فالباحثون الثلاثة كما ترى يلتقون في أن أبا العتاهية قد تأثر بمؤثرات أجنبية في نزعته الزهدية، وأن روح هذه النزعة لم تكن إسلامية صرفة، وهي فكرة لها ما يؤيدها في تحليل موقف أبي العتاهية من الموت، وفي إشارات في شعره جعلت بعض السابقين من المؤلفين من أمثال «الصولي» ينبهون إلى ما في نظام تفكير أبي العتاهية من عناصر فلسفية ومذهبية، وليس هناك من شك في أن أبا العتاهية تعرض لأمثال تلك المؤثرات بحكم بيئته وثقافة عصره وما كان في ذلك العصر من تسرب الثقافات الهندية والفارسية واليونانية إلى المجتمع الإسلامي من طرق مباشرة وغير مباشرة، ولكن ضآلة نتائج هذه المؤثرات في شعر أبي العتاهية تجعلنا أميل إلى التماس مصادر تفكيره الزهدي في جداول الحياة الإسلامية العربية المشتركة، ويقوي هذا الميل عندنا أن الرجل لم يكن معروفا بتوسع في ثقافة، ولا عمق في تأمل، ولا انصراف إلى تفلسف، ولم يعرف عنه أنه شارك مشاركة جدية في مناقشة مذهبية أو دعوة دينية، وهذه الناحية فيه لم تفت معاصريه ، فجاره يقول عنه فيما يرى صاحب الأغاني، أنه كان من أقل الناس معرفة وقال له مرة «بشر المريسي»: يا أبا إسحاق! لا تصل خلف فلان جارك وإمام مسجدكم فإنه مشبه. فقال أبو العتاهية: كلا! إنه قرأ بنا البارحة «قل هو الله أحد»، كأنما يظن شاعرنا أن المشبه لا يقرأ قل هو الله أحد، ويذكر الجاحظ أن أبا العتاهية أراد مرة أن يناقش «ثمامة» بين يدي المأمون، فقال له المأمون: عليك بشعرك! فألح على الخليفة أن يأذن له بمساءلة ثمامة فأذن، فألقمه ثمامة حجرا، فضحك المأمون وقال له: ألم أقل لك أن تشتغل بشعرك وتدع ما ليس من عملك! ويذكرون أنه كان مذبذبا في مذهبه يعتقد شيئا فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده إياه وأخذ غيره، ولست أظن أن أهل عصره كانوا جادين في اتهامه بالزندقة، فقد كانت المسألة أحيانا لا تعدو شيئا من الخصومة الأدبية أو التناظر في ميدان مشترك كالذي كان بينه وبين منصور بن عمار، مما دفع منصورا إلى أن يشنع عليه بأنه لا يذكر في شعره الجنة والنار، وإنما يذكر الموت، وإذا ذكر الجنة فإنما يتهاون بها ويتبذل ذكرها شعره، وربما جاءته التهمة مما عرف عنه من جمع الأموال وكنزها ثم التزهد مراءاة ونفاقا كما يقول سلم الخاسر، لا سيما إذا انضم إلى هذا عدم اشتهاره بالمشي إلى المساجد، وقد أشار إلى هذه النواحي جماز ابن أخت سلم الخاسر في قوله يعرض بأبي العتاهية:
ما أقبح التزهيد من واعظ
يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا
أضحى وأمسى بيته المسجد
يخاف أن تنفد أرزاقه
والرزق عند الله لا ينفد
والرزق مقسوم على من ترى
يناله الأبيض والأسود
كان أبو إسحاق - إذا - شاعرا واعظا من أوساط جمهرة المسلمين، نشأ نشأة فقيرة طابعها الحرمان، في عصر كان المجدودون من أهله ينتبهون اللذات انتهابا، فهو زاهد صوفي على نوع ما.
ناپیژندل شوی مخ