واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيدَ وتقارب، وحصل طَلبتَة في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما اشرق فيه من البيان، فبَيْن المَقاميْن شأوٌ بعيد، وبين المنزلتين تفاوُتٌ شديد.
وقد ألهمنى الله تعالى بفضله أن وضعث في أثناء كتاب الذخيرة من هذه القواعِدِ شيئا كثيرا مفرَّقًا في أبواب الفقه، كلّ فاعدة في بابها وحيث تبنى عليها فروعها، ثم أوجد الله تعالى في نفسي أن تلك القواعد لو اجتمعت في كتاب وزِيدَ في تلخيصها وبيانِها والكشفِ عن أسرارها وحِكمها لكان ذلك أظهر لبهجتها ورونقها، وتكيَّفَتْ نفس الواقفِ عليها بها مجتمعةً أكئر مما إذا رآها مَفَّرقة، وربَّما لم يقِف إلَا على اليسير منها هناك لعدم استيعابه لجميع ابواب الفقه، وأينما يقف على قاعدهَ ذهب عن خاطره ما قبلها، بخلاف اجتماعها وتظافرها، فوضعت هذا الكتاب للقواعد خاصة، وزِدت قواعد كثيرة ليست في الذخيرة، وزدت ما وقع منها في الذخبرة بسطا وايضاحا، فإني في الذخيرة رغِبت في كثرة النقل للفروع لأنه أخص بكتب الفروع، وكرِهت أن أجمعَ بين ذلك وكثرةِ البسط في المباحث والقواعد فيخرج الكتاب الى حد يعْسُرُ على الطلبة تحصيله. أما هنا فالعذر زائل، والمانع ذاهب، فاستوعب ما يفتع الله به إن شاء الله تعالى، وجعلتُ مبادئ المباحث في القواعد بذكر الفروق والسؤال عنها بين فرعين أو قاعدتين، فإن وقع السؤال عن الفرق بين الفرعين فبيانه بذكر فاعدة أو قاعدتين يحصل بهما الفرق، وهما المقصودتان، وذِكْر الفرق وسيلة لنحصيلهما، وان وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين فالمقصود تحقيقهما، وَيكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولَى من تحقيقهما بغير ذلك، فإنَّ ضَمَّ القاعدة الي ما يُشاكلها في الظاهر ويضادها في الباطن أولى، لِأنَّ الضد يُظهر حُسْنَه الضدُّ وبضدها تتميز الأشياء، وتقدم فبل هذا كتاب لي سميته كتاب (الإحكام في الفرق بين الفتاوي والأحكام، وتَصَرُّفِ القاضي والإمام، ذكرت في هذا الفرق أربعين مسألة جامعة لأسرار هذه الفروق، وهو كتاب مستقِل يُستغنَى به عن الإعادة هنا. فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسن فِي بابه، وعوائدُ الفضلاء وضعُ كتب الفروق بين الفروع، وهذا في الفروق بَيْن القواعد وتلخيصها، فله من الشرف على تلك الكتُب شرف الاصول على الفروع، وسميته لذلك (أنوار البروق، في أنواء الفروق)، ولك أن تسمِيه كتابَ الانوار والانواء)، أو كتاب (الانوار والقواعد السّنِية في الاسرار الفقهية)، كل ذلك لَكَ، وجمعت فيه مِن القواعد خمسَمائة وثمانية وأربعين قاعدة، أوضحت كل قاعدة بما يناسبها من الفروع حتى يزداد انشراح القلب لغيرها".
ومن خلال هذه المقدمة التى أتى بها الإمام شهاب الدين القرافي عن كتابه الفروق ومكانته العلمية تتجلى كذلك نفس المكانة التى لكتاب اختصاره وترْتيبه من طرَف الشيخ أبي عبد الله محمد بن ابراهيم البقوري، حيث اختصر فيه كتاب الفروق، ورتب قواعده وفق العلوم المختلفة وعلى الابواب الفقهية، وألحق به وأضاف اليه ما يناسبهُ من القواعد والمسائل والفروع المماثلة، ونبه فيه على ما لم يذكره شيخه القرافي، فجاء كتاب الترتيب هذا صورة وصياغة جديدة لكتاب الفروق، تيسر الاستفادة منه والانتفاع به، وتسهل الرجوع الى قواعده ومسائله، وتعين على ادراكه وفهمه، وعلى استيعابه وتحصيله.
وانطلاقا من هذه المكانة التى لكتاب ترتيب الفروق كتراث فقهي جليل، وانتاج مغربى اصيل. يكشف عن اهتمام علماء الغرب الاسلامي في الاندلس والمغرب بهذا العلم المتصل بأصول الفقه وقواعده الكلية، ويبرز مدى تمكنهم منه وتعمقهم فيه، واسهامهم بالتاليف بين تلك المؤلفات القيمة الخالدة التى الفها علماء اجلاء في هذا العلم، ودونها فقهاء أعلام على اختلاف مذاهبهم الفقهية، وتنوّع
1 / 6