قال زين لابنه: أراك تريد أن تقول شيئا؟
وقال سامي ونظرته معلقة بالسماء لم تزل: نعم يا أبت. - فقل. - أريد أن أتلقى تعليمي الإعدادي بالمركز. - ولماذا؟ - إنني أعد نفسي لأكون صاحب شهادة عالية، وأريد منذ هذه المرحلة التي أنا فيها أن أتلقى تعليمي على أحسن المصادر المتاحة. - وترى أن المدرسة الإعدادية هنا لا تصلح لذلك؟ - إنني هناك سأكون متفرغا للدراسة، كما أنني سأكون قريبا من المكتبة، وأستطيع أن أحصل على ما أشاء من كتب، والمركز قريب على أية حال! - ولكنك بهذا ستكون وحدك! - إذا سمحت لي صحبت معي أخي مأمون، فكلانا لا يترك صاحبه، وهو أيضا هناك سيكون تعليمه خيرا من هنا. - ومعنى ذلك أن تصحبك أمك؟ - هذا إليك. - أتريد أن تتركني وحدي؟ - يا أبي أنت مشغول بعملك. - أليس من حقي أن يكون لي بيت؟ - إنك لا يمر عليك أسبوع دون أن تذهب إلى المركز مرة أو مرتين، والتليفون موجود تستطيع أن تطلبنا وقتما تشاء. - هل أنت مصمم؟ - أما أنا فمصمم، نعم، ولكن الأمر الأخير لك.
عجيبة تلك المشاعر التي كانت تداخل نفس زين من ربيبه سامي، إنه كان يحس نوعا من الرهبة، وهو يتحدث إليه، أهي رهبة المخطئ أمام النقاء، أم أن في سامي هذا سرا خفيا يفرض الإجلال على من يتحدث إليه حتى ولو كان هذا المتحدث أباه الذي إن لم يكن قد ولده، فهو الذي تلقفه وليدا وشمله برعايته، حتى أصبح هذا الفتى المهيب في هدوء، الجليل في تواضع، كان زين واثقا أنه لن يستطيع أن يرفض طلب ولده، وكل ما استطاع أن يفعله. - إذن أرسل معكما خادمة ترعى شأنكما وتتركان أمكما لي. - هذا إليك. - ولكن والدتك لن تقبل. - أحسب هذا. - فلنسألها. •••
وذهبت الأم وابناها إلى بيت استأجره لهما زين، واستقرت بهما الحياة هناك، وصحب الجميع فواز الشيمي الذي ظل يرافق سامي إلى المدرسة منذ اليوم الأول لدراسته، والذي يحبه سامي ويرعاه، حتى أصبح معروفا في بيت العمدة أنه مخصص لسامي ثم لمأمون كليهما. وقد ارتأت رتيبة أن وجود فواز معهم هام، حتى يشتري لهم مطالب البيت، وصحبت معها طبعا ابنتها عزيزة، واستقر بهم البيت الجديد في المركز، وركب لهم التليفون أيضا ففي المراكز مشكلة التليفون ليست في عسرها بالبنادر والمدن. واستطاع سامي أن يحصل على ما يشاء من كتب، وجعل أخاه مأمون يقرأ معه، فأصبح كل منهما نسيجا وحده بين التلامذة. وأحس التلاميذ أن سامي وأخاه مأمون من صنف آخر غيرهم، وساد بينهم هذا الشعور الذي يختلط فيه الإعجاب والإكبار بالغيرة والحسد والشعور بالتنقص، ولكن التلاميذ على كل حال لم يكن يبدر منهم إلا الود، وإن طفر الحقد على وجه بعضهم، فما يلبث أن يمحى ويعود أدراجه إلى خفايا الضمائر، ويستتر هناك لا يعلم أمره إلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
حصل سامي على الإعدادية بتفوق ، وانتقل إلى المرحلة الثانوية، وحاله تجاه أبيه على ما هي عليه، وحيرته من العذاب الذي ألقاه أبوه إليه كما هي، يسأل ربه كل حين: لماذا يا إلهي هذا العذاب الذي أنا فيه؟ يسأل ربه كل حين، أنت تدري يا إلهي كم أحبك، وكم أطيعك، وكم أفنى في حبي، فلماذا؟!
وفي ليلة أخذه النعاس، وهو في هذه الحال من التهجد والمساءلة، فرأى في منامه عجبا.
رأى شيخا مهيبا وجهه كله صلاح وتقوى ونور يركب البحر، ولكن مركبه فيه ليس سفينة ولا هو قارب، وإنما حوت ضخم يشق به العباب، ويأتمر بأمره، ولم يكن حين يأمره يحدثه، وإنما كان الحوت يدري ما يريد سيده، فيأتمر بأمره بصورة تلقائية لا يعرف الناس لها مثيلا.
ويظل الشيخ النوراني سائرا في البحر، وسامي معه يصاحبه، وقد اطمأنت نفسه، وأصبح في سعادة سماوية لا يحسها إلا حين يقرأ القرآن، وبينما الشيخ النوراني على حوته يشق الماء شقا. عرضت له سفينة ضخمة، فإذا هو يخطو خطوة فيصبح فوق السفينة والحوت يسير بجانبها، ولا ينظر ركاب السفينة إلى الشيخ، وكأنه ما شاركهم مركبهم، بل هم حتى لا يرون الحوت، ولا يحسون من أمره شيئا. وإذا الشيخ النوراني يصنع صنيعا يذهل له سامي ذهولا مفجعا. إن الشيخ الرباني يخرق السفينة ويتلفها، وحينئذ فقط يتنبه الركاب إلى ما حدث بمركبهم دون أن يروا الشيخ أو يشعروا به.
ويصيح به سامي: أتخرق السفينة لتغرق أهلها؟ أهذا عدل؟ أيعقل أن شخصا في عظمتك يصنع هذا الصنيع؟
وينظر إليه الرجل الرباني ولا يكلمه، وإن كان يبدو عليه أنه سمعه، ويلح سامي في استنكار ما رأى. - إنك رجل نوراني ... إنك رجل رباني ... أمعقول هذا الذي تفعله؟ وكان الشيخ قد استقر على الحوت، فنظر إلى سامي نظرة هادئة مطمئنة، وابتسم له، فكأنما أشرق عن فمه ضياء فجر، ومشى به الحوت وسامي معه لا يدري كيف يتسنى له أن يكون في رفقته.
ناپیژندل شوی مخ