إن نورماندي وطن وليم الظافر هي مقاطعة في غاية الخصب والجمال، موقعها الجغرافي في شمال فرنسا على ملاصقة المضيق الإنكليزي، ومساحة عرض هذا المضيق نحو مائة ميل، وأما تخمه الجنوبي الذي منه القسم الشمالي من نورماندي، فمؤلف من سلسلة هضاب قائمة تجاه البحر تخرقها مصاب أنهر تجري من داخل البلاد، وتصب في تلك الثغور التي كانت تصلح أن تكون مرافئ تلتجئ إليها السفن، لولا أن الرياح الشمالية الغربية يكثر هبوبها عليها بعنف شديد، فتثير الأمواج متلاطمة وتغادرها مضاحل
1
بما تجر إليها من الرمال والحصى والأخشاب المتكسرة، وبعكس ذلك تخمه الشمالي من جهة بلاد الإنكليز؛ فإن المرافئ هناك رحبة سهلة المدخل أمينته تقي المراكب من الرياح والأنواء؛ ولهذا الاختلاف الطبيعي في جانبي هذا المضيق تأثير عظيم يظهر بالنظر إلى سكان الجانب الواحد منه، فإنهم وإن يكونوا هم وسكان الجانب الآخر من أصل واحد وجنس واحد، فهم على اختلاف من القوة والإقدام على المخاطر والأسفار البحرية.
أما وحدة النسل في هذين الشعبين - أعني الإنكليز وسكان شمالي فرنسا - فهي لأن هذين المكانين أخضعا لجيل من الناس يدعون «سكان نافيين» وهم أخلاط من النرويجيين والدانماركيين وغيرهم من بلدان البلتيك، وقد لقبوا حينئذ بالشماليين، والذين حلوا بلاد الإنكليز دعوا دانيين (نسبة إلى دانمارك) مع أنه لم يكن منهم في الحقيقة من بلاد الدانمارك إلا الجزء القليل فقط، على أنهم تسلسلوا من أصل واحد، ونالوا وحدة الصفات من حيث الشجاعة وشدة البأس والجرأة على ارتكاب المخاطر. وهذا كله لا يزال أخلافهم يمتازون به في العصر الحاضر.
أولئك خرجوا في تلك الأيام جمهورا عظيما على عمارات قرصانية، ومخروا في عرض الأوقيانوس الجرماني إلى الأبحر البريطانية يقتحمون المصاعب، ويركبون الأخطار استكشافا لأرض جديدة ذات خصب وكلاء ليحلوها، وكانوا في غضون ذلك يظهرون ذات القوة والشجاعة، ويكابدون عين هذه الأهوال في صيد حيتان المحيط الباسيفيكي، والحمل على بلاد الهند واغتنام كنوز غناها، والتبحبح بنعيم ثروتها، ومثل ذلك أيضا في الاندفاع للدوران حول نصف الكرة لاستخراج الذهب من كاليفورنيا. أجل إن الزمان تغير والأحوال استحالت، ولكن النوع باق كما كان، والروح هي هي من عهد النشأة وستظل كذلك إلى آخر الزمان.
أما اسم المقاطعة نورماندي فمأخوذ من النورثمان (أي الشماليين) الذين اغتصبوها من الإفرنس؛ فإنهم دخلوها من البحر على نهر السين الذي يجري من داخل البلاد كما يرى على الخارطة، ومخروا فيه بمراكبهم حتى استقرت أقدامهم في قلب تلك المقاطعة، وكان حلولهم فيها بضعة أجيال قبل ابتداء تاريخنا هذا، وقد تولى إدارة الحكم فيها سلسلة من الأمراء كانوا سلاطين مطلقي الإرادة إلا قليلا، ودعوا أمراء (دوكاث) نورماندي.
فالأمير الأول الواضع أساسها، والرافع نبراسها مقدام الغارة في الاستيلاء على هذه الإمارة كان بطلا من الشمال، مغوارا وفارسا بين الرجال كرارا، عريقا بالبربرية، ولصيقا بجانب الوحشية يدعى «رولو» وكثيرا ما يلقب في التاريخ برولو الداني (الدانماركي).
هذا نشأ في نروج، واستلم زمام القيادة بالإرث، ولما شب وبلغ أشده وشب معه حب الغزوات والفتوحات جمع إليه عصابة من الرجال الأشداء، وخرج بهم للقرصانية واللصوصية حتى روع البلاد، وهلع قلوب العباد، فجلاه الملك إلى خارج المملكة.
على أن هذا الجلاء لم يكن ليثني عزمه عن اجتراح هذه الكبائر والجرائم، بل زاده إقداما وتنشيطا، فجمع إليه كل قواته وانطلق بعمارة يمخر في الأوقيانوس الجرماني نحو شواطئ بريطانيا، وكان في ذلك الوقت في جوار تخم إسكوتلاندا الشمالي الغربي سلسلة جزر موحشة كانت ملجأ للقرصان واللصوص، فجعلها رولو مقرا له؛ حيث انضم إليه فيها عصابة أخرى من الأشقياء الذين بعضهم هربوا إليها من طائلة ما كان لهم في إثارة الشغب والفتن، والبعض الآخر في تبعة ارتكاب المعاصي واجتراح المحارم.
أولئك مالوا إليه لما أنسوا فيه من شدة البأس والشجاعة، وتألبوا حوله وأجمعوا على جعله قائدا عليهم، أما هو فلما رأى ازدياد قوته عقد النية على حشد جيش جرار والإقلاع نحو الجنوب، لعلهم يدفعون إلى بلاط طيبة الأرض خصبتها؛ فيغتصبوها ويستعمروها.
ناپیژندل شوی مخ