بقيت طيلة يومي غارقة في أفكار لا حد لها ولا نهاية.
وفي اليوم التالي زار المدرسة المرحوم الشيخ شريف المفتش بوزارة المعارف، ودخل مكتبي فلم يحيني مع أنه كان يعرفني أيام كنت ناظرة لمدرسة المنصورة، وكان يحييني تحية طيبة، ولكنه لما بلغه أن الإنجليز ضدي، أو أني أنا ضد الإنجليز كيفما يريد القارئ، فقد أخذ يتجنى علي، ولم يحيني، ولم يكفه ذلك بل قال لي بصوت ملؤه التأنيب: لم لم تحييني عند دخولي؟ فنظرت إليه مندهشة، وقلت له: إنك أنت القادم، وكان الواجب عليك أن تحييني. قال: ألم يبلغك أني آت لعمل «البروفة» لزيارة عظمة السلطان؟ قلت: بلغني ذلك. قال: فلم لم تحييني تحية السلطان؟ قلت: لا أعلم أنك السلطان.
قال: سأخرج، ثم أعود لتحييني تحية السلطان. قلت: لم أعتد تمثيل الروايات المحزنة أو المضحكة أمام طالباتي، فأنت تخرج وتعود ليحييك الطالبات، أما أنا فسأظل ساكنة. قال: وما هي التحية التي ستحيين بها عظمة السلطان؟ قلت: التحية التركية يا سيدي؛ لأن عظمته تركي الأصل، ومن الذوق أن نحييه تحية بلاده. قال: ولكني أريد أن تحييه تحية العرب، فهل تعرفين ما هي؟ قلت: كلا؛ لأن العرب لم يكن لديهم سينما لنعرف تحيتهم. قال: ألم تزوري بلاد الصعيد؟ قلت: لا، لم أتشرف.
قال: هناك يحيون تحية العرب، وهي هكذا؛ «وضرب بيده اليمنى جانبه الأيسر حتى خيل إليه أنه أصيب بطلق ناري في ذلك الجنب فمال عليه»، وقال: هل لك أن تجربي هذه التحية؟ قلت: كلا يا سيدي، سأحييه التحية التركية. قلت ذلك وملت في وقفتي على منصة المعلم في شيء من السخرية، وكان بجانبه الغمراوي بك المفتش في وزارة المعارف أيضا، وكان المرحوم الشيخ شريف يعرف اللغة الفرنسية، أما الغمراوي فيعرف الإنجليزية، وفي تلك اللحظة دخلت ناظرة المدرسة، ونظرت إلي وأنا أقف تلك الوقفة التي تدل على عدم الاهتمام، قالت: أتقفين هكذا أمام السلطان؟ قلت: كلا سأقف هكذا «وملت قليلا عما كنت»، فلم تجبني، وخرجت مسرعة من الغرفة، فلما رأى ذلك الشيخ الغمراوي، وفهم ما دار بيني وبين الناظرة أخذ الشيخ شريف من يده، وقال له: هيا بنا، ما لنا وللسيدة نبوية!
طلب بعد ذلك الشيخ شريف مذكرة الدرس الذي سألقيه أمام عظمة السلطان، فقلت: إني لم أعدها، وسأعدها في يوم إلقاء الدرس كعادتي في باقي دروسي. قال: ولكني أريد الاطلاع عليها . قلت: لست بالطفلة لتعلمني أنت، فإن كان في الكفاية للتدريس أمام عظمة السلطان تشرفت بالقيام به، وإن لم يكن كان عليكم أن تمنعوني من التدريس أمام عظمته، أما أن تعلمني الدرس قبل إلقائه فهي سخرية لا أرضاها للمعلمات. ووقفت ساكتة، وكنت في الفصل ألقي درسا، قال: ألا ترغبين في التدريس أمامي؟ قلت: قد انتهى درس اليوم. قال: هل هناك مانع من أن تلقي الدرس الذي ستلقينه أمام عظمة السلطان؟ قلت: درس السلطان سألقيه أمام عظمته، ودرس اليوم قد انتهى.
ومرة أخرى سحبه الأستاذ الغمراوي بك من يده، وخرج به.
ذهبت إلى غرفتي بعد ذلك، وقد اسودت الدنيا في عيني، وتأكدت أني واقعة في كيدهم لا مفر لي منه، ثم فكرت قليلا، وكنت أعرف المغفور له سعيد باشا ذو الفقار كبير أمناء صاحب العظمة المغفور له السلطان حسين، فرأيت من الواجب أن أكتب له، وأطلعه على جلية الأمر، فقلت له في خطابي: «إنك قد رأيتني في المنصورة، وتعلم أن ملبسي الرسمي هو السواد، كنت ألبسه في زمن سمو الخديوي السابق، ولا أزال ألبسه إلى الآن في هذا الزمن السعيد الذي يتولى الحكم فيه أكثر الناس وطنية وإخلاصا للبلاد، ولكنهم يتهمونني بالسياسة ظلما، ويريدون ضربي لا بأيديهم، بل بيد أبي الفلاح.» وما كاد عظمة السلطان يقرأ الخطاب حتى أمر باستدعائي إلى السراي، وعندما سلمت عليه، وأخبرته القصة بحذافيرها قال: لا تخشي أحدا منهم، وسأدافع عنك بكل ما أستطيع.
لم أخبر أحدا باتصالي بالسراي، ولا بما تم لي مع عظمة السلطان، بل خرجت مدعية الذهاب إلى منزلي، ثم عدت من الخارج مثلما كنت قبل خروجي لا سرور ولا ابتهاج، فلم يلاحظوا علي أي تغيير، وقد بيتوا نيتهم على تحريض السلطان ضدي ونفيي إلى مالطة، ثم تعيين شيخ وكيلا للمدرسة بدلا مني، وهكذا يريد الله دائما أن أحل محل الشيخ، أو يحل الشيخ محلي كأنني من الفقهاء.
أخطأ سادتنا في اختيار الأستاذ الذي أرادوا أن يحل محلي، اختاروا شيخا لم يخلق في حياته للتعليم ، ولست أنكر أنه كان عالما متضلعا في اللغة العربية، ولكنه لم يكن معلما، بل كان من يصغي إليه وهو يلقي الدرس، يظن أن هناك مشاجرة يجب أن يستدعى لها البوليس، فهو يلقي بصوت جهوري يخترق الحوائط، ولا تصغي إلى ذلك الصوت طالباته بل يلعبن ويمرحن، كأن كلا منهم لا يرى صاحبه، وكان - فضلا عن هذا - غير منظم في ملابسه، يعشش العنكبوت في أجزاء جبته، وهو لا يشعر به، وكان - بحسب وظيفتي - يجب أن أكون آخر معلمة يزورها السلطان، ولكنهم نظروا إلى ما سيكون فوضعوا ذلك الأستاذ بعدي.
وشرف عظمة السلطان المدرسة، وأخذوا يروون له الأقاصيص عن نبوية موسى، وكراهيتها للحكم الحاضر، وكان عظمته يسمع هذا ليلقي به في الهواء دون أن يقول شيئا، وزار جميع الفصول فتألم من شكل التحية التي كانوا يحيونه بها؛ فقد كانت المعلمة أو المعلم يقف على المنصة، وهي ترتفع عن أرض الحجرة بنحو 40 سنتيمترا حتى إذا دخل عظمته الغرفة حياه بضربة قوية من يده اليمنى على جانبه الأيسر يتفزع منها عظمته، خصوصا وهي تأتي من فوق رأس عظمته، وكان - رحمه الله - قصير القامة، فكان حتى المعلم الذي لا يزيد عنه في الطول يزيد عنه بارتفاع المنصة، تضايق السلطان من تلك التحية المؤلمة، وأظهر مضايقته، ولكنه لم يكن في الإمكان تغييرها، ودخل السلطان أخيرا الفرقة التي كنت أدرس بها، ويظهر أنهم قالوا له: إن المدرسة هنا نبوية، ولكنه أخطأ السمع فظنها «نبيهة» فدخل الفرقة يقول: «سعيدة يا ست نبيهة.» ولكنه ما كاد يقع نظره علي وأنا أحييه التحية التركية لا من فوق المنصة كما فعلوا، بل من أسفلها، ما كاد يقع بصره علي حتى قال: «أهلا ست نبوية.» ووضع يده اليسرى تحت يدي ليمنعها من الوصول إلى الأرض، ثم حياني باليد اليمنى يدا بيد، ولم يفعل ذلك مع غيري؛ لأنه غير ممكن.
ناپیژندل شوی مخ