د اخوان صفا لار
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
ژانرونه
في مطلع رسالة المعادن يأخذنا الإخوان في جولة علمية شيقة أخرى تكشف لنا مزيدا من أسرار الظواهر الطبيعية. فقد كان لديهم حدس صائب بخصوص ما ندعوه اليوم بالعصور الجيولوجية التي تعاقبت على الأرض، وبخصوص التغيرات المناخية الكبرى التي تطرأ على هذا الكوكب، وتؤدي إلى إعادة تشكيل الهيئات الطبيعية على سطحه: «إن الأرض بجملتها نصفان، نصف شمالي ونصف جنوبي. وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين، فتكون جملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مواضع براري وقفار وفلوات وخراب، ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغدران، ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض، ومنها مواضع المراعي والقرى والمدن والعمران.
واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارا وغدرانا وأزهارا، وتصير مواضع البحار جبالا وتلالا وسباخا وآجاما ورمالا، وتصير مواضع العمران خرابا، ومواضع الخراب عمرانا ...
واعلم بأن في كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة، وأوجات الكواكب السيارة وجوزهراتها، في البروج ودرجاتها. وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربع من أرباع الفلك. وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة. فبهذا السبب تختلف مسامتات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدال واستواء، أو بزيادة ونقص وإفراط من الحرارات والبرودات، واعتدال منهما. وتكون هذه أسبابا وعللا لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض، وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال» (19: 2، 91-92).
بعد ذلك ينتقل الإخوان إلى تفسير عدد من الظواهر الطبيعية، مثل علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وشدة تلاطم أمواجها، وعلة المدة والجزر في البحار، وعلة اختلاف طعوم مياه العيون والينابيع، وعلة ملوحة طعم مياه البحر، والزلازل والبراكين، وفيض الأنهار، ومد نهر مصر، وغير ذلك مما لا يتيح لنا المجال الدخول في تفصيلاتها. نأتي الآن إلى مسألة المعادن، والتي يأتي ترتيبها الأول في التكون، ثم يليها النبات، ثم الحيوان. «واعلم أن الجواهر المعدنية كثيرة الأنواع ... وقد ذكر بعض الحكماء ... أنه عرف وعد منها نحو تسعمائة نوع، كلها مختلفة الطباع والشكل واللون والطعم والرائحة والثقل والخفة، والمضرة والنفع. ونريد أن نذكر منها طرفا ليكون دلالة على الباقية وقياسا عليها، فنقول: إن من الجواهر المعدنية ما هو حجري صلب، لكن يذوب بالنار، ويجمد إذا برد، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأسرب (الرصاص الأسود الرديء) والرصاص والزجاج وما شاكلها. ومنها ما هي صلبة حجرية لا تذوب إلا بالنار الشديدة، ولا تنكسر إلا بالماس، كالياقوت والعقيق. ومنها ترابي رخو لا يذوب ولكن ينفرك، كالأملاح والزاجات والطلق. ومنها مائية رطبة تفر من النار كالزئبق. ومنها هوائي دهني تأكله النار كالكباريت والزرانيخ. ومنها نباتي كالمرجان الأبيض والأحمر. ومنها حيواني كالدر. ومنها طل منعقد كالعنبر والبازهرات، وذلك أن العنبر إنما هو طل يقع على سطح ماء البحر، فينعقد في مواضع مخصوصة في زمان معلوم ... وكذلك الدر فإنه طل يرسخ في أصداف نوع من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه ... والطل هو رطوبة هوائية تجمد من برد الليل وتقع على النبات والحجر والشجر والصخور. وعلى هذا القياس حكم جميع الجواهر المعدنية، فإن مادتها إنما هي رطوبات ومياه وأندية وبخارات تنعقد بطول الوقوف وممر الزمان في البقاع المخصوصة لها. فقد تبين بما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مركبة كلها مع اختلاف أنواعها ... مركبة كلها ومؤلفة من أجزاء ترابية صلبة ثقيلة مظلمة مشفة ، ومن أجزاء مائية رطبة سيالة صافية بين الثقل والخفة، ومن أجزاء هوائية خفيفة لينة دهنية صافية نيرة، ومن حرارة قوية أو ضعيفة منضجة أو مقصرة، ومن تأليف على نسبة فاضلة أو دون ذلك من النسب التأليفية ...
اعلم يا أخي أن تلك الرطوبات المختنقة في باطن الأرض والبخارات المحتبسة هناك إذا احتوت عليها حرارة المعدن تحللت ولطفت وخفت وتصاعدت علوا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، ومكثت هناك زمانا. وإذا برد باطن الأرض في الصيف، جمدت وغلظت وتقاطرت راجعة إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع وطينها، ومكثت هناك زمانا، وحرارة المعدن دائما في نضجها وطبخها، وهي تصفو بطول وقوفها وتزداد ثقلا وغلظا، وتصير تلك الرطوبات بما يخالطها من الأجزاء الترابية ... زئبقا رجراجا، وتصير تلك الأجزاء الهوائية الدهنية، وما يتعلق بها من الأجزاء الترابية بطبخ الحرارة لها بطول الزمان، كبريتا محترقا.
فإذا اختلطت أجزاء الكبريت والزئبق مرة ثانية، تمازجت واختلطت واتحدت، والحرارة دائمة في نضجها وطبخها، فتنعقد عند ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة. وذلك أنه إذا كان الزئبق صافيا والكبريت نقيا، واختلطت أجزاؤهما، وكانت مقاديرهما على النسبة الأفضل ... وكانت حرارة المعدن على الاعتدال في طبخها ونضجها، ولم يعرض لها عارض من البرد واليبس قبل إنضاجها، انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز؛ وإن عرض لها البرد قبل النضج انعقدت وصارت فضة بيضاء؛ وإن عرض لها اليبس من فرط الحرارة وزيادة الأجزاء الأرضية، انعقدت فصارت نحاسا أحمر يابسا ... وعلى هذا القياس تختلف الجواهر المعدنية بأسباب عارضة خارجة عن الاعتدال وعن النسبة الأفضل من زيادة الكبريت والزئبق ونقصانهما، وإفراط الحرارة أو نقصانها، أو برد المعادن قبل نضجها أو خروجها عن الاعتدال. فعلى هذا القياس حكم الجواهر المعدنية الترابية.
وأما الجواهر الحجرية مثل البلور والياقوت والزبرجد والعقيق، وما شاكلها من التي لا تذوب بالنار، فإنها تنعقد من مياه الأمطار والأنداء التي ترشح في تلك المغارات والكهوف والأودية التي من الجبال الصلدة والأحجار الصلبة، ولا يخالطها شيء من الأجزاء الترابية والطين، بل بطول الزمان كلما طال وقوفها هناك، ازدادت المياه بقاء وثقلا وغلظا، وحرارة المعدن دائما في نضجها وطبخها ، حتى تنعقد وتصير حجارة صلبة صافية ...
وأما حكم الجواهر الترابية في كيفية تكوينها، فهي أن تلك المياه إذا اختلطت بتربة البقاع وعملت فيها حرارة المعدن، تحل أكثر تلك الرطوبات، وتصير بخارا يرتفع في الهواء كما ذكرنا قبل، وما بقي منه يكون محبوسا ملازما للأجزاء الأرضية، متحدا بها، عملت فيها الحرارة وأنضجتها وطبختها، حتى تغلظ وتنعقد. فإن تكن تربة تلك البقاع مشورجة سبخة، تكونت منها ضروب الأملاح والبوارق والشبوب، وإن تكن تربة البقاع عفصة، انعقدت منها ضروب الزاجات الخضر والصفر ... وإن تكن تربة البقاع حصاة وترابا ورمالا مختلطة، انعقد منها الجص والإسفيذاج وما شاكلها، وإن تكن تربة البقاع لينة وطينا حرا انعقدت منها الكمأة، ونبتت منها ضروب العشب والحشائش والأشجار والزروع» (19: 2، 104-108).
استمرارا لنظريتهم في النفوس الجزئية المنبثقة عن النفس الكلية والحالة في المولدات الجزئيات، يرى إخوان الصفاء في المعادن نوعا من الوعي الخافت لا يبلغ مرتبة وعي بقية المولدات من نبات وحيوان. هذه الفكرة تبدو لنا أقل غرابة إذا عرفنا أن علماء الفيزياء الكمومية الحديثة قد ألمحوا إلى وجود مثل هذا الوعي في المادة، عندما أذهلهم سلوك بعض الجسيمات الدقيقة في التجارب المخبرية، ولم يستطيعوا تفسيرها إلا بوجود وعي غامض في المادة غير الحية. يقول الإخوان: «واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر خواص كثيرة، طباعها مختلفة: فمنها متضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيرات بعضها في بعض، إما جذبا وإمساكا أو دفعا ونفورا. ولها أيضا شعور خفي وحس لطيف كما للنبات والحيوان، إما شوقا ومحبة، وإما بغضا وعداوة ... والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتهم لها أن طبيعة تؤلف طبيعة، وطبيعة تناسب طبيعة أخرى، وطبيعة تلصق بطبيعة، وطبيعة تأنس بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة ... [القائمة التي يوردها الإخوان طويلة، وهذا شرح لبعض فقراتها]:
فأما الطبيعة التي تألف طبيعة أخرى فمثل الألماس والذهب، فإنه إذا قرب من الذهب التصق به وأمسكه ... ومثل طبيعة حجر المغناطيس في جذب الحديد، فإن هذين الحجرين يابسين صلبين، بين طبيعتهما ألفة واشتياق، فإذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به، وجذبه الحجر إلى نفسه ... وعلى هذا القياس، ما من حجر من الأحجار المعدنية إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر ألفة واشتياق، عرف الناس ذلك أم لم يعرفوه ... وأما الطبيعة التي تقهر طبيعة أخرى فمثل طبيعة السنباذج التي تأكل الأحجار عند الحك أكلا، وتلينها وتجعلها ملسا. ومثل طبيعة الأسرب الوسخ الذي يفتت الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة ... وأما الطبيعة التي تزين طبيعة أخرى وتنورها فمثل النوشادر الذي يغوص في قعر الأحجار ويغسلها من الوسخ. وأما الطبيعة التي تعين على طبيعة أخرى، فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الترابية، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنورها ... وعلى هذا القياس والمثال حكم سائر الأحجار» (19: 2، 110-112). «وقد تبين مما ذكرنا أن الجواهر المعدنية، مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها، أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تسمى الأمهات، وهي النار والهواء والماء والأرض. وتبين أيضا أن الفاعل فيها والمؤلف لأجزائها والمركب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى؛ وتبين بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هو منافع الناس والحيوان، وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم» (19: 2، 127).
ناپیژندل شوی مخ