أولا:
على الملك هارلود أن يسلم وليم العرش كما حلف له على العظام المقدسة في نورماندي.
ثانيا:
أو أن يتفق هارلود ووليم كلاهما على طرح مسألة الخلاف بينهما أمام قداسة البابا، ويرضخا لحكمه العدل وقوله الفصل.
ثالثا:
أو أن يحل المشكل بعراك انفرادي يتبارز فيه المتزاحمان إلى العرش الإنكليزي أمام نخبة من الجيشين، ومن البديهي أن هارلود كان لا يرضى ولا بواحدة منها؛ لأن الأولى كانت تقضي بتخلي هارلود وتخلفه عن كل شيء، والثانية ترتب عليه قبول حكم لا بد من صدوره ضده؛ لأن البابا كان قد حق دعوى وليم كما سبق معنا، ولا يلبث الآن أن يحكم له بها، ومن البعيد أنه ينقض حكمه الأول، والثالثة تعرضه لخطر اندحار لا يسعه تلافيه، وانخذال فيه من الذلة والهول ما فيه؛ لأنه كان رجلا ضعيف البنية نحيف الجسم قليل القوة بعكس وليم، فإنه كان مشهورا بعظم جثته وشدة قوة عضلاته.
نعم إن المبارزة الشخصية بالأسلحة النارية في الوقت الحاضر لا مزية فيها لاشتداد السواعد وقوة الأعضاء، وأما في ذلك العهد الغابر حين كانت المبارزات تقضى بالفئوس والحراب والسيوف والرماح، فكانت حاجة هذه القوى شديدة، واعتبارها عظيما جدا، والخلاصة أن هارلود رفض قبول كل من هاتيك القضايا ، ورجع الراهب إلى وليم بالإفادة، على أن وليم لم يقنط من حبوط مسعاه في المصالحة، بل أرسل مرة ثانية يعرض على هارلود قضية رابعة مفادها: أنه إذ كان هارلود يعتبر وليم ملك إنكلترا، أو يعترف بسيادته عليها يسلم البلاد لعهدته وعهدة أخيه غرث ليحكما عليها تحت سلطانه المطلق، ويرجع إلى نورماندي ويجعل مدينة روان التي قاعدة إمارة الآن عاصمة كل المملكة المتحدة ما شاء الله من الزمان، فأجاب هارلود: إنه ليس بقادر في أية حالة كانت أن يتنازل عن حقوقه كملك إنكلترا، وعليه فهو يأبى قبول هذه القضية أيضا، وزاد على ذلك قوله: إنه يود من كل قلبه حسم هذه المشاكل بدفع المال، بمعنى أنه إذا كان وليم يعدل عن حملته ويرجع إلى نورماندي مقفلا مطاليبه بشأن العرش الإنكليزي، فهو يدفع له قدر ما يشاء من الأموال.
على أن ذلك لم يقع عند وليم موقع الرضى والاستحسان؛ لأنه كان في اعتقاد نفسه الوارث الحقيقي لملك إنكلترا، فضلا عن أن بواعث عزة النفس والشهامة كانت تدفعه إلى الإصرار على طلب هذه الحقوق المقدسة في عينيه، وقد انقضى ذلك النهار بطوله وذهبت في كل هاتيك المداولات بشأن الصلح عبثا، ولما أرخى الليل سدوله طفقت ضباط وليم ومستشاروه يتضايقون من ثقل التأخر، ويتذمرون من طول شقة الإبطاء، فأخطروا أميرهم وليم بسوء عقبى هذه المماطلات من وجه أن كل ساعة تفسح بها من أجل القتال تمهد لهارلود الحصول على قوات جديدة، بينما هم أنفسهم لا ينتفعون منها بشيء، وعليه فانتصارهم يضعف تحققه كلما طالت مدة تأخر الحرب؛ ولأجل ذلك وعدهم وليم بالحمل على الملك هارلود في معسكره في فلق صباح اليوم التالي.
وإذ كان وقت المعركة الأخيرة الهائلة على الأبواب علقت أفكار هارلود تضطرب أكثر فأكثر، وتتشوش بتوقع المخاوف والأهوال، حتى إن أخويه أنفسهما قلقا لهذه الأحوال، وكان يزيديهما بلبالا تذكرهما القسم الذي أقسم به هارلود، وتلك البقايا المقدسة التي تشهد عليه، وتمكن فعله وتأثيره، ولم يكونا متحققين قيام عذر أخيهما بإتمامه القسم على طريقة الاضطرار، وأنه يبرئه من طائلة الجريمة واللعنة في الموقف الأخير، فارتأيا قبل خوض معمعة القتال أن يتنحى هارلود عن القيادة ليتقلداها هما، ثم قالا له: «لا يسعنا أن ننكر أنك حلفت اليمين، وبغض النظر عن الظروف والأحوال التي اضطرتك أن تفعل هذا، نرى الأصوب أنك تتنكب بقدر الإمكان تعمد الحنث بما أقسمت، والأولى أنك تغادر الجيش وتمضي إلى لندن، وهناك تقدر أن تقوم بصيانة المملكة بتجهيز قوات جديدة، ونحن هنا ننوب عنك في مباشرة القتال، وبهذا نصرف عنا غضب الله إذ نكون قائمين بواجب الدفاع عن الوطن في وجه عدو غريب مهاجم» أما هو فلم يوافقهما على رأيهما هذا بل قال لهما: إن قلبه لا يطاوعه على التنحي في ساعة دنو الخطر، ولا يراه لائقا بشهامته أن يتركهما وجميع أصدقائه عرضة لويلات حرب يكابدونها لأجل وقاية تاجه الملوكي، وعلى هذا النحو كنت ترى الجيشين في تلك الليلة قبل القتال، ولا ريب في أن أفكار رجال هارلود في ظروف كهذه كانت مغشاة بظلام اليأس والقنوط، بينما كانت قلوب رجال وليم ملأى فرحا ونشاطا.
فلزم هارلود شأن غيره من الناس في هاته الحال أن يخفف حمل الاضطراب الذي تثقل به قلبه، وانضغطت به نفوس رجاله بواسطة الولائم والمسكرات، فأمر بإعداد عشاء فاخر، وأمد عساكره بكثير من المشروبات. ويروى أن كل معسكره آناء تلك الليلة كان يمثل مشهدا طويلا عريضا للسكر والبطر، بحيث كانت العساكر متألبة جموعا جموعا في كل ناحية حول نيران الخيام، بين قعود وقيام، هرج وخصام، وإنشاء أغان وطنية، ومقاطيع حماسية همجية، وإنشاد مراقص بربرية، منقادين للانبعاث فيما كان تدعوهم نشوة الخمر إليه، وتبعثهم سورة البيرة عليه، أما معسكر وليم فكان يشاهد على هيئة تختلف عن هيئة معسكر هارلود كل الاختلاف، فإن جميع الكهنة وسائر خدمة الدين الذين فيه أحيوا تلك الليلة بإقامة الصلوات، وتقديم التضرعات والابتهالات، وإنشاء التراتيل المختارة والترانيم المستجادة، والإتيان على جميع شعائر السجود وفروض العبادة، وذلك بمساعدة العساكر الذين اجتمعوا جماهير في فسحات الخيام وحول نيران المعسكر، ثم طلبوا الراحة في مضاجعهم مشعرين بإضافة التحقيق والضمان لنجاح عملهم في الغد بواسطة تعبدهم لله الذي استودعوه نفوسهم وأجسادهم، ووكلوا إليه صيانتهم وحمايتهم، وكان أول عمل أجروه في الصباح أنهم اجتمعوا للاحتفال في قداس عظيم.
ناپیژندل شوی مخ