وها نحن أولاء نشاهده في طريقه إلى بغداد، يحدث نفسه بوداع حياة واستقبال أخرى، فهو لم يلق في حياته الأولى سوى عذاب فكري متلاحق، بل لم ينعم ولم يذق إلا مرارة المعارك والخصومات الحارة بأحقادها ومتاعبها، ولم يمتع إلا بلقيمات غير دسمة ولا سائغة.
فكر متوثب لا يهدأ ولا يطمئن ولا يشعر بلذة اليقين، وعلم لم يكسب صاحبه ما يكسبه العلم لأهله في عهده من متاع الحياة ومباهج السيادة والحكم، فلم لا يقذف بكل هذا وجه الفضاء؟ وإذا كان هذا الفكر الملح في شكه، الملح في ثورته، الملح في تهكمه لا سبيل إلى إمتاعه وإرضائه فإن قسوة الحياة يمكن أن تبدل بطيب المتاع وجمال المظهر وعزة الاتصال بالولاة وما فوق الولاة من الأمراء والملوك.
وبغداد في ذلك التاريخ مهوى أفئدة رجال العلوم وطلاب المغامرة وعشاق المجد، وفي بغداد يسوس الملك مغامرة عالم «نظام الملك» الذي ابتدع المدارس النظامية وأسسها على علوم السنة لينافس بها أزهر الفاطميين وليطاول بها علوم الشيعة التي تلقى في أزهرهم.
ومثل هذا الأمير في حاجة إلى عالم متفوق بارع في الجدل، بارع في الخصومة بارع في دعم الحجج والبراهين، براعته في نقض الحجج والبراهين.
والغزالي اللماح يدرك مطلب الأمير ويدرك ما يمكن أن يظفر به لدى الأمير.
ومن أجل هذا اعتزم أن يكون قدومه ضخما فخما لا ينسى، واعتزم أن يطلع الأمير في اللحظة الأولى على مقدار نبوغه وبراعته في الحوار والجدل وتفوقه في المذاهب والنحل.
هذا، والحديث عن آراء الغزالي يتصل اتصالا تاما أو يكاد، بالحديث عن ترجمة حياته، لأنه واحد من المفكرين الذين يكون تسلسل ترجماتهم هو بعينه تسلسل حياتهم الروحية، ولأن هذا الحديث يعين على كشف الولائج التي كونت الأفكار الغزالية، كما يعين على تفهم موضع الرجل من معاصريه، بل موقفه من خصومه، ويوضح حاصل رأيه وحاصل الرأي فيه، وإذا كان هذا شأن ترجمة حياة الغزالي كان لا بد من عرض قصير يسير لحياته، وإذا ففي عام 1059م/450ه يولد الغزالي بطوس، ويتوفى والده فيكفله صديق لأبيه متصوف يأخذه بتعاليم الفقه وغيره، ولكن الغزالي الشاب يضيق بتعاليم الفقه في هذه الحدود الضيقة التي تدفعه إلى إمام الحرمين في نيسابور يتعلم عليه «الكلام»، ويدرس عليه المذاهب واختلاف اتجاهاتها، كما يدرس المنطق والجدل مما يشيع في نفسه لونا من ألوان الحيرة التي تنبعث في القلوب الخصبة والعقول الكبيرة، حين تريد هذه القلوب وهذه العقول أن تتفتح، وحين تريد أن تفلت من أخطاء الجبابرة وما في جبروت هذا الخطأ من استبداد بالأفكار، ثم تأتي مرحلة يموت فيها إمام الحرمين فيتعرف الغزالي على إمام الملك الذي يعينه أستاذا في المدرسة النظامية، وينصرف الغزالي إلى التدريس، كما ينصرف إلى الدراسة القوية النشيطة المنظمة التي توفرها له هدأة يسيرة من الحياة، والتي لا بد منها لمن يشتغل بالمعارف المنظمة والعلوم الفلسفية، فيدرس الرجل مؤلفات الفارابي ونتاج الشيخ الرئيس ويؤلف ما شاء له التأليف، ثم تأتي فترة يلح عليه فيها الشك إلحاحا يقض هذا الهدوء، بل هذا الاستقرار ويدفعه إلى اليأس الحزين من قدرة العقل كوسيلة تنال بها حقيقة الدين فيترك التدريس والدراسة، ويخرج من بغداد خائفا يترقب كأنما هذه الحيرة تتربص به أينما كان، فهو شاك حائر خائف لا يعرف أين
4
يذهب فكل الأرض وجهته، يجاهد نفسه ألوانا من المجاهدة، ويتحمس لرياضتها ضروبا من التحمس فينطوي على نفسه انطواء يوشك أن يعزله في روحه عن عالم الشهادة، وإذا هو حيال هذا الكون المشهود لا ينفي ولا يوجب، فهو في دمشق وهو في القدس وهو في الإسكندرية، لعله بهذا يتعلق بسبب من أسباب السماء غير العقل الذي أيس منه سبيلا إلى قرار اليقين وإصلاح أمور الدين، وهو أبدا مشوق لأن يكتب في عداد المجاهدين، وهو دائما يرجو أن يكون ممن «يرسلهم الله على رأس كل مائة سنة من المصلحين.»
وهو ينتهي من هذا إلى أن ينصب نفسه داعية من دعاة الإصلاح القائم على العمل والتنفيذ، فيؤلف كتابا من أكبر كتبه يرجو به أن يعود مجد الدين أو يرفو به ما خرقته ألسنة الزنادقة والملحدين، هذا الكتاب هو كتاب «إحياء علوم الدين»، ثم هو يرى أن يعود إلى نيسابور فيواصل الإرشاد والدعوة والعبادة حتى يدركه الموت في طوس سنة 1111م/سنة 505ه، فيقع في الميدان كأي بطل من أبطال الفكر المجاهدين، فيخلع عليه المسلمون لقب «حجة الإسلام وزين الدين».
ناپیژندل شوی مخ