» وحده الذي يعرف العقل، مستقلا عن الميول والنوازع، إنه ضروري من الناحية العملية أي إنه خير. فإذا لم يتمكن العقل وحده من تعيين الإرادة تعيينا كافيا، فمعنى هذا أن الإرادة ما تزال تخضع لشروط ذاتية (أو لبعض الدوافع) التي لا تتفق دائما مع الشروط الموضوعية. وبالجملة فإنه إذا كانت الإرادة «في ذاتها» لا تتفق مع العقل اتفاقا تاما (كما هو الحال مع بني الإنسان) فإن الأفعال التي تعرف من الناحية الموضوعية بأنها أفعال ضرورية تكون عندئذ من الناحية الذاتية أفعالا عارضة، ويسمى تعيين مثل هذه الإرادة بمقتضى قوانين موضوعية «إلزاما»،
16
أي إن العلاقة التي تربط القوانين الموضوعية بإرادة لم يتمكن منها الخير تماما يمكن التعبير عنها بأنها تعيين إرادة كائن عاقل بوساطة مبادئ عقلية حقا، ولكن لا تستطيع هذه الإرادة بطبيعتها أن تطيعها بالضرورة. إن تمثل مبدأ موضوعي، من حيث إنه ملزم للإرادة، يدعي أمرا (عقليا)، والصورة التي يصاغ فيها هذا الأمر يطلق عليها الأمر المطلق.
كل الأوامر الأخلاقية المطلقة يعبر عنها بفعل «يجب» وتدل بذلك على علاقة قانون موضوعي للعقل بإرادة ما، هي بحسب تكوينها الذاتي لا تعين بالضرورة بوساطة هذا القانون (إلزام)، إنها [أي الأوامر المطلقة] تقول إن من الخير الإقدام على فعل شيء أو اجتنابه، غير أنها توجه هذا القول لإرادة لا تقدم دائما على فعل شيء لأنها تصورت أن من الخير الإقدام على فعله. ولكن الفعل يكون من الناحية العملية خيرا إذا كان يعين الإرادة عن طريق تصورات العقل، وبالتالي إذا كان لا يصدر عن أسباب ودوافع ذاتية بحتة، لها دلالتها بالنسبة لهذا الشخص أو ذاك، بوصفها مبدأ من مبادئ العقل يصلح لكل إنسان.
17 ⋆
إن الإرادة الخيرة التي بلغت من ذلك أوفى درجة ستظل خاضعة لقوانين (الخير) الموضوعية، ولكننا لن نستطيع من أجل ذلك أن نصورها كما لو كانت «ملزمة» بالإقدام على أفعال مطابقة للقانون ؛ ذلك لأنها من تلقاء نفسها، وبمقتضى تكوينها الذاتي، لا يمكن تحديدها إلا عن طريق تصور الخير. وهذا هو السبب في أن الأوامر الأخلاقية المطلقة لا تنطبق على الإرادة «الإلهية» ولا على الإرادة «المقدسة» بوجه عام. إن فعل «يجب» يكون هنا في غير مكانه الصحيح؛ لأن فعل «الإرادة» يتفق من تلقاء ذاته اتفاقا ضروريا مع القانون؛ لذلك كانت الأوامر الأخلاقية المطلقة مجرد صيغ شكلية للتعبير عن علاقة القوانين الموضوعية للإرادة بوجه عام بالنقص الذاتي في إرادة هذا الكائن العاقل أو ذاك؛ أي في إرادة الإنسان.
كل الأوامر الأخلاقية تصدر أوامرها إذن بطريقة «شرطية» أو بطريقة «مطلقة».
18
تلك تمثل الضرورة العملية لفعل ممكن بوصفه وسيلة لبلوغ شيء آخر يريده الإنسان (أو من الممكن أن يريده). والأمر المطلق هو الذي يعبر عن فعل مطلوب لأجل ذاته، لا تربطه صلة بهدف آخر، وضروري ضرورة موضوعية.
لما كان كل قانون عملي يصور فعلا ممكنا بوصفه خيرا وبالتالي ضروريا بالنسبة لذات يمكن أن تحدد بالعقل تحديدا عمليا؛ فإن جميع الأوامر الأخلاقية المطلقة صيغ شكلية يتم بها تحديد الفعل الذي يكون فعلا ضروريا بمقتضى مبدأ إرادة خيرة على نحو من الأنحاء. فإذا كان الفعل خيرا لمجرد أنه وسيلة لتحقيق «شيء آخر»، فإن الأمر المطلق يكون عندئذ أمرا شرطيا أما إذا تصورنا بوصفه خيرا «في ذاته»، وبالتالي ضروريا في إرادة تكون في ذاتها مطابقة للعقل، كمبدأ لتلك الإرادة، فإنه يكون عندئذ أمرا مطلقا.
الأمر المطلق إذن يبين لي ما هو الفعلي الخير الذي يمكنني القيام به، كما يصور لي القاعدة العملية المتعلقة بإرادة لا تبادر بالإقدام على فعل لأنه خير، إما لأن الذات لا تعرف دائما أنه خير، وإما لأن المسلمات التي تعتقد فيها، حتى لو كانت تعرف أنه فعل خير، قد تتعارض مع المبادئ الموضوعية لعقل عملي.
وعلى ذلك فإن الأمر الشرطي إنما يعبر فحسب عن أن الفعل يكون خيرا بالقياس إلى مقصد ممكن أو واقعي. فهو في الحالة الأولى مبدأ «احتمالي» عملي، وهو في الحالة الثانية مبدأ «تقريري» عملي. والأمر المطلق الذي يعلن أن الفعل في ذاته يكون ضروريا ضرورة موضوعية إذا كان غير مرتبط بأي مقصد؛ أي إذا كان مجردا عن كل هدف آخر، يصلح لأن يكون مبدأ ضروريا عمليا.
19
في وسع الإنسان أن يتصور أن كل ما لا يمكن تحقيقه إلا بفضل تدخل قوى كائن عاقل فحسب يمكن في الوقت نفسه أن يكون مقصد إرادة ما، ولهذا كانت مبادئ الفعل، من حيث إنه يعد ضروريا للوصول عن طريقه إلى هدف من الأهداف يمكن تحقيقه عن هذا السبيل، لا حصر لها في واقع الأمر. كل العلوم تشتمل على جزء عملي يتكون من مسائل تفترض أن هدفا من الأهداف ممكن التحقيق، ومن أوامر أخلاقية تدلنا على كيفية الوصول إلى هذا الهدف. هذه الأوامر يمكن أن تسمى بوجه عام أوامر «البراعة». أما السؤال عما إذا كان الهدف معقولا وخيرا فهو أمر لا يهمنا هنا في شيء ... وإنما المهم عندنا الآن هو ما ينبغي علينا أن نصنعه لنصل إلى هذا الهدف؛ فالتعليمات التي ينبغي على الطبيب أن يتبعها لكي يشفي مريضه شفاء تاما، والتعليمات التي يجب أن يلتزم بها مازج السموم لكي يميت ميتة مؤكدة كلتاهما من هذه الناحية متساويتان في القيمة، طالما كانت تعاليم كل منهما تؤدي إلى تحقيق هدفه على الوجه التام. وإذا كنا ونحن في شبابنا الباكر لا ندري أي الأهداف ستعترض طريق حياتنا، وجدنا الآباء حريصين على تلقين أبنائهم «ألوانا متعددة» من المعارف، حرصهم على تعليمهم «الحذق والمهارة» في استخدام الوسائل المؤدية إلى تحقيق الأهداف التي قد يحلو لهم أن يسعوا إليها، دون أن يكون في مقدورهم أن يقرروا إن كان أولادهم سيتخذونه حقا هدفا لهم في مستقبل حياتهم، في حين أن «من الممكن» أن يصبح الهدف الذي يسعون إلى تحقيقه في يوم من الأيام، ويبلغ حرص الآباء مبلغه بحيث نجدهم يهملون عادة تكوين أحكامهم عن قيمة الأشياء التي يجوز لهم أن يجعلوهم هدفا لهم في مستقبل حياتهم كما نجدهم يهملون تصحيح هذه الأحكام .
هنالك بالمثل «هدف» نستطيع أن نفترض وجوده وجودا واقعيا عند جميع الكائنات الحية العاقلة (بقدر ما تنطبق الأوامر الأخلاقية عليها؛ أعني بوصفها مخلوقات تعتمد على غيرها)، وبالتالي بقصد لا يتوافر لديهم من ناحية الإمكان فحسب، بل نستطيع أن نسلم تسليما مؤكدا بأنه يتوافر لديهم جميعا بمقتضى ضرورة طبيعية، ونعني به مقصدهم إلى تحقيق السعادة. إن الأمر الأخلاقي الشرطي، الذي يمثل الضرورة العملية للفعل بوصفها وسيلة لبلوغ «السعادة»، هو أمر «توكيدي». ولا يجوز أن نصوره كما لو كان مجرد أمر ضروري لا غنى لتحقيق مقصد غير مؤكد وممكن فحسب، بل ينبغي أن نعبر عن ضرورته لتحقيق مقصد يستطيع المرء أن يفترض وجوده على نحو يقيني وقبلي عند كل إنسان؛ لأنه جزء من كيانه وطبيعته. وإذن ففي استطاعتنا أن نطلق على البراعة في اختيار الوسائل المؤدية إلى القدر الأعظم من رفاهية الإنسان اسم «الفطنة»
20 ⋆
بمفهومها الضيق. وهكذا يكون الأمر الأخلاقي المتعلق باختيار الوسائل المؤدية إلى تحقيق سعادتنا الشخصية، ونعني به التعاليم التي توصي بها الفطنة، أمرا شرطيا على الدوام، وعندئذ لا يؤمر بالفعل أمرا مطلقا، بل بوصفه وسيلة لتحقيق مقصد آخر فحسب.
وهناك أخيرا أمر من شأنه أن يوصي مباشرة باتباع مسلك معين، بغير أن يضع شرطا لذلك أي مقصد آخر يمكن الوصول إليه عن طريق هذا المسلك. هذا الأمر المطلق. إنه لا يتعلق بمادة الفعل ولا يمكن أن يترتب عليه، بل يتعلق بالصورة والمبدأ اللذين يترتب هو نفسه عليهما، وما فيه من خير حق فإنما يكمن في النية التي كانت الباعث عليه، كائنة ما كانت النتائج التي ترتبت عليه. هذا الأمر يمكن أن نطلق عليه اسم الأمر الأخلاقي.
يمكن أن يميز الفعل الإرادي بمقتضى هذه المبادئ الثلاثة، تمييزا واضحا عن طريق التفاوت في الإلزام الذي تفرضه على الإرادة. ولكي نجعل هذا التفاوت ملحوظا، فإنني أعتقد أنه ليس أنسب من تسميتها بحسب ترتيبها، فنقول إما أن تكون «قواعد» للبراعة، أو نصائح للفطنة، أو أوامر (قوانين) للأخلاق؛ ذلك لأن «القانون» وحده هو الذي ينطوي على تصور «ضرورة غير مشروطة»، موضوعية بحق، وبالتالي صالحة صلاحية عامة، ولأن الأوامر هي قوانين ينبغي على الإنسان طاعتها، أي ينبغي عليه اتباعها ولو كانت مخالفة للميل مخالفة تامة، أما إسداء النصح فقد ينطوي حقا على الضرورة، ولكنها ضرورة لا صحة لها إلا إذا كانت مقيدة بشرط ذاتي عارض، تبعا لما يعده هذا الإنسان أو ذاك من أسباب سعادته، وعلى العكس من ذلك نجد الأمر الأخلاقي لا يحده أي شرط، وهو من حيث إنه ضروري ضرورة مطلقة، وإن هذه الضرورة عملية أيضا، يمكن بحق أن يسمى أمرا. ونستطيع كذلك أن نطلق على أوامر النوع الأول اسم «الفنية» (أي المتعلقة بالفن)، وأن نسمي أوامر النوع الثاني الأوامر العملية
21 ⋆ (أو المتعلقة بالرخاء والصالح العام)، وأوامر النوع الثالث بالأوامر «الأخلاقية» (أو المتعلقة بالسلوك الحر بوجه عام؛ أي بالأخلاق).
وهنا يبرز هذا السؤال: كيف تصبح جميع هذه الأوامر ممكنة؟ هذا السؤال لا يريد أن يعرف طريقة تصور تحقيق الفعل الذي يحض عليه الأمر، بل يطالب بمعرفة طريقة تصور الإلزام الإرادي فحسب، الذي يعبر عنه الأمر في صورة المهمة المطلوب تنفيذها. إن الأمر لا يحتاج إلى شرح خاص لبيان كيف يصبح أمر البراعة ممكنا. فمن يرد الغاية، يرد كذلك (بقدر ما للعقل على أفعاله من تأثير حاسم) الوسيلة التي لا غنى عنها لتحقيق هذه الغاية، والتي تقع في حدود طاقته. هذه القضية، فيما يتعلق بفعل الإرادة، قضية تحليلية؛
22
ذلك لأن إرادتي لموضوع ما بوصفه أثرا ينتج عن فعلي يفترض عليتي سلفا من حيث إنني علته الفاعلة؛ أعني أنه يفترض استخدام الوسائل، ويستنبط الأمر فكرة الأفعال الضرورية لبلوغ هذه الغاية من فكرة الفعل الإرادي لهذه الغاية (ما من شك في أن تحديد الوسائل الضرورية لإدراك هدف وضعته لنفسي يتطلب قضايا تركيبية، ولكن هذه القضايا التركيبية لا تتعلق بمبدأ تحقيق فعل الإرادة، بل بتحقيق الموضوع). فإذا كان علي، لكي أقسم بحسب مبدأ معين خطا مستقيما إلى قسمين متساويين، أن أرسم من طرفي هذا الخط قوسين دائريتين متقاطعتين، فإن ذلك ما تلقنني إياه الرياضة بوساطة القضايا التركيبية وحدها، أما إذا كنت أعرف أن هذا الفعل وحده هو الذي يمكن أن يتم عن طريقه الأثر المتصور، وكنت إذا أردت أن يتحقق الأثر بتمامه، أردت معه الفعل الذي يتطلبه؛ فإن هذه القضية تكون عندئذ قضية تحليلية؛ ذلك لأن تصوري لشيء بوصفه أثرا يمكن أن أتمه على نحو معين، وتصوري لنفسي بالنظر إلى هذا الأثر، فاعلا له على النحو عينه، كلاهما في الحقيقة أمر واحد.
لو كان من الميسور إعطاء فكرة محددة عن السعادة، لأمكن أن تتفق أوامر الفطنة اتفاقا تاما مع أوامر البراعة ولأمكن بالمثل التعبير عنها في صورة قضايا تحليلية؛ إذ سيكون من المستطاع أن نقول هنا كما قلنا هناك إن من يرد الغاية يرد كذلك (بما يتفق بالضرورة مع العقل) الوسائل التي لا غنى عنها لبلوغها، والتي تقع في حدود قدرته. غير أن من سوء الحظ أن فكرة السعادة قد بلغت من عدم التحدد مبلغا جعل كل إنسان، على الرغم من رغبته في أن يكون سعيدا، يعجز عن التعبير عما يشتهيه وما يريده على الحقيقة بكلمات محددة ومتماسكة، والسبب في ذلك أن جميع العناصر التي تتألف منها فكرة السعادة عناصر تجريبية؛ أي إنها يجب أن تستمد بأكملها من التجربة، وأن فكرة السعادة يلازمها بالضرورة فكرة كل مطلق وقدر أعظم من الإحساس بالهناء في حالتي الراهنة والمستقبلة على السواء. بيد أنه من المستحيل على كائن متناه وإن ظن في نفسه أنه أحكم المخلوقات وأشدها قوة، أن يكون فكرة محددة عما يريده على وجه الدقة من وجوده على هذه الأرض. هل يريد الثروة؟ كم من الهم والحسد والدس والوقيعة يجلبه فوق رأسه؟ هل يبتغي المزيد من المعرفة والبصيرة؟ لعل هذا ألا يزيد بصره إلا نفاذا إلى الشرور التي تتوارى الآن عنه والتي لا سبيل إلى تلاشيها فتتبدى في صورة أبشع، أو أن يحمل نزواته التي ما برحت تذيقه الأمرين في سبيل إشباعها، بأعباء جديدة من المطالب والحاجات. أيشتهي عمرا طويلا؟ ولكن من الذي يضمن له أنه لن يكون شقاء طويل الأجل؟ أم هل يريد على الأقل الصحة؟ ولكن كم كان اعتلال الجسد عاصما من إفراط كان حريا بأن يوهن الصحة الكاملة ... إلخ. إنه على الجملة عاجز عن أن يحدد بيقين تام وبمقتضى مبدأ من المبادئ ما يمكن أن يوفر له السعادة الحقة؛ لأنه سيحتاج حينئذ إلى المعرفة الكلية التي تحيط بكل شيء. وإذن فليس في استطاعة الإنسان، لكي يحصل على السعادة، أن يراعي في أفعاله مبادئ محددة، وإنما عليه أن يتبع نصائح تجريبية، مثل المحافظة على الغذاء الصحي، والاقتصاد، والأدب، والتحرز ... الخ، وكلها أمور دلت التجربة على أنها في معظمها توفر حظا عظيما من المتعة والهناء. يترتب على هذا أن أوامر الفطنة، إذا شئنا الدقة في القول، لا يمكن بحال أن تأمر بشيء أو توصي بشي، أو أنها لا يمكن أن تصور الأفعال بطريقة موضوعية كما لو كانت ضرورية من الناحية العملية، وأنها ينبغي أن تؤخذ مأخذ النصائح
consilia
لا الأوامر
praecepta
العقلية، وأن مشكلة تحديد الفعل الذي يكفل السعادة للكائن الحي العاقل تحديدا يقينيا وعاما، مشكلة لا حل لها على الإطلاق، وعلى ذلك فلا يمكن من هذه الناحية أن يكون هناك أمر يقضي، بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بالإقدام على فعل ما يجلب السعادة؛ وذلك لأن السعادة مثال لملكة التخيل لا للعقل، يقوم على مبادئ تجريبية فحسب ينتظر الإنسان منها عبثا أن تحدد فعلا يمكن أن نصل عن طريقه إلى المجموع الشامل لسلسلة من النتائج هي في واقع الأمر غير متناهية. إن أمر الفطنة هذا سيصبح، إذا سلمنا بأن وسائل الوصول إلى السعادة تقبل أن تحدد تحديدا يقينيا، قضية تحليلية عملية؛ ذلك لأنه لا يفترق عن أمر البراعة إلا في أن الهدف من هذا الأمر الأخير ممكن، بينما الهدف من ذلك الأمر معطى في الواقع، ولكن لما كان كلا الأمرين يوصي فحسب باتباع الوسائل لتحقيق ما افترض الإنسان أنه يريده هدفا له، فإنه يترتب على ذلك الأمر الذي يوصي من يريد الهدف بأن يريد الوسائل المؤدية إليه هو في الحالتين أمر تحليلي. وإذن فليس ثمة صعوبة في إمكان وجود أمر من هذا النوع.
وعلى العكس من ذلك نرى أن مشكلة إمكان وجود الأمر الأخلاقي هي المشكلة الوحيدة التي تحتاج إلى حل؛ إذ إنه ليس أمرا شرطيا على الإطلاق؛ ومن ثم لا يمكن الضرورة المتصورة تصورا موضوعيا أن تستند على أي فرض، كما هو الحال في الأوامر الشرطية. غير أنه لا ينبغي في هذا الصدد أن نغفل أبدا أنه يتعذر عن طريق مثال وبالتالي عن طريق التجربة، أن نقطع على وجه الإجمال بوجود أمر من هذا النوع، بل إننا لنخشى أن تكون الأوامر التي تبدو في ظاهرها مطلقة، في حقيقة أمرها أوامر شرطية مقنعة. فإذا قيل مثلا: ينبغي عليك ألا تبذل وعدا كاذبا، إذا افترض أن ضرورة هذا الامتناع عن بذل الوعد الكاذب ليست مجرد نصيحة يبتغى من ورائها تجنب شر آخر، بحيث ينبغي أن يقال: لا ينبغي عليك أن تعد وعدا كاذبا، حتى لا يحسب ذلك عليك إذا ما انكشف الأمر، بل إذا كان من الواجب عد فعل من هذا النوع شرا في ذاته وكان أمر النهي عنه أمرا مطلقا، فلن نستطيع من ذلك أن نثبت بما لا يقبل الشك عن طريق أي مثال [تجريبي] نلجأ إليه. إن الإرادة هنا قد حددها القانون وحده ولم تؤثر عليها الدوافع الأخرى، حتى لو بدا الأمر كذلك؛ إذ إن من الممكن دائما أن يكون للخوف من الخجل، أو للقلق الغامض من أخطار أخرى تأثير خفي على الإرادة. ومن ذا الذي يستطيع أن يبرهن بالتجربة على عدم وجود علة، بينما التجربة لا تزيد على أن تعلمنا أننا لا ندرك تلك العلة؟ في مثل هذه الحالة لن يكون الأمر الأخلاقي المزعوم، الذي يبدو كأنه أمر مطلق غير مشروط بشرط، في الواقع أكثر من وصية عملية تنبهنا إلى منفعتنا وتعلمنا كيف ننظر إليها بعين الاعتبار.
سوف يتعين علينا إذن أن نبحث بحثا قبليا خالصا في إمكان وجود أمر أخلاقي «مطلق»، ما دامت الفرصة لم تتح لنا هنا لنجده متحققا. التجربة؛ فلو أننا وجدناه في التجربة، لما اضطررنا حينئذ إلى أن نختبر إمكان وجوده، بل أن نفسره فحسب. على أنه يكفي الآن أن نلاحظ بصورة مؤقتة أن الأمر المطلق هو وحده الذي يوصف بأنه قانون عملي، أما سائر الأوامر فقد تسمى «مبادئ» الإرادة، ولكن لا يمكن تسميتها بالقوانين؛
23
ذلك لأن ما تقضي الضرورة بفعله لبلوغ مقصد نهواه، يمكن عده في ذاته شيئا عارضا، كما يمكننا في كل حين أن نتحلل من الوصية التي تحضنا على اتباعه إن نحن تخلينا عن المقصد الذي نود تحقيقه، ولكننا على النقيض من ذلك نجد أن الأمر المطلق لا يترك للإرادة فرصة لتختار على هواها عكس ما يقضي به، ومن ثم كان الأمر المطلق وحده هو الذي ينطوي على الضرورة التي تتطلب وجودها في كل قانون.
يضاف إلى هذا أن علة الصعوبة في هذا الأمر المطلق أو القانون الأخلاقي (ونعني بها صعوبة إدراك وجه الإمكان في وجوده) على جانب عظيم؛ فهذا الأمر المطلق قضية تركيبية - عملية قبلية،
24 ⋆
ولما كان فهم إمكان وجود قضايا من هذا النوع في المعرفة النظرية أمرا على جانب كبير من الصعوبة، فإن من السهل أن نستنتج أنها لن تقل عنها صعوبة في المعرفة العملية.
نريد لكي نتوصل إلى حل هذه المشكلة أن نحاول أولا أن نعرف إن كان من الممكن أن تقدم لنا مجرد فكرة أمر مطلق الصيغة التي تعبر عنه كذلك، تلك الصيغة التي تحتوي على القضية التي يمكنها وحدها أن تصبح أمرا مطلقا؛ ذلك لأن معرفة وجه الإمكان في مثل هذا الأمر المطلق، حتى لو كنا نعرف الصيغة التي تعبر عنه، سوف يتطلب منا كذلك جهدا خاصا وشاقا، مما يجعلنا نرجئ النظر فيه إلى القسم الأخير من هذا الكتاب.
عندما أتصور أمرا «شرطيا» على وجه الإجمال، فإنني أعرف مقدما ما سوف ينطوي عليه، حتى أعطي الشرط الذي يقوم عليه. أما إذا تصورت أمرا مطلقا، فإنني أعرف على الفور ما ينطوي عليه؛ ذلك لأنه لما كان الأمر لا يحتوي، بالإضافة إلى القانون، إلا على الضرورة التي تقضي بأن تكون المسلمة
25 ⋆
مطابقة لهذا القانون، وكان القانون لا يتضمن أي شرط يحده، فلن يبقى شيء على الإطلاق سوى الجانب الكلي العام من القانون بوجه عام، الذي ينبغي على مسلمة الفعل أن تكون مطابقة له، وهذه المطابقة هي وحدها التي تصور لنا وجه الضرورة في هذا الأمر.
وإذن فليس ثمة غير أمر مطلق واحد، يمكن التعبير عنه على النحو التالي: «لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تريد لها أن تصبح قانونا عاما.»
26
فإذا أمكن إذن أن تشتق جميع أوامر الواجب من هذا الأمر الواحد كما تشتق من مبدئها، فإننا سنستطيع عندئذ، وإن تركنا بغير حل مشكلة معرفة ما إذا كان ما نسميه بالواجب ليس في مجموعه إلا تصورا أجوف؛ أقول إننا سنستطيع عندئذ على أقل تقدير أن نبين ما نفهمه من ذلك وما يعنيه هذا التصور.
ولما كان شمول القانون الذي تحدث بمقتضاه الآثار والنتائج المترتبة عليه هو الذي يؤلف ما نسميه بوجه خاص «بالطبيعة» بالمفهوم الأعم لهذه الكلمة (من الناحية الصورية)، أو بتعبير آخر وجود الأشياء من حيث تحده قوانين عامة شاملة،
27
فإن الأمر الكلي الواجب يمكن أيضا أن يعبر عنه في هذه الصيغة: «افعل كما لو كان على مسلمة فعلك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى قانون طبيعي عام.»
وهنا نريد أن نحصي بعض الواجبات بحسب تقسيمها المعتاد إلى واجبات نحو أنفسنا وواجبات نحو غيرنا من الناس، إلى واجبات كاملة وأخرى غير كاملة.
28 ⋆ (1)
لنضرب مثلا حالة امرئ يحس بالضجر من الحياة، نتيجة لسلسلة من الشرور وصلت به إلى حد اليأس، ويظل مالكا لزمام عقله؛ بحيث يمكنه أن يسأل نفسه، إن لم يكن مما يتعارض مع الواجب تجاه نفسه، أن يضع حدا لحياته. إنه عندئذ يحاول أن يعرف إن كان من الممكن أن تصبح مسلمة فعله قانونا طبيعيا عاما. ولكن مسلمته تبدو على النحو التالي: إنني أجعل مبدئي الذي أستمده من حبي لذاتي أن أختصر حياتي إذا وجدت أن امتداد أجلها يهددني من شرورها بما يزيد على ما يعدني به من مباهجها. والمشكلة عندئذ هي أن تعرف إن كان مبدأ حب الذات هذا يمكن أن يصبح قانونا طبيعيا عاما. ولكن الإنسان سرعان ما يدرك أن طبيعة يهدف قانونها إلى تحطيم الحياة، عن طريق الإحساس الذي تقوم وظيفته على دفع عجلة التطور في الحياة، إنما تناقض نفسها بنفسها ولا يمكن أن تحتفظ تبعا لذلك بما يجعلها طبيعة، وأن من المستحيل على تلك المسلمة أن تصبح قانونا طبيعيا، وأنها نتيجة لذلك كله تناقض المبدأ الأعلى للواجب مناقضة تامة. (2)
وهناك حالة امرئ آخر تدفعه الحاجة إلى اقتراض مبلغ من المال. إنه يعلم تمام العلم أنه لن يستطيع سداده، ولكنه يرى كذلك أنه لن يحصل على شيء حتى يعد وعدا ثابتا أن يرده في موعد محدد. إن لديه من الرغبة ما يحفزه على أن يبذل مثل هذا الوعد، ولكن لديه أيضا من وازع الضمير ما يجعله يسأل نفسه: أليس محرما على الإنسان ومنافيا للواجب أن يتخلص المرء من الضائقة التي يعانيها بهذه الطريقة؟ لنفترض أنه قرر بالفعل أن يلجأ إلى ذلك فإن مسلمة فعله ستكون على هذا النحو: حين أعتقد أنني أعاني ضائقة مالية، فسوف أعمد إلى اقتراض المال وبذل الوعد بتسديده، وإن كنت أعلم أن ذلك لن يحدث أبدا. وقد يكون من المحتمل التوفيق بين مبدأ حب الذات هذا أو مبدأ المنفعة الشخصية وبين كل ما أنتظره لنفسي في المستقبل من حياة هنيئة، بيد أن السؤال الآن هو إن كان هذا المبدأ عادلا؟ عندئذ سأجد على الفور أنها لا يمكن أن تصبح قانونا طبيعيا عاما ولا أن تتفق مع نفسها، بل إنها لا بد أن تناقض نفسها بالضرورة؛ وذلك لأن التسليم بقانون عام مؤداه أن كل إنسان يعتقد أنه في ضائقة يستطيع أن يعد بما يخطر على باله، مع النية المعقودة على عدم الوفاء بهذا الوعد، سيجعل الوعد نفسه والغاية التي يطمع في تحقيقها عن طريقه أمرا مستحيلا؛ إذ لن يصدق أحد ما يبذل له من وعود، بل إنه سيهزأ بمثل هذا القول كما لو كان ادعاء باطلا سخيفا. (3)
وثالث يلمس في نفسه موهبة يمكن أن تجعل منه، مع شيء من التثقيف والتهذيب، أمرا نافعا من نواح كثيرة. غير أنه يرى نفسه يعيش في ظروف ميسرة ويؤثر أن يجري وراء اللذات بدلا من أن يبذل جهده في تنمية استعداداته الفطرية السعيدة وتحسينها. ولكنه يسأل نفسه إن كانت مسلمته التي تحثه على إهمال مواهبه الطبيعية، التي تتفق في ذاتها مع نزعته الطبيعية إلى التمتع باللذات، تتفق كذلك ما مع يسمى بالواجب. عندئذ يرى أن الطبيعة بحسب قانون عام كهذا يمكنها حقا أن تظل باقية، حتى لو ترك الإنسان (كما يفعل سكان بحر الجنوب) موهبته تصدأ ولم يفكر إلا في توجيه حياته إلى الفراغ، واللذة، والتناسل، والاستمتاع على وجه الإجمال، غير أنه لا يمكنه على الإطلاق أن «يريد» لهذا أن يصبح قانونا طبيعيا عاما، أو أن يغرس بحالته التي هو عليها في نفوسنا عن طريق غريزة فطرية؛ ذلك لأنه، بما هو كائن عاقل، يريد بالضرورة أن تنمى جميع ملكاته لكونها نافعة له، ولأنها أعطيت له ليبلغ ألوانا عديدة من الغايات والأهداف. (4)
وهناك رابع توافرت له أسباب الحياة الرغيدة، ينظر حوله فيرى غيره من الناس يكافحون في حياتهم كفاحا شاقا (وإن كان في استطاعته أن يمد إليهم يد المساعدة) ونجده يفكر على هذا النحو: وما شأني أنا بهذا؟ فليفز كل من السعادة بما تشاء له السماء أو بما يشاء هو لنفسه، فلن أسلبه شيئا أو أحسده على شيء، لكنني لا أشتهي أن أسهم بشيء في إسعاد حياته أو الوقوف إلى جانبه في أوقات الشدة! أجل، إن مثل هذا اللون من التفكير لو أصبح قانونا طبيعيا فإن الجنس البشري سيواصل بقاءه بغير شك، بل لا نزاع في أنه سيظل أفضل مما لو تشدق كل واحد بكلمات التعاطف والإحساس ، أو دفعه التحمس إلى أن يضع بعضها من حين إلى حين موضع التنفيذ، بينما يعمد إلى الخداع كلما واتته الفرصة، وبيع حقوق الناس والافتئات عليها بوسيلة أو بأخرى. ومع أن من الممكن تماما أن يكتب البقاء لقانون طبيعي عام يطابق هذه المسلمة، فإن من المستحيل أن «يراد» لمثل هذا المبدأ أن يكون صالحا صلاحية قانون طبيعي عام؛ ذلك أن الإرادة التي تقرر ذلك إرادة تناقض نفسها بنفسها؛ فقد يحدث في كثير من الحالات أن يحتاج مثل هذا الإنسان إلى حب الآخرين وعطفهم وأن يجد نفسه محروما من كل أمل في الحصول على المساعدة التي يتمناها؛ إذ يحول بينه وبينها ذلك القانون الطبيعي المنبثق من إرادته ذاتها.
هذه إذن هي بعض الواجبات الحقيقية العديدة، أو بعض الواجبات التي نعدها على الأقل كذلك، يتضح استنباطها
29
من المبدأ الوحيد الذي ذكرناه من قبل وضوحا جليا. إن علينا أن يكون في استطاعتنا أن نريد لمسلمة أفعالنا أن تصبح قانونا عاما؛ فهذا هو معيار الحكم الأخلاقي على أفعالنا بوجه عام. إن من طبيعة بعض الأفعال أن مسلمتها لا يمكنها، بغير أن تقع في التناقض، أن تتصور كما لو كانت قانونا عاما، ومن الخطأ البالغ أن نظن أن الإرادة تستطيع أن تفرض عليها أن تصبح كذلك. حقا إن تلك الاستحالة الداخلية لا وجود لها في بعض الأفعال الأخرى، ولكن من المستحيل مع ذلك أن «يراد» لمسلمتها أن ترتفع إلى مستوى العموم الذي للقانون الطبيعي؛ لأن مثل هذه الإرادة سوف تتناقض مع نفسها.
من السهل أن نرى أن [مسلمة] الأفعال الأولى تعارض الواجب الصارم، أو الضيق، بينما لا تتعارض مسلمة الأفعال الثانية إلا مع الواجب الأعم (أو واجب الاستحقاق). وهكذا نجد أن جميع الواجبات، من حيث نوع الإلزام الذي تفرضه (لا من حيث موضوع الأفعال الذي تحدده) تبدو من خلال هذه الأمثلة معتمدة اعتمادا واضحا على المبدأ الواحد.
إذا راقبنا أنفسنا في كل مرة نخرق فيها واجبا، لوجدنا أننا لا نريد في حقيقة الأمر أن تصبح مسلمتنا قانونا عاما؛ لأن هذا شيء يتعذر علينا [أن نريده ]، بل الأولى أن يبقى عكس تلك المسلمة قانونا يحمل طابع العموم، غير أننا قد نعطي لأنفسنا الحرية فنجعل منه «استثناء» لنا أو لصالح ميولنا (ولو كان ذلك مقصورا على هذه المرة وحدها).
30
يترتب على هذا أننا لو وزنا كل شيء من وجهة نظر واحدة وبالذات؛ أعني من وجهة نظر العقل، لوقعنا على تناقض في إرادتنا نفسها؛ بمعنى أننا نريد لمبدأ معين، بوصفه قانونا كليا عاما، أن يكون ضروريا ضرورة موضوعية، ونريد مع ذلك ألا تكون له من الناحية الذاتية قيمة كلية عامة، بل أن يدع مجالا للاستثناءات. غير أننا لما كنا نعد فعلنا مرة من وجهة نظر إرادة مطابقة للعقل مطابقة تامة، وكنا نعتبره مرة أخرى من وجهة نظر إرادة واقعة تحت تأثير الميل، فليس ها هنا في واقع الأمر تناقض، بل مقاومة من جانب الميل للتعليمات التي يقضي بها العقل (تعارض
Antagonismus )، مما يجعل كلية المبدأ
Universalitas
تتحول إلى مجرد تعميم
Generalitas
بحيث يكون على المبدأ العملي للعقل أن يتلاقى مع المسلمة في منتصف الطريق. وعلى الرغم من أن هذا الحل الوسط لا يمكن أن يبرره حكم نصدره بغير تحيز، فإنه يدل مع ذلك على أننا نعترف اعترافا صحيحا بصلاحية الأمر الأخلاقي المطلق وأننا (مع ما نحمله له في أنفسنا من احترام تام) إنما نسمح لأنفسنا ببعض الاستثناءات التي تبدو لنا غير ذات بال والتي نكره عليها إكراها.
بهذا نكون قد بينا على أقل تقدير أنه إن كان لتصور الواجب أن يكون ذا معنى وأن يشتمل على تشريع واقعي لأفعالنا، فلا يمكن أن يعبر عن هذا التشريع إلا في صورة أوامر أخلاقية مطلقة لا في شكل أوامر شرطية أبدا، كذلك استطعنا، وهذا بالفعل كثير، أن نعرض محتوى الأمر الأخلاقي المطلق، الذي لا بد له أن يشتمل على المبدأ الذي تقوم عليه جميع الواجبات (إن كان لمثل هذه الواجبات وجود على وجه الإجمال) عرضا واضحا محددا بالقياس إلى كل تطبيقاته الممكنة. غير أننا لم نصل بعد إلى أن نقرر بطريقة قبلية أن مثل هذا الأمر المطلق موجود في الواقع حقا، وأن هناك قانونا عمليا يصدر أوامره من ذاته على نحو مطلق وبغير أن يدفعه إلى ذلك دافع، وأن اتباع مثل هذا القانون واجب.
31
إنه من أهم ما ينبغي علينا أن نضعه في اعتبارنا، حين نعقد النية على بلوغ هذا الهدف، أن نجعل الحذر رائدنا، فلا نسمح لخاطر أن يصور لنا أن من المستطاع استنباط هذا المبدأ من الخاصية «المميزة للطبيعة الإنسانية»؛ ذلك أن الواجب ينبغي أن يكون مصيره ضرورة عملية غير مشروطة للفعل؛ أي إنه ينبغي أن يكون صالحا لكل الكائنات العاقلة (وهي الكائنات الوحيدة التي يمكن للأمر المطلق أن يطبق عليها دائما) وأن يكون، لهذا السبب وحده، قانونا صالحا لكل إرادة إنسانية.
أما ما يشتق على العكس من ذلك من الاستعداد الطبيعي الخاص بالإنسانية، من عواطف وميول معينة، بل إن ما يشتق - على فرض أن هذا ممكن - من اتجاه خاص يتميز به مبدأ العقل الإنساني وحده ولا يلزم ضرورة أن يكون صالحا لإرادة كل كائن عاقل، كل هذا قد يقدم لنا مسلمة [نسترشد بها] ولكنه لن يقدم لنا قانونا، وقد يعطينا مبدأ ذاتيا يدفعنا الميل والنزوع إلى أن نلائم بينه وبين أفعالنا، ولكنه لن يعطينا مبدأ موضوعيا «نؤمر» بأن نفعل بمقتضاه حتى لو كانت كل ميولنا ونوازعنا وكل الاستعدادات التي أودعتها الطبيعة فينا مضادة له، بل إن السمو والعزة الكامنة في الأمر الذي يعبر عنه الواجب لتزداد بمقدار ما تقل مساندة العوامل الذاتية له، لا بل بقدر ما تشتد هذه العوامل مقاومة له، بغير أن يضعف ذلك البتة من الإلزام الذي يفرضه القانون أو يسلبه شيئا من صلاحيته.
الواقع أننا نجد الفلسفة هنا في موقف عصيب، ولقد كان ينبغي لهذا الموقف أن يكون ثابتا، ولو أنها لا تجد في الأرض ولا في السماء ما تتعلق به أو تستند إليه.
32
إن عليها هنا أن تقيم البرهان على نقائها، فتجعل من نفسها حارسة على قوانينها ، بدلا من أن تكون الرسول المبشر بقوانين يوصي بها حس فطري أو ما لا أدريه من طبيعة وصية عليها، وقد تكون هذه القوانين في مجموعها خيرا من لا شيء، غير أنها لن تستطيع أبدا أن تحدنا بمبادئ وأصول كتلك التي يمليها العقل ويتحتم فيها أن تنبع من مصدر قبلي خالص وتستمد منه سلطانها الآمر؛ بحيث لا تنتظر شيئا من ميل الإنسان، بل تتوقع كل شيء من السلطة العليا للقانون ومن الاحترام الواجب في حقه، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكان عليها أن تحكم على الإنسان بأن يحتقر نفسه ويستبشعها في سريرته.
كل العناصر التجريبية إذن لا تصلح أبدا أن تكون عاملا مكملا لمبدأ الأخلاق فحسب، بل إنها لضارة أشد الضرر بنقاء الأخلاق ذاتها؛ حيث نجد أن القيمة الحقة للإرادة الطيبة طيبة مطبقة، تلك القيمة التي لا يعدلها في سموها شيء، إنما تكمن على وجه التحديد في استقلال مبدأ الفعل عن كل التأثيرات التي تأتي من جانب المبادئ العرضية، وهي المبادئ الوحيدة التي تستطيع التجربة تقديمها. ولا يستطيع الإنسان أن يمل من التحذير من هذا التهاون، لا بل من هذا الأسلوب الدنيء في النظر والتفكير، الذي يجعل صاحبه يفتش عن المبدأ الأخلاقي بين الدوافع والقوانين التجريبية؛ فالعقل الإنساني الذي أنهكه التعب يلذ له أن يستريح على هذه المخدة، وهناك يراوده حلم من التخيلات والأوهام الغلابة (التي تجعله مع ذلك يعانق سحابة بدلا من أن يعانق جونو
Juno )
33
فيدس على الأخلاق لقيطا غير شرعي لملم أعضاءه المتفرقة الأصل وصنع منها مخلوقا تستطيع العين أن ترى فيه شبها من كل شيء تشتهي أن تراه، اللهم إلا من الفضيلة، إن قدر له أن يراها ولو مرة واحدة في صورتها الحقة.
34 ⋆
هكذا يوضع السؤال على النحو التالي: هل يعد قانونا ضروريا ينطبق على جميع الكائنات العقلة، ذلك الذي يجعلهم يحكمون دائما على أفعالهم بمقتضى مسلمات من شأنها أن يكون في استطاعتهم أن يريدوا لها أن تقوم مقام القوانين العامة؟ إن كان القانون كذلك، فلا بد له أن يكون مرتبطا (على نحو قبلي خالص) بتصور إرادة كائن عاقل على وجه الإجمال. ولكن لا بد للإنسان، من أجل أن يكتشف هذا الارتباط، مهما عزفت نفسه عنه، أن يتقدم خطوة إلى الأمام؛ أعني في اتجاه الميتافيزيقا، ولو أدت به هذه الخطوة إلى مجال من مجالاتها، يختلف عن الفلسفة التأملية؛ أعني إلى ميتافيزيقا الأخلاق، في فلسفة عملية، لا يهمنا فيها أن نسلم بمبادئ «ما يحدث»، بل أن نضع قوانين «لما ينبغي أن يحدث»، حتى ولو لم يقدر له أن يحدث أبدا؛ أي قوانين موضوعية عملية، في مثل هذه الفلسفة العملية لا نحتاج إلى البحث عن الأسباب التي تجعل الشيء يعجب أو ينفر أو عن الخصائص التي تميز اللذة الناجمة عن الإحساس البسيط من الذوق، ولا عن البحث عما إذا كان الذوق يفترق عن الشعور العام بالرضا من جانب العقل، كما أننا لا نحتاج أن نسأل عما يقوم عليه الشعور باللذة والشعور بالألم، وكيف تتولد عنهما الشهوات والميول، وكيف تنبثق عن الشهوات والميول، وبالتعاون مع العقل، المسلمات؛ ذلك أن هذه المباحث جميعا إنما تتعلق بمذهب تجريبي في النفس،
35
يصح أن يكون بدوره القسم الثاني من مذهب في الطبيعة، هذا إذا اعتبرنا هذا المذهب في الطبيعة «فلسفة طبيعية»، من حيث إنها مؤسسة على قوانين تجريبية. ولكننا نتحدث هنا عن القانون الموضوعي العملي، وبالتالي عن علاقة الإرادة بذاتها، من حيث إنها تعين ذاتها بالعقل وحده؛ حيث يسقط عندئذ كل ما له علاقة بالتجربة من تلقاء نفسه، ومرجع ذلك إلى أن العقل بذاته وحده إذا حدد السلوك (الأمر الذي يريد أن نبحث في إمكان قيامه) فلا بد له بالضرورة أن يفعل ذلك بطريقة قبلية. تعد الإرادة ملكة تحديد الذات للفعل، بما يتفق مع تمثل قوانين معينة. مثل هذه الملكة لا يمكن أن نجدها إلا عند الكائنات العاقلة. كذلك فإن ما يصلح للإرادة مبدأ موضوعيا لتحديد نفسها بنفسها، هو الغاية، فإذا كانت هذه معطاة من العقل وحده، فيجب كذلك أن تكون صالحة لكل الكائنات العاقلة . أما ما يحتوي على العكس من ذلك على مبدأ إمكان الفعل فحسب، الذي تكون الغاية نتيجة له، فيسمى «الوسيلة». المبدأ الثاني للرغبة هو «الدافع»، والسبب الموضوعي لفعل الإرادة هو الباعث المحرك، ومن هنا كان الفارق بين الغايات الذاتية التي تقوم على الدوافع، وبين الغايات الموضوعية التي تستند إلى بواعث صالحة لكل كائن عاقل. المبادئ العملية تكون «صورية»، عندما تجرد من كل الغايات الذاتية، ولكنها تكون مادية، عندما تقوم على مثل هذه الغايات الذاتية، ولكنها تكون مادية، عندما تقوم على مثل هذه الغايات الذاتية، وبالتالي على دوافع معينة. الغايات التي يضعها كائن عقل لنفسه على هواه «كنتائج» مترتبة على فعله (أي الغايات المادية) هي في مجموعها غايات نسبية فحسب؛ ذلك لأن كل ما يعطيها القيمة التي لها هو مجرد العلاقة التي تربطها بالطبيعة الخاصة التي لملكة الاشتهاء عند الذات، هذه القيمة التي لا يمكن تبعا لذلك أن تقدم مبادئ كلية صالحة وضرورية لجميع الكائنات العاقلة ولا لكل فعل إرادي؛ أي إنها لا تستطيع أن تقدم قوانين عملية. وهذا هو السبب في أن كل هذه الغايات النسبية لا تؤسس غير الأوامر الأخلاقية الشرطية.
ولكن إذا فرض أن هناك شيئا، يكون «لوجوده في ذاته» قيمة مطلقة، شيئا يمكن له، بوصفه «غاية في ذاته»، أن يكون مبدأ لقوانين محددة، عندئذ سنجد في هذا الشيء، وفيه وحده، مبدأ الأمر الأخلاقي المطلق الممكن؛ أي سنجد فيه مبدأ القانون العملي.
وهنا أقول: الإنسان وكل كائن عاقل بوجه عام يوجد كهدف في ذاته «لا كمجرد وسيلة» يمكن هذه الإرادة أو تلك أن تستخدمه على هواها؛ فهو في كل أفعاله سواء كانت هذه الأفعال متعلقة به هو نفسه أم بغيره من الكائنات العاقلة الأخرى، ينبغي أن ينظر إليه «في الوقت نفسه على أنه غاية». كل موضوعات الميول ليس لها إلا قيمة مشروطة، فلو لم توجد الميول والحاجات المبنية عليها، لكان موضوعها بلا قيمة. أما الميول نفسها، باعتبارها مصادر للحاجة، فنصيبها من القيمة المطلقة الذي يجعلها ترغب لذاتها، من الضآلة بحيث إن التحرر الكامل منها ينبغي أن يكون هو الأمنية العامة التي يشترك فيها كل كائن عاقل.
36
يترتب على هذا أن قيمة جميع الموضوعات التي يمكن لها أن «تكتسب» عن طريق أفعالنا قيمة مشروطة دائما. والحق أن الموجودات التي لا يقوم وجودها على إرادتنا بل على الطبيعة، ليست لها مع ذلك، إذا كانت موجودات غير عاقلة، غير قيمة نسبية، على أساس أنها وسائل، وهذا هو الذي يجعلنا نسميها «أشياء»، أما الموجودات العاقلة فتسمى على العكس من ذلك «أشخاصا»؛ وذلك لأن طبيعتها قد ميزتها بكونها غايات في ذاتها؛ أي بما لا يجوز له أن يستخدم كمجرد وسيلة، وبالتالي بما يحد من كل فعل يتسم بطابع التعسف والافتعال (وما يكون موضوعا للاحترام). ليست هذه إذن مجرد غايات ذاتية، يكون لوجودها قيمة «بالنسبة لنا»، بوصفه نتيجة مترتبة على أفعالنا، بل هي غايات «موضوعية»؛ أي أشياء وجودها غاية في ذاته، بل غاية لا يمكن أن تحل محلها غاية سواها، حتى يمكن أن توضع تلك الغايات الموضوعية في خدمتها كما لو كانت مجرد «وسائل» لها؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما عثرنا أبدا على شيء له «قيمة مطلقة»، ولكن لو كانت كل القيم مشروطة، وكانت بالتالي قيما عرضية، لكان من المستحيل استحالة تامة أن نجد للعقل مبدأ عمليا أعلى، وإذن فإذا كان من الواجب أن يوجد مبدأ عملي أعلى، وأمر أخلاقي مطلق بالنظر إلى الإرادة الإنسانية، فلا بد أن يكون ذلك المبدأ وهذا الأمر، عن طريق تمثل ما هو بالضرورة غاية لكل إنسان لأنه هو نفسه غاية في ذاته؛ بحيث يكونان المبدأ الموضوعي للإرادة، وبالتالي ما يصلح أن يكون قانونا عمليا شاملا ... وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه هذا المبدأ: «توجد الطبيعة العاقلة كغاية في ذاتها». هكذا يتمثل الإنسان بالضرورة وجوده الخاص به، والمبدأ بهذا المعنى يعد مبدأ ذاتيا للأفعال الإنسانية، ولكن كل كائن عاقل آخر يتمثل وجوده كذلك على هذا النحو، تبعا لنفس المبدأ العقلي الذي يصلح لي أنا أيضا،
37 ⋆
وإذن فهو في نفس الوقت مبدأ «موضوعي» ينبغي أن يكون من الممكن أن تستنبط منه كل قوانين الإرادة، على أساس أنه مبدأ عملي أعلى. وهكذا يمكن أن نضع الأمر العملي على الصورة التالية: «افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة.»
نريد الآن أن نرى إن كان ثمة سبيل لتحقيق هذا الكلام. فلنبق عند الأمثلة التي قدمناها فيما سبق:
أولا:
سنجد بحسب تصور الواجب الضروري تجاه الذات أن الشخص الذي يفكر في الانتحار سيسأل نفسه إن كان من الممكن أن يتفق مسلكه مع فكرة الإنسانية بوصفها هدفا في ذاته. فإذا لجأ إلى تحطيم نفسه ليهرب من حالة مؤلمة فإنه يستخدم بذلك شخصا كمجرد وسيلة تهدف إلى المحافظة على حالة محتملة إلى نهاية الحياة، ولكن الإنسان ليس شيئا؛ وبالتالي ليس موضوعا يمكن ببساطة أن يعامل معاملة الوسيلة، بل ينبغي النظر إليه في كل أفعاله بوصفه دائما هدفا في ذاته؛ ومن ثم فلست أملك حق التصرف في الإنسان الكامن في شخصي، سواء كان ذلك بتشويهه، أو إفساده، أو قتله (لا بد لي أن أطرح هنا جانبا مسألة تحديد هذا المبدأ عن كثب، وهو ما كان مفروضا أن أقوم به لتجنب كل إساءة في الفهم، وهو ما يحدث في حالة اضطراري مثلا إلى بتر أعضائي لإنقاذ نفسي، أو المخاطرة بحياتي في سبيل المحافظة عليها ... إلخ؛ إذ إن مثل هذا التحديد يتعلق بالأخلاق بمعناها الخاص).
ثانيا:
أما فيما يتعلق بالواجب الضروري أو بالواجب في حق الآخرين، فإن الذي ينوي أو يبذل وعدا كاذبا للغير سيدرك على الفور أنه يريد أن يستخدم إنسانا آخر كوسيلة فحسب، بغير أن يحتوي هذا الإنسان الأخير في نفس الوقت على الغاية في ذاته؛ ذلك أنه من المستحيل على من أريد أن أستخدمه بمثل هذا الوعد الكاذب وسيلة لتحقيق أهدافي أن يوافقني على الطريقة التي أعامله بها ولا يمكنه تبعا لذلك أن يحتوي في ذاته على الغاية من هذا الفعل. وتزداد هذه المجافاة لمبدأ الإنسانية وضوحا أمام العين إذا أضفنا إلى ذلك أمثلة من الاعتداء على حرية الآخرين وممتلكاتهم؛ إذ يتجلى عندئذ أن الذي يدوس على حقوق الناس إنما يقصد إلى استخدام أشخاصهم كما لو كانت مجرد وسيلة فحسب، دون أن يضع في حسابه أنهم، بصفتهم كائنات عاقلة، ينبغي أن يعدوا دائما في نفس الوقت غايات؛ أي كائنات لا بد أن يكون في مقدورها أن تحتوي في ذاتها على الهدف من هذا الفعل نفسه.
38 ⋆
ثالثا:
بالنظر إلى الواجب العرضي (الاستحقاق) تجاه الذات، لا يكفي ألا يتناقض الفعل مع الإنسانية في أشخاصنا بوصفها هدفا في ذاته، بل ينبغي كذلك أن يكون الفعل على «اتفاق» معها. ولكن الإنسانية تنطوي على استعدادات تهيئ لبلوغ درجة أعظم من الكمال، وتكون جزءا من الغاية التي تقصد إليها الطبيعة بالنسبة للإنسانية ممثلة في ذواتنا، وإهمال هذه المواهب الاستعدادات قد لا يتعارض مع المحافظة على الإنسانية بوصفها غاية في ذاتها، ولكنه يتعارض مع العمل على «تحقيق» هذه الغاية.
رابعا:
أما فيما يتعلق بواجب الاستحقاق نحو الآخرين، فإن الغاية الطبيعية التي يقصد جميع الناس إلى تحقيقها هي بلوغ سعادتها. حقا إن الإنسانية يمكن أن تظل باقية، إذا لم يسهم أحد في إسعاد غيره، ولم يتعمد في نفس الوقت أن يسلب منه شيئا، غير أن هذا لن يزيد على أن يكون اتفاقا سلبيا لا إيجابيا مع الإنسانية بوصفها «غاية في ذاتها»، إذا لم يحاول أحد، بقدر ما في طاقته، أن يعمل على إسعاد غيره؛ ذلك لأنه لما كانت الذات غاية في نفسها، فلا بد أن تكون غاياتها، إن كان لذلك التصور أن يحدث عندي أثره كله، هي في نفس الوقت بقدر المستطاع «غاياتي».
هذا المبدأ الذي تعد بمقتضاه الإنسانية وكل طبيعة عاقلة أخرى بوجه عام غاية في ذاتها (وهو الشرط الأعلى الذي يحد من حرية أفعال كل إنسان) لا يستفاد من التجربة: أولا بسبب عمومه؛ فهو ينطبق على جميع الكائنات العاقلة؛ حيث لا تكفي أية تجربة لتحديد شيء في هذا الصدد ، وثانيا لأن الإنسانية في هذا المبدأ لا تتصور على أنها غاية للناس (ذاتية)، أي كموضوع يجعل منه الإنسان من تلقاء نفسه هدفا في الواقع، بل تتصور كغاية موضوعية ينبغي لها، مهما تكن الغايات التي نود تحقيقها، من حيث إن لها صبغة القانون، أن تكون الشرط الذي يحد من جميع الغايات الذاتية، وثالثا لأن هذا المبدأ إنما يصدر تبعا لذلك صدورا ضروريا عن العقل الخالص.
ذلك أن مبدأ كل تشريع عملي إنما يقوم «بطريقة موضوعية» على «قاعدة» الشمول أو العموم وشكلها، التي تجعله بحسب المبدأ الأول قادرا على أن يصبح قانونا (يمكن أن نسميه كذلك قانونا طبيعيا)، بينما يقوم من الناحية الذاتية على «الغاية»، ولكن الذات التي تحمل جميع الغايات هي كل كائن عاقل، بوصفه غاية في ذاتها (وذلك بحسب المبدأ الثاني)، ينتج عن هذا المبدأ العملي الثالث للإرادة بوصفه الشرط الأعلى لموافقته للعقل العملي العام؛ أعني فكرة الإرادة عند كل كائن عاقل كإرادة تضع تشريعا عاما.
39
سوف تنبذ طبقا لهذا المبدأ كل المسلمات التي لا يمكنها أن تتفق مع التشريع العام المتعلق بالإرادة. وهكذا نجد أن الإرادة لا تخضع للقانون وحده، بل إن خضوعها له ينبغي أن ينظر إليه في نفس الوقت من حيث إنها «هي نفسها مشرعة للقانون»، وإنها لا تعد خاضعة له (وفي استطاعتها أن تعد نفسها صاحبة هذا القانون) إلا لهذا السبب وحده.
إن الأوامر الأخلاقية، بحسب نوع التصور الذي قدمناه فيما سلف، سواء في ذلك الأوامر التي تقتضي أن تكون الأفعال مطابقة لتشريع عام شبيه بالنظام الطبيعي، أو الأوامر التي تريد أن يكون للكائنات العاقلة المزية العامة التي للغايات في ذاتها، قد استبعدت حقا عن سلطانها الآمر كل خليط من منفعة أيا كان نوعها، استبعادها لدافع من الدوافع، وقد تم ذلك عن طريق تصورنا لها كأوامر مطلقة، ولكننا «لم نسلم» بها كأوامر مطلقة إلا لأن هذا التسليم كان لا غنى عنه لتفسير تصور الواجب. أما عن وجود قضايا عملية تصدر أوامرها بطريقة مطلقة، فذلك ما لم يكن من المستطاع البرهنة عليه في ذاته، ولا من المستطاع كذلك إقامة هذا البرهان هنا أيضا في هذا القسم من الكتاب، ولكن شيئا واحدا كان من الممكن أن يتم، ونعني به أن التحرر من كل منفعة عند فعل الإرادة الصادر عن الواجب، من حيث هو العلامة المميزة التي تفرق بين الأوامر المطلقة والأوامر الشرطية قد نص عليه في الأمر نفسه، وذلك من خلال تحديد معين سيكون متضمنا فيه، وهذا ما يحدث الآن في هذه الصيغة الثالثة للمبدأ؛ أي في فكرة إرادة كل كائن عاقل من حيث هي إرادة تضع تشريعا كليا عاما.
ذلك أننا إذا تصورنا مثل هذه الإرادة، مهما قلنا إن من الممكن لإرادة تخضع لقوانين أن تكون مرتبطة بهذه القوانين عن طريق المنفعة، فإن من المستحيل أن تعتمد الإرادة، التي هي نفسها المشرع الأعلى، على أية منفعة من أي نوع؛
40
لأن مثل هذه الإرادة التي تعتمد على المنفعة ستحتاج بدورها إلى قانون آخر، يمكنه أن يحد من المنفعة المتعلقة بحبها للذات ويجعلها مشروطة بصلاحيتها لأن تصبح قانونا كليا عاما.
وهكذا نجد أن مبدأ كل إرادة إنسانية، «من حيث هي إرادة تضع تشريعا عاما عن طريق مسلماتها جميعا»
41 ⋆
هذا إذا تيسر له أن يكون مبدأ صائبا، إنما يصلح صلاحية تامة لأن يكون أمرا أخلاقيا مطلقا؛ وذلك لأنه - ومرجع هذا على وجه التحديد إلى فكرة التشريع العام - لا يقوم على أية منفعة وإنه تبعا لذلك يستطيع وحده، بين كل الأوامر الممكنة، أن يكون هو الأمر «غير المشروط»، أو إذا شئنا أن نعبر تعبيرا أفضل فعكسنا الأمر قائلين: إذا كان هناك أمر أخلاقي مطلق (أي قانون يسري على إرادة كل كائن عاقل) فإنه لن يملك إلا أن يلقي أوامره بأن يصدر الإنسان دائما في كل أفعاله عن مسلمة إرادة يمكنها في نفس الوقت أن تجعل نفسها موضوعا لها من حيث هي مشرعة تشريعا عاما، عندئذ فقط يكون المبدأ العملي والأمر الذي يطيعه الإنسان غير مشروطين، فلن يكون ثمة منفعة على وجه الإطلاق يمكنه [أي الأمر الأخلاقي] أن يقوم عليها.
ليس عجيبا بعد الآن، إذا رجعنا بالبصر إلى كل المحاولات التي بذلت حتى الآن لاكتشاف مبدأ الأخلاق، أن نجد أنها جميعا كان مقضيا عليها بالإخفاق. لقد رأوا أن الإنسان يرتبط من خلال واجبه بقوانين، ولكن لم يخطر لهم على بال أنه لا يخضع إلا لتشريعه النابع منه، وأن هذا التشريع كلي عام، وأنه لا يلتزم في فعله إلا بما يتفق مع إرادته الخاصة، وهي الإرادة التي تضع تشريعا عاما بمقتضى الغاية التي رسمتها الطبيعة؛ ذلك لأنهم حين تصوروه في خضوعه للقانون فحسب (أيا كان نوع هذا القانون) وجدوا أن هذا القانون لا بد بالضرورة أن يكون مصحوبا بنوع من المنفعة في صورة جذابة أو قاهرة؛ لأنه بما هو قانون لم ينبثق عن «إرادته» هو، بل إن هذه الإرادة قد ألزمت، بما يتفق مع القانون، من جانب شيء خارجي عليها على أن تسلك على نحو معين. بهذا الاستنتاج الذي لم يكن منه مفر ضاع كل جهد بذل لإيجاد مبدأ أعلى للواجب ضيعة لا رجعة فيها؛ ذلك لأنهم لم يتوصلوا إلى الواجب أبدا، بل إلى الضرورة التي تحض على الفعل بدافع من مصلحة معينة. وسواء كانت هذه المنفعة شخصية أم أجنبية، فقد كان لا بد للأمر دائما أن يتخذ طابع الأمر الشرطي ولم يكن من المستطاع أن يصلح لأن يكون أمرا أخلاقيا. سوف أطلق إذن على هذا المبدأ اسم مبدأ استقلال الإرادة في مقابل كل مبدأ آخر سأسلكه في عداد ما أطلق عليه اسم التنافر.
إن التصور الذي يقتضي من كل كائن عاقل أن يتأمل نفسه من خلال جميع مسلمات إرادته على اعتبار أنه يضع تشريعا كليا عاما لكي يتمكن من وجهة النظر هذه من الحكم على نفسه وعلى أفعاله، يؤدي إلى تصور أشد خصوبة يرتبط به، ونعني به تصور «مملكة الغايات».
وأنا أفهم من كلمة «مملكة» ذلك الترابط المنظم الذي يجمع بين كائنات عاقلة متعددة عن طريق قوانين مشتركة. ولما كانت القوانين تحدد الغايات من جهة صلاحيتها لأن تكون غايات كلية عامة، فإن من المستطاع، إذا جردنا الفروق الشخصية بين الكائنات العاقلة وكذلك كل محتوى غاياتهم الجزئية، أن نتصور كلا عاما يشمل جميع الغايات (سواء في ذلك غايات جميع الكائنات العاقلة، بوصفها غايات في ذاتها، والغايات الشخصية التي يمكن أن يضعها كل لنفسه) في وحدة منتظمة مترابطة. أي مملكة للغايات ممكنة الوجود بحسب المبادئ السابق ذكرها.
42
ذلك أن الكائنات العاقلة تخضع جميعا للقانون الذي يقتضي ألا يعامل كل منهم نفسه وغيره من البشر «كوسيلة أبدا»، بل أن تكون معاملته لهم دائما وفي نفس الوقت «كغايات في ذاتها». ينشأ عن هذا ترابط منتظم بين الكائنات العاقلة عن طريق قوانين موضوعية مشتركة؛ أي مملكة يمكن، طالما كان الهدف من هذه القوانين إقامة العلاقة بين هذه الكائنات وبين بعضها البعض بوصفها غايات ووسائل، أن تسمى مملكة الغايات (وهي لا تعبر في حقيقة الأمر إلا عن مثل أعلى).
ولكن الكائن العاقل يعد «عضوا» منتميا إلى مملكة الغايات إذا كان هو نفسه، إلى جانب أنه يشرع لها قوانين كلية عامة، يخضع لهذه القوانين. وهو ينتمي إلى هذه المملكة كرئيس لها إذا كان، كمشرع لقوانينها، لا يخضع لأية إرادة أخرى غير إرادته.
يجب على الكائن العاقل أن يعد نفسه دائما مشرعا في مملكة الغايات ممكنة عن طريق حرية الإرادة، سواء كان عضوا في هذه المملكة أم رئيسا لها، ولكنه لا يستطيع أن يدعي لنفسه مكان الرئاسة بمسلمات إرادته فحسب، بل إذا كان كائنا مستقلا تمام الاستقلال، بلا حاجات، ذا قدرة مكافئة لإرادته ولا يحد منها شيء.
43
الأخلاقية تكمن إذن في علاقة كل فعل بالتشريع القانوني الذي يستطيع وحده أن يجعل مملكة الغايات ممكنة. ولكن هذا التشريع ينبغي أن يوجد في الكائن العاقل نفسه وأن ينبثق من إرادته التي يكون مبدؤها حينئذ هو المبدأ التالي: ألا يقدم الإنسان على فعل إلا بما يتفق مع مسلمة من شأنها أن تكون قادرة على أن تصبح قانونا كليا عاما، وألا يفعل الإنسان الفعل كذلك حتى «تعد الإرادة نفسها في عين الوقت واضعة تشريع كلي عام عن طريق مسلمتها.» فإذا لم تتفق المسلمات بطبيعتها مع هذا المبدأ الموضوعي للكائنات العاقلة بوصفها مصادر تشريع كلي عام، اتفاقا ضروريا، فإن الضرورة التي تقضي بالفعل طبقا لذلك المبدأ يطلق عليها الإلزام العملي؛ أي «الواجب». والواجب لا يكلف به الرئيس في مملكة الغايات، بل يلتزم كل عضو من الأعضاء بمقدار متكافئ.
إن الضرورة العملية التي تقضي بالسلوك طبقا لهذا المبدأ، أي طبقا للواجب، لا تقوم ألبتة على العواطف والدوافع والميول، بل تقوم فحسب على علاقة الكائنات العاقلة بعضها ببعض؛ حيث ينبغي دائما أن تعد إرادة الكائن العاقل في نفس الوقت «إرادة مشرعة»؛ إذ لو كان الأمر على خلاف ذلك لتعذر على الكائن العاقل أن يتصور أنه «غاية في» ذاته. هكذا يربط العقل كل مسلمة من مسلمات الإرادة، بوصفها مصدر تشريع كلي عام، بكل إرادة أخرى، بل إنه يربطها كذلك بكل فعل موجه إلى الذات، ولا يدفع العقل على ذلك أي باعث عملي آخر أو أية منفعة مستقبلة، بل إنه يصدر في ذلك عن فكرة «الكرامة» التي للكائن العاقل الذي لا يخضع لغير القانون الذي يضعه لنفسه.
لكل شيء في مملكة الغايات «ثمن أو كرامة»؛ فما له ثمن فمن الممكن أن يستبدل بشيء آخر «مكافئ له»، أما ما يعلو على كل ثمن، وما لا يسمح تبعا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له كرامة.
كل ما يتعلق بميول الإنسان وحاجاته العامة فله «ثمن سوقي»، وأما ما يتفق مع ذوق معين، حتى لو لم يفرض حاجة سابقة إليه؛ أي ما يتفق مع حال السرور الذي نستشعره في مجرد اللعب البريء عن كل غرض الذي يجري به طاقاتنا الوجدانية، «فله ثمن عاطفي»،
44
أما ما يؤلف الشرط الذي لا غنى عنه لكي يصبح شيء من الأشياء غاية في ذاته، فليست له قيمة نسبية فحسب؛ أي ليس له ثمن، بل إن له قيمة باطنية؛ أي «كرامة».
الأخلاقية هي الشرط الوحيد الذي يجعل الكائن العاقل غاية في ذاته؛ إذ يستحيل عليه أن يصبح عضوا مشرعا في مملكة الغايات إلا عن طريقها. وهكذا نجد أن الأخلاق والإنسانية، من حيث قدرة هذه عليها، هما الشيء الوحيد الذي يملك الكرامة. إن البراعة والاجتهاد في العمل لهما ثمن سوقي، والذكاء ومملكة التخيل الحية والمزاج لها ثمن عاطفي،
45
أما الوفاء بالوعد، والإحسان عن مبدأ (لا عن غريزة) فلهما على العكس من ذلك قيمة ذاتية. لا الطبيعة ولا الفن يحتويان على شيء يمكن أن يحل محل هذه الصفات إذا ما افتقدت؛ ذلك لأن قيمتها لا تكمن في النتائج المترتبة عليها، ولا في المنفعة أو المكسب اللذين تحدثهما، بل تكمن في النوايا؛ أي في مسلمات الإرادة، التي تكون على استعداد للتعبير عن نفسها على هذا النحو في صورة أفعال، حتى لو لم يحالفها النجاح في النهاية. هذه الأفعال ليست كذلك في حاجة إلى أن يوصى عليها من أي استعداد ذاتي أو ذوق يجعلنا ننظر إليها برضا وارتياح مباشرين، كما أنها ليست في حاجة إلى أي ميل أو عاطفة مباشرة تجذبنا نحوها، إنها تمثل لنا الإرادة التي تمارسها [أي الأفعال] كموضوع للاحترام المباشر، حيث لا يطلب شيء سوى العقل لكي «يفرضها» على الإرادة، لا لكي يحاول أن يلتمسها منها بالتملق والمداهنة، مما لا شك في أنه تناقض في مجال الواجبات. هذا التقويم هو الذي يعرف بقيمة مثل هذا المنحى الفكري بوصفه كرامة وهو الذي يسمو به فوق كل ثمن سموا لا نهاية له؛ فلا يمكن أن نضعها معها في كفة الميزان أو أن نقارنها بها بغير أن نجور في نفس الوقت على قداستها.
وما الذي يبرر إذن للنية الطيبة من الناحية الأخلاقية أو للفضيلة أن تذهب في طموحها إلى هذا المدى البعيد؟ إنه لا يقل في شيء عن الدور الذي تعهد به إلى الكائن العاقل للمشاركة في وضع القوانين الكلية العامة والذي يجعله صالحا لأن يصبح عضوا في مملكة ممكنة للغايات،
46
وهو الدور الذي حددته له طبيعته من قبل من حيث هو غاية في ذاته ومن ثم مشرع للقوانين في مملكة الغايات، ثم من حيث هو حر بالنظر إلى جميع القوانين الطبيعية، لا طاعة عليه إلا للقوانين التي يضعها هو لنفسه والتي يمكن مسلماته طبقا لها أن تكون جزءا من تشريع كلي عام (يخضع له في الوقت نفسه)؛ فليس لشيء في الواقع من قيمة إلا القيمة التي يحددها له القانون. ولكن التشريع نفسه، الذي يحدد القيم جميعا، ينبغي لهذا السبب نفسه أن تكون له كرامة، أي قيمة غير مشروطة، ولا سبيل إلى مقارنتها بسواها، لا يعبر عنها خير من كلمة الاحترام التي تترجم عن التقدير الذي ينبغي على الكائن العاقل أن يحمله لها؛ فالاستقلال الذاتي إذن هو مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة.
إن الطرق الثلاث التي ذكرناها آنفا للتعبير عن المبدأ الأخلاقي ليست في حقيقة الأمر إلا صيغا متعددة لقانون واحد بالذات، توجد إحداها من تلقاء نفسها الصيغتين الأخريين في ذاتها.
47
ومع ذلك فبينها خلاف واحد، هو في الحقيقة خلاف ذاتي قبل أن يكون خلافا موضوعيا - عمليا، الهدف منه تقريب فكرة من أفكار العقل إلى العيان (وذلك بحسب مشابهة معينة) وجعلها بذلك قريبة من العاطفة.
كل المسلمات لها: (1) «صورة» تتصف بالكلية والشمول، ويمكن التعبير عن صيغة الأمر الأخلاقي على هذا النحو: ينبغي أن تختار المسلمات كما لو كان من الواجب أن تكون لها قيمة قوانين الطبيعة الكلية. (2)
مادة؛ أي غاية، وهنا يعبر عن الصيغة كما يلي: إن الكائن العاقل، من حيث إنه بحسب طبيعته غاية، وبالتالي من حيث هو غاية في ذاتها، ينبغي أن يكون بالنسبة لكل مسلمة شرطا يحد من جميع الغايات التي تكون مجرد غايات نسبية أو تعسفية. (3)
تحديد تام لجميع المسلمات من طريق تلك المسلمة، ونعني بها: أن جميع المسلمات التي تستمد من تشريعنا الخاص ينبغي أن تسهم في إقامة مملكة ممكنة للغايات كما تسهم في إقامة مملكة للطبيعة.
48 ⋆
ويسير التطور هنا كما يسير هناك في مقولات،
49
مبتدئا بوحدة صورة الإرادة (أو بشمولها)، مارا «بتعدد» المادة (وهو تعدد الموضوعات أي الأهداف) ومن هناك إلى شمول المذهب أو تكامله. على أن من الخير دائما أن يسير الإنسان في حكمه الأخلاقي على حسب منهج محكم وأن يجعل مبدأه هذه الصيغة العامة للأمر الأخلاقي المطلق: «افعل بحسب المسلمة التي يمكنها في نفس الوقت أن تجعل من نفسها قانونا عاما.» فإن أردنا أن «نحبب» القانون الأخلاقي للنفوس فإن مما يفيد في ذلك كل الفائدة أن نمرر الفعل الواحد نفسه من خلال التصورات المذكورة وأن نقربه بذلك ما أمكن من العيان.
نستطيع الآن أن ننتهي من حيث بدأنا؛ أعني من تصور إرادة خيرة مطلقة. تكون «الإرادة» خيرة «بإطلاق» إذا لم يكن في وسعها أن تكون شريرة، وإذا كانت مسلمتها، حين تتحول إلى قانون كلي عام، لا تتناقض مع نفسها بأي حال من الأحوال. هذا المبدأ هو إذن قانونها الأعلى أيضا. اجعل فعلك دائما يتفق مع المسلمة التي تستطيع أن تريد لها في الوقت نفسها أن تكون في شمول القانون، هذا هو الشرط الوحيد الذي لا يمكن الإرادة بمقتضاه أن تتعارض مع نفسها أبدا، ومثل هذا الأمر أمر مطلق. ولما كانت الخاصية التي تجعل للإرادة قيمة القانون العام بالنسبة للأفعال الممكنة تشابه الترابط العام الذي يتصف به وجود الأشياء بحسب قوانين كلية عامة، وهو الترابط الذي يكون العنصر الشكلي للطبيعة بوجه عام، فإن من الممكن أن نعبر عن الأمر الأخلاقي المطلق على النحو التالي: «اجعل أفعالك مطابقة لمسلمات يمكنها في عين الوقت أن تجعل من نفسها موضوعا هو بمثابة القوانين العامة للطبيعة؛ هكذا تتألف صيغة إرادة خيرة بإطلاق.»
تتميز الطبيعة العاقلة من سواها بأنها تضع لنفسها غاية. هذه الغاية ستكون هي مادة كل إرادة طيبة. بيد أنه لما كان من اللازم، في فكرة إرادة خيرة بإطلاق وبغير شرط تحفظي (كأن يكون هذا الشرط هو بلوغ هذه الغاية أو تلك) أن نجرد [تلك الفكرة] من كل غاية يراد تحقيقها (الأمر الذي قد يجعل الإرادة خيرة من الناحية النسبية فحسب) فإن من اللازم كذلك ألا تتصور الغاية هنا كما لو كانت غاية «يراد تحقيقها»، بل كغاية «مستقلة بذاتها»؛ أي تتصور تبعا لذلك من جهة السلب فحسب؛ أعني بوصفها غاية لا ينبغي على الإنسان أن يقدم على فعل يتعارض معها، كما لا ينبغي عليه أبدا نتيجة لذلك أن ينظر إليها كما لو كانت مجرد وسيلة، بل أن يقدرها دائما وفي الوقت نفسه في كل فعل من أفعال الإرادة من حيث هي غاية. هذه الغاية لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير الذات عينها [الحاملة] لجميع الغايات الممكنة؛ إذ إنها هي في الوقت نفسه الذات صاحبة إرادة ممكنة خيرة بإطلاق،
50
والواقع أن هذه الإرادة الخيرة على الوجه المطلق لا يمكن أن يقدم عليها موضوع آخر إلا إذا وقعت في التناقض؛ وعلى ذلك فالمبدأ الذي يقول: راع أن يكون فعلك بالنسبة لكل كائن عاقل (بالنسبة لك ولغيرك) بحيث تكون له في نفس الوقت في مسلمتك قيمة الغاية في ذاتها، ليس في حقيقة الأمر إلا عين المبدأ الذي يقول: اجعل فعلك مطابقا للمسلمة التي تتضمن في الوقت نفسه صلاحيتها الشاملة لكل كائن عاقل؛ ذلك أن القول بأن علي في استخدامي للوسائل المؤدية إلى غاية من الغايات أن أقيد مسلمتي بالشرط الذي يجعلها صالحة صلاحية شاملة لأن تكون قانونا لكل ذات، يستوي تماما مع القول بأن علينا أن نجعل المبدأ الأساسي لجميع مسلمات الأفعال هو ألا تعامل الذات الحاملة للغايات؛ أي الكائن العاقل نفسه، كما لو كانت مجرد وسيلة بحال من الأحوال، بل أن تعامل معاملة الشرط الأعلى الذي يبين لنا حدود استخدام الوسائل؛ أعني أن تعامل دائما في الوقت نفسه معاملة الغاية.
51
يستتبع هذا بغير نزاع أن كل كائن عاقل، بوصفه غاية في ذاته، ينبغي أن تكون لديه القدرة على أن يعد نفسه، بالقياس إلى جميع القوانين التي قد يخضع لها في الوقت نفسه، مصدر تشريع كلي عام؛ وذلك لأن صلاحية مسلماته لأن تصبح تشريعا عاما هي على التحديد ما يميزه كغاية في ذاته، كما يستتبع أيضا أن هذه الكرامة (التي يتميز بها) من سائر الكائنات الطبيعية هي التي تفرض عليه أن يعد مسلماته على الدوام من وجهة نظره هو، التي هي في الوقت نفسه وجهة نظر كل كائن عاقل، بوصفه كائنا مشرعا (وهذا هو السبب أيضا في تسمية مثل هذه الكائنات أشخاصا). بهذا يمكن قيام عالم معقول
mundus intelligibilis ، بوصفه مملكة للغايات، وذلك عن طريق التشريع النابع عن جميع الأشخاص بوصفهم أعضاء فيه. يترتب على ذلك أن على كل كائن عاقل أن يصدر في فعله كما لو كان دائما عن طريق مسلماته عضوا مشرعا في المملكة العامة للغايات. والمبدأ الصوري لهذه المسلمات هو المبدأ الذي يقول: افعل الفعل كما لو كان على مسلمتك أن تصلح في الوقت نفسه قانونا عاما (لجميع الكائنات العاقلة). مملكة الغايات إذن لا يمكن قيامها إلا عن طريق المشابهة التي بينها وبين مملكة الطبيعة، تلك عن طريق المسلمات وحدها؛ أي القواعد التي يلزم بها المرء نفسه، وهذه عن طريق قوانين علل فاعلة خاضعة لإلزام خارجي. وعلى الرغم من هذا، فإن الإنسان لا يتردد في أن يخلع على الطبيعة ككل، وإن نظرنا إلى هذا الكل نظرتنا إلى الآلة وبمقدار العلاقة التي تربطه بالكائنات العاقلة بوصفها غايات له؛ أقول لا يتردد الإنسان لهذا السبب أن يخلع عليه اسم مملكة الطبيعة.
52
مملكة للغايات كهذه ستنتقل حقا إلى حيز الوجود عن طريق مسلمات يرسم الأمر الأخلاقي المطلق قاعدتها لجميع الكائنات العاقلة، إذا «ما اتبعت اتباعا شاملا». إلا أن الكائن العاقل وإن لم يستطع أن يضمن، حتى لو اتبع هذه المسلمة بانتظام، أن يجاريه كل كائن عاقل آخر في الوفاء بها، ولم يضمن كذلك أن تتفق معه مملكة الطبيعة وترتيبها الغائي اتفاقها مع كائن جدير بأن يكون عضوا فيها بحيث تصبح بالنسبة إليه مملكة للغايات؛ أعني بحيث تحقق رجاءه في السعادة؛ أقول مع أنه لا يضمن هذا كله فإن هذا القانون الذي يقول: «راع أن تسير أفعالك بحسب مسلمات عضو يضع تشريعا كليا عاما لمملكة ممكنة للغايات.» يظل محتفظا بكامل قوته؛ وذلك لأنه يصدر أوامره على نحو مطلق. وفي هذا الأمر على وجه التحديد تكمن هذه المفارقة: وهي أن كرامة الإنسانية وحدها، من حيث كونها طبيعة عاقلة، بصرف النظر عن كل غاية أخرى أو منفعة يراد الوصول إليها، وتبعا لذلك احترام الفكرة الخالصة ينبغي أن يكونا القاعدة التي لا يصح للإرادة أن تحيد عنها، وأن استقلال المسلمة عن أمثال هذه الدوافع كلها هو الذي يحقق لها السمو وهو الذي يجعل كل ذات عاقلة جديرة بأن تكون عضوا مشرعا في مملكة الغايات؛ إذ لو كان الأمر على خلاف ذلك لتحتم علينا أن نتصوره كائنا لا يخضع لغير القانون الطبيعي الذي يتحكم في حاجاته. ومع أنه سيكون من الممكن تصور مملكة الطبيعة، مثلها في ذلك مثل مملكة الغايات، متحدة تحت رئيس واحد، ومع أن المملكة الأخيرة لن تبقى بذلك مجرد فكرة بسيطة فحسب، بل ستكتسب واقعية حقيقية، فإن هذه الفكرة ستستفيد من وراء ذلك زيادة تأتيها من إضافة دافع قوي إليها، ولكن قيمتها الباطنة لن تزداد في شيء على ما هي عليه؛ إذ إن من الواجب علينا على الرغم من ذلك أن نتصور دائما ذلك المشرع الأوحد غير المحدود نفسه من حيث هو مشرع يحكم على قيمة الكائنات العاقلة طبقا لأفعالهم المجردة من المنفعة فحسب، المفروضة عليهم من تلك الفكرة وحدها. إن ماهية الأشياء لا تتغير تبعا لعلاقاتها الخارجية، والشيء الوحيد، إذا غضضنا النظر عن هذه العلاقات الأخيرة، الذي يكون القيمة المطلقة للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون المقياس الذي يحكم به عليه من جانب أي كائن، حتى لو كان هو الكائن الأسمى نفسه؛ فالأخلاقية إذن هي علاقة الأفعال باستقلال الإرادة؛ أي بالتشريع الكلي الممكن عن طريق مسلمات هذه الإرادة. الفعل الذي يمكن أن يتفق مع استقلال الإرادة هو فعل «مسموح به»، والفعل الذي لا يتفق معه فعل محرم. الإرادة التي تتفق مسلماتها اتفاقا ضروريا مع قوانين الاستقلال هي إرادة مقدسة؛ أي إرادة خيرة بإطلاق . توقف إرادة غير خيرة بإطلاق على مبدأ الاستقلال (الجبر الأخلاقي) «هو الالتزام». هذا الالتزام لا يمكن إذن أن ينطبق على كائن مقدس. الضرورة الموضوعية التي يتصف بها فعل من الأفعال يصدر عن التزام تسمى واجبا.
نستطيع مما تقدم ذكره بإيجاز أن نفسر الآن في سهولة كيف أننا، وإن كان أول ما يتبادر إلى ذهننا عند التفكير في تصور الواجب هو الانصياع للقانون، نتصور مع ذلك في الوقت نفسه نوعا من السمو «والكرامة» لدى ذلك الشخص الذي يؤدي جميع واجباته؛ ذلك لأن سموه لا يرجع إلى «خضوعه» للقانون بقدر ما يرجع إلى أنه، بالنظر إلى هذا القانون نفسه، يعد مشرعا في الوقت ذاته؛ أي إنه لا يخضع له إلا لهذا السبب بعينه. كذلك بينا فيما تقدم كيف أنه لا الخوف، ولا الميل، بل الاحترام الواجب في حق القانون هو وحده الدافع القادر على إعطاء الفعل قيمة أخلاقية. إن إرادتنا الخاصة، على فرض أنها لا تقدم على فعل من الأفعال إلا إذا كان مقيدا بتشريع عام، تجعل مسلماتها أمرا ممكنا، هذه الإرادة [المثالية] التي يمكن بالفكرة أن تكون إرادتنا هي الموضوع الحقيق بالاحترام، وكرامة الإنسانية تكمن على وجه التحديد في قدرتها على أن تكون مصدر تشريع كلي عام، على شريطة أن تكون هي نفسها في الوقت عينه خاضعة لهذا التشريع.
الاستقلال الذاتي للإرادة بوصفه المبدأ الأعلى للأخلاق
استقلال الإرادة هو الخاصية التي تجعل منها قانونا لنفسها (بصرف النظر عن جميع موضوعات الفعل الإرادي). مبدأ استقلال الإرادة إذن هو أن نختار دائما بحيث تكون مسلمات اختيارنا متضمنة في الوقت نفسه كقوانين كلية في فعل الإرادة نفسه. كون هذه القاعدة العملية أمرا أخلاقيا، أعني أن إرادة كل كائن عاقل مرتبطة بها ارتباطا ضروريا كشرط لها، أمر لا يمكن إثباته عن طريق التحليل البسيط للتصورات التي تشتمل على الإرادة، والسبب في ذلك أنها قضية تركيبية،
53
وقد ينبغي علينا أن نتجاوز معرفة الموضوعات إلى نقد الذات؛ أي إلى نقد العقل العملي الخالص،
54
إذ إن هذه القضية التركيبية، التي تأمر أمرا ضروريا، ينبغي أن يكون من المستطاع معرفتها بطريقة قبلية خالصة، ولكن هذه المسألة لا تدخل في القسم الحالي من الكتاب. بيد أن كون مبدأ الاستقلال الذاتي المذكور هو المبدأ الأوحد للأخلاق، فأمر يمكن توضيحه بسهولة بالتحليل البسيط لتصورات الأخلاق. إذ سيتبين من خلال ذلك كيف أن مبدأ الأخلاق لا بد أن يكون أمرا أخلاقيا، وأن هذا الأمر الأخلاقي لا يأمر بشيء يقل أو يزيد عن هذا الاستقلال نفسه.
تنافر الإرادة بوصفه مصدر جميع المبادئ غير الأصيلة للأخلاق
عندما تفتش الإرادة عن القانون الذي من شأنه أن يعينها «في شيء آخر» غير صلاحية مسلماتها لوضع تشريع كلي عام يصدر عنها، وعندما تفتش تبعا لذلك، متجاوزة ذاتها، عن هذا القانون في خاصية أحد موضوعاتها، فإن التنافر هو الذي ينتج عن ذلك دائما. عندئذ لا تعطي الإرادة لنفسها القانون، بل إن الموضوع هو الذي يعطيها إياه عن طريق العلاقة التي تربطه بها. هذه العلاقة، سواء أقامت على الميل أو على تصورات العقل، لا تسمح إلا بقيام الأوامر الشرطية:
55
علي أن أفعل هذا الشيء؛ «لأنني أريد شيئا آخر». أما الأمر الأخلاقي، وبالتالي الأمر المطلق، فإنه على العكس من ذلك يقول: إن علي أن أفعل على هذا النحو أو ذاك، حتى لو لم أرد شيئا آخر؛ فمثلا يقول من يتبع الأمر الأول: ينبغي علي ألا أكذب إذا أردت أن أحافظ على شرفي، أما من يتبع الأمر الثاني فيقول: ينبغي علي ألا أكذب حتى لو لم يجلب الكذب علي أدنى عار. يجب إذن أن يجرد هذا الأمر الأخير من كل موضوع، بحيث لا يكون لهذا الموضوع أي «تأثير» على الإرادة، وبحيث لا يقتصر العقل العملي (الإرادة) على أن يدير منفعة أجنبية، بل يثبت سلطانه الآمر فحسب بوصفه أعلى تشريع. هكذا يكون من واجبي مثلا أن أعمل على سعادة الآخرين، لا كما لو كان يهمني أن يتحقق وجودها (سواء كان ذلك عن طريق ميل مباشر، وكان بطريق غير مباشر عن إحساس بالرضا مصدره العقل) بل لمجرد أن المسلمة التي تستبعدها [أي السعادة ] لا يمكن أن تكون متضمنة في فعل إرادي واحد وبالذات.
تصنيف جميع المبادئ الأخلاقية التي يمكن أن تنتج عن التصور الأساسي الذي سلمنا به عن التنافر
لقد جرب العقل الإنساني هنا، كما جرب في كل موضع باشر فيه استعماله الخاص، طوال الفترة التي أعوزه فيها النقد، جميع الطرق الخاطئة قبل أن يعثر على طريقه الحقيقي الوحيد.
56
جميع المبادئ التي يمكن الإنسان أن يسلم بها من وجهة النظر هذه إما أن تكون مبادئ «تجريبية» أو مبادئ «عقلية»؛ فالمبادئ «الأولى»، المستمدة من مبدأ «السعادة»، تنبني على العاطفة الفزيائية أو العاطفة الأخلاقية، والمبادئ «الثانية»، المستمدة من مبدأ «الكمال»، إما أن تنبني على التصور العقلي للكمال بوصفه نتيجة يمكن أن تترتب عليها،
57
أو على تصور كمال مستقل بذاته (إرادة الله)، بوصفه علة تتولى تعيين إرادتنا.
58
لا تصلح المبادئ التجريبية مطلقا لأن تؤسس عليها القوانين الأخلاقية؛ ذلك لأن طابع الشمول الذي يجعلها صالحة لجميع الكائنات العاقلة بغير تمييز، والضرورة العملية غير المشروطة المفروضة عليها عن هذا الطريق ينتفيان إذا كان مبدؤهما مستمدا من التكوين الخاص بالطبيعة الإنسانية أو من الظروف العارضة التي توجد فيها. ومع ذلك فإن مبدأ «السعادة الخاصة» هو أولى المبادئ بالاستنكار، لا لأنه فاسد فحسب، ولا لأن التجربة تناقض الادعاء الذي يذهب إلى أن الهناء يتناسب دائما مع حسن السلوك، ولا لأنه لا يسهم بشيء في تأسيس الأخلاق؛ إذ إن جعل الإنسان سعيدا أمر يختلف كل الاختلاف عن جعله خيرا، كما أن جعله ذكيا فطنا لمنفعته يختلف تمام الاختلاف عن جعله فاضلا، بل لأنه يقيم الأخلاقية على دوافع تعمل على هدمها والقضاء على ما فيها من سمو وعظمة؛ إذ تضع الدوافع التي تحث على الفضيلة مع الدوافع التي تحرض على الرذيلة في صنف واحد، ولا تزيد على أن تعلم الإنسان كيف يحسن الحساب بينما تقضي للأسف قضاء مبرما على الفارق النوعي بينها. أما الشعور الأخلاقي، هذا الحس الخاص المزعوم
59 ⋆ (مهما بلغ الاحتجاج به ) من السطحية والضحالة، ومهما وجدنا أن أولئك الذين يعجزون عن التفكير يحسبون أنهم يستطيعون أن يلتمسوا العون من العاطفة حتى فيما لا صلة له إلا بالقوانين العامة، وأن العواطف التي تتفاوت بطبيعتها عن بعضها البعض بدرجات لا متناهية لا تمدنا بمعيار واحد نقيس عليه الخير والشر، وأن الذي يحكم شعوره لا يمكنه على الإطلاق أن يصدر حكما يصلح لتطبيقه على الآخرين.
60
نقول إن الشعور الأخلاقي برغم هذا كله أقرب إلى الأخلاقية وإلى ما لهذه الأخلاقية من كرامة لأنه يشرف الفضيلة إذ يضيف إليها الرضا الذي تعطيه والاحترام الذي تحمله لها مباشرة، ولأنه لا يصارحها في وجهها بأن جمالها ليس هو الذي يربطنا بها، بل المنفعة التي ننتظرها من ورائها.
61
بين المبادئ العقلية للأخلاق نجد التصور الأنطولوجي [الوجودي] «للكمال» (مهما يكن تصورا فارغا، غير محدد، ومهما تبلغ تبعا لذلك عدم صلاحيته لاكتشاف أقصى قدر مناسب لنا في المجال الهائل للواقع الممكن، ومهما يبلغ به النزوع الذي لا يقهر إلى أن يدور في حلقة مفرغة حين يتعلق الأمر بتمييز الواقع الذي نتحدث عنه تمييزا نوعيا من كل واقع سواه فلا يستطيع أن يتلافى افتراض الأخلاقية التي عليه أن يقوم بتفسيرها افتراضا خفيا)
62
أفضل من التصور اللاهوتي الذي يستنبط الأخلاقية من إرادة إلهية مطلقة الكمال، وليس مرجع ذلك فحسب إلى أننا لا نملك برغم كل شيء أن نعاين كمال هذه الإرادة، وأننا لا نستطيع أن نستنبطها إلا من تصوراتنا ومن أهمها شأنا تصور الأخلاقية، بل مرجع ذلك إلى أننا إذا لما نفعل ذلك (وهو ما لو حدث لوقعنا في حلقة مفرغة غليظة منشؤها التفسير)
63
فإن التصور الوحيد الذي يبقى لنا عن الإرادة الإلهية، وهو التصور المستمد من الصفات التي تنسب إليها من شهوة الشرف والسلطان، مقرونة بالتصورات المخيفة عن اليأس والانتقام، سيضع بالضرورة الأساس الذي ينبني عليه نظام من العادات الأخلاقية يتعارض تعارضا صريحا مع الأخلاقية.
وإذن فلو كان علي أن أختار بين تصور الحس الأخلاقي وبين تصور الكمال بوجه عام (وكلا التصورين لا ينتقص من الأخلاقية في شيء، وإن كانا مع ذلك لا يصلحان على الإطلاق لتكوين القاعدة التي ترتكز عليها) فسوف يقع اختياري على التصور الأخير؛ لأنه على الأقل باستبعاده للحساسية يكل أمر الفصل في المشكلة إلى محكمة العقل الخالص، وإن كان مع ذلك لا يحسم برأي في المشكلة، بل يحتفظ بالفكرة غير المحددة (لإرادة خيرة في ذاتها) دون أن يفسدها في شيء إلى أن يتم تحديدها تحديدا دقيقا.
بقي أن أقول إنني أعتقد أن في استطاعتي أن أعفي نفسي من محاولة دحض هذه التصورات التعليمية دحضا مفصلا. إن هذه المحاولة من السهولة بمكان. بل الأرجح أن أولئك الذين تفرض عليهم مهنتهم أن يعلنوا إيمانهم بإحدى هذه النظريات (إذ إن المستمعين لا يحتملون تأجيل الحكم) يدركونها إدراكا جيدا، حتى ليكون من العبث أن نضيع الوقت فيها، ولكن الأمر الذي يهمنا هنا أكثر من سواه هو أن نعرف أن هذه المبادئ لا تقدم أبدا غير تنافر الإرادة ليكون أساسا أول تقوم عليه الأخلاق، وهذا هو الذي يجعلها بالضرورة تخطئ الهدف منها.
كلما اضطر الإنسان إلى أن يجعل من موضوع الإرادة أساسا لتعيين القاعدة التي تحددها [أي الإرادة] لم تكن القاعدة إلا تنافرا، عندئذ يكون الأمر مشروطا وتكون صيغته على النحو التالي: ينبغي على الإنسان أن يسلك على هذا النحو أو ذاك «إذا» كان يريد هذا الموضوع أو «لأنه» يريده، والنتيجة أن هذا الأمر لا يمكنه أبدا أن يأمر أمرا أخلاقيا، أعني أن يأمر أمرا مطلقا. قد يجوز للموضوع أن يعين الإرادة بوساطة الميل، كما هو الشأن في مبدأ السعادة الشخصية، أو بوساطة العقل الموجه إلى موضوعات فعلنا الإرادي الممكن بوجه عام، كما هو الشأن في مبدأ الكمال، بيد أن الإرادة لا تعين نفسها أبدا مباشرة عن طريق تمثل الفعل، بل عن طريق الدافع وحده الذي يحدثه الأثر المرتقب من الفعل على الإرادة، «ينبغي علي أن أفعل شيئا ما لأنني أريد شيئا آخر.» وهنا يتحتم افتراض قانون آخر في ذاتي، أستطيع وفقا له أن أريد بالضرورة هذا الشيء الآخر، وهذا القانون يحتاج بدوره إلى أمر [أخلاقي] يحدد مفهوم هذه المسلمة؛ إذ إنه لما كان الدافع الذي يفرض على تمثل موضوع ممكن التحقق عن طريق طاقاتنا أن يترك أثره على إرادة الذات وفقا لاستعداداتها الطبيعية، [لما كان هذا الدافع] يكون جزءا من طبيعة الذات، سواء أكان جزءا من الحساسية (من الميل والذوق) أم من الفهم والعقل اللذين ينطبقان راضيين على أحد الموضوعات وفقا للتكوين الخاص بطبيعتهما فإن الطبيعة عندئذ هي التي تعطي القانون على الحقيقة، وهذا القانون الذي يتحتم عندئذ، بما هو قانون، أن يعرف ويبرهن عليه بالتجربة وحدها، لا يكون قانونا عرضيا فحسب، عاجزا عن أن يضع قاعدة عملية ضرورية كما ينبغي لكل قاعدة أخلاقية أن تكون، «بل إنه لن يكون أبدا إلا تنافرا» للإرادة، هناك لا تسن الإرادة قانونها لنفسها، «بل إن دافعا أجنبيا عنها» هو الذي يسنه لها عن طريق طبيعة خاصة للذات تؤهلها لقبول هذا القانون.
إن الإرادة الخيرة بإطلاق، التي يجب أن يكون مبدؤها أمرا أخلاقيا مطلقا، ستكون عندئذ إرادة غير متعينة بالنسبة لجميع الموضوعات، ولن تشتمل إلا على «صورة فعل الإرادة» بوجه عام، بوصفه استقلالا ذاتيا؛ أي إن صلاحية المسلمة عند كل إرادة خيرة لأن تجعل من نفسها قانونا كليا عاما، هذه الصلاحية هي نفسها القانون الوحيد الذي تلتزم به إرادة كل كائن عاقل، دون أن تلجأ إلى أي دافع أو منفعة لتجعل منه مبدأ ترتكز عليه.
أما كيفية إمكان وجود مثل هذه القضية التركيبية على نحو قبلي والسبب الذي يجعل منها قضية ضرورية، فمشكلة لم يعد من الممكن إيجاد حل لها في حدود ميتافيزيقا الأخلاق. كذلك لم نؤكد حقيقة هذه القضية، ولا زعمنا أننا نملك الدليل عليها. كل ما بيناه من خلال تطور التصور الشامل للأخلاق لا يخرج عن أن الاستقلال الذاتي للإرادة مرتبط بهذه القضية ارتباطا لا محيد عنه أو هو بالأولى الأساس الذي تقوم عليه. وإذن فكل من يعد الأخلاق شيئا حقيقيا ولا يسلكها في عداد الأفكار الخرافية المجردة من الحقيقة لا بد له في الوقت نفسه من أن يسلم بمبدأ الأخلاق الذي ذكرناه. وإذن فقد كان هذا القسم تحليليا خالصا، مثله في ذلك مثل القسم الأول. وأما أن الأخلاق ليست خرافية، وهو القول الذي يترتب على التسليم بصحة الأمر الأخلاقي المطلق والاستقلال الذاتي للإرادة كما يترتب على التسليم بأن الأمر الأخلاقي ضروري ضرورة مطلقة بوصفه مبدأ قبليا، فأمر يتطلب «إمكان الاستعمال التركيبي للعقل العملي الخالص»، وهو ما لا يجوز لنا أن نقدم عليه قبل أن نسبقه بنقد هذه الملكة العقلية نفسها، وهو النقد الذي علينا الآن أن نبين ملامحه الرئيسية الوافية بغرضنا في الفصل الأخير من الكتاب.
القسم الثالث
الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل العملي الخالص
تصور الحرية هو مفتاح تفسير الاستقلال الذاتي للإرادة «الإرادة» نوع من العلية تتصف به الكائنات الحية، من حيث هي كائنات عاقلة، «والحرية» ستكون هي الخاصية التي تتميز بها هذه العلية فتجعلها قادرة على الفعل وهي مستقلة عن العلل الأجنبية التي تحددها، مثلما أن «الضرورة الطبيعية» هي الخاصية التي تتميز بها العلية لدى جميع الكائنات غير العاقلة والتي تجعل فاعليتها تتحد بتأثير العلل الأجنبية عنها.
هذا التفسير الذي قدمناه عن الحرية تفسير «سلبي»، وهو من أجل ذلك لا يثمر في فهم ماهيتها، إلا أن هناك تصورا «إيجابيا» عن الحرية ينبثق عنه، ويفوقه في غناه وخصوبته. لما كان تصور العلية ينطوي على تصور «القوانين» التي تقتضي بالضرورة أن نسلم عن طريق شيء نسميه علة، بشيء آخر نسميه نتيجة، فإن الحرية، على الرغم من أنها ليست في الحقيقة خاصية تتصف بها الإرادة وفقا لقوانين الطبيعة، لا يمكن أن توصف لهذا السبب بأنها مجردة عن كل القوانين، بل الأولى أن يقال إنها يجب أن تكون علية تسير في أفعالها وفقا لقوانين لا تتحول، وإن كانت هذه القوانين من نوع خاص، وإلا لكانت الإرادة الحرة شيئا محالا.
1
إن الضرورة الطبيعية تنافر بالنسبة إلى العلل الفاعلة؛ ذلك لأن كل معلول ليس ممكنا إلا بحسب هذا القانون الذي يقول إن شيئا آخر هو الذي يعين العلية في العلة الفاعلة، فماذا عسى أن تكون حرية الإرادة إن لم تكن الاستقلال الذاتي
Autonomie ؛ أي الخاصية التي تتميز بها الإرادة فتجعل منها قانونا لنفسها؟ وإذن فالقضية التي تقول إن الإرادة في جميع أفعالها هي القانون الذي تصنعه لنفسها ليست إلا صيغة أخرى من المبدأ الذي يقول: إن علينا ألا نفعل فعلا حتى يكون مطابقا للمسلمة التي يمكنها أيضا أن تتخذ من نفسها موضوعا يعد قانونا كليا شاملا. ولكن هذه هي على التحقيق صيغة الأمر الأخلاقي المطلق كما هي مبدأ الأخلاقية؛ وعلى ذلك فالإرادة الحرة والإرادة الخاضعة لقوانين أخلاقية شيء واحد بالذات.
وإذن فلو افترضنا حرية الإرادة فإنه يكفي أن نقوم بتحليل تصورها تحليلا بسيطا لنستنبط منه الأخلاقية بما في ذلك مبدؤها الذي تقوم عليه. هذا المبدأ الأخير هو في الواقع قضية تركيبية دائما [يمكننا أن نعبر عنها على النحو التالي]: الإرادة الخيرة بإطلاق هي تلك الإرادة التي تستطيع مسلمتها دائما أن تتضمن في ذاتها القانون الكلي الذي تستطيع أن تكونه؛ ذلك لأن تحليل تصور إرادة خيرة مطلقة لا يمكننا من اكتشاف تلك الخاصية التي تتميز بها المسلمة. ولكن هذا النوع من القضايا التركيبية لا سبيل إلى وجوده إلا إذا ارتبطت معرفتان ببعضهما البعض بفضل ارتباطهما بمعرفة ثالثة يمكن كلا منهما من ناحيتها أن تتلاقى مع الأخرى فيها.
2
إن التصور الإيجابي للحرية هو الذي يزودنا بهذا الحد الثالث الذي لا يمكنه، كما هو الحال في العلل الفزيائية، أن يكون هو طبيعة العالم الحسي
3 (الذي يتلاقى في تصوره تصور شيء بوصفه علة مع تصور شيء آخر ترتبط به العلة ويعد معلولا). أما ما هو الحد الثالث الذي تحيلنا الحرية إليه والذي تكون لدينا عنه فكرة قبلية فأمر لا يمكننا أن نبينه على الفور في هذا المقام،
4
كما لا يمكننا أن نوضح كيف يتم استنباط تصور الحرية من العقل العملي الخالص، ولا كيف يصبح الأمر الأخلاقي المطلق ممكنا عن هذا الطريق،
5
فما يزال هذا كله في حاجة إلى شيء من الإعداد.
ينبغي أن نفترض الحرية خاصية تتميز بها إرادة جميع الكائنات العاقلة
لا يكفي، لسبب من الأسباب، أن ننسب الحرية إلى إرادتنا، إذا لم يكن لدينا سبب كاف يجعلنا ننسبها كذلك إلى جميع الكائنات العاقلة؛ إذ إنه لما كانت الأخلاقية لا تصلح قانونا لنا إلا من حيث إننا «كائنات عاقلة»، فينبغي لها كذلك أن تكون صالحة لجميع الكائنات العاقلة. ولما كان من الواجب أن تستمد من خاصية الحرية وحدها، فإن من الواجب كذلك أن نثبت أن الحرية خاصية تتصف بها إرادة جميع الكائنات العاقلة، وليس يكفي أن نبرهن عليها باللجوء إلى بعض التجارب المزعومة للطبيعة الإنسانية (فهذا أمر يتعذر في الواقع تعذرا تاما ولا سبيل إلى البرهنة عليه إلا بطريقة قبلية)، بل ينبغي أن نثبت أنها تتصل بوجه عام بفاعلية الكائنات العاقلة التي وهبت الإرادة؛ أقول إذن: إن كل كائن لا يمكنه أن يفعل فعلا «إلا تحت تأثير فكرة الحرية»؛ فهو من وجهة النظر العملية كائن حر حقا؛ أي إن جميع القوانين المرتبطة بالحرية ارتباطا لا ينفصم تصلح للانطباق عليه تماما كما لو أن إرادته في ذاتها ولأسباب تقرها الفلسفة النظرية قد اعترف بحريتها اعترافا صحيحا.
6 ⋆
والآن أذهب إلى أنه ينبغي علينا بالضرورة أن نضيف فكرة الحرية إلى كل كائن عاقل ذي إرادة، وهي الفكرة التي لا يستطيع أن يقدم على فعل من الأفعال إلا إذا كان واقعا تحت تأثيرها؛ ذلك لأننا نتصور في مثل هذا الكائن عقلا عمليا؛ أي عقلا يملك العلية بالقياس إلى موضوعاته. ولكن من المستحيل أن نتصور عقلا يتلقى وهو في تمام وعيه توجيهات أحكامه من الخارج؛ لأن الذات لن ترجع في هذه الحالة تحديد ملكة الحكم فيها إلى عقلها، بل إلى دافع من الدوافع. يجب أن يعد العقل نفسه مصدر مبادئه، مستقلا في ذلك عن التأثيرات الغريبة عنه، كما يجب عليه تبعا لذلك، بوصفه عقلا عمليا أو إرادة كائن عاقل، أن يعد نفسه حرا. إن إرادة الكائن العاقل لا يمكن أن تكون إرادة ذاتية إلا بالقياس إلى فكرة الحرية، وهكذا ينبغي لمثل هذه الإرادة، من وجهة النظر العملية، أن تضاف إلى جميع الكائنات العاقلة.
المنفعة المرتبطة بأفكار الأخلاقية
لقد رددنا التصور المحدد للأخلاقية في نهاية الأمر إلى فكرة الحرية، ولكن لم يكن في مقدورنا أن نقيم الدليل على وجود هذه الحرية كشيء واقعي، لا في أنفسنا ولا في الطبيعة الإنسانية. رأينا فحسب أن من الواجب علينا أن نفترض وجودها إذا أردنا أن نتصور كائنا مزودا بالعقل وبالشعور بعليته فيما يتصل بالأفعال (التي يقوم بها)؛ أي كائنا مزودا بالإرادة، وهكذا نجد أن علينا لهذا السبب نفسه أن ننسب إلى كل كائن مزود بالعقل والإرادة هذه الخاصية التي تجعله يعين نفسه للفعل تحت تأثير فكرة الحرية.
ولكننا رأينا أيضا أن افتراض وجود هذه الأفكار ينبثق عنه الشعور بقانون للفعل، وأن المبادئ الذاتية للأفعال؛ أي المسلمات، ينبغي دائما بمقتضى هذا القانون أن تؤخذ بحيث تكون صالحة كذلك من الناحية الموضوعية؛ أي بحيث تصلح لأن تكون مبادئ كلية شاملة، وبالتالي لأن تكون تشريعا شاملا ينبع من أنفسنا. ولكن ما الذي يحتم علي أن أخضع لهذا المبدأ، بوصفي كائنا عاقلا بوجه عام، وما الذي يحتم تبعا لذلك على جميع الكائنات الأخرى المزودة بالعقل أن تخضع له؟ أريد أن أسلم بأنه ما من منفعة تدفعني إلى هذا؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما أمكن قيام الأمر الأخلاقي المطلق، ولكن يجب علي مع ذلك أن «أجد» فيه بالضرورة منفعة وأن أنظر كيف يحدث هذا؛
7
ذلك لأن «يجب علي» هذه هي في حقيقة أمرها «إنني أريد» التي تصلح لكل كائن عاقل، بشرط أن يكون العقل عنده عمليا دون ما عقبات تمنعه من ذلك. أما بالنسبة للكائنات التي تتأثر مثلنا بالحساسية؛ أي التي تتأثر بدوافع من نوع آخر ولا يحدث لها دائما ما يفعله العقل وحده وبدافع من ذاته، فإن ضرورة الفعل تلك يعبر عنها عندئذ بفعل «ينبغي»، كما تميز الضرورة الذاتية من الضرورة الموضوعية.
8
يبدو إذن كأننا اقتصرنا على افتراض وجود القانون الأخلاقي بوجه خاص؛ أي مبدأ استقلال الإرادة نفسه في فكرة الحرية دون أن نتمكن من إثبات واقعيته وضرورته الموضوعية في ذاته، ولا نزاع في أننا كنا نكتسب شيئا له قيمته الحقة لو أننا توصلنا على الأقل إلى تحديد المبدأ الأصيل تحديدا أدق مما فعلناه حتى الآن، ولكننا مع ذلك ما كنا لنتقدم كثيرا فيما يتصل بصلاحيته أو بالضرورة العملية التي تفرض على الإنسان أن يخضع له؛ فلو أن أحدا سألنا لماذا ينبغي إذن لشمول مسلمتنا، حين ترتفع إلى مستوى القانون، أن تكون الشرط الذي يقيد من أفعالنا، وعلى أي أساس نضع القيمة التي نخلعها على مثل هذا الضرب من الأفعال، تلك القيمة التي تبلغ من الرفعة مبلغا يجعل من المتعذر في أي مكان وجود منفعة تعلو عليها، وكيف يأتي للإنسان إيمانه بأنه إنما يشعر بقيمته الشخصية عن هذا الطريق وحده، وبأن قيمة كل حالة ممتعة أو مؤلمة لا تقاس شيئا بجانبها؛ أقول لو أن أحدا وجه إلينا هذه الأسئلة لما وجدنا لها عندنا جوابا شافيا.
حقا إننا نجد أن في استطاعتنا أن نلتمس منفعة في خاصية شخصية لا تنطوي على أية منفعة لحالتنا (التي نحن عليها)، حين تمكننا تلك الخاصية من المشاركة في هذه الحالة الأخيرة إذا تيسر للعقل أن يجعلها من نصيبنا؛ أعني أن مجرد كون الإنسان جديرا بالسعادة يمكن أن يكون شيئا نافعا في ذاته حتى لو لم يكن هناك دافع إلى المشاركة في هذه السعادة،
9
ولكن هذا الحكم ليس في الحقيقة إلا النتيجة المترتبة على الأهمية التي افترضناها في القوانين الأخلاقية (حين نتجرد عن طريق فكرة الحرية من كل منفعة تجريبية)، ولكن تخلصنا من هذه المنفعة، وعد أنفسنا أحرارا في أفعالنا وأننا مع ذلك يجب أن نخضع لقوانين معينة، وذلك لكي نكتشف في شخصنا قيمة يمكن أن تعوضنا عن كل خسارة تصيبنا من وراء ما يضفي على حالتنا قيمة، وكيف يصبح هذا كله ممكنا، وبالتالي من أين يأتي إلزام القانون الأخلاقي، كل هذه أمور لا نستطيع بعد أن نتبينها عن هذا الطريق.
يجب أن نعترف في صراحة بأننا نلاحظ هنا حلقة مفرغة يبدو كأنه لا سبيل إلى الخروج منها؛
10
فنحن نفترض أننا أحرار في نظام العلل الفاعلة لكي نتصور أنفسنا في نظام الغايات خاضعين لقوانين أخلاقية، ثم نعود فنتصور بعد ذلك أننا خاضعون لهذه القوانين لأننا نسبنا إلى أنفسنا حرية الإرادة. إن الحرية والتشريع الذي تضعه الإرادة لنفسها كليهما في الواقع ضرب من الاستقلال الذاتي، وهما تبعا لذلك تصوران يحل أحدهما محل الآخر، ولكن هذا على التحقيق هو السبب في أننا لا نستطيع أن نستعين بأحدهما لتفسير الآخر وبيان الأسس الذي ينبني عليه، بل إن أقصى ما نستطيع القيام به، من وجهة النظر المنطقية، هو أن نرد تصورات مختلفة في ظاهرها لموضوع واحد بالذات إلى تصور واحد (كما ترد شذرات مختلفة ذات مضمون واحد إلى أبسط التعابير الممكنة).
بقي علينا أن نبين بالبحث ما إذا كنا، حين نتصور أنفسنا تصورا قبليا كعلل فاعلة عن طريق الحرية، ننظر إلى الأمور من وجهة نظر تختلف عما إذا تصورنا أنفسنا وفقا لأفعالنا التي نقدم عليها كآثار أو نتائج نراها ماثلة أمام أعيننا.
11
هناك ملاحظة لا يحتاج التعبير عنها إلى إمعان فكر رهيف، بل من المستطاع التسليم بأن الفهم الشائع قادر على وضعها، وإن جرى في ذلك على أسلوبه المعتاد في التمييز الغامض بطريق ملكة الحكم، وهو ما يطلق عليه اسم العاطفة، [ومؤدى هذه الملاحظة] أن جميع التمثلات التي ترد إلينا بغير تدخل إرادي من جانبنا (مثال ذلك التمثلات التي تأتينا عن طريق الحواس) لا تعرفنا بالموضوعات إلا على النحو الذي تؤثر به علينا، أما ما عسى أن تكون طبيعتها في ذاتها فأمر يظل مجهولا بالنسبة لنا، ويترتب على ذلك أننا لا نستطيع عن طريق هذا النوع من التمثلات، وعلى الرغم من أشق الجهود في بذل الانتباه وعلى الرغم أيضا من الوضوح الذي قد يضفيه الفهم عليها؛ أقول إننا لا نستطيع مع ذلك أن نتوصل إلا إلى معرفة «الظواهر»، وأننا لا نستطيع أبدا أن نعرف الأشياء في ذاتها. بمجرد أن نضع هذه التفرقة
12 (ويكفي في سبيل ذلك أن نفطن إلى الفارق الذي لاحظناه من قبل بين التمثلات التي تأتينا من الخارج، والتي نكون فيها في حالة تلق سلبي، وبين التمثلات التي ننتجها من أنفسنا وحدها والتي نثبت فيها فاعليتنا) فإن من الطبيعي أن يكون من واجبنا تبعا لذلك أن نعترف ونسلم بوجود شيء آخر وراء الظواهر ليس هو نفسه ظاهرة، ونعني به الأشياء في ذاتها، وإن كنا مع ذلك نؤثر جانب التواضع ونقر طائعين بأننا، طالما كان من المستحيل علينا أن تعرف لنا [الأشياء في ذاتها] عن طريق آخر غير الطريق الذي تؤثر به علينا، لن نزداد منها قربا ولن نعرف أبدا ماهيتها في ذاتها. يفضي بنا هذا بالضرورة إلى تفرقة، وإن تكن فجة غير ناضجة، بين «عالم محسوس» و«عالم معقول»؛ حيث نجد أن العالم الأول يمكنه أن يتفاوت تفاوتا كبيرا وفقا لتفاوت الحساسية لدى مختلف المشاهدين للعالم، بينما نجد أن العالم الثاني، الذي يقوم العالم الأول على أساسه، يبقى دائما بذاته لا يتغير، بل إن الإنسان، على حسب المعرفة التي يحصلها عن نفسه عن طريق الحس الباطن، لا يمكنه أن يدعي أنه يعرف نفسه كما هو في ذاته. وإذ كان الإنسان لا يحدث نفسه بنفسه، ولا يكتسب التصور الذي لديه عن نفسه بطريقة قبلية بل بطريقة تجريبية؛ فإن من الطبيعي ألا يتمكن من تحصيل معرفته بنفسه إلا من الحس الباطن وبالتالي من ظاهر طبيعته ومن الأسلوب الذي يتأثر به شعوره، ولكن عليه مع ذلك أن يسلم بالضرورة وراء هذه الخاصية التي تتصف بها ذاته والتي تتركب من ظواهر بحتة بوجود شيء يعد الأساس [الذي يقوم عليه هذا كله] ونعني به الأنا، أيا كانت طبيعة تكوينها، وهكذا ينبغي عليه، فيما يتعلق بالإدراك الحسي البسيط وبالقدرة على تلقي الإحساسات، أن يعد نفسه عضوا في «عالم محسوس»، بينما ينبغي عليه بالقياس إلى ما يمكن أن يكون فاعلية خالصة فيه (أي بالقياس إلى ما يصل إلى الشعور لا عن طريق تأثر الحواس بل بطريق مباشر) أن يعد نفسه عضوا في «عالم معقول»، قد لا تصل معرفته به مع هذا إلى أبعد من ذلك.
إلى مثل هذه النتيجة ينبغي أن ينتهي الإنسان المتأمل في جميع الأشياء التي يمكن أن تصادفه، بل إن من المحتمل أن يلقاها (أي النتيجة) كذلك في الفهم الشائع الذي يغلب عليه الميل، كما هو معلوم، إلى أن يتوقع دائما شيئا غير منظور، فعال بذاته وراء موضوعات الحواس، وإن عاد فأفسد هذا الميل بتمثله لهذا الشيء غير المنظور على الفور في صورة حسية؛ أي بمحاولته أن يجعل منه موضوعا من موضوعات العيان، ومن ثم لا يصير أذكى مما هو عليه درجة واحدة.
بيد أن الإنسان يجد في نفسه في الحقيقة ملكة يتميز بها عن سائر الأشياء، بل عن نفسه ذاتها، من حيث تأثره بالموضوعات، وتلك هي «ملكة العقل».
13
والعقل، من حيث هو فاعلية تلقائية خالصة يرتفع فوق مستوى الفهم من جهة أن الفهم، وإن يكن بدوره فاعلية تلقائية ولا يحتوي مثل الحس على مجرد تصورات لا تتولد إلا عندما يتأثر الإنسان بالموضوعات (وبالتالي عندما يكون في موقف التلقي السلبي)، فإنه (أي الفهم) مع ذلك لا يستطيع بفاعليته أن ينتج غير التصورات
14
التي تستخدم فحسب في إخضاع التمثلات الحسية لقواعد معينة وتوحيدها بهذه الوسيلة في شعور،
15
ولن يستطيع بغير هذا الاستخدام للحساسية أن يفكر في شيء على الإطلاق،
16
أما العقل فيظهر، فيما يسمى بالأفكار، تلقائية تبلغ من النقد حدا يجعله يتجاوز كل ما تستطيع الحساسية أن تقدمه إليه تجاوزا بعيدا كما يجعل مهمته الرئيسية تنحصر في التمييز بين العالم المحسوس والعالم المعقول؛ ومن ثم في تعيين الحدود التي لا ينبغي للفهم نفسه أن يتعداها.
17
لهذا السبب يتحتم على الكائن العاقل، بوصفه عقلا (أي من ناحية أخرى غير ناحية ملكاته الدنيا) أن يعد نفسه منتميا لعالم معقول لا لعالم محسوس، وعلى ذلك فإن لديه وجهتي نظر يمكنه أن يتأمل نفسه من خلالهما، وأن يعرف قوانين ممارسة ملكاته، وبالتالي قوانين أفعاله جميعا؛ فهو من ناحية انتمائه لعالم محسوس يخضع لقوانين الطبيعة (التنافر)، وهو من ناحية انتمائه لعالم معقول يخضع لقوانين مستقلة عن الطبيعة، غير تجريبية، بل قائمة على أساس العقل وحده.
إن الإنسان بوصفه كائنا عاقلا، ولكونه تبعا لذلك عضوا منتميا إلى عالم معقول، لا يمكنه أن يتصور علية إرادته الذاتية إلا من خلال فكرة الحرية؛ ذلك لأن الاستقلال عن العلل المعينة في العالم المحسوس (وهو ما ينبغي على العقل أن ينسبه لنفسه على الدوام) هو الحرية بعينها. ولكن فكرة الحرية مرتبطة «بتصور الاستقلال الذاتي» ارتباطا لا ينفصم، كما أن تصور الاستقلال الذاتي مرتبطا بالمبدأ الشامل للأخلاق، الذي يعد من الناحية الفكرية الأساس الذي تقوم عليه جميع أفعال الكائنات «العاقلة»، مثلما يعد القانون الطبيعي الأساس الذي تقوم عليه جميع الظواهر.
هكذا تزول الشبهة التي أثرناها فيما تقدم إذ اعتقدنا أن هناك حلقة مفرغة تستتر في الطريقة التي نستدل بها من الحرية على وجود الاستقلال الذاتي، ومن الاستقلال الذاتي على وجود القانون الأخلاقي، وأننا ربما لا نكون في الحقيقة قد جعلنا من فكرة الحرية مبدأ إلا بالنظر إلى القانون الأخلاقي، لكي نعود بعد ذلك فنستنتج هذا القانون الأخلاقي من الحرية وأننا قد لا نستطيع نتيجة لذلك أن نعلل هذا القانون أي تعليل على الإطلاق، وأن ذلك لم يزد في الواقع على أن يكون مطالبة بمبدأ تسلم لنا به طائعة نفوس طيبة الطوية، وإن لم يكن في استطاعتنا أبدا أن نجعل منه قضية تقبل البرهان عليها. ولكننا نرى الآن كيف أننا حين نتصور أنفسنا أحرارا، نضع أنفسنا في العالم المعقول كأعضاء فيه وأننا نتعرف الاستقلال الذاتي للإرادة مع النتيجة المترتبة عليه، ونقصد بها الأخلاقية، ولكننا حين نتصور أنفسنا ملتزمين بالواجب نحسب أننا أعضاء في العالم المحسوس كما نحسب أننا في الوقت نفسه أعضاء في العالم المعقول.
كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنا؟
يعد الكائن العاقل نفسه، بوصفه عقلا ، جزءا من العالم المعقول، ولا يسمي عليته «إرادة» إلا لمجرد كونه علة فاعلة في هذا العالم، ولكنه يشعر كذلك من ناحية أخرى بأنه قطعة من العالم المحسوس الذي توجد فيه أفعاله كمجرد ظواهر لتلك العلية، غير أن إمكان هذه الأفعال لا يمكن أن يدرك من طريق هذه العلية التي لا نعرف عنها شيئا، بل ينبغي بدلا من ذلك، من حيث إنها تكون جزءا من العالم المحسوس، أن تفهم من ناحية تحددها بظواهر أخرى، ونقصد بها الرغبات والميول. فإذا كنت إذن عضوا في العالم المعقول وحده، فإن جميع أفعالي ستكون مطابقة كل المطابقة لمبدأ الاستقلال الذاتي للإرادة الخالصة، وإذا كنت قطعة من العالم المحسوس فحسب، فلا بد في هذه الحالة من أن نحسب أنها مطابقة تمام المطابقة للقانون الطبيعي للشهوات والميول، وبالتالي لتنافر الطبيعة. (ستقوم الأفعال في الحالة الأولى على المبدأ الأعلى للأخلاق، وفي الحالة الثانية على مبدأ السعادة) «ولكن لما كان العالم المعقول يحتوي على الأساس الذي ينبني عليه العالم المحسوس كما تنبني عليه تبعا لذلك قوانينه»،
18
وكان إذن بالقياس إلى إرادتي (التي تنتمي بكليتها إلى العالم المعقول)
19
المبدأ المباشر للتشريع، ولما كان من الواجب كذلك أن يتصور على هذا النحو، فسوف يكون علي، بوصفي عقلا، وإن أكن من ناحية أخرى كائنا ينتمي إلى العالم المحسوس، أن أعرف أنني خاضع لقانون العالم الأول [أي العالم المعقول]؛ أي للعقل الذي يحتوي على هذا القانون في فكرة الحرية؛ ومن ثم للاستقلال الذاتي للإرادة، كما سيتعين علي تبعا لذلك أن أعد قوانين العالم المعقول أوامر أخلاقية مطلقة بالنسبة لي والأفعال المطابقة لهذا المبدأ واجبات.
وهكذا تصبح الأوامر الأخلاقية المطلقة ممكنة لأن فكرة الحرية تجعلني عضوا في عالم معقول، يترتب على هذا أنني لو لم أكن إلا عضوا في هذا العالم وحده، لأصبحت جميع أفعالي مطابقة دائما للاستقلال الذاتي للإرادة، غير أنني لما كنت أرى نفسي في الوقت عينه عضوا في عالم محسوس، فإن أفعالي يجب أن تكون مطابقة له. هذا الواجب المطلق يعبر عن قضية تركيبية قبلية من حيث إن الإرادة الواقعة تحت تأثير الشهوات الحسية تنضاف إليها كذلك فكرة هذه الإرادة نفسها، ولكن من جهة أن هذه الإرادة تنتمي إلى العالم المعقول؛ أي من جهة كونها إرادة خالصة وعملية في ذاتها تحتوي على الشرط الأعلى للإرادة الأولى بما يتفق مع العقل، ويشبه هذا على وجه التقريب أن عيانات العالم الحسي تنضاف إليها تصورات الفهم التي لا تدل بذاتها إلا على صورة القانون بوجه عام، فتجعل القضايا التركيبية القبلية ممكنة، وهي تلك القضايا التي ترتكز عليها كل معرفة بالطبيعة.
إن الاستعمال العملي للعقل الإنساني المشترك
20
يؤكد صحة هذا الاستنتاج. ما من إنسان حتى أخس الأشرار، بشرط أن يكون قد اعتاد استخدام عقله في الأمور الأخرى، لا يتمنى، حين نعرض عليه أمثلة على إخلاص النيات، والأمانة في مراعاة المسلمات الطيبة، والتعاطف والإحسان لعامة الناس (مع ارتباط هذا كله بتضحيات كبيرة بالمنافع وبالراحة الشخصية) أن يكون هو أيضا على مثل هذا الخلق. قد لا يتمكن، بسبب ميوله ودوافعه، أن يحقق هذه الأمنية في شخصه، ولكن الأمل لا يبرح يراوده في الوقت نفسه لأن يتحرر من هذه الميول التي تثقل كاهله. وهكذا يقيم الدليل على أنه، بإرادة متحررة من دوافع الحساسية، يضع نفسه بالفكر في نظام للأشياء مختلف كل الاختلاف عن نظام شهواته في مجال الحساسية؛ إذ إنه لا يستطيع أن يتوقع من هذه الأمنية أية متعة شهوانية، ولا أن ينتظر منها إشباعا لميل من ميوله الحقيقية أو المتخيلة (فلو كان الأمر كذلك لفقدت الفكرة نفسها التي أغرته على هذه الأمنية ما تمتاز به من سمو ورفعة شأن)، بل كل ما يستطيع أن ينتظره منها هو قيمة باطنة أعظم لشخصيته، ولكنه يعتقد أنه هو هذا الشخص الأفضل إذا وضع نفسه في موقف عضو منتم للعالم المعقول، تجبره على ذلك، على غير مشيئته، فكرة الحرية؛ أي فكرة الاستقلال عن العلل المحددة للعالم الحسي، وهو في هذا الموقف يشعر بإرادة خيرة تؤلف باعترافه هو نفسه قانون إرادته الشريرة من حيث إنه عضو في عالم حسي: هذا القانون الذي يعترف بسلطانه حتى وهو يخرقه ويتعدى عليه. وإذن فما ينبغي عليه من الوجهة الأخلاقية، هو ما يريده بالضرورة من تلقاء نفسه بوصفه عضوا في عالم معقول، ولا يتسنى له أن يتصور ما ينبغي عليه تصوره كواجب إلا بمقدار ما يعد نفسه في ذات الوقت عضوا في العالم المحسوس.
الحد الأقصى لكل فلسفة عملية
جميع بني الإنسان يتصورون أنفسهم أحرارا في إرادتهم. من هنا تأتي جميع الأحكام على الأفعال «كما كان ينبغي لها أن تحدث»، حتى لو لم «تحدث» على هذا النحو. ومع ذلك فليست هذه الحرية تصورا مستمدا من التجربة، ولا يمكنها أن تكون كذلك؛ لأن هذا التصور يبقى دائما على ما هو عليه، في حين أن التجربة تبين عكس تلك المطالب التي تتمثل في افتراض الحرية على أنها مطالب ضرورية. من ناحية نجد بالمثل أن من الضروري لكل ما يحدث أن يتحدد حتما وفقا لقوانين الطبيعة،
21
وأن هذه الضرورة الطبيعية ليست كذلك تصورا مستمدا من التجربة، ومرجع هذا في الحقيقة إلى أنه تصور ينطوي على تصور الضرورة، وبالتالي على تصور معرفة قبلية.
22
ولكن تصور الطبيعة هذا
23
تؤيده التجربة ولا مفر من افتراضه إذا قدر للتجربة؛ أي للمعرفة المتناسقة بموضوعات الحواس حسب قوانين كلية، أن تصبح أمرا ممكنا.
24
من أجل ذلك كانت الحرية فكرة من أفكار العقل يحيط الشك بحقيقتها الموضوعية في ذاتها،
25
بينما الطبيعة «تصور من تصورات الفهم»، يثبت حقيقته الواقعة، ولا بد له أن يثبتها، بالأمثلة التي تقدمها التجربة.
سواء كان هذا هو الأصل الذي ينشأ عنه ديالكتيك العقل
26
إذ كنا نجد، فيما يتعلق بالإرادة، أن الحرية التي ننسبها إليها تبدو متناقضة مع الضرورة الطبيعية، وأن العقل وهو يقف في مفترق الطرق هذا يجد من «وجهة النظر التأملية» أن طريق الضرورة الطبيعية معبد وعملي أكثر بكثير من طريق الحرية؛ فإننا نجد مع ذلك من «وجهة النظر العملية» أن درب الحرية هو الدرب الوحيد الذي نستطيع ونحن نسير عليه أن نستخدم عقلنا في كل ما نأتي وما ندع من أفعال، وهذا هو السبب الذي يتعذر معه على أدق الفلسفات كما يتعذر معه على أكثر العقول الإنسانية جهالة أن يجادل في حقيقة الحرية جدلا سفسطائيا. وإذن فمن واجب العقل أن يفترض مقدما أنه ليس ثمة تناقض حقيقي بين الحرية والضرورة الطبيعية لنفس الأفعال الإنسانية؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن تصور الطبيعة كما لا يستطيع أن يتخلى عن تصور الحرية.
ومع ذلك فينبغي أن يمحى هذا التناقض الظاهري على الأقل بطريقة مقنعة، حتى لو لم يكن في مقدورنا أبدا أن نفهم كيف تصبح الحرية ممكنة.
27
إذ لو كانت فكرة الحرية تناقض نفسها أو تناقض الطبيعة، التي هي ضرورية كذلك، لتحتم أن يضحى بها في صالح الضرورة الطبيعية.
غير أنه من المستحيل الإفلات من هذا التناقض إذا تصورت الذات التي تعتقد في نفسها الحرية، أنها حين تزعم لنفسها الحرية تكون «بنفس المعنى وبنفس العلاقة» التي تكون عليهما حين تسلم بالقياس إلى الفعل نفسه بخضوعها للقانون الطبيعي؛ لذلك كانت المهمة الملقاة على عاتق الفلسفة التأملية، والتي لا سبيل لها إلى الفكاك منها، أن تبين على أقل تقدير أن الوهم الذي تقع فيه بسبب هذا التناقض يقوم على أننا، حين نصف الإنسان بأنه حر، نتصوره بمعنى وفي علاقة تختلف عما لو نظرنا إليه نظرتنا إلى قطعة من الطبيعة خاضعة لقوانينها، وأن الأمرين لا يمكنهما أن يوجدا معا فحسب، بل ينبغي أن نتصور أنهما متحدان اتحادا ضروريا في الذات الواحدة؛ إذ لو كان الأمر على خلاف ذلك لما كان في مقدورنا أن نفسر لماذا ينبغي علينا أن نرهق العقل بفكرة، وإن يكن من الميسور لها دون أن تقع في التناقض أن تتحد بفكرة أخرى تثبت صحتها إثباتا كافيا، إلا أنها تلقي بنا في مأزق يضايق العقل وحده في ميدان استعماله النظري. بيد أن هذا الواجب يلزم الفلسفة التأملية وحدها
28
لكي تفسح الطريق للفلسفة العملية. وإذن فليس الأمر رهنا بمشيئة الفيلسوف ليقرر إن كان من حقه أن يرفع هذا التناقض الظاهري أو يتركه على ما هو عليه؛ ذلك لأن النظرية المتعلقة بهذا الأمر تكون في الحالة الأخيرة ملكا مشاعا
Eonun Vacans
يستطيع الجبري بحق أن يدعي ملكيته له وأن يطرد لأخلاق برمتها منه زاعما أنها وضعت يدها عليه بغير حق.
29
ولكننا لا نستطيع بعد أن نقول: إن حدود الفلسفة تبدأ من هذا الموضوع؛
30
ذلك لأن فض النزاع لا يدخل أبدا في اختصاصها، وكل ما تطلبه من العقل التأملي هو أن يضع حدا للمنازعات التي يقع فيها عندما يبحث في المشكلات النظرية، حتى يتيسر للعقل العملي أن يجد الاطمئنان والأمان ليواجه الهجمات الخارجية التي تنازعه الأرض التي يريد أن يقيم عليها بنيانه.
لكن مطالبة العقل الإنساني المشترك نفسه بحقه المشروع في حرية الإرادة يقوم على أساس الشعور والافتراض المسلم به باستقلال العلل المعينة تعيينا ذاتيا خالصا والتي يؤلف مجموعها ما يتعلق بالإحساس وحده وبالتالي ما يعرف بوجه عام باسم الحساسية. إن الإنسان الذي ينظر إلى نفسه على هذا النحو بوصفه عقلا، يضع نفسه بذلك في نظام آخر للأشياء، وفي علاقة بالعلل المعينة تختلف في طبيعتها كل الاختلاف حين يتصور نفسه عقلا موهوبا بالإرادة، مزودا تبعا لذلك بالعلية، عما لو تصور نفسه ظاهرة في العالم الحسي (وإنه لكذلك في الواقع) وأخضع عليته من جهة تحددها بالمؤثرات الخارجية لقوانين الطبيعة. عندئذ نجد أنه سرعان ما يدرك أن الأمرين يمكن أن يوجدا معا، بل ينبغي أن يوجدا معا؛ ذلك لأن خضوع شيء (ينتمي إلى العالم الحسي) في عالم الظواهر لقوانين معينة، واستقلاله عنها من حيث هو شيء أو ماهية في ذاتها، أمر لا ينطوي على أي تناقض،
31
أما أن من واجب الإنسان أن يتصور نفسه ويفكر فيها على هذا النحو المزدوج، فيقوم من ناحية على الشعور الذي لديه عن النفس، من حيث هو موضوع يتأثر عن طريق الحواس، كما يقوم من ناحية أخرى على شعوره بنفسه من حيث هو عقل؛ أي من حيث استقلاله في مجال الاستعمال العقلي عن الانطباعات الحسية (وبالتالي من حيث كونه عضوا في عالم معقول).
من هنا يذهب الإنسان إلى أن له إرادة لا تترك شيئا مما يتصل بشهواته وميوله الخالصة يودع في حسابه، بل تتصور على العكس من ذلك أن تلك الأفعال تكون ممكنة عن طريقها، لا بل تكون ضرورية إذا لم يكن في استطاعتها أن تتم إلا بالصدود عن جميع الشهوات والحوافز الحسية. إن علية مثل هذه الأفعال قائمة فيه بوصفه عقلا كما هي قائمة في قوانين النتائج والأفعال التي تكون مطابقة لمبادئ عالم معقول، لا تزيد معرفته به في الحقيقة على أن العقل وحده، أريد أن أقول: العقل الخاص المستقل عن الحساسية، هو الذي يضع له القانون. ولما كان من هذه الناحية وحدها، ومن حيث إنه عقل فحسب، يعد الذات الحقيقية (بينما هو، من حيث هو إنسان، ليس إلا ظاهرة لنفسه) فإن تلك القوانين تخصه بشكل مباشر ومطلق بحيث لا يتسنى لما تحث عليه الميول والدوافع (وبالتالي طبيعة العالم الحسي في مجموعها) أن تخرق قوانين إرادته بوصفها عقلا، بل إنه لا يتحمل مسئولية هذه الميول والدوافع، ولا ينسبها إلى ذاته الحقيقية؛ أعني إلى إرادته، وإنما ينسب إليها (أي إلى ذاته) التسامح الذي يمكن أن يحمله لها في نفسه إذا هو سمح لها بأن تؤثر على مسلماته بما يعود بالضرر على القوانين العقلية للإرادة.
32
إن العقل العملي لا يتجاوز حدوده المرسومة له على الإطلاق حين «يندمج» بالفكر في عالم معقول،
33
ولكنه يتجاوزها حين يحاول أن «يعاين» نفسه وأن يحس بنفسه فيها. تلك فكرة سلبية بالنسبة للعالم المحسوس، الذي لا يقدم للعقل في تحديده للإرادة أية قوانين، وهي فكرة إيجابية من ناحية واحدة فحسب، وهي أن الحرية من حيث إنها تعيين سلبي، مرتبطة في الوقت نفسه بملكة (إيجابية)، وعلى وجه التحديد بعلية للعقل نطلق عليها اسم الإرادة؛ أي بملكة الفعل على نحو يجعل مبدأ الأفعال مطابقا للخاصية الأساسية لعلة عقلية، أو يجعله بعبارة أخرى مطابقا للشرط الذي يتيح للمسلمة التي ارتفعت إلى مستوى القانون أن تكون صالحة صلاحية شاملة.
ولكن إذا أراد العقل إلى ذلك أن يستمد من العالم المعقول «موضوعا للإرادة»؛ أي دافعا لها، فإنه بذلك يتعدى حدوده ويدعي العلم بشيء لا يعرف عنه قليلا ولا كثيرا. وإذن فتصور عالم معقول ما هو إلا «وجهة نظر» يضطر العقل إلى التسليم بها وراء الظواهر؛ «وذلك لكي يتسنى له أن يتصور نفسه عقلا عمليا»، وهو الأمر الذي يكون مستحيلا لو أن مؤثرات الحساسية كانت معينة للإنسان، ويكون مع ذلك ضروريا إذا لم ننكر عليه الشعور بذاته بوصفه عقلا، وبالتالي من حيث هو علة عاقلة تصدر في أفعالها عن طريق العقل؛ أي علة حرة في أعمالها. هذا التصور ينطوي بالطبع على فكرة نظام آخر وتشريع آخر يختلفان عن نظام وتشريع الآلية الطبيعية التي تتعلق بالعالم المحسوس كما يجعل تصور عالم معقول (أي مجموع الكائنات العاقلة من حيث هي أشياء في ذاتها) تصورا ضروريا، ولكن دون أن يدعي أنه يجعل فكره مطابقا لغير شرطه «الصوري»؛ أي لشمول مسلمة الإرادة بوصفها قانونا، وبالتالي للاستقلال الذاتي للإرادة الذي يمكنه وحده أن يكون على اتفاق معها، في حين أن جميع القوانين التي تتحدد بعلاقتها بموضوع من الموضوعات تعطي تنافرا لا نصادفه إلا في قوانين الطبيعة ولا يمكن أن تتعلق بغير العالم الحسي.
ولكن العقل يتعدى جميع حدوده المرسومة له إذا ما حاول أن «يفسر» لنفسه «كيف» يصبح العقل الخالص عقلا عمليا، وهي محاولة تتساوى تساويا تاما مع محاولته أن يفسر «كيف تصبح الحرية ممكنة».
ذلك لأننا لا نستطيع أن نفسر شيئا حتى نرده إلى قوانين يمكن أن يعطى موضوعها في تجربة ممكنة. أما الحرية فهي فكرة خالصة لا يمكن بحال من الأحوال أن توضح واقعيتها الموضوعية وفقا لقوانين الطبيعة ولا أن توضح تبعا لذلك في أية تجربة ممكنة؛ فهي إذن لا يمكن أن تفهم أبدا ولا حتى أن تدرك طبيعتها؛ وذلك لأننا لا نستطيع أبدا أن نضرب لها مثالا عن طريق لون من ألوان المشابهة. إنها لا تعد إلا مجرد افتراض ضروري للعقل لدى كائن يعتقد أنه يمتلك الشعور بإرادة؛ أي بملكة تختلف عن ملكة الاشتهاء الخالصة (أعني لديه الشعور بالقدرة على أن يعين نفسه للفعل من حيث هو عقل، وبالتالي طبقا لقوانين العقل وبالاستقلال عن الغرائز الطبيعية). ولكن حيث يتعطل التحديد [أو التعيين] بوساطة القوانين الطبيعية، فإن كل «تفسير» يتعطل كذلك، فلا يبقى من شيء بعد إلا الدفاع؛ أي دفع اعتراضات من يزعمون أنهم نظروا نظرة أعمق في ماهية الأشياء، ومن يتجاسرون لهذا السبب على إعلان استحالة الحرية.
34
يستطيع المرء أن يكتفي بأن يبين لهم أن التناقض الذي يزعمون أنهم اكتشفوه هناك إنما يكمن في أنهم وجدوا لزاما عليهم، لكي يقرروا صحة القانون الطبيعي بالنسبة للأفعال الإنسانية، أن ينظروا بالضرورة إلى الإنسان نظرتهم لظاهرة من الظواهر، حتى إذا طولبوا بأن عليهم أن يتصوروه بوصفه عقلا، كشيء في ذاته أيضا، ظلوا ينظرون إليه كذلك نظرتهم إلى ظاهرة،
35
وقد كان من الطبيعي أن يؤدي عزل علية الإنسان (أي إرادته) عن كل القوانين الطبيعية التي تحكم العالم الحسي في شخص واحد بالذات إلى التناقض، ومع ذلك فإن هذا التناقض يزول لو شاءوا أن يتدبروا الأمر وأن يعترفوا منصفين بأنه لا بد وراء الظواهر من وجود الأشياء في ذاتها (وإن يكن ذلك بطريقة مستترة) التي عليها تؤسس هذه الظواهر، والتي لا يستطيع المرء أن يطلب من القوانين التي تتحكم في أفعالها أن تكون هي نفس القوانين التي تخضع لها ظواهرها.
إن استحالة تفسير الإرادة من الناحية الذاتية هي نفس الاستحالة التي [تجعل من المتعذر على المرء] أن يكتشف «المنفعة»
36 ⋆
التي يمكن أن يجدها الإنسان في القوانين الأخلاقية وأن يجعلها قريبة المنال إلى الأذهان، ومع ذلك فإنه في الواقع يجد فيها منفعة نطلق على مبدئها القائم فينا اسم العاطفة الأخلاقية، وهي العاطفة التي جعلها البعض خطأ معيارا لحكمنا الأخلاقي، في حين أنه ينبغي النظر إليها على أنها «الأثر الذاتي» الذي يحدثه القانون في الإرادة والذي يقدم العقل وحده مبادئه الموضوعية.
لكي يتيسر للكائن العاقل المتأثر في الوقت نفسه بالحساسية أن يريد ما يرسمه له العقل وحده من واجب يتعين عليه القيام به، فإن ذلك يقتضي بغير شك أن تكون للعقل ملكة قادرة على أن تغرس فيه شعور اللذة أو الرضا المرتبطين بالوفاء بالواجب، كما يقتضي تبعا لذلك أن تكون لديه علية تمكنه من تعيين الحساسية وفقا لمبادئه. غير أنه من المستحيل استحالة تامة أن نفهم؛ أعني أن نفسر بطريقة قبلية كيف يمكن فكرة بسيطة، لا تشتمل هي نفسها على أي عنصر حسي، أن تحدث شعورا باللذة أو الألم؛ ذلك لأن هذا نوع خاص من العلية، لا نستطيع في شأنه، كما لا نستطيع في شأن أية علية، أن نحدد شيئا على الإطلاق بطريقة قبلية، بل لا بد لنا من أن نسأل التجربة وحدها في ذلك، ولكن لما كانت التجربة لا تقدم لنا علاقة بين علة ونتيجة إلا إذا كانت هذه العلاقة قائمة بين موضوعين من موضوعات التجربة، وكان على العقل الخالص هنا بوساطة أفكار بسيطة (لا تقدم أي موضوع للتجربة) أن يكون هو علة لمعلول موجود بغير شك في التجربة، فإن من المستحيل علينا نحن بني الإنسان تمام الاستحالة أن نفسر كيف ولماذا يحقق لنا المنفعة شمول المسلمة بوصفها قانونا، ولا كيف ولماذا تحقق الأخلاقية تبعا لذلك المنفعة. إن الشيء الوحيد المؤكد هو أن الأخلاقية لا تكون لها قيمة بالنسبة لنا لمجرد أنها تحقق مصلحة (إذ إن هذا تنافر واعتماد من جانب العقل العملي على الحساسية، أعني على عاطفة تقوم مقام المبدأ، ومن شأنها أن تجعل العقل عاجزا عن وضع تشريع أخلاقي). بل الواقع أنها تعبر عن مصلحة لنا لأن لها قيمة عندنا من حيث إننا بشر؛ إذ كانت تنبع من إرادتنا بوصفها عقلا، وبالتالي من ذاتنا الحقيقية، «أما ما يتعلق بالظاهرة الخالصة فحسب، فإن العقل يدرجه بالضرورة تحت طبيعة الشيء في ذاته.»
وإذن فالسؤال عن كيفية إمكان قيام الأمر الأخلاقي المطلق يمكن الإجابة عليه بمقدار ما نستطيع بيان الافتراض الوحيد الذي يمكنه أن يقوم على أساسه ، ونعني به فكرة الحرية، وبمقدار تفهمنا للضرورة التي ينطوي عليها هذا الافتراض؛ الأمر الذي يكفي لضمان الاستعمال العملي للعقل؛ أي للاقتناع بصلاحية هذا الأمر المطلق، وبصلاحية القانون الأخلاقي تبعا لذلك. أما كيف يصبح هذا الافتراض نفسه ممكنا، فذلك ما لا سبيل لعقل بشري أن يفهمه أبدا. إن افتراض حرية الإرادة لدى الكائن العاقل يترتب عليه بالضرورة الاستقلال الذاتي لإرادته، من حيث هو الشرط الصوري الوحيد الذي يتيح لها أن تتعين. إن افتراض حرية الإرادة هذه (بغير الوقوع في التناقض مع مبدأ الضرورة الطبيعية في ربط ظواهر العالم الحسي) ليس أمرا ممكنا غاية الإمكان فحسب (على نحو ما تستطيع الفلسفة التأملية أن تبينه) بل إن التسليم بها من الناحية العملية؛ أي جعلها بالفكرة شرطا تقوم عليه جميع أفعاله الإرادية، أمر ضروري يحتم على الكائن العاقل، الذي يشعر عن طريق العقل بعليته كما يشعر نتيجة لذلك بإرادة (متميزة من الشهوات) أن يفترض وجودها دون أن يقيده بشرط آخر. أما «كيف يتيسر» للعقل الخالص دون دوافع أخرى أيا ما كان المصدر الذي تستمد منه، أن يصبح بذاته عقلا عمليا؛ أي كيف يتيسر للمبدأ الخالص عن الصلاحية الشاملة لجميع مسلماته بوصفها قوانين (وهو المبدأ الذي سيؤلف بالتأكيد صورة عقل عملي خالص) بغض النظر عن كل مادة (موضوع) للإرادة قد يستطيع المرء مقدما أن يلتمس فيها أية منفعة أو مصلحة؛ أقول كيف يتيسر لهذا المبدأ الخالص أن يقدم دافعا ويحدث منفعة يمكن أن يقال عنها إنها منفعة أخلاقية، وبعبارة أخرى كيف يمكن العقل الخالص أن يصبح عقلا عمليا؛ فذلك ما يعجز كل عقل بشري عجزا مطلقا عن تفسيره، وكل جهد يبذل في البحث عن تفسير له هو جهد ضائع.
يتساوى هذا تماما مع محاولتي البحث عن كيفية إمكان الحرية نفسها كعلية للإرادة؛ ذلك لأنني أفارق حينئذ مبدأ التفسير الفلسفي الذي لا أملك من مبدأ غيره. حقا إنني ربما استطعت أن أهيم متحمسا بين أرجاء العالم المعقول الذي لم يزل باقيا لي، وفي عالم العقول، غير أنني وإن كانت لدي «فكرة» مدعومة عنه فليست لدي به مع ذلك أدنى «معرفة»، وليس في مقدوري أبدا، بكل ما تبذله ملكتي العقلية الطبيعية من جهد، أن أتوصل إلى معرفته. إنما تدل هذه الفكرة على شيء يظل باقيا بعد أن أستبعد من مبادئ تعيين إرادتي كل ما يتصل بالعالم الحسي بسبب، وذلك لمجرد أن أحصر مبدأ الدوافع المستمدة من ميدان الحساسية، بوضع حدود هذا الميدان وبيان أنه لا يشتمل في ذاته على كل شيء، بل إن وراءه أشياء أخرى تزيد عليه. أما هذه الأشياء الزائدة فإنني لا أعرف عن طبيعتها شيئا. لا شيء يبقى لي من العقل الخالص الذي يفكر في هذا المثال بعد عزل كل مادة؛ أي كل معرفة بالموضوعات، إلا الصورة؛ أعني القانون العملي للصلاحية الشاملة للمسلمات يطابقه العقل في صلته بعالم معقول خالص من حيث هو علة فاعلة ممكنة؛ أي علة معينة للإرادة،
37
إن الدافع ينبغي أن يسقط هنا تماما، إلا إذا كان علينا عندئذ أن نحسب أن هذه الفكرة عن عالم معقول هي نفسها الدافع أو هي ما يجد العقل أصلا منفعة فيه، ولكن تفسير ذلك يعد في الحقيقة معضلة لا نملك لها حلا.
هنا إذن الحد الأقصى لكل مبحث أخلاقي، وإن تعيين هذا الحد لذو أهمية كبرى لكي لا يضل العقل من ناحية في العالم الحسي، بطريقة تضر بالأخلاق، بحثا عن الدافع الأسمى وعن منفعة لا شك في أنها قريبة إلى الأفهام، وإن تكن منفعة تجريبية، ولكيلا يظل من ناحية أخرى يرفرف عاجزا بجناحيه دون أن يتحرك من موضعه في فضاء من التصورات المتعالية يحمل اسم العالم المعقول، وهو بالنسبة له فضاء فارغ من كل شيء، ولكي لا يضيع في خرافات ذهنية موهومة. بقي أن نقول إن فكرة عالم معقول خالص، بوصفه كلا يتألف من جميع العقول، ونكون نحن أعضاء فيه بوصفنا كائنات عاقلة (وإن كنا من ناحية أخرى أعضاء في عالم حسي) تظل دائما فكرة نافعة يمكن تطبيقها والسماح بها لتحقيق عقيدة عقلية، وإن كانت كل معرفة تنتهي عند حدود هذا العالم، وذلك لكي نستطيع عن طريق المثال الرائع لمملكة شاملة للغايات في ذاتها (للكائنات العاقلة)، لا نستطيع أن نكون أعضاء فيها حتى نحرص على الاهتداء في سلوكنا بمسلمات الحرية كما لو كانت هذه المسلمات قوانين طبيعية؛ أقول لكي نستطيع عن هذا الطريق أن نثير في أنفسنا الاهتمام الحي بالقانون الأخلاقي.
ملاحظات ختامية
إن الاستعمال التأملي للعقل، فيما يتعلق بالطبيعة، يؤدي إلى الضرورة المطلقة لوجود سبب من الأسباب يعد هو السبب الأعلى «للعالم»، كذلك يؤدي الاستعمال العملي للعقل، «فيما يتعلق بالحرية»، إلى ضرورة مطلقة، ولكنها ضرورة لا تتعدى «قوانين أفعال» كائن عاقل بما هو كذلك. وهكذا نجد «أن المبدأ» الأساسي لكل استعمال لعقلنا هو دفع المعرفة التي يقدمها لنا حتى نصل إلى الشعور «بضرورتها» (إذ إنها لن تكون معرفة عقلية بغير هذه الضرورة). ولكن العقل نفسه يخضع كذلك لتقييد أساسي مؤداه أنه لا يمكنه أن يدرك وجه الضرورة فيما هو كائن ولا فيما يحدث ولا فيما ينبغي أن يحدث إلا إذا افترض شرطا يقوم على أساسه ما هو كائن وما يحدث وما ينبغي أن يحدث، ولكن البحث الدائم عن الشرط يتسبب على هذا النحو في تأجيل إرضاء العقل شيئا فشيئا؛ لذلك نجده يسعى بلا كلل وراء المطلق؛ الضروري، ويرى نفسه مضطرا إلى التسليم بوجوده، دون أن تكون لديه وسيلة تمكنه من تفهم طبيعته، وما أشد ما تكون سعادته لو وفق إلى العثور على التصور الذي يتفق مع هذا الافتراض. وإذن فليس هناك لوم نوجهه إلى طريقة استنباطنا للمبدأ الأعلى للأخلاق، بل الأولى أن نأخذ بالضرورة على العقل الإنساني بوجه عام أنه لا يستطيع أن يفسر القانون العملي المطلق (وكذلك ينبغي أن يكون الأمر الأخلاقي) من ناحية ضرورته المطلقة ويجعله في متناول الأفهام، والواقع أنه ما من أحد يستطيع أن يأخذ عليه أنه لا يريد أن يلجأ إلى هذا التفسير عن طريق شرط من الشروط؛ أي من طريق منفعة تكون بمثابة المبدأ الذي يستند إليه لأنه لن يكون عندئذ قانونا أخلاقيا؛ أي قانونا أعلى للحرية وهكذا لن نتوصل في الحقيقة إلى فهم الضرورة العملية المطلقة للأمر الأخلاقي، ولكننا سنفهم منه على الأقل أنه «يستعصى على الفهم»، وذلك هو أقصى ما يستطيع منصف أن يطلبه من فلسفة تسعى بالمبادئ للوصول إلى حدود العقل الإنساني.
ثبت بالمصطلحات
عربي
ألماني
فرنسي
استعداد طبيعي
Naturanlage
Disposition naturelle
استنباط
Ableitung - Deduktion
Déduction
أثر - نتيجة
Wirkung
Effet
احترام
Achtung - Sitten
Respect - Moeurs
أخلاق - أخلاقية
Moralität Sittlichkeit
moralité
إرادة
Wille
Volonté
أشياء
Sachen
Choses
استحقاقي
verdienstlich
méritoire
استعمال - استخدام
Gebrauch
usage
الاستقلال الذاتي للإرادة
Autonomie (des Willens)
autonomie (de la volonté)
التزام
Verbindlichkeit
Obligation
أمر شرطي
hypothetischer Imperativ
impératif hypothétique
أمر مطلق
Kategorischer Imperativ
impératif
إمكان
Möglichkeit
possibilité
باعث «محرك»
Bewegungsgrund
motif
بعدي
a Posteriori
aposteriori
تأثير
Einfluss
influence
تأملي
spekulativ
speculative
تجربة
Erfahrung
expérience
تجريبي
empirisch
empirique
تحديد - تعين
Bestimmung
détermination
تحليلي
analytisch
analytique
تركيبي
synthetisch
synthétique (ترنسندنتالي) متعالي
transzendental
transcendental
تعدد - كثرة
Vielheit
pluralité
تشريع
Gesetzgebung
législation
تصور
Begriff
تقييد
Einschränkung
limitation
تمثل
Vorstellung
représentation
تنافر
Haeteronomie
hétéronomie
تناقض
Widerspruch
Contradiction
ثمن عاطفي
Affektionspreis
ثمن سوقي
Marktpreis
prix marchand
جبر - إلزام
Nötigung
contrainte
حرية
Freiheit
Liberté
حساسية
Sinnlichkeit
Sensibilité
حلقة مفرغة
Zirkel
cercle vicieux
خالص
Rein
دافع
Treibfeder
mobile
ذات
Subjekt
Sujet
ديالكتيك
Dialektik
dialectique
رضا
Zufriedenheit
contentement
رغبة - شهوة
Begehren
désir
سعادة
Glückseligkeit
bonheur
شخص
personne
شرط
Bedingung
Condition
شعبية
popularité
شعور - وعي
Bewusstsein
conscience
شيء في ذاته
Ding an sich
Chose en sol
صلاحية شاملة
Allgemeingültigkeit
Validité Universelle
صورة
Form
Forme
صوري
formal
formal
صيغة
formel
fromule
ضروري
notwendig
nécessaire
ظاهرة
phänomen - Erscheinung
phénomène
عاطفة - شعور
Gefühl
sentiment
عالم محسوس
Sinnenweit
monde sensible
عالم معقول
Verstandesweit intellektuelle weit
monde intelligible
عرضي
Zufällig
Contingent
عقل مشترك
gemeine Vernunft
raison commune
عقلي
rational
rationnel
علة
Ursache
Cause
علية
Kausalität
causalité
عموم - شمول - كلية
Allgemeinheit
universalité
عيان
Anschauung
intuition
غير مشروط
Unbedingt
inconditionné
فاعلية تلقائية
Spontanität selbstäätigkeit
spontaneité
فضيلة
Tugend
vertu
فطنة
Klugheit
prudence
فعل الإرادة
Wollen
volition
فعل «مسلك»
Handlung
action
فكرة - مثال
Idee
idée
فهم
Verstand
intelligence-entendement
في ذاته
an sich selbst
en sol-même
قاعدة
Regel
règle
قانون
Gesetz
Loi
قانون عملي
Loi pratique
قبلي
a priori
a priori
قصد
Absicht
bût, intention
قضية
Satz
قيمة
Wert
Valeur
كائن عاقل
vernünftiges Wesen
être raisonnable
كرامة
Würde
dignité
كلية - شمول
Totalität-Allheit
totalité
مادة
Materie
matière
مادي
material
matériel
مبدأ
principe
مثال - مثل أعلى
Ideal
idéal
مسلمة
Maxime
maxime
نظير
Analogie
analogie
مشروط
Bedingt
Conditionné
ملكة الحكم
Urteilskraft
faculté de juger
ملكة
Vermögen
faculté
مملكة الطبيعة
Naturreich
règne de la nature
مملكة الغابات
Reich der Zweecke
règne des fins
منفعة
Interesse
intérêt
موضوع
Gegenstand-Objekt
Objet
ميل
Neigung
inclination
نية
Gesinnung
intention
واجب
dévoir
وجود
Dasein
existence
وحدة
Einheit
Unité
وسيلة
Mittel
moyen
ناپیژندل شوی مخ