وبسرعة غير متوقعة غادرت إلهام المكان قبل أن يستطيع منعها، وقال الرحيمي بهدوئه الذي لزمه طيلة الوقت: كثيرا ما أسمع كلاما لا معنى له، ومنه ما يمسني شخصيا، ولكني لا أكترث لذلك البتة، خبرني الآن عما تريد؟
جلس صابر في حال من الانحلال التام، وبحركة آلية قدم له الصورة الجامعة بينه وبين أمه التي رأى نصفها في الإعلان، ووثيقة زواجه بأمه، وشهادة ميلاده، وشهادة تحقيق الشخصية. نظر الرجل فيها واحدة بعد أخرى وهو هادئ كتمثال. وبكل برود وضع كلا منها فوق الأخرى، وبحركة سريعة حاسمة راح يمزقها إربا. صرخ صابر، وانقض عليه يريد أن يمنعه، ولكن بعد فوات الأوان. أمسك بثنية الجاكتة وصاح به: أنت تمحو وجودي محوا فالويل لك!
فقال الرجل دون أن يخرج عن هدوئه المثير: ابعد عني، لا ترني وجهك، دجال كأمك، ولا شأن لي بك، اذهب!
ودفعه عنه، فتقهقر حتى اصطدم رأسه بحافة البوفيه.
واستيقظ. فتح عينيه وهو يتنفس بصعوبة، فرأى الحجرة الأثرية على ضوء النهار الذي ينضح به الشيش. وأدرك أنه عار تماما تحت الغطاء، فتذكر الليلة المنطوية بجميع ملابساتها، وتنهد بارتياح، ولكنه شعر - لشدة انفعاله بالحلم - بإعياء وحزن.
6
وتعددت أحلامه لدرجة أثارت انزعاجه وامتعاضه. ويستيقظ فيلازمه شعور بالتعب والكدر، وأحيانا يخيل إليه أن الصمت يخنق العالم. وكثيرا ما يذكره ذلك الصمت بالصمت المصاحب لارتفاع الموجة وتجمعها قبل أن تنفجر مرعدة مزبدة. وفي الحلم يطل عليه وجه أبيه بالرغم من أن العشق أصبح المحور الذي تدور حوله حياته؛ العشق الذائب في أحضان الظلمة. وهو يكره الأحلام لأنها ترجعه إلى فترة ماضية من حياته ألح فيها عليه الصرع حتى أوشك أن يهلكه. وطاردته ذكريات المرض طويلا بعد شفائه منه فكان الصرع من أسباب اندفاعه في طريق البأس والقوة كسمعة أمه سواء بسواء. أما الصراع الذي يخوضه في الأحلام فيورثه عقب اليقظة انهاكا وحزنا فيمتلئ بأفكار الفناء، وإذا ترامى إليه الأذان من الجامع القريب وهو على تلك الحال تضاعف حزنه.
وعندما دخل إدارة الإعلانات بجريدة أبو الهول تطلع إليه نفر من الموظفين في فضول، ولكن تطلع إلهام إليه أفعمه بنشوة أحلى من بسمة الفجر الأولى فوق البحر الأبيض. وصافحها بحرارة كما ينبغي لصديق، فسألته: أما من جديد؟
فأجاب وهو يملأ من وجهها عينيه: جئت لأجدد الإعلان ولو أنني ترددت طويلا هذه المرة. - هل تفكر في وسائل أخرى؟
ابتسم ولكنه لم يخبرها بأن اهتمامه بالعثور على الرحيمي لم يعد في مكانته الأولى. وقال له الأستاذ إحسان طنطاوي: عندنا لك مفاجأة.
ناپیژندل شوی مخ